الرئيسية / من / قصص وعبر / المسيح في ليلة القدر13

المسيح في ليلة القدر13

الرواية السّابعة: المتطوّع للجهاد

 الرواية السّابعة: المتطوّع للجهاد – رواية حضور الإمام الخامنئي دام ظله في منزل الشهيد إميل آرجرون آزوريان في تاريخ 27/12/2005م

الشهيد إميل آرجرون آزوريان
محل الاستشهاد: تشزابه، خوزستان
تاريخ الشهادة: 26/02/1983م
 
 
 
 
 
148

121

الرواية السّابعة: المتطوّع للجهاد

 تتّصل ابنتي بي هاتفيّاً وتقول: “بابا، قم وتعالَ إلى البيت بسرعة”.

– وهل حصل شيء؟
– لا. لكن لدينا ضيوف.
– حسناً، وليكن. ما علاقتي أنا؟ إذا كنت وحدك فليأتِ الأولاد وزوجاتهم.
– لقد جاؤوا، ميشل وكذلك سرجي. لكن أنت أيضاً يجب أن تأتي. إنّهم قادمون لأجل إميل، وقد ذهبت أمّه اليوم صباحاً إلى تبريز، وينبغي أن يكون هناك شخصٌ كبير موجوداً.
– حسناً يا ابنتي. ساعتان وأكون عندكم.
– لا. ينبغي أن تأتي الآن. باتوا على وشك الوصول.
– حسنٌ جداً.
إميل هو اسم صهري. استشهد قبل ثلاثة وعشرين عاماً في الجبهة. كان قد مضى حينها على زواجه من ابنتي سبع سنوات، وكانا قد رزقا بصبيَّيْن. كُنتُ أُحبّه كثيراً لأنّه كان رجلاً، وكان إنساناً. وبسبب رجولته ومروءته صار شهيداً أيضاً. كان يمتلك شاحنةً، ذهب وسجّل اسمه ليذهب إلى الجبهة من قِبَل الجهاد (مؤسسة جهاد البناء)، بشكل تطوّعي. قالوا إنّ المجاهدين لديهم نقصٌ في المؤونة ويعيشون ضائقة. وسألوه إن كان باستطاعته أن يأتي بحمولة من المؤونة موجودة في مشهد وينقلها إلى الجبهة في الجنوب. قبِل، مع أنّه كان باستطاعته أن يرفض، لكنّه قال: “يجب أن أذهب، أنا أيضاً لديّ تكليف، هؤلاء المجاهدون يُقاتلون من أجلنا”. ذهب في نهاية الأمر، وكان نصيبه أن يرتفع شهيداً في منطقة تشنانه.
 
 
 
 
149

122

الرواية السّابعة: المتطوّع للجهاد

 قالوا إنّ الطيران العراقي بدأ يقصف المنطقة والشوارع الرئيسة، فيترجّل إميل ومساعده، وهو شاب من نيشابور من الشاحنة، ويذهبان ليلتجئا خلف تلّةٍ. لكنّ المنطقة تكون مزروعة بالألغام، ويدوس كلٌّ منهما على لغم فيستشهدان.

جاء لأجل تشييعه عدّة أشخاص من شباب مؤسّسة جهاد البناء، ثمّ أقاموا هم مراسم عزائه وأسبوعه في كنيسة المجيديّة. 
في تلك الأيام، جاءت سيّدةٌ أرمنية إلى منزل إميل، رأت السواد وصورة إميل مرفوعة. سألت وقد حبست دمعتها ما الذي حصل؟ قُلنا لقد استشهد. جلست في أرضها وراحت تذرف الدمع. سألتها ابنتي أنت من أين تعرفين إميل؟ قالت: “لقد توفّي زوجي، وأُعاني أنا وأطفالي من ضائقةٍ ماليّة. وكان السيّد إميل يُخصّص لنا كلّ شهر مقدارًا من الأرز والزيت والسمن والمؤونة”. لم تكن ابنتي على علم بهذا الأمر أصلاً، لكنّها قالت لها لا تقلقي، بدءًا من الشهر القادم، تعالي لتأخذي مؤونتك كما هي العادة.
كان لإميل ارتباط خاص بالإمام الحسين وحضرة أبي الفضل، وكان كلّ سنةٍ ينذر أن يُساعد الهيئة المسؤولة عن مراسم العزاء يومَيْ تاسوعاء وعاشوراء. في السنة الّتي استشهد فيها، جاءت مجموعة من الشباب اللطّيمة من قِبَل جهاد البناء وذهبوا إلى منزله يومَيْ تاسوعاء وعاشوراء وأقاموا هناك مجلس عزاء.
 
 
 
150

123

الرواية السّابعة: المتطوّع للجهاد

 منزله قريب، وفيما كنتُ أمشي لأصل إلى الضيوف تمرّ في ذهني ذكريات. أصل إلى منزل ابنتي لأرى شخصاً يقف على باب المنزل ويُحدّق بي. داخل البيت أيضاً هناك شخصان آخران، أتعجّب! إذا كان هؤلاء هم الضيوف فلماذا لا يجلسون في الداخل. يُلاحظ حفيدي الأكبر ميشل استغرابي، فيقول: الضيف لم يصل بعد.

– إذاً من هم هؤلاء؟ 
– تفضّل إلى الداخل يا جدّي. نحن أيضاً قد فهمنا للتو. ويبدو أنّ السيّد الخامنئي هو الضيف.
– هل أنت متأكّد؟
– هكذا قال هؤلاء السادة.
أذهب إلى جانب أحدهم وأسأله هل صحيح أنّ السيّد الخامنئي سيأتي. يُجيبني باحترام: أجل يا جدّاه. سيصل حالاً.
أضطرب قليلاً، فحتى الآن لم أتحدّث عن قرب مع شخصيّة حكوميّة. والآن سيحلّ علينا دفعة واحدة أعلى منصب في البلاد، ضيف العيد. من جهةٍ، أنا في غاية السرور والسعادة لأنّني أُحبّ السيّد الخامنئي كثيراً. وكذلك أحببت الإمام، من قِبَل الثورة! لأنّ الإمام كان رجلاً شهماً بحقّ. 
لديّ صفة، وهي أنّني أُبغض المتغطرسين، وأُحبّ كلّ من يقف في وجههم. أحياناً يقف رجل في وجه المتغطرس في الحيّ، وهذا يُثير إعجابي. وأحياناً يقف رجل في وجه طواغيت العالم، وهذا منتهى العظمة والشهامة! لقد كان الإمام هكذا، والآن أيضاً “السيّد” الخامنئي هو هكذا. في زمن الإمام، كان الطواغيت اثنَيْن، أمريكا والاتحاد السوفياتي، وقد زال أحدهما، وإن شاء الله يزول الآخر. 
أذهبُ في أثر ابنتي الّتي تُجهّز الشاي والحلوى في المطبخ. هي أيضاً مفعمة بالشهامة. لقد مضى ثلاثة وعشرون عاماً على شهادة زوجها، وطوال هذه السنوات قد وقفت بثبات وربّت أبناءها خير تربية.
أُقبّل وجهها وأقول، رحم الله إيميل، ليته كان موجوداً ويرى هذا العزّ والافتخار الذي أنت عليه. تخنقها الغصّة، وحتى لا أرى دموعها – الّتي تعرف أنّني لا أستطيع تحمّلها – تُغيّر
 
 
 
 
151

124

الرواية السّابعة: المتطوّع للجهاد

 الموضوع. تُريني طبق الحلوى وتسأل: “هل بات جيّداً؟”.

يأتي سرجي ويُناديني. الظاهر أنّ ضيفنا العزيز قد وصل.
أُريد أن أذهب إلى الزقاق لاستقباله لكنّهم يقولون ههنا حسن، والأفضل أن لا يزدحم الزقاق. بما أنّني لم أره فأنا غير مصدّق. أجل إنّه هو. لقد جاء السيّد الخامنئي حقّاً إلى منزل ابنتي. يسلّمُ أولاً علينا جميعاً، وهو لم يتجاوز باب المنزل بعد. أردّ السلام عليه، فيُعيد في غاية اللّطف سلامه عليّ مرّة أخرى.
أتقدّم نحوه، يُصافح باليد اليسرى، أقول له: أهلاً وسهلاً وألف مرحباً، تفضّلوا. ومن بعدي يأتي ميشل وكذلك سرجي ويُرحّبون به.
 
 
 
 
152

125

الرواية السّابعة: المتطوّع للجهاد

 أحد السادة الذين كانوا قد أتوا باكراً، يقول للسيّد القائد إنّ هذَيْن الشخصَيْن هما ابنا الشهيد. يبتسم لهما “السيّد” ابتسامة عذبة ملؤها المحبّة. ثمّ يُسلّم على ابنتي ويسأل عن أحوالها بالتفصيل. 

يجلس “السيّد” على كنبة مخصّصة لشخصَيْن، وأنا أجلس بسرعة على كرسيّ بجانبه لأكون قريباً جدًّا. أُفكّر أنّه لا ينبغي لأحدٍ بالتأكيد أن يجلس على الكنبة بجانبه. وفي أبعد الاحتمالات ربما يأتي أحد مرافقيه ليجلس إلى جواره. لكنّ “السيّد” يطلب من ميشل ابن الشهيد الأكبر، أن يأتي ويجلس إلى جواره على نفس الكنبة. هنيئاً له! أيّ مكان قد جلس فيه! لم أكن قد رأيت إلى الآن، حتّى في التلفاز، شخصاً يجلس إلى جوار السيّد بهذا القدر من الحميمية والراحة، لدرجة أنّ القائد كان يضع يده على ركبة ميشل عندما يتحدّث معه!
بعد أن يجلس يعود السيّد مجدّداً ليسأل عن أحوالنا وأوضاعنا، وقرابة بعضنا من بعض. وأنا أُعرّف ابنتي وولدَيْها فرداً فرداً وأقول إنّني والد زوجة الشهيد.
توضّح ابنتي أنّ والدة الشهيد لم تكن تعرف أنّه سيُشرّفنا، وأنّها قد ذهبت صباح اليوم إلى منزل ابنتها في تبريز. والواضح أنّ الابنَيْن كانا يُحبّان أن تكون جدّتهما موجودة. يقول أحدهم: “لم تكن تعلم”، ويقول الآخر: “لو أنّها كانت موجودة لفرحت كثيراً”.
 
 
 
 
153

126

الرواية السّابعة: المتطوّع للجهاد

 – أوصلوا لها سلامنا.

ولأنّني الأكبر، يبدأ حديثه معي. الابتسامة لا تُفارق وجه القائد لحظة واحدة:
– أسأل الله أن يجعل حياتكم مملوءة بالسعادة ويأجركم إن شاء الله، ويحفظ لكم هذه السيّدة وهذَيْن السيّدَيْن.
دمتم وسلمتم. أرجو أن يبقى ظلّكم فوق رؤوسنا دائماً. هذا هو دعاؤنا دوماً.
– إن شاء الله دمتم موفّقين.
يلتفت القائد بوجهه صوب ميشل ويتحدّث معه:
– أنت ماذا تعمل يا ولدي العزيز؟
– لديّ دكّان.
– لماذا لا تدرس؟
– درسنا ثمّ نزلنا إلى سوق العمل.
– ماذا درستم؟
– إدارة تسويقيّة.
 
 
 
154

127

الرواية السّابعة: المتطوّع للجهاد

 – جيّد. نلتم شهادة الليسانس. صحيح؟

– لم أكن قد أنهيت الليسانس حينما بدأت بالعمل، كانت تكاليف الدراسة مرتفعة قليلاً.
– دكان ماذا لديكم؟
– دكان بيع المواد البروتينيّة. 
بعد ميشل يصل الدور إلى سرجي. 
– وماذا عنكم يا عزيزي؟
– أعمل مع أخي. لقد نلت شهادة الديبلوم في الكومبيوتر. 
– هل تواصل دراستك؟
– لم تكن من نصيبنا. 
تتدخّل ابنتي في الحوار وتقول إنّ ولدَيْها قد تزوّجا كليهما. 
– أين عائلتاهما؟
– لا يعيشون هنا.
– أنت تعيشين هنا؟ 
– نعم. 
– إذاً هم ضيوف اللّيلة؟ 
– نعم، أتوا إلى منزل والدتهم.
يقول ميشل: “لو كانت زوجتانا هنا لفرحتا كثيرًا بلقائكم. خسارة”. 
– موفقون إن شاء الله. 
– سلمتم.
– هل أنجبتم أولادًا؟ 
– ليس بعد.
يشعر الشابّان بالخجل ويبتسمان ويضحك الكبار جميعهم. لقد زال ذلك الاضطراب الأول الّذي أصابنا كلّنا، وها نحن جالسون بكلّ راحة مع السيّد الخامنئي نتحدّث معه. 
– جيّد جدًّا، جيّد جدًّا. أنا أوافق بالتأكيد على زواج الشباب المبكر. إنّه عمل حسن جدًّا.
ونؤيّد أنا وابنتي ونقول إنّهم بهذه الطريقة ينخرطون في الحياة بشكل أسرع.
 
 
 
 
155

128

الرواية السّابعة: المتطوّع للجهاد

 – نعم يخوضون غمار حياتهم، يستقرّون ويصبحون منتجين وينشغلون بشؤون حياتهم. 

بعد هذه الدردشة الحميمة يُشير السيّد إلى صورة إميل الموضوعة أمامه ويسأل ابنتي: كم كان عمره عندما استشهد؟
– ثلاثون عاماً، كان قد مضى سبعة أعوام على زواجنا.
– عجبًا، في أيّ سنة؟ 
– سنة اثنتين وثمانين في منطقة تشزابه1 في عمليات والفجر التمهيديّة. 
– والفجر التمهيدية، كان في الجيش؟ 
– كلا، ذهب من قِبَل جهاد البناء.

1- يُعدّ مضيق تشزابه (چزابه بالفارسيّة) من المناطق الاستراتيجيّة على الحدود بين إيران والعراق، وهو يقع في محافظة خوزستان قرب مدينة بُستان. كان هذا المضيق من المعابر الأساسيّة في هجوم الجيش البعثي العراقي على إيران في بداية الحرب. وبسبب أهميته الفائقة عسكريًا، وقعت معارك عدة بين القوات الإيرانيّة والقوات البعثيّة في عمليات عدّة من قبيل عمليات طريق القدس، أمير المؤمنين، “والفجر6”. 
 
 
156

129

الرواية السّابعة: المتطوّع للجهاد

بالنسبة إلينا جميعًا، فإنّ القصّة هنا تبلغ أوجها، ويُدلي كلٌّ منّا بدلوه حول الشهيد. 
أنا: ذهب بشاحنة للمواد الغذائية، قال يجب عليّ إيصال هذه المؤونة إلى الجبهة حتى لا يبقى المجاهدون جوعى. 
سرجي: كان لدينا شاحنة. في ذلك الوقت تطوّع وقرّر الذهاب من طرف جهاد البناء إلى الجبهة لإيصال المساعدات، حتى إنّه في إحدى المرّات اضطّر إلى حفر خندق هناك. لقد بقي في الجبهة مدّة من الزمن. 
ابنتي: كان قد ذهب لأجل إيصال المساعدات. 
– عجبًا، المظلوم! أسأل الله أن يوفيه أجره، ويمنّ عليكم بالأجر أنتم أيضًا، والسيّدة خصوصًا التي تحمّلت المشقّات وبين يدَيْها ولدان. 
– أنا الآن مرتاحة. صحيح أنّ الأولاد لم يكملوا دراستهم ولكنّهم في الواقع أولاد صالحون.
– أجل هم كذلك. 
– وهذا كافٍ بالنسبة إليّ.
– الحمد للّه، لقد ربيتِ أبناءك تربية جيّدة. وحينما تربّين الأبناء تربية صالحة ستقطفين أنت الثمرة وتلتذين به، يكونون أولاداً صالحين ومستقيمين.
– صحيح. كان مع زوجي أيضًا مساعد يُرافقه، قال له دعني أنا أذهب، كان سائقًا من نيشابور، ولكنّ زوجي لم يقبل، قال له دمي ليس أغلى من دمك، لا يُمكنني أن أسمح لك بالذهاب وحدك، ذهبا معاً واستشهدا معًا.
– نعم، في تلك السنة، سنة ثمانين أو إحدى وثمانين كان لدينا جماعة من الأرمن قد جاؤوا إلى الجبهة من أجل إنجاز الأعمال الميكانيكيّة وأمثالها. 
– لقد ذهبوا من قِبَل الكنيسة.
– نعم، كانوا يريدون أن يُقدّموا المساعدة. أنا طبعاً لديّ تاريخ قديم مع الأرمن.
أُفكّر أيّ تاريخ يمكن أن يكون للسيّد معنا؟ 
– سنة ثلاث وستين ميلادية كنتُ سجينًا في سجن (قزل قلعه)1، هذا السجن نفسه
 

1- كان الإمام الخامنئي وبسبب مواجهاته الثوريّة في زمن الطاغوت قد تمّ اعتقاله ستّ مرّات من سنة 1963 ميلادية إلى سنة 1974، وتمّ سجنه واستجوابه وتعذيبه في سجون متعدّدة في مشهد وطهران. ولأنّ فترات السجن لم تأت بنتيجة، تمّ نفيه في سنة 1977 ميلادية إلى إيرانشهر في جنوب شرق سيستان وبلوشستان وبعدها إلى جيرفت كرمان.
 
 
 
157

130

الرواية السّابعة: المتطوّع للجهاد

 الموجود حالياً، كان من السجون المخيفة جدًّا لنظام الشاه البائد. كان فيه قسمان: قسمٌ انفرادي حيث كنّا نحن في هذا القسم، وقسمٌ عامٌّ جماعيّ. كانت الزنازين في الانفرادي منفصلة. وفي إحدى هذه الزنازين كان هناك شاب، آفانسيان، جاجيك. جاجيك آفانسيان كان عضوًا في حزب “توده”. بالطبع، لم أكن في ذاك الوقت أعرف هذا الحزب. علمت أنّه شيوعي، أما أنّه كان في توده وعضواً في حزب فلم أكن أعلم ذلك. في هذا القسم الذي كُنّا فيه، كانت تفصلني عنه زنزانتان أو ثلاث، وكان هناك عدّة أشخاص آخرين. كان في القسم الانفرادي ثلاث وعشرون زنزانة. وقد توطّدت صداقتنا بالتدريج. في ليالي رمضان، كان يجتمع أفراد عدّة من العرب، عرب خوزستان، والّذين كانت زنزاناتهم منفصلة، وسط رواق السجن، ويفترشون بطّانية لأجل إحياء مراسم اللّيالي وقراءة العزاء وأمثال هذه الأمور. كان عرض الرواق ضيّقًا، متر ونصف أو مترَيْن، وكانت الزنازين على جانبيه. كانوا يطلبون منّي أن أخطب فيهم، وبما أنّني عالم دين فقد كنتُ أذهب وأخطب فيهم. كنتُ أتحدّث عن أمير المؤمنين وما شابه.

كان عند آفانسيان كرسيّ قابل للطيّ والجمع، وكان هو يخرج من زنزانته ويضع كرسيّه في مكان ليس ببعيد ويجلس ليستمع. أعجبه كلامنا. ومرّة بعد مرة انجذب إلى كلامي. في ذلك الوقت، كانت إقامة المراسم في السجن تحتاج إلى ميزانية، شاي وسكر وأمثال هذه المصاريف، بحيث إنّ شخصًا كان يلتزم بتأمين هذه الاحتياجات على نفقته كلّ ليلة. جاء آفانسيان وقال ليكن تأمين المصاريف لإحدى اللّيالي على عهدتي. أنا مسيحيّ لكن أُريد أن أُساهم. وأنا قُلتُ لا مشكلة. في تلك اللّيلة قُلنا إنّ نفقة هذا المجلس على السيّد آفانسيان. وكان هو قد قرّب كرسيّه أكثر. كنّا نحن نجلس على الأرض وهو على كرسيّه. ومضت تلك اللّيلة وما إن انتهى المجلس حتى قال لي: “أيّها السيّد غداً أيضًا أكون أنا المُنفق”.
صرنا أصدقاء، كان من الشيوعيين، ولكنّه كان شابًّا غاية في الأدب واللطف، وكان صديقًا حميمًا لي. كنّا في الأيام الّتي يسمحون لنا فيها بالخروج إلى الهواء الطلق، وكانت قليلة جدًّا، نذهب معًا كي نُمارس الرياضة. كان يعرف اللّغة الإنكليزيّة بشكّل جيّد، وكان يُريد أن يُعلّمني ما تيسّر منها.
 
 
 
 
158

131

الرواية السّابعة: المتطوّع للجهاد

 المقصد أنّنا صرنا رفقاء، وقد حُكِمَ عليه هو فيما بعد بالسجن سنوات عدّة.

حين خرجت من السجن سألتُه: “ألك حاجة أقضيها لك خارج السجن؟”, دلّني بالتقريب على عنوان منزله، أعتقد في شارع شميران، وقال: إذا أحببت أن تزور الأهل وتسأل عن أحوالهم. وأنا ذهبت فعلاً وبعد البحث والسؤال والتنقيب وجدت المنزل. كان شقّة في مبنى. صعدت الدرج ووصلت إلى باب المنزل. أتت سيّدة أرمنيّة وفتحت لي الباب. كان لديها أطفال عدّة. قُلتُ لها كنتُ في السجن مع آفانسيان وكُنّا قريبَيْن، وقد جئت لأُطمئنكم أنّه بخير، وإن كان يلزمكم أيّ عون أو مساعدة فقط قولوا لي ويُمكنني أن أكون بخدمتكم. لكن زوجته تعاملت معي بفتور شديد.
يضحك “السيّد” نفسه على ما جرى!:
– رجل دين أتى إلى منزلنا! سجين وسياسيّ وما شابه! لم تستسغ السيّدة هذا الأمر، ولم تفسح لنا مجالًا فقالت لا، لا نُريد شيئًا.
بعد حوالي أسبوعَيْن أو ثلاثة- حيث ذهبت إلى مشهد خلال هذه المدّة وعدت – قصدت سجن قزل قلعه ثانية بهدف الزيارة. كنتُ قد اشتريت للأصدقاء هناك حاجيات عدّة، فواكه وحلويات وبسكويت وأمثال هذه الأمور. التقيت بهم. سمحوا لهم بملاقاتنا خارجًا، ولكن عندما كنتُ أنا في السجن لم يكن مسموحًا لي أن ألتقي بأحد. 
بعد الثورة، خرجت يوماً من المنزل قاصدًا مكانًا لقضاء عمل واجب. رأيت رجلًا مسنًّا قد أتى إلى باب المنزل، المنزل نفسه الموجود في شارع إيران، كانت قد مرّت سنوات، من سنة ثلاث وستين حتى تسع وسبعين، ستة عشر عامًا. لم أعرفه، قال أنا جاجيك آفانسيان!.
كنّا جميعًا في غاية الأنس ونحن نستمع إلى هذه الخاطرة. كان الأولاد مستغرقين في النظر إلى “السيّد” والاستماع إليه. لقد نسينا أصلاً أنّه قد جاءنا ضيف وينبغي أن نُقدّم الضيافة! تقوم ابنتي وتذهب إلى المطبخ. يسأل السيّد عن أسماء الأبناء، يتبيّن أنّ لديه فيما يتعلّق باسم ميشل معلومات لافتة:
– ميشل، ميكائيل، ميخائيل، في كلّ لغة يلفظ الاسم بنحو. يقولون ميكائيل في لهجة، ومايكل في مكان آخر. في إيطاليا يقال ميكِلّا، الفرنسيون يقولون ميشل مثلكم أنتم. 
ثمّ فيما يتعلق باسمي “إبراهيم” ذكر أيضاً أنه قد يلفظ إبراهام و… .
 
 
 
 
159

132

الرواية السّابعة: المتطوّع للجهاد

 وتأتي ابنتي بصينيّة الشاي. يأخذ سرجي الصينيّة من يد والدته وينتظر حتّى يضع ميشل صحناً لكوب الشاي للسيّد. يطلب السيّد فنجانًا صغيراً إنْ كان متوافرًا. أشعر بالسعادة تغمرني، فقائد البلاد يتصرّف بهذا القدر من التلقائيّة وعدم التكلّف. تذهب ابنتي وتُحضر فنجانًا، ويُقدّم له سرجي الحلويات بالقشطة فيقول القائد إنّه يشرب الشاي مع مكعّبات السكّر.

 
وبينما الأولاد مشغولون بالضيافة، أغتنم الفرصة كي أُحدّث القائد حديث القلب: قدمكم التي حلّت في هذا المنزل هي قدم خير وبركة. أتمنّى أن يبقى صمودكم وعزّكم، وأنتم صامدون وأعزّاء.
عشتم. ودمتم في حفظ الله جميعًا إن شاء الله. أسعد الله قلوبكم دومًا.
لا تزال ابنتي واقفة تجلب صحون وأدوات الضيافة. و”السيّد” يريد منها الجلوس، يشير إلى مرافقيه ويقول: الشباب يُقدّمون الضيافة. 
أنظر إلى مرافقيه، أغلبيتهم ما زالوا شبابًا وتطغى البساطة على هيئتهم وهندامهم. أقول للسيّد نِعم الشباب هم! ما شاء الله وكأنّهم أسرة واحدة.
ينظر المرافقون إلى السيّد القائد ويبتسمون. تقع عيناي على الشابّ المصوِّر بينهم فأقول: 
خذ لنا صورة جميلة، كي نقول بدورنا إنّ لدينا صورة مع السيّد.
يُجهّز الكاميرا، ينظر القائد باتجاه الكاميرا ويبتسم لأجل الصورة، ثمّ يطلب من المصوّر إعطاءنا الصورة بعد تظهيرها لنحتفظ بها كتذكار.
 
 
 
160

133

الرواية السّابعة: المتطوّع للجهاد

 يتكلّم القائد مع الأولاد حول العمل في الدّكان. يقول ميشل عملنا صعب نوعًا ما. وأقول: حسناً يجب أن تتعبوا كما يتعب جدّكم.

يقول ميشل: بعد استشهاد والدنا تحمّل جدّي جميع أعباء أسرتنا.
أقول: لأنّكم أولاد صالحون لم يكن هنالك من عبء أو مشقّة. يا سيّد! إنّهم أولاد صالحون، هذا قول الناس عنهم أيضًا. وهم بصحّة وعافية. وهذا بالنسبة إليّ نعمة كبرى.
– الحمد لله، إن شاء الله يحفظهم لك.
يسأل السيّد بشأن الذهاب إلى الكنيسة فيُجيبه الأولاد أنّهم من روّادها وأنّهم يذهبون إليها كلّ أسبوع. 
يشرب السيّد مقدارًا من الشاي مع مكعّبات السكّر ثمّ ينظر مجدّدًا وللحظات عدّة إلى صورة إميل.
– الإحساس الّذي يجعل ذلك الشاب يترك منزله وجوار زوجته الشابّة وولدَيْه الاثنَيْن ويرسله إلى الجبهة هو إحساس راقٍ جدًّا. هذا الشعور وهذه الروحية، التي ينبغي أن نحترمها جميعًا ونُقدّسها، هي في غاية الأهمّية والقيمة. ونحن مسؤولون أمام أمثال هذه الشخصيّات. 
ميشل: الإنسان الذي ولد في هذا البلد وكبر فيه يصير لزاماً عليه أن يحفظ بدمه أرضه وعرضه.
– حسنًا! قول هذه الأمور سهل والعمل بها صعب. أولئك الذين يعملون هم في الواقع شخصيات عظيمة. قد يوجد شاب ليس لديه الكثير من المعلومات، ولكنّه يمتلك هذا العزم وهذه الروحية وهذه القدرة على التخلّي، وهذا ما لا تجده في أيّ إنسان. 
زوجة الشهيد: صدّقوا، في الليلة التي أراد فيها أن يذهب تحدّثنا معًا، قال: أنا أعلم أنّني بكلّ الأحوال، سواء بقنبلة يدويّة أو برصاصة أو بشيء آخر، سوف أُصاب. قُلتُ له: إذاً لا تذهب. إذا كُنتَ تعلم أنّ شيئًا كهذا سيحصل، أُقسم عليك بالله أن لا تذهب. قال: لا أستطيع، يجب أن أذهب”. وكتب وصيّته ومضى. 
تكبت دموعها، ويصمت الجميع للحظات عدّة. أكثر الأنظار متوجّهة إلى صورة الشهيد. في نهاية المطاف، يُغيّر السيّد الأجواء بنفسه، وكأنّما بات هو صاحب المنزل، يحثّنا نحن
 
 
 
 
161

134

الرواية السّابعة: المتطوّع للجهاد

 ومرافقيه على شرب الشاي قائلًا: الشاي لذيذ جدًّا. 

يتناول من أحد مرافقيه هديّتَيَن، يُقدّم إحداهما إلى ابنتي ويطلب إيصال الأخرى إلى والدة الشهيد المسافرة.

أشكره وأقول: قدومك هو بنفسه أكبر هديّة.

يقول: إنّها ليست ذات شأن، تذكار من قِبَلنا لجناب السيّدة. ويقف لأجل أن يودّع. 

لم يخرج من المنزل بعد، وأشعر بالشوق إليه. لقد تضاعفت في هذه الدقائق القليلة محبّتي وتعلّقي بالسيّد القائد مرّات عدّة، وأشعر أنّني كما أحببت الإمام أُحبّه أيضاً.

زوجة وأخت الشهيد اميل ارجرون ازوريان

 

شاهد أيضاً

الحجاب النوراني والحجاب الظلماني

لكن أنواع ذلك الجلال هو اشراقاتي وهو لفرط العظمة والنورانية واللانهائية، يبعد عنها العاشق بعتاب ...