الرئيسية / من / قصص وعبر / المسيح في ليلة القدر 29

المسيح في ليلة القدر 29

الفصل الثامن: سنة 1990م

 أنهض مسرعاً. أذهب أولاً ناحية ذلك الرجل الّذي كان يتحدّث مع والدي. وأقول: هل أنت متأكّد؟ ألست تُشاكسنا؟ وجهه الرسميّ والجادّ يُجيبني من دون حاجة لأن ينطق بكلمة، لكنّه يبتسم ويقول: نعم، وبعد عدّة دقائق يصل أيضاً.

أذهب مسرعاً لأُجهّز نفسي. عندي قميص أبيض يُشبه تلك القمصان الّتي يلبسها شباب هيئة التعزية في أول الزقاق. أرتديه، أمشّط شعري، وآتي إلى غرفة الاستقبال.
أُلقي نظرة على المنزل. كلّ شيء مرتّب. ومصابيح شجرة الميلاد الصناعيّة مضاءة أيضاً. لقد ارتدى والدي بنطالاً ومعطفاً وجهّزت أمّي نفسها وها هي تُحضّر الشاي. هل حقّاً سيأتي الحاج الخامنئيّ إلى هنا، إلى منزلنا؟ لن أُصدّق حتى أراه بأمّ عيني.
ولكن لا. حتى لو رأيته، لعلّي لا أُصدّق! نعم، فأنا الآن أنظر إليه، إنّه هو، يُسلّم عليّ ويُصافحني باليد، بدفء وحميميّة، لكنّني جمدت، حتّى إنّني لا أعرف إن كان أحد قد سمع جواب سلامي الهادئ أم لا.
لا! ما زلت غير مصدّق. يجلس “السيّد” ووالدي على الكنبتين تحت صورة آلفرد، وأجلس أنا ووالدتي إلى ناحية الستارة. وحيث إنّنا لا ندري ما الّذي ينبغي علينا قوله، يبدأ السيّد الخامنئي نفسه بالسؤال عن أحوالنا فرداً فرداً. يبدو على خلاف ما كنت أتصوّره، حميماً جدّاً ومرتاحاً جدّاً، لا جامداً ولا رسميًّا.
– أسأل الله أن يتغمّد شهيدكم برحمته ومغفرته، ويُلهمكم إن شاء الله الصبر ويمنّ عليكم بالأجر. حسناً، متى استشهد ابنكم؟ هل هذه صورته؟
لست قادراً على الكلام، فضلاً عن جهلي بما ينبغي أن أقول. يتصدّى والدي للإجابة عن أسئلة “السيّد”.
– نعم، استشهد سنة تسعين.
– سنة تسعين، يعني بعد نهاية الحرب؟!
– نعم.
– أين استشهد؟
 
 
 
 
 
422

363

الفصل الثامن: سنة 1990م

 – في جيلان الغربية1.

– آها! جيلان الغربية، حقّاً! هل كان جنديّاً؟
– نعم كان جنديّاً.
– كم كان عمره؟
– كان عمره عشرين سنة. كان قد نال للتو الشهادة الثانوية العامّة وقد تمّ قبوله في الجامعة أيضاً. كان يريد أن يدرس في الجامعة لكنّه قال: أؤدي خدمتي العسكريّة أوّلاً ثم أعود إلى 
الجامعة وأواصل دراستي هناك.
– لكن للأسف جرى عليه ما جرى. مأجورون أنتم إن شاء الله. هذه المصائب لها محنتها بالتأكيد، ولها صعوباتها وألمها ووجعها، ولكن في مقابلها أيضاً يُعطي الله سبحانه وتعالى الأجر 
لأولئك الذين يتحمّلون هذه الآلام ويصبرون على هذه العذابات ويشكرون. وليس في هذا مواربة. التعاليم الإسلاميّة تُعلّمنا هذا الأمر، وكلّ الأديان الإلهيّة هي هكذا. ليس هناك اختلاف بين الأديان الإلهيّة في هذه الأمور. فاللّه تعالى بمقتضى عدله ورأفته ورحمته
 

1- مدينة حدوديّة يسكنها الأكراد قاومت غزو القوى البعثية. سافر الإمام الخامنئي في بدايات الحرب سنة 1980م إلى جيلان الغربية، وخصّها بلقب “ثاني مدينة مقاومة في البلاد”. وبعد الحرب المفروضة أيضاً، قام أعداء الثورة بأعمال تخريبيّة مرّات عدّة في جيلان الغربية وتمّ وأد فتنتهم من قِبَل قوى الجيش والحرس.
 
 
 
 
 
423

364

الفصل الثامن: سنة 1990م

  يُعوّض في الآخرة بشيء ما على كلّ شخص يُعاني في هذه الدنيا. لن يُغمط حقّ أحد. فبحسب التوجّه الإسلاميّ والرؤية الإسلاميّة والرؤية الدينيّة عموماً، ينبغي أن يُقال إنّ أحداً لا يضيع أجره. حسناً، كيف وصل خبر شهادته إليكم؟

ينظر السيّد هذه المرّة إلى والدتي ويسأل هذا السؤال.
وتتمكّن والدتي البسيطة والهادئة دوماً من الجواب. وأنا ينتابني منذ هذه اللّحظة القلق، كما في أيام المدرسة عندما كنت أعلم أنّ السؤال التالي سيوجّهه المعلّم إليّ! تُجيب أمّي بصوتها الهادئ إلى درجة أنّها لو كانت جالسة أبعد قليلاً عن “السيّد” لما كان سمع أيّاً من كلماتها:
– قالوا لنا أولاً إنّه جرح وإنّه موجود في المستشفى، ولكنّي كنتُ قد رأيته في المنام يا سيّد خامنئي!
– كنتِ قد رأيتِ مناماً؟
– رأيتُ في المنام أنّه قد ارتدى لباسه العسكريّ، وأتيت أنا لأنير المصباح فوجدته قد انطفأ. قلت لابنتي: إنّ آلفرد لن يعود.
 
 
 
 
424

365

الفصل الثامن: سنة 1990م

 – ماذا كان اسمه؟

– آلفرد. قال زوجي إنّ منامات النساء غير صادقة. قلتُ له: سترى، لن يعود آلفرد ثانية. عندما قرّر الذهاب آخر مرّة كنتُ أصبّ خلفه الماء. رآني مغتمّة جدّاً. قال: أمّاه لماذا أنت منزعجة إلى هذه الدرجة؟ سوف أعود. وسيذهب من بعدي أخي آلبرت، وآلبرت أيضاً سيعود. ثمّ يذهب روبرت. لم أُخبره حينها بتلك الرؤيا. ولكنّه في ذلك اليوم الّذي أراد فيه الذهاب ولم يعد من بعده، كان ينظر إلى الجدران والنوافذ والأبواب وكأنّه أدرك أنّه لن يرجع. لقد أُلقي في قلبه.
– إن شاء الله أجركم محفوظ عند الله سبحانه وتعالى. كم ولد لديكم؟
– ثلاثة صبية. ابني الأكبر هو الّذي استشهد والأوسط قد سافر إلى الخارج والأصغر يعيش معنا.
يُشير إليّ “السيّد” ويقول:
– هو هذا؟
– نعم. عندي بنت أيضاً، متزوّجة.
ينظر السيّد الخامنئي الآن إليّ. تتسارع ضربات قلبي. ما الذي يُمكن أن يسألنيه. أتصارع مع نفسي دوماً، لماذا أنا هكذا؟ ليست المسألة خجلاً، ليس منطقياً أن أعيش هذا التخبّط كلّما وُضعتُ في موقف جديد. كثيرون يظنّون أنّني لا مبالٍ بهم أو أُقلّل من احترامهم، ولكنّ المسألة ليست هكذا.
– وأنت ماذا تعمل يا عزيزي؟
يا إلهي ما هذا السؤال! من اللّحظة التي علمت فيها أنّه آتٍ عقدتُ العزم على أن أطلب منه أن يُساعدني بشأن عملي ويجد لي مخرجاً من هذه البطالة. ولكن الآن لم أقل بعد شيئاً وها هو سبقني إلى السؤال! بلعت ريقي وقلتُ: في الحقيقة أنا عاطل من العمل.
– عاطل من العمل؟ لماذا؟
حقّاً لماذا؟ أنا لا أعلم السبب. توقّعت أن تؤمّن لي مؤسّسة الشهيد، كوني أخاً لشهيد، عملاً، ولكن حسناً، ها قد مضت سنة وأنا أروح وأجيء ولا من جديد عندهم. أقول هذا للسيّد الخامنئي. ثمّ أوضّح أنّ آلفرد كان بطلاً في كمال الأجسام والفنون القتاليّة. وقد واصلت أنا بعده
 
 
 
 
 
425

366

الفصل الثامن: سنة 1990م

 هذه الرياضات لكنّني تعرضتُ لحادث وكُسرت يدي ولم أتمكّن بعدها من الذهاب إلى النادي. 

بعد الاستماع إلى توضيحاتي، يوصي “السيّد” الخامنئي أحد مرافقيه، الّذي يبدو أكبر سنّاً ونضوجاً من الآخرين، أن يُتابع مسألة عملي. ثمّ يقول:
– خسارة أن يكون شاب طيّب مثلك عاطلاً من العمل.
قال عنّي شابّاً طيّباً؟ كنتُ على وشك أن أقول هذا بصوت عالٍ، لكنّني أمسكتُ نفسي. أنظر إلى ذلك السيّد الّذي أوصاه “السيّد” الخامنئي بي وإلى الورقة التي سجّل عليها تلك الملاحظة. 
وجهه لطيف وسَمِح. إن شاء الله يكون عملاً مناسباً. 
يسأل “السيّد” أيضاً عن عمل والدي فيُجيبه:
– أنا متقاعد. 
– متقاعد من أين؟
– مصنع جنرال.
– مصنع جنرال؟
– نعم، نعم. 
– عجبًا. أنت كنت في ذلك المصنع الذي ذهبت إليه أنا في بداية الثورة؟!
– أجل. جنابكم كنتم تُشرّفون.
لم يكن الوالد قد أخبرنا قبلاً أيّاً من هذه الأمور. وكأنّ قصّة مصنع جنرال مهمّة للغاية بالنسبة إلى الحاج. ويبدأ حديثه عنها متوجّهاً إلى والدي:
 
 
 
 
 
426

367

الفصل الثامن: سنة 1990م

 – عجباً! أنتم كنتم في مصنع جنرال! عمّال هذا المصنع صاروا أصدقاء لي بعد زياراتي المتكرّرة إلى هناك.

لمدّة ثلاثة أو أربعة أيام متلاحقة، يوم 8 شباط، ويوم 10 شباط و11 شباط، كنتُ أذهب إلى هناك. كان معي سيّارة. كنتُ عائداً من المصنع والراديو شغّال، حين سمعتُ المذيع يقول: “ههنا طهران، صوت الثورة الإسلاميّة في إيران!” فعلمت حينها أنّه تمتّ السيطرة على محطّة التلفاز. ركنتُ سيارتي وترجّلت وسجدت! ثمّ ركبتُ مجدّداً وأكملتُ طريقي. كان ذلك في طريق عام كرج القديم. نعم! كم كانت لنا قصص وأحداث هناك! كان قد ذهبت زمر اليساريّين وأمثالهم إلى هناك وأرادوا أن يُحدثوا بعض الفوضى والهرج والمرج.
– نعم، ذلك اليوم الذي أرادوا أن يجلبوا فيه صورة الإمام إلى غرفة الطعام، حصل فوضى عارمة. ثمّ وضعوا الصورة في الباحة، كانت كبيرةً جدّاً، ولا يُمكن إدخالها إلى غرفة الطعام.
– نعم، أنا ذهبت إلى هناك، في عصر أحد الأيام في غرفة الطعام تلك. لم يكن هناك قاعة للاجتماعات. كان لديهم غرفة طعام كبيرة جدّاً، وكان العمّال أنفسهم قد رتّبوا المقاعد بحيث صارت قاعة للاجتماعات. كان، على ما أظنّ في ذلك المصنع، حوالي ستمائة إلى سبعمائة عامل.
– كانوا ثمانمائة عامل، وثلاثمائة موظّف موجودين في مكان آخر. 
– نعم، كان العمّال تقريباً بهذا المقدار، قد أتوا من أماكن مختلفة، من الخارج، من اليساريّين، من الشيوعيّين، من حزب تودة، من الفدائيّين وأمثالهم، من كلّ التيّارات اليسارية. كانوا يريدون القيام بحركة جذرية. لندع تحليل هذه المسألة جانباً، وقد تحدّثتُ مرّة حولها1. أنا أدركت الهدف وواجهتهم. بقيت في يوم واحد أتحدّث من على المنبر مدّة سبع ساعات تقريباً. 
كنتُ أعتلي المنبر وأتكلّم، ثمّ يقولون مثلاً فلان من الناس يريد أن يدلي بدلوه، فأجلس ويعتلي المنبر شخص آخر يُلقي شعراً مثلاً، وكنتُ أعود بعده إلى المنبر وأتحدّث من جديد. لقد علمت أنّني إن تركتُ المنبر في ذلك اليوم فلن يدعوا
 

1- مقابلة مع القناة الثانية على التلفاز حول ذكريات انتصار الثورة وعشرة الفجر 31/01/1985م.
 
 
427

368

الفصل الثامن: سنة 1990م

 الناس بشأنهم. ذهبنا إلى هناك عصراً. وحلّ الليل وقطعوا الكهرباء وانطفأت المصابيح. كانت أحداثاً استثنائية! كانت معركةً واقعية! 

يُصغي مرافقو السيّد الخامنئي إلى كلامه أكثر منّا، فالقصّة بالنسبة إليهم مُهِمَّة. ويُعيد “السيّد” حديثه عن آلفرد، ويسأل الوالد عن عمره حين استشهاده:
– عشرين سنة.
– هذه الصورة من وقت شهادته؟
لقد أطلقت العنان للكلام. يتحدّث “السيّد” عن الصورة الموجودة على الطاولة. أُجيب أنّ هذه الصورة من فترة جندية آلفرد، وأنّ تلك الصورة الكبيرة خلف رأسه أُخذت قبل خدمة الجندية. 
يلتفت إلى الخلف وينظر إلى تلك الصورة.
أسأل إن كان بالإمكان أن أتحدّث بمسألتَيْن صغيرتَيْن، يبتسم ويقول: قل، لا مشكلة.
أُعيد الحديث مجدّداً عن عملي وكأنّني لم أذكره قبلاً وأطلب منه أن يجد لي شغلاً! وهو بدوره ينصت لكلامي باهتمام ويقول إنّ السيّد المرافق له بات مسؤولاً عن الأمر وسيحلّه إن شاء 
الله. 
أخجل من نفسي، ويرمقني والدي بعبوسٍ مؤنّباً لي على كلامي. لكن “السيّد” لا يبدو أنّه انزعج على الإطلاق، يتّضح ذلك من كلامه.
– حسناً هذه المسألة الأولى، قل ما هي المسألة الثانية.
مهما حاولت أن أتذكّر، لا أستطيع أن أستحضر ما هي المسألة الثانية! أقول في نفسي وهل هذا أمر يُعقل؟ يجلس الآن قائد البلد بعيداً عنك بفاصلة تقلّ من مترَيْن وينصت إلى كلامك! 
أقول بصوت عال:
– إنّه لمبعث افتخارنا، أساساً لا يُمكنني أن أُصدّق أنكم جالسون ههنا.
تُضيف والدتي إنّها هي أيضاً تشعر وكأنّها في حلم.
– حسناً ماذا أفعل لكي تُصدّق؟
يضحك الجميع ما عداي.
– اقترب لأقبّلك، لعلك تُصدّق حينها! تعال.
 
 
 
 
 
428

369

الفصل الثامن: سنة 1990م

 أنا؟ جمدت في مكاني ولم أستطع أن أتحرّك. بتّ كالولد الصغير الّذي يستغرب من جدّه! أتقدّم خطوة إلى الأمام ولا أدري ماذا يجب أن أفعل!

يأخذني السيّد الخامنئي من رأسي ويطبع ثلاث قبلات على خدي الأيسر. تتسارع دقّات قلبي إلى درجة أشعر معها أنّه سينخلع من مكانه. لساني عاجز عن الكلام، وقدماي لا تستطيعان الحراك. تهزّني والدتي وتقول عد إلى مكانك واجلس. لم أكن في هذا العالم أصلاً!
أعود إلى نفسي لأرى أنّ والدتي تتحدّث مع “السيّد”، تبثّ له شجونها في الحقيقة. ما أكثر ما شاهدت من مجريات عجيبة في هذه الدقائق القليلة، لا تُفصح أمّي عن حديث القلب وشكواه إلا مع أختي، أختي فقط، وهي لم تكن أساسًا ممّن يتحدّث في المجالس، وها هي الآن تتحدّث مع قائد المسلمين حديث قلبها:
– عذراً أيّها السيّد الخامنئي! لقد صرت مريضة أعصاب منذ أن استشهد ولدي. وفي إحدى الليالي، شاهدت في المنام أنّ رجلاً عجوزاً قد أتاني. كان مثلك ذا لحية بيضاء، ويرتدي قبعة 
خضراء. ربّت على كتفي ثلاث مرّات وقال أيّتها الوالدة لا تكثري الذهاب إلى الطبيب. امشي من تحت الراية وستُشفَيْن. أخبرتُ جيراني بالمنام وسألتهم ماذا أفعل؟ قالوا: لا مشكلة، حينما نأتي مع حملة الرايات، ونصل إلى منزلك نطرق على النافذة. تخرجين حينها فنأخذ بيدك وتجوزين من تحت الراية. ومنذ تلك الليلة لم أعد أتناول أيّ حبّة دواء. كنتُ آخذ ديازبام1. وحين استيقظت صباحاً كان جسمي خفيفاً جدّاً وقد تبدّل حالي بالکامل.
 

1- دواء مسكّن لعلاج التشنّجات.
 
 
 
429

370

الفصل الثامن: سنة 1990م

 وإلى حدّ الآن زوجي لا يعرف ما الّذي جرى! كان يقول لي: إنّه ينبغي أن يدخلني المستشفى، كانت أعصابي تالفة. كلّما ضحك شخصٌ كنتُ أتبرّم. كلّما جاء إلى منزلنا أحدٌ كنتُ أغادر 

أنا لشدّة ما أستاء.
– حسناً الحمد لله. ها قد حصل ما حصل، القلوب الطاهرة والصافية هي هكذا. عندما يكون القلب صافياً فإنّ أولياء الله ينظرون إليه، يُساعدونه، يعتنون به، وعنايتهم هي عناية الله. 
بالخصوص مواطنونا الأرمن – القاطنون في طهران وفي بعض المدن الأخرى – هم قريبون جدّاً من المقدّسات الدينيّة الشيعيّة. يُحبّون الإمام الحسين ويُحبّون أمير المؤمنين عليهما السلام.
والحقّ فيما يقول “السيّد”، أنا نفسي عاشق للهيئة1، أُشارك في مراسم محرّم كلّ ليلة. ولقد ذهبتُ مؤخّراً إلى جمكران2. عندما آتي على ذكر جمكران ترتسم على شفتيه ابتسامة جميلة ويقول: جمكران، بارك اللّه!
أخبرتُه أنّني كتبتُ رسالة أيضاً ووضعتها في البئر في جمكران.
– لا حاجة لوضع رسالة هناك. إذا ذهبت إلى جمكران، اذهب واعلم أنّه يوجد هناك سيّد، وأنّ هذا السيّد يسمع كلامك. تحدّث إليه مباشرة. اعلم أنّك تتحدّث مع شخص ما. حدّثه واعلم أنّ الله تعالى يُجيبك. لا تشكّ في ذلك أبداً، وستُحلّ أمورك. لا حاجة لأن تكتب تلك الرسالة وتضعها داخل البئر.
 
ليس هناك سند صحيح لهذا العمل، وليس ضروريّاً أيضاً. وعلى فرض أنّ هناك سنداً صحيحاً، ليس لزاماً أن تقوم به. هؤلاء الّذين يمتلكون القدرة على التصرّف لا يحتاجون إلى رسالة. 
عندما تريد أن تتحدّث دع قلبك هو الّذي يتحرّك ويتكلّم. اذهب وتحدّث معهم بقلبك.
في أحد الأوقات كنتُ قد نظمتُ شعراً حول إمام الزمان سلام الله عليه. ذهبت إلى جمكران ودعوت وصلّيت وقمت بتلك الأعمال المشهورة، ولكن رأيت أنّني لم أشعر
 

1- هيئة إحياء مراسم عزاء الإمام الحسين عليه السلام (المترجم).
2- مسجد جمكران، يقع على بعد خمس كيلومترات من مدينة قم المقدّسة في إيران، ويقع في الجانب الجنوبي الشرقي للمدينة، مباشرة بعد قرية جمكران. يعود تاريخ بناء المسجد الى القرن الرابع الهجري.
 
 
 
 
430

371

الفصل الثامن: سنة 1990م

 بالطمأنينة، لم أشعر بالراحة. وقفتُ وأخرجتُ من جيبي دفتري، دفتر الشّعر. وقلتُ سيّدي لقد نظمتُ هذا الشعر لكم وسأقرأه عليكم. 

وبدأت بإلقاء الشعر بهدوء طبعاً. لم يلتفت إليّ أحد كذلك. كان غزلاً1 من بدايته إلى نهايته، غزلاً خاطبت به حضرة الإمام. وأظنّ أنّ الأثر الذي تركه فيّ ذلك الشعر لم تتركه تلك الصلاة الخاصة ولا تلك الأعمال الأخرى. عندما ينطق القلب هذا ما يحصل2.
 

1- الغزل اصطلاحاً في الأدب الفارسي هو قالب شعري خاص يتراوح عدد أبياته من 5 إلى 12 بيتًا شعريًّا بحيث يكون للمصراع الأول فيه وكلّ المصاريع الزوجية نفس القافية. ولأنّ 
أكثره جاء على لسان العشّاق سُمّي غزلاً، لكن مع مرور الزمن اختلطت فيه المفاهيم الأخلاقية الراقية والمعاني العرفانية والحكمية التي يزخر بها الشعر الفارسي. (المترجم).
2- دلم قرار نمي گيرد از فغان بي تو سپندوار ز کف داده ام عنان بي تو
قلبي من الأنين لا يقرّ له قرار من دونك مثل الاسفند* أفلتُّ من يدي العنان من دونك
ز تلخ کامي دوران، نشد دلم فارغ ز جام عشق، لبي تر نکرد جان بي تو
قلبي لم يسترح من مرارة تعاقب الأزمان والروح لم تتذوّق من كأس العشق من دونك
چون آسمان مه آلوده ام ز تنگ دلي پر است سينه ام از اندوه گران بي تو
مثقل أنا بالهموم كمثل السماء المكفهّرة صدري مملوء بالحزن الثقيل من دونك
نسيم صبح نمي آورد ترانهشوق سر بهار ندارند بلبلان بي تو
أنشودة الشوق لم يكن يحملها نسيم الصباح ليس للبلابل مطلع ربيع من دونك
لب از حکايت شب هاي تار مي بندم اگر امان دهدم چشم خون فشان بي تو
فمي لن يبوح بحكايات اللّيالي المظلمة إن لم تفضحني عيناي المدمّاة من دونك
چو شمع کشته ندارم شراره اي به زبان نمي زند سخنم آتشي به جان بي تو
كالشمعة المنطفئة ليس عندي شرارة على اللسان حديثي لا يُشعل النار في الروح من دونك
ز بي دلي وخموشي چو نقش تصويرم نمي گشايدم از بي خودي زبان بي تو
كالصورة صرت من الموات والخبوت لشدّة ذهولي لساني لا يُفصح عنّي من دونك
عقيق سرد به زير زبان تشنه نهم چو يادم آيد از شکرين دهان بي تو
كأنّما العقيق البارد يصير تحت اللّسان العطشان حينما أتذكّر ذلك اللسان الحلو وأنا من دونك
گزارش غم دل را مگر کنم چو “امين” جدا ز خلق به محراب جمکران بي تو
شكوى الفؤاد لا تبثّ إلا مثل “الأمين”** بعيداً عن الخلق إلى محراب جمكران***من دونك
* نوع من النبات يستخدم كبخور لدى رميه على الجمر أو في النار. 
** من جهة كان الإمام الخامنئي يستخدم اسماً مستعاراً يوقّع به كلّ أشعاره وهو اسم “أمين” أي الأمين، ومن جهة ثانية فالأمين هو لقب لرسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يعتزل الناس في غار حراء ليبث الى معشوقه شكواه، والسيّد الخامنئي يريد في هذا البيت أن يتأسّى بالرسول من ناحية وأن يقول من ناحية ثانية إنّ شكواه لا تظهر إلا في قالب الشعر الذي يفصح عنه الاسم المستعار “أمين”.
*** مسجد جمكران الذي تمّ التعريف به في بداية هذه الرواية.
 
 
 
 
431

372

الفصل الثامن: سنة 1990م

 تكلّم واطلب منهم ما تشاء. فهؤلاء هم المقدّسون. هؤلاء هم عباد اللّه الصالحون. إنّهم الأولياء. وهم قادرون على التصرّف وقادرون على المساعدة. وهذا بالطبع، بحسب عقيدتنا الإسلاميّة، لا يكون مانعاً عن السعي والحراك الدنيويّ.

لا ينبغي أن أقول إنّني بثثت له حاجتي وشكواي وستحلّ الأمور وانتهى. كلا! في بعض الأوقات، يتوسّل الإنسان المريض، ثمّ يقع في قلبه أن يذهب إلى الدكتور الفلاني. هذا الطبيب هو وسيلة. لا ينبغي أن أقول إنّني توسّلت وكفى، لا حاجة إلى الطبيب. كلا! ليس لدينا مثل هذه الأمور. يجب على الإنسان أن يذهب إلى الطبيب. يجب أن يسعى في عمله. يجب أن يبذل الجهد المادّي، لكنّ روح العمل شيء آخر. هذا ظاهر العمل. الجهد الّذي نبذله هو فيزياء العمل، هو جسم العمل ومادّته. لكنّ روح العمل هو هذا التوجّه والتوسّل إلى الله المتعالي وأوليائه الذين سيؤثّرون هم أيضاً بإذنه تعالى. 
كم أنّ “السيّد” يتحدّث بشكل هادئ وجميل. كنتُ قد سمعته قبلاً مرّات عدّة في نشرات الأخبار فقط، ولكنّ حديثه الخاص معنا يختلف كثيراً.
أثناء الحديث، كانت أمّي تُريد أن تذهب لتصبّ الشاي، لكنّ أحد مرافقي السيّد الخامنئي أشار إليها أنّه سيصبّ الشاي بنفسه وتمنّى عليها أن لا تُتعب نفسها. وكانت الوالدة قبل وصول الضيوف قد هيّأت الشاي والفناجين والسكّر فصبّ ذلك السيّد الشاي وحمله إلينا.
يحمل السيّد الخامنئي قطعة سكر حتى يشرب شايه، ويقول:
– حسناً، نشرب الشاي ونستأذن.
تُشير والدتي أن يُحضروا الحلوى أيضاً. وأنا لا تزال تستحوذ عليّ مسألة زيارة قائد البلاد إلى منزلنا، لعلّه يزور كلّ منازل الشهداء وقد وصل الدور إلينا الآن؟ لقد بلغت بي الجرأة أن 
أسأل عن هذا الأمر أيضاً:
– أنتم تذهبون إلى منازل كلّ الشهداء؟
– الجميع لا يُمكن! ولكنّنا نذهب ما أمكن. نزور منازل الكثير من الشهداء، نعم. 
– كلّ هؤلاء الشهداء! كيف وصل بكم الأمر إلى منزلنا؟
يبتسم القائد ويقول ممازحاً: حسناً، هذا ما حصل، إذا كُنتَ منزعجاً نرحل!
 
 
 
 
 
432

373

الفصل الثامن: سنة 1990م

 يضحك الجميع. وفيما تضحك والدتي تقرصني. ولأجل إصلاح ما أفسدته بكلامي تقول: مسرور إلى درجة أنّه لا يعلم ماذا يقول!

كلامها صحيح نوعاً ما. بسبب حالة الكآبة التي كنتُ عليها، فقد أدّى هيجان الأحداث والمجريات التي تلاحقت خلال هذه الدقائق الأخيرة إلى قلب كياني رأساً على عقب.
يُجيبني “السيّد” بشكل جدّي: نحن لو استطعنا أن نذهب إلى منازل الشهداء، شهيداً شهيداً، لفعلنا، ولكن لا الوقت يسمح ولا العمل. ولذلك نحن نختار. واختيارنا كذلك يتمّ بالهداية الإلهيّة. 
فأنا لا دورًا أساسيًّا لي في الأمر. في الحقيقة، ينبغي القول إنّه لا دورَ لي إطلاقاً. يختار الأصدقاء الموجودون هنا، ويقولون سنذهب اللّيلة إلى هذا المنزل أو ذاك، وهذا ما حصل هذه 
اللّيلة، أتينا إلى منزلكم.
يقول الوالد: قدمكم قدم خير علينا. وأنا أقول أيضاً: زيارتكم مبعث فخرنا. 
يتناول “السيّد” قطعة حلوى ويضعها في الصحن أمامه، ثم يُقسّمها بشوكة صغيرة إلى نصفيّن ويتناولها. مستغرق أنا في مراقبته ويُلفتني كثيراً أنّه يقول قبل أن يأكل نصف قطعة الحلوى 
تلك “بسم الله الرحمن الرحيم”.
فيما والدي مشغول بشرب الشاي، يسأله “السيّد” عن الوضع الحالي لمصنع جنرال:
– لم أذهب إلى هناك منذ حوالي سبعة عشر عاماً.
– بعد سنتَيْن أو ثلاث من تلك الليالي في مصنع جنرال، صرتُ رئيساً للجمهوريّة. كانت تلك الأحداث سنة ثمانٍ وسبعين، وأنا صرتُ رئيساً للجمهوريّة سنة إحدى وثمانين. يومها صنع عمّال المصنع مذياعاً، جهاز راديو، بأنفسهم. وأحضروه لي. قالوا إنّ هذا المذياع هو تذكار تلك اللّيالي الّتي أمضيتها في مصنعنا. استعملت هذا المذياع لسنوات عدّة، حتى تعطّل قبل سنتَيْن أو ثلاث، ولا أدري ماذا صنع به الأولاد. كُنّا نستفيد منه. كان مذياعاً جيّداً جدّاً.
تجري الأحاديث وأنا مجدّداً تُزعجني فكرة ما. أعلم أنّني إذا تكلّمتُ عن مجريات اللّيلة لن يُصدّقني أحد. وأُريد من السيّد الخامنئي أن يترك لي توقيعه، متردّدٌ أنا بين أن أقول أو لا أقول.
– هل يُمكن أن أطلب منكم طلباً؟
 
 
 
 
 
433

374

الفصل الثامن: سنة 1990م

 – نعم يا عزيزي.

– هل يُمكن أن توقّعوا لي؟
– توقيع؟ على أيّ شيء؟ أنا لا أوقّع على الورق. إن كان لديك كتاب اجلبه وأوقّع لك، إن كان لديك إنجيل أحضره وأوقّع لك.
– عندي إنجيل.
– اجلبه.
تحبس أمي ضحكتها ولا بدّ أنّها تقول في قرارة نفسها أيّ وقاحة قد وصل إليها روبرت هذه اللّيلة! أذهبُ وأُحضِر الإنجيل. قبل أن يوقّع عليه “السيّد”، يتصفّحه ويسأل عن خطّه ما إذا 
كان خطّاً أرمنيّاً. أقول نعم، تفضّلوا بقبوله، أهديه لكم.
– لا، أنا لديّ كتاب مقدّس باللغة الفارسيّة. عندي أيضاً إنجيل، وكذلك العهدان القديم والجديد، أيّ التوراة والإنجيل في كتاب واحد. لديّ أكثر من نسخة. لديّ أيضاً قاموس الكتاب المقدّس، ولا أستفيد منه.
– تستطيعون أن تتعلّموا اللّغة الأرمنيّة، إنّها سهلة، أنا أُعلّمكم إيّاها.
– لا وقت لديّ لتعلّمها. ولو توافر وقت لفعلت. كنتُ سأطلب منك أن تأتي مرّة في الأسبوع لتُعلّمني اللّغة الأرمنيّة.
لم يعد الوالد والوالدة قادرين على كتم ضحكتهما مهما حاولا. حتماً بعد ذهاب الضيوف سيقول لي الوالد: روبرت! ألا تخجل من نفسك؟! كان “السيّد” في غاية التواضع وحفظ لك ماء وجهك. وإلا لو كنتُ أنا مكانه لأغضبتني خزعبلاتك. لا..لا.. لا.. أيُعقل أن تقول لقائد البلاد “أنا أُعلّمك اللّغة الأرمنيّة!”. 
– لو توافر لي الوقت لوددت أن أتعلّم الأرمنيّة، لغتكم أنتم، ولغة الآشوريّين أيضاً، لوددتُ أن أتعلّمها كذلك. هل لديكم علاقات مع الآشوريّين؟
– لا، ليس إلى هذه الدرجة، مع المسلمين أكثر.
يكتب “السيّد” جملة على أول صفحة من الإنجيل ويوقّع اسمه تحتها ثمّ يُعطيني إيّاه. الآن سيُصدّقني كلّ من سأُخبره بمجيء السيّد الخامنئي إلى منزلنا، فهذا خطّ يده وتوقيعه دليل على 
صدق كلامي.
 
 
 
 
 
434

375

الفصل الثامن: سنة 1990م

 يأخذ “السيّد” من مرافقيه ثلاث هدايا ويُقدّمها لنا.

– هذا تذكار منّا لجنابكم. تذكار هذه الليلة.
تشكره والدتي وتقول: لقد أخجلتمونا.
– لا، مقصودنا فقط هو الجهة المعنويّة للهديّة. نحن عادة نزور منازل الشهداء المسيحيّين في عيد الميلاد، ولكن لم يتسنّ لنا ذلك هذه السنة. كنتُ منشغلاً جدّاً ولم أتمكّن فحصل تأخير في المواعيد، فاعذرونا.
مجدّداً تنطق أمّي بلسان حالها وتقول:
– نحن نُخادع أنفسنا يا سيّد. يقولون إنّ القلب الّذي كُسر قد كُسر وانتهى.
– لا. إن شاء الله القلب المكسور يتعافى. وبالمناسبة القلب المكسور هو محلّ عناية الله وتوجّهه أكثر من غيره.
بين مرافقي “السيّد” شابٌّ يُصوّر بشكل دائم. أطلب من “السيّد” التقاط صورة له مع والدي ووالدتي. وهو بدوره يَقْبَل ويطلب من ذلك الشاب أخذ صورة جيّدة. ثمّ ينطق بما كُنتُ أتمنّاه، 
ويطلب منهم أن يُرسلوا لنا فيما بعد نسخة من هذه الصور.
 
 
 
 
 
435

376

الفصل الثامن: سنة 1990م

 لم يكن ليخطر ببالي أصلاً أن يقف والدي ووالدتي العجوزان ويأخذان صورة تذكارية مع قائد المسلمين، وفي منزلنا أيضاً!1.

 


1- علمنا أنّ السيّد روبرت جبري قد توفّي على أثر المرض في الفترة التي تم فيها نشر هذا الكتاب في خريف سنة 2014م. شمله الله بواسع رحمته.

 

شاهد أيضاً

الحجاب النوراني والحجاب الظلماني

لكن أنواع ذلك الجلال هو اشراقاتي وهو لفرط العظمة والنورانية واللانهائية، يبعد عنها العاشق بعتاب ...