الرئيسية / صوتي ومرئي متنوع / أسرار الصلاة – الجليل الشيخ الجوادي الآملي 14

أسرار الصلاة – الجليل الشيخ الجوادي الآملي 14

الصلة الثالثة في سرّ القراءة
إنّ المعتبر في الصلاة الثنائيّة هو قراءة فاتحة الكتاب وسورة ، وكذا المعتبر في الأولتين من غيرها كالثلاثيّة والرباعيّة ، وقد ورد أنّه : « لا صلاة إلَّا بفاتحة الكتاب » « 1 » ، فقراءة شيء من القرآن في الصلاة على ما دوّن في الفقه واجبة ، والقراءة لها سرّ باعتبار أنّ المقروء له سرّ ، فما لم يكن القارئ ذا سرّ فلا يصل هو إلى سرّ القراءة ، ولا ينال أيضا سرّ المقروء ، فتكون قراءته بتراء .

والشاهد على أنّ المقروء – أي : القرآن الكريم – له سرّ هو ما بيّنه اللَّه سبحانه بقوله * ( « إِنَّا أَنْزَلْناه ُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) * . * ( وَإِنَّه ُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ » ) * « 2 » لدلالته على أنّ الموجود بين الدفّتين بما أنّه كتاب عربيّ فهو قرآن ، وهو نفسه بما أنّه في أمّ الكتاب أيضا قرآن ، وبما أنّه عليّ حكيم أيضا قرآن ، وهنالك – أي : أمّ الكتاب ، ولدى اللَّه – لا مجال للاعتبار من وضع الألفاظ العربيّة أو العبريّة أو نحوهما ، وليس لدى اللَّه إلَّا الأمر المجرّد التامّ العقليّ الذي لا يناله إلَّا العقل المحض الخالص عن شوب الخيال والوهم ، وكما أنّ ظاهر القرآن العربيّ لا يمسّه إلَّا الطاهر عن الحدث والخبث كذلك سرّه لا يمسّه إلَّا المنزّه عن الرين والدنس ، وهو الالتفات إلى غير المعبود ، إذ الناظر إلى غيره لا يقدر العروج إلى موطن اللدن ، وإذا لم يعرج إليه ليس في وسعه أن ينال أمّ الكتاب العليّ الحكيم ؛ لأنّه لدى اللَّه تعالى .

وكما أنّ ظاهر القرآن العربيّ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فكذلك سرّه الذي هو العليّ الحكيم منزّه عن تسرّب الباطل عن أيّة جهة وسمت أبدا ، ومن كان في قلبه مثقال ذرّة من حبّ الدنيا الذي هو رأس كلّ باطل وخطأ فكيف ينال ما هو المصون عنه مطلقا ؟ إذ لا طريق للخطإ إلى الصواب ، فالحنين إلى رأس الخطأ لا يجتمع مع عزم الصائب الصرف ، كما لا تجتمع وليمة وعزيمة . وحيث إنّ أدب الصلاة ذريعة إلى سرّها فالمصلَّي المتأدّب بأدبها من الحضور القلبيّ يصل إلى سرّها ، وهو الوجود العينيّ العقليّ الفائق عن الوجود المثاليّ ، فضلا عن الطبيعيّ ، سيّما الاعتباريّ المتحقّق في عالم الطبيعة . وما صلاه الرسول الأكرم – صلَّى اللَّه عليه وآله – في المعراج كان جامعا لجميع نشآت الصلاة ، والمصلَّي الذي له حضور تامّ فهو الذي يناجي ربّه ، ويقول : إيّاك نعبد وإيّاك نستعين ، ومعلوم أنّ هذا المصلَّي المستغرق في شهود الكثرة – حسب التعبير بصيغة المتكلَّم مع الغير – لم يبلغ بعد مرحلة الوحدة الصرفة الَّتي لا أثر هناك للنجوى ولا للمناجي ، فضلا عن غيرهما من أولي العبادة والنداء والنجوى والاستعانة ، ولكنّ السلَّم منصوب ، والأمر بالقراءة والرقي ( اقرأ وارق ) مسموع ، والامتثال ميسور .

وقد تقدّم : أنّ النظام العينيّ قد استقرّ على العلَّيّة والمعلوليّة كما قال أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام : « كلّ قائم في سواه معلول » « 1 » ، أي : كلّ موجود لا يكون وجوده عين ذاته فهو معلول لما يكون وجوده محض ذاته ، ولا ريب في لزوم كون العلَّة أقوى من المعلول ، ومع ذلك قال بعض أهل المعرفة « 2 » : إنّ « بسم اللَّه » من العبد بمنزلة « كن » من الربّ ، وقد ورد فيه : أنّه أقرب إلى اسم اللَّه الأعظم من سواد العين إلى بياضها ، فالمصلَّي العارف بحكمة الصلاة ، المتأدّب بأدبها يصل إلى حدّ يكون تلفّظه ب * ( « بِسْمِ ا للهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ » ) * في بدء الفاتحة الَّتي لا صلاة بدونها بمنزلة « كن » من اللَّه الذي إذا صدر منه يتحقّق المراد ويكون ( بالكون التامّ لا الناقص ) .

ومن المعلوم أنّ القراءة بوجودها الاعتباريّ لا تقدر على التأثير العينيّ ، بل بما لها من السرّ الوجوديّ ، والاسم أمر عينيّ مسبّب عن العيب والنقص ، فلذا أمر اللَّه سبحانه رسوله – صلَّى اللَّه عليه وآله – بالتسبيح له حيث قال تعالى * ( « سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى » ) * « 1 » ، وذلك الاسم هو سرّ للاسم اللفظيّ الذي يقرأه المصلَّي .

ولا خفاء في أنّ سرّ الاسم الأعظم هو أعظم الأسرار ، ولا ينال إلَّا بخرق الحجب طرّا كما مرّ في تكبيرات الافتتاحيّة ، ولذا ورد في حديث المعراج « . فلمّا فرغ من التكبير والافتتاح أوحى اللَّه إليه : سمّ باسمي ، فمن أجل ذلك جعل بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم في أوّل السورة » « 2 » .

شاهد أيضاً

الحجاب النوراني والحجاب الظلماني

لكن أنواع ذلك الجلال هو اشراقاتي وهو لفرط العظمة والنورانية واللانهائية، يبعد عنها العاشق بعتاب ...