الرئيسية / صوتي ومرئي متنوع / 7 جدال في شهر العسل – السيد حسين الحيدري

7 جدال في شهر العسل – السيد حسين الحيدري

الفصل السادس

استيقظ علي وهدى لصلاة الصبح، وتوضأت هدى مرتين مسحتْ رجلها في الأولى وغسلتها في الثانية، ثم وقفت على سجادتها كي تصلي الصبح، لكنها سَرَحَتْ بأفكارها بعيداً، أتمّ عليٌّ صلاته وهي لم تبدأ بعدُ، اِلتفتَ إليها واستفسر عن سبب تفكيرها الطويل، فأخبرته بأنها وجدتْ حلاً وسطاً لوضوئِها، فماذا عن السجود والتكتف، أتصلي مرتين تارة كالسنة وأخرى كالشيعة؟ استمرتْ حيرتها فطلبتْ مِنْ عليّ مساعدتها كما ساعدها في الوضوء، فأحال الأمر إليها، وأنه يجب أنْ تقرّر هي عن قناعةٍ تامّةٍ ماذا تريدُ فِعله، وإنْ شئتِ فصلي مرتين، فكـَّرَتْ هدى بتكرار الصلاة إلا أنها أدركتْ صعوبة الأمر، خصوصاً في باقي الصلوات غير الصبح.

أخيرا قفزتْ إلى ذهنها فكرة لطيفة بالنسبة إلى السجود، وهي أنّ أهل السنة لا يُمانعون مِنَ السجود على مطلق الأرض، فلا مانع فيما لو أخذتْ تراباً ووضعته على منديل وسجدت عليه، ثم فوضتْ إليه حلَّ مسألة التكتف، فأخبرها بأنّ غاية ما ذهب إليه علماؤكم هو استحبابه.

تنهدتْ هدى وتنفستْ الصعداء، وشكرتْ الله لِتفريجه عنها، وحَلِّ مشكلة عويصة لديها، صلتْ فرضها وهي مرسلة يديها لأول مرة، كما سجدتْ على التراب أيضاً، أنهتْ صلاتها وارتسمتْ على محياها ابتسامة عريضة، وهي تنظر إلى زوجها الذي كان يراقب حركاتها وسكناتها أثناء صلاتها، فبادلها الابتسامة بمثلها وشكرا الله على التوفيق لِطاعته وعبادته.

أخبرها علي بأنّ النبي ص قد سأل علياً ع بعد فترة قصيرة مِنْ زواجه مِنْ فاطمة: (كيف وجدتَ زوجك؟) انتظرتْ هدى الجوابَ بلهفة وشوق، ثم نقل لها جوابه ع حيث قال: (نِعْمَ العَوْن على طاعة الله).

اندهشت هدى مِنْ هذا الجواب العظيم، الذي يَنُمُّ عن عظمة نفسه، فلم يفكر الإمام بما يفكر به أهل الدنيا مِنْ لذائذ مادية دنيوية عابرة، وإنما انصبّ جلّ اهتمامه على طاعة ربه، وها هو قد وجد مَنْ يُعينه على هذا الطريق وهي فاطمة، فما أحلى أنْ يُساهما سويةً في طريق العبودية لله.

بقي الزوجان علي وهدى في هذه الحالة الروحية الرائعة، بين دعاء وابتهال ومناجاة وتلاوة للقرآن حتى طلعت الشمس، عندها سجد سجدة الشكر، فلما رفع رأسه، بادر لارتداء ملابسه وخرج لشراء الخبز والحليب وبعض ما يحتاجانه ثم عاد مسرعاً وما أنْ دخل حتى سألها مباشرة عما يجول في خاطرها مِنْ ملاحظات أخرى على صلاته، استحيتْ هدى وطلبت منه ترك الموضوع، لبقاء ملاحظات تافهة لا تستحقُّ البحث، لكنه أصرّ عليها وألحّ بشدة أنْ تطرحَ ما تشاء بكلّ صراحة، وأنْ لا تترك ملاحظةً إلا بحثتها بكامل حريتها.

هدى: إذا كان لابدّ مِنْ بحث الاختلافات، فإني وجدتك ترفع صوتك بالبسملة في أول الفاتحة وأول السورة بعدها، حتى لو كانت صلاتك إخفاتية.

علي: رَفعُ الصوت يُسمّى اصطلاحاً بالجهر، فسؤالكِ هو عن الجهر بالبسملة في الصلاة، وهو عندنا أمرٌ واجبٌ في الصلوات الجهرية، ومستحبٌ في الصلوات الإخفاتية، للروايات الواردة عن أئمة أهل البيت ع.

هدى: اتفقنا أنْ تذكر لي الأدلة مِنْ كتبنا.

علي: وسأذكر لكِ جهرَ أهل البيت ع بالبسملة مِنْ كتبكم.

هدى: حسناً، هذا شيءٌ جميل جداً، تفضّـلْ على بركة الله.

علي: قال الشوكاني في نيل الأوطار ج2 ص218: (وذكر البيهقي في الخلافيات أنه اجتمع آل رسول الله ص على الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم).

هدى: ما شاء الله!!!

علي: وقال البيهقي في السنن الصغير ج1 ص153 حديث 398: (روينا عن جعفر بن محمد أنه قال: اجتمع آل محمد ص على الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم).

هدى: ومن هو جعفر بن محمد؟

علي: هو سادسُ أئمتنا، وإنما سُمِّينا بالجعفرية لانتسابنا في أكثر فقهنا إليه.

هدى: ولماذا أخذتم أكثر فقهكم منه دون باقي الأئمة مِنْ أهل البيت؟

علي: لأنّ الظروف قد تهيّأت له، فاستطاع نشر العلوم الإسلامية، وكان الألوف يدرسون عنده، كبعض رؤساء المذاهب الإسلامية الأربعة وغيرهم.

هدى: هذا الكلام يحتاج إلى إثبات تاريخي، ولكن نؤجّله إلى وقتٍ آخر.

علي: كما تحبّين، ومما يؤكد أنّ أهل البيت ع كانوا يجهرون بالبسملة، ما ذكره الفخر الرازي في تفسيره الكبير ج1 ص203 حيث قال: (المسألة التاسعة: …. فنقول: الجهر بها سُنة، ويدلّ عليه وجوه وحُجج…. الحجة الثالثة: …. وكان علي بن أبي طالب ع يقول: يا مَنْ ذِكرُهُ شرفٌ للذاكرين، ومِثلُ هذا كيف يليق بالعاقل إخفاءَه؟ ولهذا السبب نقل أنّ علياً رض كان مذهبه الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في جميع الصلوات).

هدى: ما شاء الله، فإذا كان علي بن أبي طالب وهو رابع الخلفاء الراشدين يجهر بها في صلاته، فلماذا انتشر بين بعض مذاهب المسلمين خلاف ذلك؟

علي: لأنه جاء بعده مَنْ خالف علياً في كلِّ شيء، ومِنْ بينها عدم الجهر بالبسملة.

هدى: لعلّ الصحابة كانوا مختلفين في هذه المسألة؟

علي: كلا .. بل كانوا حينها يجهرون بها.

هدى: وكيف جَزمتَ بذلك؟ أثبته لي بالدليل.

علي: روى الشافعي بإسناده، أنّ معاوية قَدِمَ المدينة فصلى بهم ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ولم يُكبِّر عند الخفض إلى الركوع والسجود، فلما سلّم ناداه المهاجرون والأنصار: يا معاوية، سرقتَ منا الصلاة، أين بسم الله الرحمن الرحيم؟ وأين التكبير عند الركوع والسجود؟ ثم إنه أعاد الصلاة مع التسمية والتكبير.

هدى: سبحان الله، أتصوّر بأنه كما تفضلتم، فهذا الحديث يدلّ على أنّ كلّ الصحابة يومها كانوا يجهرون بها.

علي: ولو كان يجوز الإخفات بها، لما اعترضوا عليه.

هدى: صدقتَ، ولكن مَنْ الذي رواها؟

علي: الدارقطني في سننه ج1 ص311 حديث 33 و34، والحاكم في المستدرك ج1 ص223، والبيهقي في سننه ج2 ص49.

هدى: وهل ذكر العلماء صراحةً بأنّ الصحابة كانوا يجهرون بها؟

علي: نعم،  قال النووي في المجموع ج3 ص341 تحت عنوان: فرع في مذاهب العلماء في الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم: (قد ذكرنا أنّ مذهبنا استحباب الجهر بها حيث يجهر بالقراءة في الفاتحة والسورة جميعاً، فلها في الجهر حكم باقي الفاتحة والسورة، هذا قول أكثر العلماء مِنَ الصحابة والتابعين ومن بعدهم مِنَ الفقهاء والقرّاء، فأمّا الصحابة الذين قالوا به فرواه الحافظ أبو بكر الخطيب عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعمار بن ياسر وأبي بن كعب وابن عمر وابن عباس وأبي قتادة وأبي سعيد وقيس بن مالك وأبي هريرة وعبد الله بن أبي أوفى وشداد بن أوس وعبد الله بن جعفر والحسين بن علي وعبد الله بن جعفر).

هدى: سبحان الله، أعتقد بأنّ جهر الإمام علي والصحابة والتابعين بالبسملة، هو دليلٌ على أنهم أخذوا ذلك مِنَ النبي ص، فهل عندك أحاديث عن جهر النبي ص بها؟

علي: نعم، فقد روى البيهقي في السنن الكبرى ج2 ص69 حديث 2397 عن أبي هريرة قال: (كان رسولُ الله يجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم).

وروى المتقي في كنز العمال ج7 ص441 حديث 19685 عن أبي هريرة عن النبي ص: (أتاني جبرئيل فعلمني الصلاة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فجهر بها).

هدى: ألا يوجد مِنَ الصحابة أحدٌ غير أبي هريرة يرويه عنه ص؟

علي: بل هناك الكثير، فقد ورد عن ابن عباس (أنّ النبي ص كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم).

هدى: ومَنْ روى حديثَ ابن عباس هذا؟

علي: رواه الحاكم في المستدرك ج1 ص326 حديث 750، والهيثمي في كشف الأسرار نقلا عن زوائد البزار ج1 ص255 حديث 526، والطبراني في المعجم الكبير ج11 ص185 حديث 1144، والبيهقي في السنن ج2 ص49 و50.

هدى: لا شك أنّ ابن عباس هو حبر الأمة، وهو مِنْ بني هاشم أقرباء النبي ص وعشيرته، فحديثه مقبولٌ لدينا.

علي: أحسنتِ، وقد روى الدارقطني في سننه ج1 ص304 حديث 9، عن ابن عباس أيضاً أنه قال: (إنّ النبي ص لم يزل يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في السورتين حتى قبض).

هدى: سبحان الله، ولكنْ رغم ذلك فإنه قد يتساءل الإنسان عن مثل هذا الأمر المهم، والمفروض أنه مشهورٌ بين الصحابة، لأنّ النبي صلى بهم سنين طويلة، ثم لا يرويه إلا اثنان منهم.

علي: لقد رواه كثيرٌ مِنَ الصحابة غيرهما، مثل ابن عمر وأنس و.

هدى: (مقاطعة له) اُذكر روايتيهما رجاءً.

علي: روى ابن عمر قال: (صليتُ خلف النبي ص وخلف أبي بكر فكانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم)، رواه عنه الدارقطني في سننه ج1 ص305 حديث 12، وفي ص304 حديث 1، روى عن ابن عمر أيضاً (أنه كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وذكر بأنّ رسول الله ص كان يجهر بها).

هدى: وماذا عن حديث أنس؟

علي: وروى أنس (أنّ النبي ص كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم)، راجعي سنن الدارقطني ج1 ص308 حديث 26، ص26، وعن محمد بن السري العسقلاني قال: (صليتُ خلف المعتمر بن سليمان ما لا أحصي صلاة الصبح والمغرب فكان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قبل فاتحة الكتاب وبعدها [أي للسورة]) رواه الحاكم في المستدرك ج1 ص234، والدارقطني في سننه ج1 ص307 حديث 1166 طبع دار الكتب العلمية، والبيهقي في السنن والآثار ج1 ص525 حديث 728 طبع دار الكتب العلمية ووثق سنده.

هدى: ومن هو المعتمر حتى نعتمد على صلاته؟

علي: هو من التابعين، وقيمة صلاته تلك أنه قال السري بعد ذلك: (وسمعت المعتمر يقول: ما آلو أنْ أقتدي بصلاة أبي، وقال أبي: ما آلو أن أقتدي بصلاة أنس بن مالك، وقال أنس: ما آلو أنْ أقتدي بصلاة رسول الله ص)، أخرجه الحاكم في المستدرك وأورده الذهبي في التلخيص، ونصّا على أنّ رواته عن آخرهم ثقات.

هدى: (مستغربة جداً ومتحيّرة) عجيبٌ ما أسمعه منك اليوم، فماذا عن عمل الصحابة بعد رسول الله ص، والتابعين مِنْ بعدهم؟

علي: رويتُ لكِ قبل قليل عن النووي في كتاب المجموع التزام كثير من الصحابة بالجهر بها، وروى البيهقي في السنن الصغير ج1 ص153 حديث 398، الجهر بها عن عمر بن الخطاب وابن عباس وابن عمر وابن الزبير، وأمّا مِنَ التابعين فعن عطاء وطاووس ومجاهد وعكرمة والزهري.

هدى: أشعر مِنْ جميع كلامك، أنك تريد أنْ تقول بأنّ بني أمية وعلى رأسهم معاوية، هم الذين خالفوا في الجهر بالبسملة؟

علي: أحسنتِ، لذلك نرى الوهابيين وهم أتباع بني أمية ملتزمين بعدم الجهر بها أكثر من باقي المسلمين، وقد قال الفخر الرازي في تفسيره ج1 ص206: (إنّ علياً كان يُبالغ في الجهر بالتسمية، فلمّا وصلتْ النوبة إلى بني أمية، بالغوا في المنع مِنَ الجهر، سعياً في إبطال آثار علي ع)، وروى النسائي والبيهقي في سننهما عن ابن عباس أنه كان يقول: (اللهم العنهم فقد تركوا السنة مِنْ بغض علي)، راجعي تعليقة السندي بهامش سنن النسائي ج5 ص253.

هدى: لقد صدق ظني عن بني أمية، أشعر بأنك تكشف القناع عن قلبي شيئاً فشيئاً، ثم إنّ مُخالفة معاوية وبني أمية لعليٍّ ولباقي الصحابة، هي مُخالفة للنبي ص ولِسنته.

علي: صدقتِ والله، لذا ورد عن النبي ص قوله: (أوّل مَنْ يُغيّر سُنتي رجلٌ مِنْ بني أمية) رواه ابن أبي شيبة في المصنف ج8 ص341 حديث 145، وابن أبي عاصم في الأوائل ص33 حديث 63، والسيوطي في الجامع الصغير ج1 ص435، والمتقي في كنز العمال ج11 ص167 حديث 31062 و31063.

هدى: (تندهش) ولكن الحديث لم يُسَـمِّ الشخص الذي سيغيِّر سنته ص؟

علي: صحيح، ولكنّ بعضَ علمائكم أشار إلى أنّ المقصود به معاوية.

هدى: ومَنْ هو هذا العالم؟

علي: الألباني في السلسلة الصحيحة ج4 ص329.

هدى: الألباني !!! وما هو نصّ مقالته؟

علي: قال: (ولعلّ المُراد بالحديث تغيير نظام اختيار الخليفة وجعله وراثة).

هدى: أولاً: إنه لم يذكر معاوية، ثانياً: الحديث لم يخصّص تغيير سنته بموضوع الوراثة في تداول الحكم، فكيف خصّصه الألباني بتغيير الحكم؟

علي: بالنسبة للجواب عن أولاً: فمِنَ المعلوم تاريخيّاً أنّ أول مَنْ غيّر نظام اختيار الخليفة إلى وراثي هو معاوية، حين نصّبَ ابنه يزيد خليفة مِنْ بعده، وأما بالنسبة لثانياً: فقد ثبت أنّ معاوية غيّر كثيراً مِنَ السُنن النبويّة، لكنّ الألباني أراد تبسيط الموضوع، وأنه مُختصٌ بالتوريث.

هدى: نعود لِموضوع الجهر بالبسملة، فإني أودّ أنْ أصارحك، بأنّ عقلي لا يمكن أنْ يهضم وجود هذا الكمّ الهائل مِنْ أحاديث الجهر، ورغم ذلك فإنّ كثيراً من أهل السنة لا يجهرون بها، فهل يُعقل عدم وجود أحاديث في عدم الجهر بالبسملة؟

علي: بل هناك روايات تقول بأنّ النبي ص كان لا يجهر بالبسملة.

هدى: انظر يا عزيزي، لقد تغيّر الآن الموضوع تماماً، فلماذا لم تخبرْني بوجود مثل هذه الأحاديث منذ البداية؟

علي: لأنها أولاً روايات قليلة جداً، قد لا تتعدى الروايتين فقط، إحداهما عن أنس والأخرى عن عبد الله بن مغفل.

هدى: وهل هي صحيحة؟

علي: رواية ابن مغفل ليست صحيحة، أما رواية أنس فهي صحيحة.

هدى: ولماذا لا يُمكن لنا الأخذ بها، فلا نجهر بالبسملة ما دامتْ صحيحة؟

علي: أولاً: لأنها مُعارضة بما هو ثابت عن أنس مِنْ أنه روى عن النبي ص الجهر بها، فقد روى البخاري عن أنس: سُئِلَ عن قراءة النبي ص فقال: (كانت مدّاً ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمدُّ ببسم الله ويمدُّ بالرحمن ويمدُّ بالرحيم)، راجعيها في فتح الباري ج9 ص91، ثم عَلقَ العسقلاني بعد تحقيقٍ في المسألة: (فتعيّن الأخذ بحديث مَنْ أثبتَ الجهر)، وثانياً: لأنها ليست صريحة.

هدى: اذكرها لنرى عدم صراحتها.

علي: روى البخاري في صحيحه عن أنس قال: (صليتُ خلف النبي وأبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله ربِّ العالمين).

هدى: ولماذا قلتَ بأنها غير صريحة؟

علي: لأنّ علماءَكم هم الذين فسّروها على غير ظاهرها، فقد قال الشافعي: (يعني أنهم كانوا يفتتحون القراءة بسورة الحمد لله رب العالمين، لا أنهم كانوا يتركون قراءة البسملة)، راجعي سنن الترمذي ج2 ص16.

 هدى: كنتُ أتصور بأنها تدلّ بصراحة على عدم الجهر بالبسملة، والآن نرجع إلى روايات الجهر، فلم تذكر لي هل أنها صحيحة؟

علي: حاول البعض الطعن فيها وتضعيفها، ولكنها كثيرة بحيث بلغتْ حدَّ التواتر.

هدى: وكم صحابياً روى أحاديث الجهر بالبسملة؟

علي: ربما بلغ عددهم أكثر مِنْ عشرين صحابياً.

هدى: فلماذا لم يُصرِّح علماؤنا بتواترها؟

علي: بل صرّح بعضُهم بتواتر أحاديث الجهر بالبسملة.

هدى: أين التصريح بذلك؟

علي: صرّح الكتاني في نظم المتناثر من الحديث المتواتر ص88، بتواتر أحاديثها، وردّ على مَن زعَمَ أْنها ضعيفة، كما ذكر مَنْ صحّحها.

هدى: حقاً إنه لأمرٌ غريبٌ جداً، عدم اطلاعي على كلّ هذه الحقائق مِنْ قبلُ، رغم دراستي للشريعة سنين طويلة.

علي: أتعلمين بأنّ الكتاني في نظم المتناثر ص90، ذكر أحاديث عدم الجهر بالبسملة، وذكر بأنها ليستْ متواترة، وأنّ جلّها غير صريحة.

هدى: أكرر هنا سؤالي وأقول: إذا كانت سنة نبوية ثابتة، واستمرّ عليها الصحابة والتابعون، فكيف لم يعملوا بها بعد ذلك؟

علي: هناك رواية عن أبي هريرة صرّح فيها بهذه الحقيقة حيث قال: (كان رسول الله ص يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ثم تركه الناس)، راجعي قوله هذا في سنن الدارقطني ج1 ص307، والحاكم في المستدرك ج1 ص222 – 223.

هدى: الناس لا تترك السنة طوعاً، إلا إذا كان السيف فوق رؤوسهم وبالإكراه والجبر، ولعلّ هذا يؤكد ما تفضلتَ به مِنْ منع بني أمية للجهر.

علي: صحيحٌ يا عزيزتي.

هدى: بقي بحثٌ آخر متعلقٌ بالبسملة وأرجو أنْ لا نطيل فيه، فإنّ بعض أهل السنة يعتقدون بأنّ البسملة ليست جُزءاً مِنْ سورة الفاتحة أو باقي سور القرآن.

علي: خلاصة الموضوع هو أنّ هناك روايات كثيرة في كتب أهل السنة تدلّ على أنها جزء من سورة الفاتحة، وردتْ عن أمير المؤمنين علي ع وابن عباس وأبي هريرة وأم سلمة وابن عمر.

هدى: وهل هناك روايات تدلّ على عدم جزئيتها لسورة الحمد؟

علي: نعم، ربما توجد روايتان تدلان على عدم الجزئية.

هدى: اذكر لي ما دلّ على الجزئية.

علي: أولاً: أخرج الدارقطني بسند صحيح عن علي ع أنه سئل عن السبع المثاني، فقال: الحمد لله رب العالمين، فقيل له: إنما هي ست آيات، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم آية، راجعي الإتقان النوع 22 – 27 ج1 ص136، والبيهقي في سننه ج2 ص45. ثانياً: وأخرج الدارقطني عن أبي هريرة بسند صحيح قال: قال رسول الله ص: (إذا قرأتم الحمد فاقرأوا بسم الله الرحمن الرحيم فإنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني، وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها). ثالثاً: وأخرج ابن خزيمة والبيهقي بسند صحيح عن ابن عباس قال: (السبع المثاني فاتحة الكتاب، قيل: فأين السابعة؟ قال: بسم الله الرحمن الرحيم)، ورواه الحاكم في المستدرك ج1 ص551.

هدى: وماذا عن جزئيتها لباقي السور؟

علي: قالت أم سلمة: (إنّ النبي ص قرأ في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم وعدّها آية)، راجعي إرواء الغليل تصحيح الألباني ج2 ص59 حديث 343 فقد صححه.

وأخرج البيهقي بسند صحيح من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (استرق الشيطان من الناس أعظم آية من القرآن، بسم الله الرحمن الرحيم)، راجعي سنن البيهقي ج2 ص50، والحديثان عامّان يشملان كلَّ سور القرآن.

هدى: كلامك صحيح، ولكنهما غير صريحين بالنسبة لباقي سور القرآن.

علي: روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (كان الناس لا يعلمون انقضاء السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم، فإذا نزلتْ بسم الله الرحمن الرحيم عَلِموا أنّ السورة قد انقضتْ)، مستدرك الحاكم ج1 ص232، وصحّحه.

وعن ابن عباس أيضاً قال: (إنّ النبي ص كان إذا جاءه جبرائيل فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم علم أنها سورة)، أخرجه الحاكم في المستدرك كتاب الصلاة ج1 ص231 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد.

وروى أنس قال: (بينا رسول الله ص ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسماً، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزلت عليّ آنفا سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر ….)، صحيح مسلم باب حجة من قال البسملة آية ج2 ص12، وسنن النسائي باب قراءة البسملة ج1 ص143، وسنن أبي داود باب الجهر بالبسملة ج1 ص125.

هدى: نعم، هذه الأحاديث صريحة في باقي السور القرآنية، ولكن ما هو رأي علمائنا بأمثال هذه الأحاديث؟

علي: يقول الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم ج4 ص111: (ومذهب الشافعي وطوائف السلف والخلف أنّ البسملة آية مِنَ الفاتحة، وأنه يُجهر بها حيث يُجهر بالفاتحة).

هدى: لقد جمعتَ في هذا القول موضوعَيْ الجهر والجزئية للبسملة في الفاتحة.

علي: صحيح، هذا بتوفيق مِنَ الله سبحانه.

هدى: فهل هناك من علمائِنا مَنْ يعتقد بعدم جزئيتها للحمد أو السورة؟

علي: نعم، ذهب مالك والأوزاعي إلى أنها ليستْ مِنَ القرآن، ومنعا مِنْ قراءتها في الفرائض بقولٍ مُطلق، سواء أكانت في افتتاح الحمد أم في افتتاح السورة بعدها، وسواء قرئتْ جهراً أم إخفاتا، نعم أجازا قراءتها في النافلة.

هدى: ومَنْ نقل أقوالهما هذه؟

علي: نقلها ابن رشد عن مالك في ج1 ص96 من كتابه بداية المجتهد، وقال الرازي حول البسملة من تفسيره الكبير ج1 ص100 ما هذا نصه: (قال مالك والأوزاعي أنها ليست مِنَ القرآن إلا في سورة النمل، ولا تقرأ في الصلاة لا سراً ولا جهراً إلا في قيام شهر رمضان).

هدى: رغم تلك الأحاديث الناطقة بجزئيتها، فما هذه الآراء العجيبة عند علمائنا؟!

علي: وهناك دليل يدلّ على جزئية البسملة لكلّ السور، وهو أنّ كلّ المصاحف والقرائين الموجودة في بلاد المسلمين، حتى مصاحف الصحابة والتابعين، توجد البسملة في بداية كلّ السور القرآنية ماعدا سورة براءة.

هدى: (تفكر في الدليل) جميل جداً، فهل يُعقل بأنّ جميع المسلمين يجمعون على هذا العمل بدون دليل، خصوصاً مع عدم وضعهم البسملة في أول سورة براءة، أعتقد بأنّ هذا المقدار يكفي بهذا الموضوع، خصوصاً وأنّ صوت الأذان يدعونا للصلاة.

علي: الحمد لله رب العالمين على نعمه، وأهمها اهتمامنا بأداء الصلوات بأول وقتها.

هدى: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أنْ هدانا الله، وأتصور بأنّ هذا هو من بركات معاشرتي لك.

علي: ولكن المثل يقول: (الديك المليح من البيضة يصيح)، فأنتِ ولله الحمد، مهتمة بأمور دينكِ منذ كنتِ طالبة في الكلية.

هدى: وكذلك يشهد الجميع لكَ هناك بامتلاكك لنفس هذه الصفة.


 

شاهد أيضاً

    إقرأ المزيد .. الإمام الخامنئي: الشعوب المسلمة تتوقع من حكوماتها قطع العلاقات مع ...