الرئيسية / القرآن الكريم / آيات الأحكام للعلامة السيد الأسترآبادي 09

آيات الأحكام للعلامة السيد الأسترآبادي 09

وكظاهر هذه الآية قوله تعالى في نبأ ابني آدم : « إِنَّما يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ » فان ظاهر إطلاقه كما قاله القاضي أنّ الطاعة لا تقبل إلَّا من مؤمن متّق ، وفيه : إلَّا على قول من يقول بأن فاعل الكبيرة غير مؤمن ، على أنّ فيه ما فيه من الإشكال فإنّ الفقهاء لم يذكروا ذلك ، بل ظاهرهم أنّ الفسق لا يمنع من صحة العبادة إذا فعلها على وجهها .
فلعلّ المراد أنّ اللَّه لا يقبل القربان بإرسال نار تأكلها إلَّا من المتّقين أو أنه
لا يقبل عبادة إلَّا من المتّقين فيها ، بأن يأتي بها على وجه لا يكون عصيانا ، مثل أن يقصد بها الرياء أو غير ذلك من المبطلات ، أو المراد تقوى عن ذنب ينافي تلك العبادة ، فتكون إشارة إلى أنّ الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضدّه ، فهو موجب للفساد ، فلا يلزم الاشتراط عدم كونها معصية ، أو عدم استلزامها للمعصية ، واللَّه أعلم .

ثمّ اعلم أنه إذا كان المراد بدين القيّمة الملَّة المستقيمة أي شريعة الإسلام كما تقدّم ، يجب أن يكون ذلك إشارة إمّا إلى الدين الكائن أوامره ، أو عبادته على الوجه المخصوص المفهوم التزاما وإمّا إلى الأوامر المخصوصة ، أو العبادة المخصوصة أو إلى كون الأوامر على الوجه المخصوص أو العبادة كذلك ، ومعلوم أنّ شيئا من ذلك ليس عين شريعة الإسلام فإن شريعة الإسلام أوامر ونواه وغيرهما ، وكذلك عبادة وغيرها ، فلا بدّ من ارتكاب مجاز في الإسناد ، أو في ظرف أو تقدير مضاف ونحوها .

وحينئذ فلا يرد ما قيل من أنّ ظاهره دخول الأعمال خصوصا إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في الإسلام ، وهو مذهب الخوارج ، فان من أخلّ بالعمل فاسق عند الكلّ ، وكافر عند الخوارج ، وخارج عن الايمان غير داخل في الكفر عند المعتزلة ، لاعتبارهم الأعمال في الايمان فبعض كلَّا ، وبعض الفرائض ، وبعض مجرّد الكبائر .
فمنهم من استدلّ بذلك كالخوارج بأنّ الايمان إن كان هو الإسلام ، فظاهر وإلَّا فكلّ ما يعتبر في الإسلام يعتبر في الايمان ، ولا يرد حينئذ هذا أيضا مع ما فيه كما لا يخفى .
* * *
الواقعة : « إِنَّهُ » أي المتلوّ « لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ » صفة قرآن ، أي حسن مرضىّ أو عزيز مكرّم ، أو كثير النفع « فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ » مصون عن الباطل ، أو مستور عن الخلق في لوحه المحفوظ ، ومتعلَّق الجارّ إما صفة بعد أخرى لقرآن أو خبر بعد خبر ، وكذلك « لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ » لأنّه لو كان صفة لكتاب كان كالتأكيد والبيان لمكنون ، والتأسيس التام أتمّ وأولى ، ولأنّ السياق لإظهار شرف القرآن وفضله ، وينبّه عليه قوله : « تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ » أي القرآن أو المتلوّ ، لا الكتاب الذي هو اللوح المحفوظ ، ولا الذي فيه .

في الكشاف : « تَنْزِيلٌ » صفة رابعة للقرآن أي منزّل « مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ » أو وصف بالمصدر ، لأنه نزل نجوما بين كتب اللَّه تعالى فكأنه في نفسه تنزيل ، ولذلك جرى مجرى بعض أسمائه ، فقيل جاء في التنزيل كذا ونطق به التنزيل ، أو هو تنزيل على حذف المبتدء ، وقرئ « تنزيلا » على « نزل تنزيلا » انتهى ، وأيضا اطَّلاع الملائكة على ما في اللوح المحفوظ ومسّهم إيّاه غير واضح ، فان مفاد بعض الاخبار وكلام بعض الأخيار خلافه ، وكذلك قيل في تفسير « مَكْنُونٍ » : مستور عن الخلق [ ولم يقل مستور عن الناس ونحو ذلك ] كما تقدّم .

وفي التبيان ومجمع البيان وعندنا أنّ الضمير يعود إلى القرآن ، فلا يجوز لغير الطاهر مسّه حملا للنفي على معنى النهي ونحوه ، ويؤيّد ذلك ما روى ( 1 )
عن الصادقين عليهم السلام أنّ المراد المطهّرون من الأحداث والجنابات ، وأن أخبارهم عليهم السّلام متفقة في المنع لغير الطاهر من المسّ ، وفي بعضها الذي ينبغي أن يعدّ من الصحاح نسب ذلك إلى الآية الشريفة ، فيحرم مسّ كلّ ما صدق عليه أنه قرآن ، سواء في مصحف أو لوح أو جدار أو جلد أو ورق ولو مسودة أو غير ذلك كما هو المشهور عندنا .

نعم قد يتأمل في التشديد والاعراب ونحوه ، وربّما فرق بينهما ، وفيه نظر لا يخفى .
ثمّ لو كان صفة ل « كِتابٍ » للقرب مع بعده فالأظهر إرادة الخطَّ والكتابة القرآني مطلقا ، كلا كان أو بعضا ومصحّح الظرفيّة حينئذ استفادة القرآن منه ، ودلالته عليه وهو في المآل كالأوّل أولا مطلقا بل كلا ، وحينئذ فيدلّ على تحريم مسّ كتابة القرآن في المصحف ونحوه ، ولا أعرف منّا قائلًا بهذا الخصوص لكن ربما أمكن أن يقال لا فرق بين ذلك وبين غيره ، إذ الظاهر أنّ المقتضى لذلك كونه خطَّ القرآن وكتابته فتأمل .
أما أن يراد به المصحف ، أعنى مجموع الأوراق أو الألواح المكتوبة فيها القرآن جميعا ، أو والجلد إذا كان ، أو والكيس ونحوه ، كما ذهب إليه الشافعيّة فبعيد جدا لكن ربّما كان اعتمادهم في ذلك على إطلاق منع مسّ المصحف في الخبر فليتأمل فيه .

وقد أورد في المقام أنّ استفادة التحريم من الآية على ما ذكر يتوقّف على كون النفي بمعنى النهى بتقدير مقول فيه ، وهو تكلَّف ، وكونه صفة ل « كِتابٍ » أي اللوح والمطهّرون الملائكة المقربون المطهّرون عن الذنوب وغيرها محتمل واضح خال عن التكلَّف ، فلا يجوز العدول عنه ، وإن ثبت الحكم بالأخبار أو الإجماع إلَّا أن يدلّ دليل على أنه مراد منها .
ويمكن أن يجاب بأنّ هذا الاحتمال مدفوع بما قدّمنا ، ومعه ارتكاب نحو هذا التكلَّف سهل وأولى ، لكن قد ذهب جماعة من الأصحاب إلى كراهة مسّ خطَّ القرآن للمحدث .
وفي الكشاف : « وإن جعلته صفة للقرآن فالمعنى لا ينبغي أن يمسّه إلَّا من هو على الطهارة من الناس » ولا يخفى أن « لا ينبغي » ظاهره الاخبار والكراهة دون التحريم ، وأنه قريب ، وأن المحذور الذي هو لزوم الكذب يندفع بهذا المقدار فلا يلزم ارتكاب ما يلزم منه التحريم ، بل لا يجوز إلَّا بما يقتضيه بخصوصه .
وتبيّن أيضا انه لا يتوقّف استفادة الحكم على كون النفي بمعنى النهي خصوصا على التقدير المذكور ، فيجوز التقدير إخبارا على التحريم أيضا كلا يجوز ونحوه ، وأيضا لم سلَّم وجوب كون النفي هنا بمعنى النهي في الجملة ، فلا يلزم كونه للتحريم بل جاز كونه بمعنى نهي التنزيه .

شاهد أيضاً

صلاة ليالة 10 من شهر رمضان المبارك