مواعظ شافية

البلاء بالخير والشرّ

 

﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾.

 

عنوان البلاء عامّ وهو بمعنى الاختبار والامتحان. والله سبحانه وتعالى يختبر عباده بالنعم، والخير، وأيضاً يختبرهم بالمصائب والمِحن أي “بالنعم والنقم”. في التعبير القرآني الخير بلاء والشرّ بلاء. ولكن، نتيجة الفَهم العرفي لكلمة “بلاء” يذهب الذّهن مباشرة إلى المصائب، حيث إنّها من نوع البلاء الظاهر الّذي لا ينكره أحد، أمّا البلاء بالنعم والّذي قد يكون أشدّ مصيبة على الإنسان، بل قد يكون نقمة أكبر عليه فهو البلاء الخفيّ الّذي قد يغترّ فيه الإنسان فيظنّ أنّه في موقع الرضا الإلهيّ والحال: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ16.

 

ويقول سبحانه وتعالى: ﴿فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ17. فهنا مصداق الابتلاء الإلهي بالإكرام والإنعام، ﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ18 “قَدَر” أي “ضيّق” وهنا بتضييق العيش وحبس الأرزاق.

 

14- سورة الكهف، الآية: 7.

15- سورة الكهف، الآية: 8.

16- سورة آل عمران، الآية: 178.

17- سورة الفجر، الآية: 15.

18- سورة الفجر، الآية: 16.

فالنعم والنقم وجهان للبلاء، وعلى الإنسان أن يعرف كيف يشكر النعم، وكيف يصبر على النقم. بل عليه أن يكون فطناً لحاله عارفاً لمآله متأمّلا في علاقته مع ربّه، حذراً عند النعم شكوراً عند المصائب، فقد جاء عن الإمام عليّ عليه السلام: “إذا رأيت ربّك يوالي عليك البلاء فاشكره، وإذا رأيته يتابع عليك النعم فاحذره”19،

 

الاختبار الإلهيّ

في الاختبار الإلهيّ هناك مجموعة أمور عامّة لا بدّ من الالتفات إليها:

أوّلاً: إنّ هذا الاختبار والامتحان هو قانون إلهيّ شامل لكلّ الناس. كلّ إنسان بلغ سنّ التكليف، هو موضع اختبار وابتلاء، لأنّ هذه إرادة الله في الخلق. حتّى أنبياء الله تعرّضوا للاختبارات والابتلاءات، بل كانوا أشدّ الناس بلاءً، وقد ذكر عند أبي عبد الله الصادق عليه السلام البلاء وما يخصّ الله عزّ وجلّ به المؤمن، فقال: “سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أشدّ الناس بلاءً في الدنيا فقال: النبيّون ثمّ الأمثل فالأمثل، ويبتلى المؤمن بعد على قدر إيمانه وحُسن أعماله فمنّ صح إيمانه وحَسُن عمله اشتدّ بلاؤه، ومن سخف إيمانه وضعف عمله قلّ بلاؤه”20. وقد ذكر الله تعالى أصناف اختباراتهم في القرآن الكريم.

 

طبعاً، تختلف أهداف وأنواع الاختبار والابتلاء بين الناس من شخص لآخر، لكن في المبدأ الجميع مبتلى والجميع ممتحن.

 

ثانياً: الاختبار قد يأتي لفرد وقد يأتي لجماعة.

 

ثالثاً: الله تعالى، في أحيان كثيرة، يمتحن الإنسان في أكثر من شأن من شؤون الحياة. فقد يكون الاختبار الإلهيّ بالفقر، بالمرض،بالموت، وقد يكون بالصحة

 

19- كتاب التمحيص، الإسكافي، ص 6.

20- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 225.

والغنى والمُلك، وقد يشمل الامتحان في وقت واحد شأنين، أو ثلاثة، أو أربعة.

 

رابعاً: قد تختلف أنواع وحجم الابتلاءات بين شخص وآخر وذلك بحسب إمكانات وطاقات وطموحات وتطلّعات هذا الشخص، وقد تختلف من جماعة إلى جماعة، لذلك فالأنبياء عليهم السلام ابتلاءاتهم مختلفة، الأوصياء والأولياء والمؤمنون بلاءاتهم مختلفة، وهذا كلّه عن حكمة وتقدير أيضاً.

 

خامساً: من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده أنّه عندما يختبرهم ويبتليهم بالنّعم أو بالنّقم، لا يكلّفهم بما لا يقدرون عليه، أو لا يستطيعون تحمّله، فالله تعالى يريد لعباده النجاح حيث إنّهم عباده، ولأنّ الله سبحانه وتعالى لم تقم مشيئته على نحو الإلزام التكويني، وضع لنا شرطاً، وهو أن يكون هذا النجاح بمشيئتنا واختيارنا، بإرادتنا، وجهدنا وعملنا.

 

سادساً: في الاختبار الإلهيّ، قد تتوفّر فرصة التصحيح وقد لا تتوفّر، فلو ابتلي الإنسان بذنب كالغِيبة مثلاً فإنّ بإمكانه تصحيح فشله في الاختبار بالتوبة والاستحلال ممّن اغتابه أمّا ذنب الشرك فإنّه لا يغفر: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ…21.

 

سابعاً: في الاختبار الإلهيّ أيضاً ولكرم الله وعطفه ورحمته علينا زوّدنا بكلّ عناصر النجاح وسخّر لنا كلّ الإمكانات: الأرض، الشمس، الكواكب، النجوم، الأنعام والحيوانات والبحار كلّها مسخّرة للإنسان. أعطانا الله العقل الّذي به نفكّر لنقوم بالعمل الواجب ونبتعد عن الحرام. كذلك، أعطانا القدرات الجسديّة والنفسيّة الّتي تؤهّلنا للنجاح ومنحنا السمع والبصر، والأيدي والأرجل، يقول تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا22 ويكمل ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا23.

 

21- سورة النساء، الآية: 48.

22- سورة الإنسان، الآية: 2.

23- سورة الإنسان، الآية: 3.

وإضافة إلى ذلك فقد أرسل الله تعالى لنا الأنبياء والرسل وأنزل الكتب وأقام الحجج والأولياء، فلا تخلو الأرض من حجّة لله على الخلائق، وبذا هدانا سواء السبيل. إذاً الهداية العامّة متحقّقة. أيضاً عرّفنا الأنبياء والأولياء إلى كيفيّة مواجهة البلاء وأعطونا في ذلك إرشادات تفصيليّة.

 

كيفيّة المواجهة

لا بدّ من الالتفات أيضاً إلى أنّ الامتحان الإلهيّ يستلزم من الإنسان عدّة أمور لمواجهته:

أوّلاً: الانتباه والحذر، فلا يغفل الإنسان عن حقيقة الدنيا.

 

ثانياً: أن يعمل الإنسان ويبذل بجدّ ما يستطيع للنجاح في الاختبار.

 

ثالثاً: أن يستفيد من الوقت، فيوم تأتي ساعة الموت يتمنّى الإنسان أن يعود إلى الدنيا ولو بمقدار قليل، ليعمل عملاً صالحاً ينتفع به أمام هول المطّلـــع وســوء العاقبــة ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ24.

 

 لـــذا يجــب أن ننتبه لقيمة الزمن وقيمة العمر كباراً وشباباً، ولا يقولنّ أحد إنّي ما زلت شابّاً والعمر أمامي. فإنّ أغلب الّذين يموتون هم من الشباب، يقول الله تعالى:

﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾25.

 

كذلك يجب أن نضع هدفاً واضحاً ومحدّداً وهو أنّنا يجب أن ننجح ونفوز في الامتحان، لأنّ ذلك يعني الحصول على الحياة الحقيقيّة والنعيم، والسعادة الأبديّة السرمديّة.

 

24- سورة المؤمنون، الآيتان: 99 100.

25- سورة مريم، الآية: 39.

شاهد أيضاً

اليمن – رمز الشرف والتضامن العربي مع غزة فتحي الذاري

  ان الحشد المليوني للشعب اليمني بكافة قواه الفاعلة والاصطفاف الرشيد بقيادة السيد القائد عبدالملك ...