الرئيسية / الاسلام والحياة / مفهوم و تاريخ أدب الاطفال عند العرب – دكتور علي الحديدي

مفهوم و تاريخ أدب الاطفال عند العرب – دكتور علي الحديدي

إن الذين يكتبون أدباً للطفل المسلم، يستطيعون أن يفعلوا الكثير على ضوء الإسلام، مع ضرورة تمسكهم بالقيم الجمالية لكل لون من ألوان أدب الأطفال، وعليهم أيضاً ألا يهدروا ما توصل إليه علماء النفس والتربويون والنقاد المخلصون، لأن هؤلاء الباحثين حاولوا جاهدين أن يكتشفوا عالم الطفل الداخلي، ويستنيروا بالهدى الإلهي، والتجارب الحية، والدراسات الميدانية، أملاً في معرفة العوامل المختلفة، والمؤثرات العديدة، التي تفعل فعلها في عقل الطفل ونفسه ووجدانه وسلوكه، وهي محاولات ـ وإن لم تصل حد الكمال ـ جديرة بالنظر والتطبيق إذا لم تتعارض مع حقائق الإسلام ونصوصه.

إن للأطفال خبراتهم وتجاربهم وأحلامهم الخاصة، وأديب الأطفال الحق هو الذي يستخدم أداة اللغة بطريقة خاصة تجعل الطفل يستشعر المتعة والجمال، والنظام والتوازن، فتحدث الاستجابات الوجدانية والنفسية المطلوبة، بل أثرى وأوسع مما هو مطلوب، ويكتسب الطفل عندئذٍ خبرة جديدة تثري فكره، وتحقق له السعادة، بل والدهشة أو العجب أحياناً، ومن لا يتوفر لديه معرفة كافية بعالم الطفولة الخاص، فسوف يكون من العسير عليه الوفاء بمهمته الصعبة، لان الطفل صريح. ويقبل أو يرفض بصراحة. ويعبر عن انطباعه بحرية، فيقبل على الكتاب بنهم وشغف، أو يلقي به بعيداً في ملل وإهمال. ومن الصعب على الطفل ان يستمر في أداء فعل لا يحبه.. أو كما يقولون الطفل ناقد صادق. لا يعرف المجاملة فيما يقرأ من أدب، وإن لم تكن لديه القواعد الأكاديمية لتقويم العمل الأدبي.. إنه يملك شيئاً واحداً: الشعور بالمتعة..

أقول هذا الكلام خاصة لأولئك الذين يملؤون كتاباتهم للطفل بالكثير من القيم والمضامين العظيمة، لكنهم للأسف يقدمونها في إطار مهلهل، أو شكل فني مقبض، وتكون النتيجة إنصراف الطفل عن الجواهر الغالية التي أرادوها له هدية قيِّمة.

الصورة الفنية الحية الجذابة هي العنصر الأساسي، وبدونها ينطمر المضمون في طيات الملل والاهمال والنسيان..

دائماً.. وأبداً.. يجب أن نجدَّ في البحث عن أفضل الأساليب، وأجمل الأشكال والأُطر التي نقدِّم من خلالها ما نريد من قيم وأفكار لأطفالنا.

وإذا كان البعض يزعم أن الدين والفن لا يلتقيان. ويظن هذا البعض، أن هدف الفن الجمال، وهدف الدين الحق، إذا كان الظن كذلك، فإنه ظن أوحت به نظرية (الفن للفن) وغيرها من النظريات التي تركز على الإستماع وحده، ونسوا أو تناسوا أن الحق قمة الجمال والروعة، وأن الدين يسعى حثيثاً لإسعاد الإنسان، وجعل حياته تتسم بالنسق والنظام البديعين، في ظل الإيمان والصدق، وأن الفن كذلك يسعى لإسعاد الإنسان وجعل حياته تنبض بالجمال والخير والحق والإيمان؛ ذلك هو الفن الصحيح، وما عداه فهو فن لا يترسم خطى الفكر السليم؛ والحياة السوية، والمشاعر الصادقة.

ألا ترى أن الفن والدين يلتقيان عند نقطة واحدة؟؟

يقول روسو في ذلك عن طفله (…إن الفرض الاساسي من تربيته هو أن أعلمه كيف يشعر، ويحب الجمال في أشكاله، وأن أرسّخ عواطفه وأذواقه، وأن أمنع شهواته من النزول إلى الخبيث والمرذول، فإذا تم ذلك. وجد طريقه إلى السعادة ممهداً..)

تاريخ أدب الأطفال عند العرب

يكاد يجمع المؤرخون أن أدب الأطفال يوجد حيث توجد الطفولة، وهو جزء لا يتجزأ عن باقي احتياجاتها المادية والنفسية والروحية، فكما يحتاج الطفل إلى الطعام والشراب، وإلى الرعاية والحنان، فإنه في حاجة ماسة إلى ما يثري فكره، ويسعد روحه ووجدانه، وإذا لم يستوف الطفل تلك الاحتياجات المادية والمعنوية، فسوف يكون عرضة للمعاناة والاضطراب. لأنها جزء من فطرته، وقد كانت الأم من قديم الزمان تدرك احتياجات طفلها بالفطرة، فتقدم له ما يرفه عنه ويثري خبرته، ويتواءم مع طبيعته.

ولا ينقض هذا الرأي ما درج عليه المؤرخون من تجاهل يكاد يكون تاماً لأدب الأطفال شعراً ونثراً. فلم يحظ قديماً بالدراسة والتسجيل والتبويب. خاصة وأن أدب الأطفال في السنوات الأولى كان من واجبات الأسرة، الجدة أو الأم أو الأب وغيرهم من أفراد المنزل، ولذلك كان خاضعاً للإجتهاد الشخصي والتقليد. وتوارث التراث جيلاً بعد جيل، شأنه في ذلك شأن الكثير من روايات وأشعار الكبار التي كان يتناقلها الرواة المتخصصون.

وكان أدب الكبار فيه الكثير مما يصلح للصغار، وخاصة القصص والأخبار. وشعر الملاحم أو الربابة، وكان للقبائل قصَّاصُوها ورواتها وشعراؤها الرسميون، وكان الناس يحترمونهم ويستمعون إليهم في شغف. والأطفال ـ لا شك ـ يختلطون بجمهور السامعين، ويلتقطون ما يستطيعون فهمه من حكايات ومغامرات وأساطير وخاصة ما يتعلق بالقبيلة وأيامها وانتصاراتها. كما كانت النسوة في البيوت أو الخيام يروين لأطفالهن تلك القصص بأسلوب أبسط سلس. ويركزون على ما فيه من عظة وعبرة.

ونلاحظ حتى أيامنا هذه الدور الذي يلعبه (شعراء الربابة) في البادية العربية، وفي القرى والأوساط الشعبية. فهؤلاء الشعراء يلجأون إلى قصص أو ملاحم مثيرة شيقة، يسيرة الفهم. مفهومة العبارة، رنانة القافية والإيقاع، وكان هؤلاء الشعراء القصاصون أو الملحميون يطربون سامعيهم كباراً وصغاراً، ويهولون في وصف المعارك والبطولات، وأساليب التحايل والدهاء، وألوان الحب والشقاء، والتشبُث بقيم الشجاعة والكرم والفتوة، على غرار ما نسمعه من هؤلاء الشعراء اليوم عن سيف بن ذي يزن اليماني. وعنترة بن شداد، والأميرة ذات الهمة، وأبي زيد الهلالي وغيرهم، كان لكل عصر بطولاته وقيمه واهتماماته، ولم يكن أطفال العصور العربية في معزل عن هذه الألوان الفريدة من التسلية والفن والعبرة.

ونقرأ بعد ذلك في سيرة الرسول(ص)، كيف أرسله قومه إلى البادية ـ شأن أطفال العرب في ذاك الزمان ـ حيث يتلقى اللغة العربية صافية من الشوائب واللكنات والتحريف، ويتعود على حياة الصحراء وما فيها من كفاح وتقشف وتحمل، ويتشرب تقاليدها التي تبرز قيم التآلف والمحبة والكرم والصبر، والشجاعة والجرأة، وحيث ينعكس امتداد الصحراء ورحابتها والانطلاق فيها على نفس الإنسان، وحيث يكون لكل فرد دور بنَّاء يقوم به لخدمة نفسه ومجتمعه، كانت البادية في ذلك الوقت هي أول مدرسة يتلقى فيها الطفل ما يفيده:

نفسياً. وبدنياً.

وعقلياً. وإجتماعياً.

 ويعود الطفل من بعثته تلك في البادية، بعد أن يكون قد تعلم اللغة على أصولها. وحفظ قدراً من أشعارها وقصصها ومغازيها، وتسلح بالكثير من قيمها وتقاليدها وانسابها. كي يواصل حياته بين أهله على أسس تربوية معترف بها.

يعود الطفل ليسمع سجع الكهان، وأساطير الأديان القديمة المحرفة، وخرافات الوثنيات والأصنام، ويتلقى العلوم الخاطئة السائدة عن أسرار الكون. وتحليل الظواهر الطبيعية، بصورة اقرب إلى الإختراع والسذاجة والتوهم منها إلى الحقائق العلمية الصحيحة.

ثم يشرق فجر الإسلام الوضَّاء، على تلك البقاع الشاسعة، ويدعو إلى عقيدة نقية أبيَّة، سهلة الفهم والتناول، الله واحد لا شريك له، خالق كل شيء، بيده الأمر كله، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، كما يدعو إلى الطهر والنقاء، وإلى العدل والحرية، وإلى التآخي والصدق والمحبة ويجابه العصبيات والوثنيات، وينفر من الظلم والإستغلال، والتعالي بالأحساب والأنساب (كلكم لآدم وآدم من تراب)، ويحذر من مغبة الإنخراطٍ في التطاحن والتحارب والتعادي من أجل أمور دنيوية تافهة، أو أمجاد زائفة، ويضع أسساً جديدة للبطولة والكرم والعلاقات الإنسانية. وهكذا يحدث الصراع الخالد بين المؤمنين الأوائل وعلى رأسهم محمد (ص). وبين سنة الشرك القديم، والقيم الفاسدة العالية، وينتصر الحق ـ بعد تجربة مريرة ـ وتتبدل الحياة شكلاً وموضوعاً، ويولد عالم جديد ينبض بالحق والخير والحب والجمال تحت راية التوحيد، وعلى هدى القرآن ـ دستور الحياة الأوحد ـ وبتوجيه من القيادة الراشدة الحكيمة لمحمد عبد الله روسوله.

ويعنى الإسلام ضمن ما يعني (بالطفولة)، فيعلم أصحابه كيف يحنون ويبرون بأطفالهم، ويدعوهم إلى العدل بين أولادهم ولو في القلب، ويجعل من ظهره الشريف مركباً لحفيديه الحسن والحسين ويداعبهما في رقة وحب، ويغرس فيهما الفضيلة، ويعلمهما القرآن والوضوء والصلاة وطاعة الله، ويمشي في الشارع ويلقي على الأطفال التحية، ويبتسم في وجوههم، ويرد ـ في رحابة صدر ـ على تساؤلاتهم، ويبين للمسلمين حقوق الطفل الشرعية جنيناً ورضيعاً وطفلاً وصبياً وغلاماً، وهو أمر يذكره فقهاؤنا الأعلام في أبواب التربية والحضانة والنفقة والميراث، وحقهم في التعليم والرعاية، كما ذكر(ص) الكثير حول التعامل معهم، وما يجب عليهم من صلاة وصوم وتعلم ما يحتاجه في الجهاد من فروسية، وهي جوانب شتى تتعلق بحياة الطفل بدنياً ونفسياً ووجدانياً وفكرياً. واهتم القرآن الكريم باليتيم وماله ورعايته وحقوقه والوصاية عليه، وأشار(ص) إلى ما ينتظرنا من ثواب الله، إذا ما نفذَّنا تعاليم الكتاب والسنة نحو هؤلاء الأطفال..

ولهذا فإن القائم بالتربية الصحيحة لهؤلاء الأطفال له عند الله ـ وعند الابناء ـ الجزاء الأوفى (وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيراً).

ترى هل تجد في أي دين من الأديان السابقة على الإسلام روعة وشمولاً واهتماماً برعاية الطفولة كما نراها في ديننا الحنيف؟؟

وجاء عصر الخلفاء والتابعين ومن تبعهم بإحسان، فاقتدوا بتعاليم نبي الإسلام في تربية الأطفال والعناية بهم من شتى الوجوه..

يقول عمر بن الخطاب (علموا أولادكم السباحة والفروسية، وارووهم ما سار من المثل، وحسن من الشعر) ويقول هشام بن عبد الملك لمعلم ولده: (وأول ما أوصيك به، أن تأخذه بكتاب الله، ثم أروه من الشعر أحسنه. ثم تخلل به في أحياء العرب، فخذ من صالح شعرهم، وبصره، بطرف من الحلال والحرام، والخطب والمغازي) ويقول الإمام الغزالي: (إن الطريق في رياضة الصبيان من أهم الأمور وأوكدها، والصبي أمانة عند والديه. وقلبه الطاهر جوهرة نفسية ساذجة، خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما يُنقش، ومائل لكل ما يُمال إليه، فان عُوِّر الخير وعُلِّمة نشأ عليه. وسعد في الدنيا والآخرة) وبعد أن يفيض الغزالي في بيان الطريق لتربية الطفل في المرحلة الأولى، مرحلة التقليد والتلقين، وهي من أهم المراحل في حياة الإنسان، من حيث تحديد الخلق والشخصية. ينتقل إلى التالية، وهي مرحلة التعليم فيقول: (ثم يشتغل في (المكتب)، فيتعلم القرآن، وأحاديث الأخبار، وحكايات الأبرار.. الخ)(1)

ووجد القصاصون في قصص القرآن الكريم مادة ثرية للأطفال، فكانت تروى لهم بصورة مبسطة، وكذلك بعض ما ورد في الأحاديث النبوية، ومغازي رسول الله. وحرب الصحابة ومن أتى بعدهم، وجهاد المسلمين لنشر الدعوة الإسلامية في مشارق الأرض ومعاربها، وأخبار العلماء والصالحين والرحالة والمسافرين للتجارة. وأخبار الأمم الأخرى كذلك، كل تلك المصادر أغنت القصص التي تروى للأطفال، وخاصة بعد أن تم الفتح واتسعت الدولة، وتوفر عدد من المؤلفين المسلمين وكتَّاب التراث؛ على تسجيل حكايات وأساطير عن مختلف الأزمنة والأمكنة؛ ونذكر هنا بعض المؤلفات القديمة الخاصة بهذه الجوانب:

ـ (نهاية الأرب).

ـ (مختصر العجائب والغرائب) المنسوب للمسعودي

ـ (الوزراء والكتاب)

ـ (الأغاني)

ـ (البخلاء)

ـ (كليلة ودمنة)

ـ (ألف ليلة وليلة).

ـ (القدح المعلى)

ـ مقامات الحريري) و (مقامات بديع الزمان الهمذاني) وغيرهما.

ـ (والكثير من قصص الوعَّاظ) الخ.

شاهد أيضاً

ليلة القدر .. بين اصلاح الماضي و رسم المستقبل

أشار العالم الديني و استاذ الاخلاق الزاهد الفقيد الراحل سماحة آية الله مجتبي طهراني ، ...