الرئيسية / صوتي ومرئي متنوع / أسرار الصلاة – الجليل الشيخ الجوادي الآملي 09

أسرار الصلاة – الجليل الشيخ الجوادي الآملي 09

ولمّا كان التكبير هنالك خارقا للحجاب النوريّ فله – أي : للتكبير – حقيقة عينيّة تقهر ما دونها ، وحيث إنّ تلك الحجب كانت سبعة ، وكانت طوليّة لا عرضيّة ، وكلَّما انخرق حجاب حصل قرب لم يكن حاصلا قبله ، فبين تلك التكبيرات السبع الخارقة أيضا ميز طوليّ لا عرضيّ ، فكلَّما كبّر المصلَّي تكبيرة يقرب إلى مولاه في المناجاة قربا لم يكن حاصلا قبله ، فدرجات القرب أيضا طوليّة .

ولمّا كان الحجاب موجودا خارجيّا ، وخرقه أيضا موجودا عينيّا ، وقد تبيّن أنّ النظام العينيّ هو النظام العلَّيّ والمعلوليّ ، وقد استقرّ في موطنه أنّ العلَّة لا بدّ وأن تكون أقوى من معلولها فعليه لا يمكن أن يؤثّر التلفّظ بالتكبير الذي يكون أمرا اعتباريّا ، أو يؤثّر تصوّره الذي هو الوجود الذهنيّ له في موجود خارجيّ عال ، بل المؤثّر فيه هو سرّ التكبير الذي هو موجود عينيّ وتكوينيّ ، ولا ينال ذلك السّر إلَّا بأدب الصلاة الحاصل بحضور القلب المستتبع لخضوع الجوانح وخشوع الجوارح .

وليس ما ورد في المعراج مختصّا بتلك الحال أو مخصوصا بالرسول صلَّى اللَّه عليه وآله ، بل يعمّ غير تلك الحال أيضا ، كما يعمّ غير الرسول صلَّى الله عليه وآله ، وذلك لما روى جابر بن عبد اللَّه الأنصاريّ قال : كنت مع مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام ، فرأى رجلا قائماً يصلَّي ، فقال له : يا هذا ، أتعرف تأويل الصلاة ؟
فقال : يا مولاي ، وهل للصلاة تأويل غير العبادة ؟ فقال : إي والذي بعث محمّدا بالنبوّة ، ما بعث اللَّه نبيّه – صلَّى الله عليه وآله – بأمر من الأمور إلَّا وله تشابه وتأويل وتنزيل ، وكلّ ذلك يدلّ على التعبّد ، فقال له : علَّمني ما هو يا مولاي ؟ فقال :

تأويل تكبيرتك الأولى إلى إحرامك : أن تخطر في نفسك إذا قلت : اللَّه أكبر من أن
يوصف بقيام أو قعود ، وفي الثانية أن يوصف بحركة أو جمود ، وفي الثالثة أن يوصف بجسم أو يشبّه بشبه أو يقاس بقياس ، وتخطر في الرابعة أن تحلَّه الأعراض أو تؤلمه الأمراض ، وتخطر في الخامسة أن يوصف بجوهر أو بعرض ، أو يحلّ شيئا أو يحلّ فيه شيء ، وتخطر في السادسة أن يجوز عليه ما يجوز على المحدثين من الزوال والانتقال والتغيّر من حال إلى حال ، وتخطر في السابعة أن تحلَّه الحواس الخمس . ثمّ تأويل مدّ عنقك في الركوع : تخطر في نفسك : آمنت بك ولو ضربت عنقي . ثمّ تأويل رفع رأسك من الركوع إذا قلت :

سمع اللَّه لمن حمده الحمد للَّه ربّ العالمين تأويله : الذي أخرجني من العدم إلى الوجود ، وتأويل السجدة الأولى : أن تخطر في نفسك وأنت ساجد : منها خلقتني ، ورفع رأسك تأويله : ومنها أخرجتني ، والسجدة الثانية : وفيها تعيدني ، ورفع رأسك تخطر بقلبك : ومنها تخرجني تارة أخرى ، وتأويل قعودك على جانبك الأيسر ورفع رجلك اليمنى وطرحك على اليسرى تخطر بقلبك : اللهمّ إنّي أقمت الحقّ وأمتّ الباطل ، وتأويل تشهّدك : تجديد الإيمان ومعاودة الإسلام ، والإقرار بالبعث بعد الموت ، وتأويل قراءة التحيّات : تمجيدات الربّ سبحانه وتعظيمه عمّا قال الظالمون ونعته الملحدون ، وتأويل قولك : السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته : ترحّم عن اللَّه سبحانه ، فمعناها هذه : أمان لكم من عذاب يوم القيامة . ثمّ قال أمير المؤمنين عليه السّلام : « من لم يعلم تأويل صلاته هكذا فهي خداج » « 1 » ، أي : ناقصة .

فقه الحديث : بأنّ الأوصاف الجماليّة للَّه عين الأوصاف الجلالية للَّه ، إذ التكبير وإن كان من الأوصاف الثبوتيّة الجماليّة ولكن أولها إلى الوصف السلبيّ الجلاليّ كالعكس ؛ لأنّ معنى التكبير : هو تنزيه اللَّه عن أوصاف الممكن . ولا مرية في أنّ الأوصاف الإلهيّة أمر تكوينيّ خارجيّ ، وتلك الأوصاف الَّتي قد عبّر بأنّها تأويلات للتكبيرات السبع قد تجلَّت وتنزّلت بصور تلك التكبيرات الافتتاحيّة ،

فسّرها وتأويلها أمر حقيقيّ لا اعتباريّ ، وعلى المصلَّي أن يتأدّب بآداب الصلاة بعد معرفة حكمتها وهدفها السامي حتّى ينال ذلك التأويل ، تنبّها بأنّ تعدّد تلك التكبيرات ليس من باب التأكيد ، بل كلّ منها يفيد معنى خاصّا غير ما يفيده الآخر ، كما أنّ تعدّد كلمة « وحده وحده وحده » ليس للتأكيد ، بل كلّ واحد منها ناظر إلى مرتبة خاصّة من التوحيد الذاتيّ والوصفيّ والفعليّ . وأما سائر ما اشتمل عليه هذا الحديث من أسرار الركوع والسجود و . فسيأتي البحث عنه في موطنه الخاصّ .

والغرض : أنّ للتكبيرات الافتتاحية أسرارا ، وأنّ تلك الأسرار قد تحقّقت في المعراج ، وأنّها قد تجلَّت وتنزّلت إلى عالم التشريع والاعتبار ، وأنّها لا تختصّ برسول اللَّه صلَّى الله عليه وآله ، بل تعمّ كلّ مكلَّف يصلَّي ، وأنّ صلاة من لم يعلم تأويل تلك التكبيرات ناقصة .

ثمّ إنّه قد ورد للتكبيرات السبع الافتتاحيّة أيضا أسباب وجهات ملكيّة لا تنافي ما تقدّم من الأسرار الملكوتيّة ؛ لأنّها في طولها لا في عرضها ، وذلك الأمر الملكيّ بأنّ رسول اللَّه – صلَّى الله عليه وآله – كان في الصلاة والى جانبه الحسين ابن عليّ عليهما السّلام ، فكبّر رسول الله – صلَّى الله عليه وآله – فلم يحر الحسين التكبير ، ثمّ كبّر رسول الله – صلَّى الله عليه وآله – فلم يحر الحسين – عليه السلام – التكبير ، ثم كبّر رسول الله – صلَّى الله عليه وآله – فلم يحر الحسين – عليه السلام – التكبير ، ولم يزل رسول الله – صلَّى الله عليه وآله – فلم يحر الحسين – عليه السلام – التكبير ، فلم يحر حتّى أكمل – صلَّى الله عليه وآله – يكبّر ويعالج الحسين – عليه السلام – التكبير فلم يحر حتّى أكمل – صلَّى الله عليه وآله – سبع تكبيرات ، فأحار الحسين – عليه السلام – التكبير في السابعة ، فقال أبو عبد اللَّه : فصارت سنّة « 1 » .
والشاهد على عدم المنافاة هو : أنّ المعراج كان بمكَّة قبل ميلاد الحسين بن عليّ عليهما السّلام ، وما نقل من قصّة الحسين – عليه السلام – متأخّر عمّا وقع في المعراج
وجودا ، وكذا متأخّر عنه زمانا ، وليس في عرضه وجودا ولا زمانا ، فعند عدم الاتّحاد الوجوديّ ولا الزمانيّ فلا تناقض ؛ لإمكان الاجتماع وصدق كلا الأمرين .

وهكذا لا ينافي ما ورد في السبب التشريعيّ للتكبيرات الافتتاحيّة ، وذلك الأمر التشريعيّ هو : أنّه ذكر الفضل بن شاذان عن الرضا – عليه السلام – علَّة أخرى ، وهي : أنّه إنّما صارت التكبيرات في أوّل الصلاة سبعا ؛ لأنّ أصل الصلاة ركعتان ، واستفتاحها بسبع تكبيرات : تكبيرة الافتتاح ، وتكبيرة الركوع ، وتكبيرتي السجدتين ، وتكبيرة الركوع في الثانية ، وتكبيرتي السجدتين ، فإذا كبّر الإنسان في أوّل صلاته سبع تكبيرات ثمّ نسي شيئا من تكبيرات الافتتاح من بعد أو سها عنها لم يدخل نقص في صلاته « 1 » .

والدليل على عدم التنافي هو : أنّ أحد السببين تكوينيّ سابق في المعراج ، والآخر تشريعيّ لاحق التنزّل في عالم الاعتبار ، ولا غرو في استناد كلّ منهما إلى ما له من المبادئ الخاصّة ، وأنّ المبدأ الأصيل في ذلك هو : التكوين المتحقّق في المعراج لخرق الحجب النوريّة السبعة .

شاهد أيضاً

أسرار الصلاة – الجليل الشيخ الجوادي الآملي 10

وحيث إنّ الأساس هو التوحيد ، واللازم هو خرق الحجب المانعة عن شهوده ، والتكبير ...