الرئيسية / من / قصص وعبر / المسيح في ليلة القدر7

المسيح في ليلة القدر7

لرواية الأولى: بشارة العودة

 الرواية الأولى: بشارة العودة – رواية حضور الإمام الخامنئي دام ظله في منزل الشهيد جالوست بابوميان في تاريخ 28/12/1989م.

الشهيد جالوست بابوميان
شهيد القصف الجويّ على الأهواز
تاريخ الاستشهاد: 09/10/1980م
 
 
 
 
 
38

26

لرواية الأولى: بشارة العودة

 يودّع جالوست زملاءه ويخرج من الغرفة حاملًا بيده ملفات عدّة، تحوي وثائق مُهمّة لشركة النفط. لقد خيّم الهدوء في مبنى الشركة بعدما أصبح خالياً بالكامل. الكثيرون، وخاصّة القوى غير المحلّية، غادروا الأهواز، لقد فرّوا في الواقع. 

قبل أكثر من ثلاثين سنة، كان جالوست قد بدأ عمله في قسم الكمبيوتر التابع لشركة النفط، وخلال أحداث الثورة والإضرابات كان في الطليعة. والآن، في هذه الأوضاع الحرجة للبلاد، فإنّ خبرته باتت ضروريّة لإدارة الشركة ومواصلة تدفّق النفط في الأنابيب. هو نفسُه لم يكن قادرًا على المغادرة، رغم شدّة شوقه لوالدته العجوز وزوجته، وبالأكثر لابنه وابنته، فاروجان وتالين. لقد مرّ على ذهابهم عشرون يومًا. فمنذ أن اندلعت الحرب، أرسل عائلته إلى منزل أخيه في طهران وبقي هو في الأهواز. عندما هاتفهم البارحة ليلًا، أصرّت عليه أمّه من بين الجميع أن يعود إلى طهران:
بنيّ حبيبي جالوست! غداً أو بعد غد سيستولي العراقيّون على الأهواز، وليس معلوماً حينها أيّ بلاء سينزلونه عليك. هؤلاء ليسوا كمسلمي إيران، اليوم كانت تقول جارتنا زهراء: “إنّ هؤلاء هم أنفسهم الّذين قتلوا الإمام الحسين عليه السلام وحضرة أبي الفضل”. ولدي، بما أنّك لستَ عسكريًّا ارجع إلى طهران.
وبما أنّها أمّه فقد قال: “على عيني، سآتي خلال هذه الأيّام القليلة”. وكان صادقًا فيما يقول، فقد كان من المقرّر أن يوصل وثيقة مُهِمّة إلى طهران بالقطار. لكن كان عليه العودة بسرعة. ولم تكن والدته تعلم أنّ ابنها قد قرّر الذهاب في الأسبوع التّالي إلى عبادان لعدّة أيّام. فقد اشتعلت النيران في مصفاة النفط، وكان عليه أن يواصل عمله. لقد سكّن قلب والدته، لكن كان عليه بعد حديثه مع ولدَيْه أن يُسكّن قلبه هو. كان فاروجان في العاشرة من عمره وتالين في السادسة، وكم كان لسانها عذباً، لقد تعلّمت للتوّ الفارسيّة من التلفاز وباتت تخلطها بالأرمنيّة! بعد الاتصال الهاتفي، توجّه نحو صورة ولدَيْه وراح يتأمّلهما.
 
 
 
 
39

27

لرواية الأولى: بشارة العودة

 كان يذرف الدموع والبسمة مرتسمة على شفتَيْه، وهو ينظر إلى صورة ولدَيْه. ظلّ على هذه الحال حتى الساعة التّاسعة ليلاً، حين شاهد نشرة أخبار يوم الثامن من شهر تشرين الأول عام 1980م، اليوم السابع عشر للحرب من على شاشة التلفاز. لقد غلب غضبه وقلقه على شوقه حين شاهد النّار والدخان يتصاعدان من أبراج المصفاة، وعقد العزم على البقاء والمساعدة في مواصلة إنتاج النفط.

كانوا قد أوقفوا تحديد ساعات العمل. خرج من الشركة وتوجّه مباشرةً إلى سكّة الحديد في ا?هواز، ركن سيارته في الموقف، وقد عزم على تركها هناك، إلى حين عودته فيكون رجوعه أسهل. كانت المحطّة مزدحمة بأصناف الناس، متضرّرين من الحرب، ومحزونين قد حملوا صررهم على أكتافهم يريدون مغادرة مدينتهم، وعسكريين وقوى شعبية قد أتت لأجل القتال. لم يكن قد وصل إلى باب القطار حين علت في البداية صفّارات الإنذار، ثم دويّ المقاتلات العراقيّة في أجواء الفضاء1.
 

1- كانت الأهواز منذ اليوم الأول لبدء الحرب، أي 22 أيلول 1980م، تُقصف بشكل مستمرّ جويّاً وبالصواريخ؛ بحيث إنّ كثيراً من سكّان الأهواز المدنيّين قد غادروها بعد مدّة شهر، وأصبحت المدينة أشبه بالمنطقة العسكريّة.
 
 
 
40

28

لرواية الأولى: بشارة العودة

 عبرت المقاتلة الحربيّة بسرعة عالية، وعلى ارتفاع منخفض، أجواء المدينة، ثمّ قامت بدورة في الفضا،ء وعادت هذه المرّة من علوٍّ مرتفع، ومن دون أن يتصدّى لها أيّ مضادّ للطيران. كان جالوست يُحدّق في السماء حين رأى عدّة نقاطاً سوداءَ تنفصل عن الطائرة وتتساقط بسرعة نحو الأرض. لقد انفجرت أول قنبلة أمام المحطّة، ثمّ الثّانية والثّالثة، لم يعد جالوست قادراً على الحراك، صار يُراقب فقط اقتراب الانفجارات. وكان آخر مشهد ارتسم أمام ناظرَيْه هو صورة فاروجان وتالين وزوجته هاسميك.

راح الناس المذهولون والمعفَّرون بالتراب يركضون باتجاه المحطّة. واستعرت ألسنة النيران في القطار الّذي كان مقرّراً أن يتوجّه إلى طهران، وبات مبنى المحطّة نصف مدمّر.
كان جالوست قد سقط في ساحة المحطّة الخارجيّة. عندما مرّ أوّل شخص بقربه رأى وجهه والقسم العلوي من جسده قد احترق. انتابه الخوف، فهو لم يكن قد رأى مشاهد كهذه من قبل. لم يكن يريد أن يُصدّق أنّ جالوست قد استشهد. جلس بقربه.
– ? تقلق يا حاج! ا?ن نوصلك إلى المستشفى، وإن شاء الله تتحسّن حالتك. أنا قاسم، ما اسمك أنت؟ هل تسمعني؟
لم يرد جالوست جواباً، كان دمه قد لطّخ المكان بالأحمر القاني. راح قاسم يبحث في جيوب جالوست عساه يجد بطاقة أو شيئاً ما يُرشده إلى هويّته. الصليب حول رقبة
 
 
 
41

29

لرواية الأولى: بشارة العودة

 جالوست كان أول ما ?مس يد قاسم. ثمّ وجد بطاقة في جيب قميصه.

– آه! أنت مسيحي سيّد جالوست!
وصرخ: لعنة الله عليك يا صدّام!1.
كان فاروجان وعمّه ينتظران قطار الأهواز في محطّة سكّة الحديد في طهران، لكن أيّ خبر لم يصل. وحينما تحرَّوْا علموا أنّ سكّة حديد ا?هواز قد تمّ قصفها وأنّ القطار لن يأتيَ. لم يخطر ببال فاروجان ابن العشر سنوات أنّه لن يرى والده مرّة أخرى. انتظرا في المحطّة ساعات عدّة أخرى عسى أن يصلهم خبر جديد لكنَّ شيئاً لم يتغيّر. رجعا إلى المنزل وراح الجميع ينتظر جالوست ليتصل بنفسه.
أظلم الليل والهاتف لم يرن بعد. لقد غلب النعاس على الأم وولدَيْها فناموا على الأرائك وهم منتظرون في إحدى الغرف. وفجأةً استفاق الجميع على صراخ الوالدة. لقد رأت هاسميك مناماً مزعجاً: أقلعت بالقرب منها طائرة حربية كان دويّها مرعباً وكانت هي تحتضن أطفالها بشدّة، كانوا جميعًا يرتجفون. كان وجه هاسميك يتصبّب عرقاً وأنفاسها لا تهدأ. انتاب فاروجان وتالين الخوف جرّاء فزع أمّهما فتشبّث كلّ واحد بيد الآخر.
حضرت الجدّة وزوجة العم وقد جلبتا معهما ماءً محلّى بالسكّر. حاولتا أن تهدّئا من روع هاسميك الّتي ما فتئت تُردّد: لقد رأيت منامًا مزعجاً، كان وقعه سيّئًا في قلبي.
كانت الساعة تُشير إلى الواحدة والنصف بعد منتصف اللّيل. لقد استيقظ الجميع بعد ذلك الكابوس، ولم تمضِ لحظاتٌ قليلة حتى رنّ جرس الهاتف.
وضعت هاسميك يدها على قلبها، وأسندت رأسها إلى الجدار. رفع العمّ سمّاعة الهاتف، وبعد كلمتَيْن أو ثلاث علا صوت النحيب.
ظلّت هاسميك مصدومة حتّى الصباح، وكانت طوال الوقت تُردّد اسم زوجها,
 

1- الديكتاتور العراقي المجرم الّذي كان يحكم العراق من سنة 1979 حتى 2003 ميلاديّة. حرب السنوات الثماني ضدّ إيران والهجوم على الكويت وحرب الخليج الفارسي، والقمع الوحشي للمنتفضين داخل العراق، كانت أكبر جرائمه الّتي خلّفت عدّة ملايين من القتلى والجرحى. في نهاية المطاف، صار صدّام محلّ غضب أسياده الغربيّين، وخلال هجوم أمريكا وبريطانيا على العراق، ترك الحكومة وبقي متخفيّاً لأكثر من تسعة أشهر إلى أن تمّ اعتقاله من داخل حفرة تحت الأرض وبحالة يُرثى لها . حُكم صدّام بالإعدام بعد عدّة جلسات من محاكمته مقابل جرم واحد فقط من آلاف الجرائم الّتي ارتكبها، وفي شهر أيلول 2006 عُلّق على حبل المشنقة.
 
 
 
42

30

لرواية الأولى: بشارة العودة

 جالوست، جالوست، جالوست. جالوست باللغة الأرمنيّة تعني بشارة العودة؛ لكنّ “بشارة العودة” لم يعد.

* * *
كان لزاماً عليّ أن أصبح للأطفال أمّاً وأباً. كان الأمر صعباً، لكن ما جعلني أصمد هو تصميمي على تربية الأو?د تربية صحيحة. وكان هناك أيضاً الدعم الّذي حظيتُ به من والدة جالوست وإخوته. كانوا دائماً حاضرين لتقديم يد العون، وقد تكفّلوا الأولاد.
بدأنا في تلك السنة تقليداً جديداً في العائلة، وكانت أمّ جالوست تُشاركنا به، حيث كُنّا نذهب معًا للاحتفال بعيد الميلاد عند قبر ولدها الشهيد. بقينا على هذه الحال تسع سنوات متتالية، وفي السنة التاسعة انتقلت هي إلى جوار ولدها. لم يكن قد بقي على عيد الميلاد إلا عدّة أسابيع حين رحلت أمّ جالوست عن الدّنيا، وسكن أنين قلبها بمجاورة ابنها.
إنّها أيام عيد سنة تسع وثمانين. وعلى الرغم من مضيّ سبعة أشهر على رحيل الإمام الخميني، لكنّ أجواء الحزن كانت لا تزال تُخيّم على إيران. نحن المسيحيّين، لم نكن نُصدّق أنّه يرحل عن هذه الدنيا. كان قلبي يحترق على أولئك الشبّان المجاهدين الّذين عادوا للتوّ من الجبهة. وبعيداً عن هذا، كُنّا نحن في حداد على والدة جالوست أيضاً، ولم يكن عندنا عيد.
صباح الخميس أعلموني أنّ أحد مسؤولي الدولة سيقوم بزيارتنا اللّيلة لعدّة دقائق فيما لو كُنّا في المنزل، وأنا رحّبت. بعد ذلك، أخبرت أخا جالوست وزوج أختي وطلبت منهما أن يحضرا إلى منزلنا. لم يستسغ أيٌّ من فاروجان وتالين خبر زيارة الضيف أبداً، فقد كانت أيّام امتحانات، ولديهما الكثير من الدرس والمذاكرة.
كانت تالين في المرحلة الثانوية وفاروجان طالب جامعي في اختصاص الطبّ. كانا يعلمان أنّني شديدة الحساسيّة بشأن دراستهما ولم يكن شيء ليدخل السرور إلى قلبي بإزاء محبّتهما إلا تفوّقهما في الدراسة.
لمّا علمت بخبر قبول فاروجان في اختصاص الطب زال عن كاهلي تماماً تعب سنوات من العمل والعيش من دون جالوست. يومها سارعت إلى زيارة ضريحه وباركت له قبول فاروجان في الطب. لقد تمّ قبول فاروجان ضمن حصّة أولاد الشهداء في هذا الاختصاص،
 
 
 
 
43

31

لرواية الأولى: بشارة العودة

 وهو يصرّ على التصريح بهذا الأمر أينما حلّ، يفتخر ويقول إنّ والدي قد استشهد ولم تُفرّق الجمهورية الإسلاميّة بيني وبين ابن الشهيد المسلم!.

كانت تالين منذ الظهيرة قد ذهبت إلى منزل صديقتها ليدرسا معاً، وانتظر فاروجان حتى بُعيد المغرب بقليل عسى أن يأتي الضيوف، لكنّه من بعدها ذهب إلى السكن الجامعي ليستعدّ لامتحان الميكروبيولوجي في الغد. يقول إنّه صعبٌ جدّاً. وبعد ثلاث ساعات على الغروب، يصل ضيفنا. تُصيبنا حال من الذهول والدهشة أنا وأخو جالوست وزوج أختي، ونفقد القدرة على القيام بأيّ شيء. 
كُنّا قد سمعنا قبل سنوات عدّة أنّ رئيس الجمهوريّة قد زار منازل عدّة شهداء مسيحيّين بشكل فجائيّ. وقد خطر على بالي للحظة أنّ رئيس الجمهورية الجديد قد يحلّ اللّيلة ضيفاً علينا. 
لكنّ الضيف كان رئيس الجمهوريّة السابق نفسه، والّذي أصبح بعد عدّة أشهر من رحيل الإمام الخميني هو القائد!.
أشعر بالحزن الشديد لعدم وجود الأولاد في المنزل. لو أنّهم فقط قد أعطونا احتمالًا ولو واحدًا في المئة من سيكون ضيفنا لكان من المستحيل أن يذهبا. الآن كم ستكون حسرتهما كبيرة عندما يعودان إلى المنزل.
يُسلّم علينا السيّد الخامنئي ويسألنا عن أحوالنا، ثمّ يسير برفقة شقيق جالوست وزوج أختي وعدّة أشخاص أتوا معه للجلوس على الكنبات.
 
 
 
 
44

32

لرواية الأولى: بشارة العودة

 لم يكن لأيٍّ منّا طاقة على الكلام. بعد السلام والسؤال عن الأحوال، بدأ هو بنفسه بالتحدّث إلينا. 

– هذا السيّد هو والد الشهيد؟
كان يشير إلى صورة لجالوست على الحائط، ولعلّه ظنّ أنّ الصورة لوالد الشهيد؛ لأنّ أكثر الشهداء الأرمن كانوا جنوداً شبابًا.
أجيب بهدوء: هذه صورة الشهيد نفسه.
– حقّاً! هل هذا السيّد هو الذي استشهد؟
– نعم.
– وحضرتكِ زوجته؟
– نعم.
كنتُ أذوب خجلاً، فحتّى اليوم لم أكن قد تحدّثتُ إلى أيّ عالم دين مسلم. والآن قد جلس أمامي أكبر مقام روحانيّ في البلاد، وها هو يتحدّث إليّ. وقفتُ أريد الذهاب إلى المطبخ لتحضير الضيافة لكن “السيّد”1 لم يسمح: تفضّلي، اجلسي هنا.
– شكرًا.
وأجلس على الكنبة المخصّصة لشخص واحد على يمينه. يتملّكني شعور عجيب، يغمرني السّرور والخجل والفخر في آنٍ واحد، وأتمنّى لو أنّ جالوست كان يرى هذا المشهد. وهو يراه حتماً:
– أحوالكم جيّدة أيتها السيّدة؟
– الشكر لكم.
– أين استُشهد الشهيد؟
– في الأهواز.
– متى؟
– في التاسع من شهر تشرين الأوّل. الأسبوع الثالث للحرب.
– كان يعمل هناك؟
– نعم.
 

1- الإمام الخامنئي؛ وبالفارسية يقولون له “الحاج آقا” وهو تعبير فيه تودّد واحترام.
 
 
 
45

33

لرواية الأولى: بشارة العودة

 أحبّ كثيراً أن أحكي عن جالوست وعمله ومعنويّاته، لكن لا طاقة لي أبداً. ليت نبضات قلبي هذا تهدأ قليلاً. يسأل “السيّد” عن صلة الشخصَيْن الجالسَيْن إلى جانبه بنا، يقول أحدهما: أنا أخو الشهيد، ويقول الآخر: أنا عديله.

– تغمّده الله برحمته وبارك لكم عيد السنة الجديدة هذه وعيد ميلاد حضرة السيّد المسيح عليه السلام. 
– نشكره جميعنا.
– ماذا كان يعمل زوجك أيّتها السيّدة؟
– كان يعمل في شركة النفط وقد استشهد على أثر القصف الجويّ. 
يسأل عن عمل أخي الشهيد وعديله أيضاً، ويقول لي: أنتِ ولا بدّ ربّة منزل. ثم يسأل عن الأولاد، ويشتعل قلبي من جديد. أقول إنّ أحدهما طالب جامعي والآخر لا يزال تلميذاً. يُسرّ السيّد كثيراً لأنّ الأولاد من طلّاب العلم. أرمق صورة جالوست بطرفي وأرسم ابتسامة.
– بنتَيْن أم صبيَّيْن؟1.
– صبيّ وبنت.
– أليسوا هنا؟
– لقد انتظر ولدي حتّى الساعة السابعة ثمّ ذهب بعدها. لم يكن يعلم أنّكم أنتم ستحضرون. لم يقولوا لنا.
– أجل لم يكن المفروض أن يُقال. 
ترتسم الابتسامة على شفتَيَّ. معه حقّ! لو أخبرونا من هو ضيفنا المنتظَر لكان الآن كلّ أصدقائنا وعائلتنا ونصف المحلّة في المنزل ههنا. أُوضّح له أنّ كلَيْهما لديه امتحانات يوم السبت وقد ذهبا ليدرسا مع زملائهما.
– ماذا يدرس ولدك؟
– الطبّ.
– إن شاء الله يكون موفّقاً في درسه وعمله ويكون طبيباً صالحاً.
– شكراً لكم.
 

1- ليس في اللغة الفارسية مذكّر ومؤنّث، فالضمير المعبّر عن كليهما واحد.
 
 
 
 
46

34

لرواية الأولى: بشارة العودة

 – ابنتكم أيضاً تدرس؟

– نعم. ما زالت تلميذة في المدرسة.
يجول السيّد بنظره في أنحاء المنزل، وكأنّ شيئاً ناقصاً فيه ثم يقول:
– لا أرى أيّ إشارة أو علامة على العيد. ألا تحتفلون؟
يُجيب أخو جالوست بأنّه لا عيد لدينا لأنّ والدتنا قد توفّيت.
– حقّاً! تغمّدها الله وجميع أمواتكم برحمته. آجركم الله أنتم أيضًا.
أذهب إلى المطبخ حتّى أصبّ الشاي فأسمع السيّد يتحدّث مع السادة الآخرين حول مراسم العيد والمسائل المتعلّقة بالأرمن وكنائسهم وممثّليهم في المجلس. ومن الواضح أنّ السيّد بنفسه يُحرّك المجلس ويُعطيه دفأه، ولو كانت المسألة على عهدتنا لكان المجلس بارداً جامداً، ولما تحدّث أحد. بعد عدّة لحظات، أُنصتُ جيّداً حتّى أسمع الحوار. معلومات السيّد القائد حولنا هي أكثر من معلومات بعض الأرمن أنفسهم!.
أخرج من المطبخ بصينيّة الشاي، فيتصدّى أحد مرافقي السيّد ويأخذها من يديّ ويُضيّف الجميع، وأنا بدوري أذهب لأجلب صورة أخرى لجالوست من الغرفة، وأضعها في يد السيّد الخامنئي. يبدو في هذه الصورة جميلاً جدّاً ومبتسمًا.
– سيّد. هذه صورة أخرى لشهيدنا.
– آها! هذه صورته. ماذا كان اسمه؟
– جالوست بابوميان.
 
 
 
47

35

لرواية الأولى: بشارة العودة

 – كم كان عمره؟

– ثماني وأربعين سنة. الواقع أنّه كان يعمل في شركة النفط منذ سنّ الرابعة عشر. تاريخ خدمته يمتدّ إلى ثلاث وثلاثين سنة. 
أقول هذا وتخنقني الغصّة. لا أُريدهم أن يروا دموعي. أذهب مرّة ثانية إلى المطبخ بحجّة الضيافة، وهناك أسمح لعينيّ أن تذرفا ما شاءتا من الدّمع. 
يستمرّ الحديث في تلك الغرفة حول أسقف الأرمن واختلاف المراسم والشعائر بين الأرمن والآشوريّين. أنتظر قليلاً حتّى أهدأ وأعود. لكنّ السيّد يسبقني بطلبه أن أرجع.
– حسناً. لتأتِ هذه السيّدة وتجلس. نحن نُريد أن نُغادر. وهي تذهب بشكل متكرّر. قولوا لها إنّنا على وشك المغادرة.
سريعاً ألملم نفسي وأذهب إلى غرفة الاستقبال. لقد تناولوا الشاي مع قطع الحلوى. أهمّ بإحضار الفاكهة لكنّه يُشير بيده إليّ أن أجلس.
 
– تفضّلي اجلسي. نحن لا نُريد ضيافة. كان الهدف أن نجلس معكم للحظات ونُقدّم لكم العزاء؛ لأنّكم قدّمتم زوجكم في سبيل هذا البلد وتحقيق أهدافه. يتحتّم علينا أن نُقدّم العزاء لكم. هذا اللّقاء كان لأجل هذا المقصد، فلا تُكلّفوا أنفسكم عناء الضيافة.
ينتابنا أنا وأخو الشهيد الخجل من هذا التواضع وعدم التكلّف الّذي يتّصف به السيّد الخامنئي، ونشكره بدورنا.
كان الحديث قد وصل خلال غيابي إلى الكنائس في إيران. ويستذكر السيّد الخامنئي إحدى ذكرياته عن ذهابه إلى كنيسة في منطقة جلفا في أصفهان. ذكرى وجدتُها جميلة جدّاً، بحيث قلتُ في نفسي ما أجمل أن تُكتَب هذه الخاطرة باللّغة الفارسيّة والأرمنيّة وتُعلّق في تلك الكنيسة نفسها. 
– لقد ذهبتُ من قبل إلى كنيسة الأرمن في جلفا. كان ذلك في بداية مجيئي إلى مدينة قم سنة ثمان وخمسين1. ذهبنا إلى أصفهان، وزرنا جلفا ومررنا على كنيستَيْن هناك.
 

1- بدأ الإمام القائد بدراساته الحوزويّة في مكان ولادته أي مدينة مشهد المقدّسة. ثمّ في سنّ الثامنة عشرة، سافر إلى النجف الأشرف في العراق لأجل الزيارة ومواصلة الدراسة الحوزويّة، ولكنّه عاد إلى مشهد بعد شهرين فقط بسبب عدم موافقة والده. وفي عمر التاسعة عشرة، سنة ثمانٍ وخمسين، سافر إلى مدينة قم المقدّسة وتفرّغ فيها للدراسة لمدّة ستّ سنوات. بعد هذه المرحلة، أُصيب والده بمشاكل في عينيه ما اضطرّ آية الله الخامنئي لترك الميزات الخاصة للدراسة في قم والعودة إلى مشهد للاعتناء بوالده ورعايته.
 
 
 
 
48

36

لرواية الأولى: بشارة العودة

 إحدى تلك الكنيستَيْن كانت كبيرة جدّاً وجميلة جدّاً، وكان ناقوسها يقع في وسط القاعة الأساسيّة فيها. والكنيسة الأخرى كانت أصغر، وصادف أن كان فيها مراسم تشييع جنازة. كنتُ قد ذهبتُ إلى هناك مع صديقَيْن من طلبة العلوم الدينيّة وقد شاركنا في تلك المراسم. 

عندما وصلنا كان خادم الكنيسة موجوداً، فسألناه عن إمكانيّة أن ندخل، وقد أجاب بأنّه لا إشكال في ذلك. كُنّا ثلاثة أشخاص معمّمين، وقد شاركنا في مراسم التشييع تلك. يعني لم يكن أصلاً يُحتمل أن يُشتبه بنا أنّنا أرمن. ولقد تعامل معنا الأرمنيّون بشكل ودود. ذهبنا إلى هناك وجلسنا في الكنيسة، وشاهدنا تلك المراسم من بداياتها حتى آخرها تقريبًا. يوجد كنائس كثيرة في تلك المنطقة.
يوضح أخو جالوست بأنّه يوجد اثنتا عشرة كنيسة هناك، وأنّ التي زارها السيّد القائد هي الكنيسة المركزية في تلك المنطقة.
– حسناً أيّتها السيّدة، أسأل الله أن يُلهمكم الصبر ويمنّ عليكم بالأجر، ويوفّقكم لتربية ولدَيْك تربية صالحة، وتنشئتهما ليصيرا منتجَيْن وصالحَيْن، بحيث يتمكنان بمحبّتهما لك وخدمتهما لهذا البلد أن يملآ فراغ أبيهما. موفقون إن شاء الله.
يستقرّ دعاء السيّد الخامنئي عميقًا في قلبي وأردّد بلسان القلب من بعده، آمين.
يقف “السيّد” ويودّعنا. كان بسيطاً وغير متكلّف إلى درجة أنّ كلّ مشاعر الرّهبة والخجل وأمثالها قد خرجت من قلبي، وها هو الآن قد هدأ واستقرّ. كنتُ أُحبّ أن تستمرّ هذه الاستضافة وأن أجلس إلى السيّد القائد أُحدّثه عن أخلاق جالوست وضميره الحيّ وعن شبه فاروجان به، لكنّ الفرصة لم تسنح، فها هو السيّد الخامنئي يُغادر. أشكره وأنا على باب المنزل مرّات عدّة باللّغتَيْن الفارسيّة والأرمنيّة. أُريد أن أُرافقه إلى الزقاق، لكنّ مرافقيه يقولون لا تُتعبي نفسك، فبهذه الطريقة نخرج من دون إحداث جلبة ومن دون لفت نظر.
 
تمرّ دقائق في صمت تام، لم يكن أيٌّ منّا يُصدّق أنّه ومنذ دقائق كان قائد إيران يجلس ههنا إلى جانبنا، يشرب الشاي ويتحدّث.
لشدّة سروري أحمل صورة جالوست الصغيرة وأجلس على الكنبة أتأمّلها. لقد بقيتُ وحدي الآن أُفكّر فيما أقول حين يعود الأولاد.
 
 
 
 
49

37

لرواية الأولى: بشارة العودة

 عاد فاروجان إلى المنزل حوالي الساعة الحادية عشرة ليلاً. قلتُ: عافاك الله أيّها الدكتور. هل تعلم ما الّذي فاتك الليلة؟

– هل حدث شيء؟ 
– ألم أقل إنّنا نتوقّع ضيوفًا؟
– حسناً لم يكن بيدي حيلة. لدينا امتحان. إذاً من كان هؤلاء الضيوف؟
– لن تُصدّق. لقد أتى السيّد الخامنئي إلى منزلنا! كم تحسّرتُ على عدم وجودك. لا أتصوّر أنّه ستسنح فرصة ثانية لترى “السيّد” عن قرب!.
ينظر إليّ مذهولًا. أظنّ أنّ كلّ ما درسه قد طار من ذهنه. ومن دون أن ينبس ببنت شفة يقترب ويُعانقني.
دكتور واروجان بابوميان، ابن شهيد – 2014
 
 
 
50

38

الرواية الثّانية: العيادة

 الرواية الثّانية: العيادة  – رواية حضور الإمام الخامنئي دام ظله في منزل الشهيد يِرمي يعقوب في تاريخ 27/02/2002م

 الشهيد يرمي يعقوب
شهيد القصف الجوي على الأهواز
تاريخ الاستشهاد 09/10/1980م
 
 
 
 
52

39

الرواية الثّانية: العيادة

 “أبي… أبي… أبي… أبي العزيز والحنون والمضحّي. يا من شاعت أوصاف فضائلك في كلّ مكان، وذاعت محامدك على كلّ لسان.

ألا تُريد الآن أن تأتي لرؤية ابنتك، ابنتك آخر العنقود الّتي سقطت وشُلّت، ألا تريد أن تسأل عن حالها وتهدّئ من روعها؟ أبي هل تسمعني؟ هل أنت معي؟ أو أنّك بتّ صورة في إطار تنظر إلى أدمع ابنتك فحسب؟”.

* * *

أنتِ تلميذة أفضل جامعة في إيران في اختصاص الهندسة المعماريّة. لقد تجاوزتِ للتوّ سنّ العشرين وأصبحتِ في سنّ الشباب، وقد أصابتك هذه الحادثة المشؤومة. لقد شُلّ نصفك الأيمن تماماً، بحيث إنّك لا تشعرين أنّ لديك يداً أو رجلاً يُمنى، حتى عندما يخزّونك بالإبرة لا تشعرين بوخزها. لماذا وقع هذا الحادث في أفضل وأحلى أيام عمرك؟ لا تعلمين؟ لا أحد يعلم، حتى الأطبّاء المتخصّصون؟.

لقد قال أخوك الأكبر “رام ايل” حين اتّصل بأمّك من الخارج: إنّ هذه البنت قد جرى لها ما جرى من شدّة التفكير بأبيها. لقد فهمتِ هذا عندما أنصتِّ إلى مكالمة والدتك. ولم يكن هذا قولاً جُزافاً، فلقد قال الأطبّاء إنّ المشاكل العصبيّة والآلام الروحيّة الشديدة فقط يُمكن أن تولّد هذا النوع من الحوادث. لكن حسناً، وهل يُمكن أن لا تفكّري بأبيك؟! بأبٍ لا يزال اسمه منذ إحدى وعشرين سنة وإلى الآن، يسطع بعنوان الشهيد كالنجم بين جميع الآشوريّين.

لقد أدرك كلّ أفراد العائلة أنّك بُتِّ مريضة وصاروا يأتون لزيارتك، لكن لا مزاج لديك لمقابلة أحد. أنت تُحبّين أن يأتي لزيارتك شخص واحد فقط. هو دون سواه. بالأحرى، أنت لا تُحبّين أن يأتي للقائك، تتمنّين لو يأتي! قلبك الموجع يتمنّى أن يأتي هذا الرجل لرؤيتك، تُسلّمين عليه ويردّ طيب سلامك. ثمّ يسأل عن أحوالك ويُكلّمك، وينقل لك شيئاً

 

 

شاهد أيضاً

صلاة ليالة 10 من شهر رمضان المبارك