الرئيسية / الاسلام والحياة / دروس في ولاية الفقيه – صور تعدد الولي

دروس في ولاية الفقيه – صور تعدد الولي

الدرس الخامس: صور تعدد الولي

 أهداف الدرس

 

1- أن يتعرّف الطالب إلى فرضيّات تعدّد الوليّ.

2- أن يناقش فرضيّات التعدّد و يُثبت بطلانها.

تمهيد

 

بعد أن تقدّم في الدرس السابق الأدلّة العقلائية والنصوص الصريحة الدالة على وحدة الولي، وأن القاعدة الأوليّة هي الوحدة، من الضروريّ جدّاً أن نذكر الرأي المقابل للقول بالوحدة وهو التعدّد، وبعد توضيح هذا الرأي بكلّ صوره واحتمالاته، نتعرّض لكل احتمال وما يترتّب عليه من مفاسد ومشاكل ولوازم باطلة أو لا يمكن الإلتزام بها، يتعيّن عندها ويتأكد ما أثبتناه من قاعدة وهو القول بالوحدة، لأنّه لا بديل آخر، إمّا الوحدة وإمّا التعدّد.

 

نبدأ بذكر احتمالات تعدّد الوليّ, لنرى مبرراتها الشرعيّة ولوازمها العلميّة والعمليّة، بمعنى أنّه ماذا يترتّب من مفاسدٍ ومشاكل لو فرضنا تعدّد الولاية؟ لكي يبقى الخيار الثاني – وهو وحدة الولاية – هو الأفضل والأسلم. ويمكن تصوّر التعدّد من خلال الصور التالية:

 

الأولى: ثبوت الولاية الفعليّة لكلّ فقيه تتوفّر فيه الشروط، بحيث يكون لكلّ فقيه ولاية مستقلّة عن ولاية الباقين، مهما كثر عددهم.

 

هذا الاحتمال لا يمكن اللجوء إليه، لأنَّه يلزم منه الاختلاف والفساد، وانعدام النظام، بينما المفروض أنَّ ولاية الأمر إنَّما شرِّعت لحفظ النّظام، وإدارة شؤون الناس، وحفظ الحقوق، وإقامة الدين، فهي لدفع الفساد لا لإحداثه، فهذا الاحتمال ساقط قطعاً.

 

الثانية: ثبوت الولاية الفعليّة للمجموع لا للجميع، أي ثبوت ولاية واحدة لمجموع الفقهاء الذين تتوفّر فيهم الشروط حال اجتماعهم، دون أن يكون لكلّ فقيه ولاية مستقلّة على حدة. ومعنى هذا الاحتمال أن يكون ما أجمعوا عليه (جميعاً ومعاً) حجّة على الناس ملزماً لهم، فلا بدّ من اجتماعهم وإجماعهم على رأي واحد لتحصل القرارات الملزمة في النّظام.

 

وهذا الاحتمال أيضاً لا يمكن المصير إليه ولا الالتزام به لعدّة وجوه:

 

أ- لا يدلّ عليه دليل، ولا يمكن استنباطه من أدلّة ولاية الفقيه النقليّّة فضلاً عن الدّليل العقليّ.

 

ب- إنّ آليّة تحصيل القرارات الملزمة تنحصر في اجتماعهم، وهو أمر لا يتيسّر، وإن تيسّر نادراً فهو لا ينفع في المواقع التي تحتاج إلى متابعات يوميّة وإصدار الأوامر والنواهي والتعليمات كلّما اقتضى الشأن ذلك.

 

الثالثة: ثبوت شأنيّة الولاية لجميع الفقهاء الذين تتوفّر فيهم الشروط، وتكون فعليّة الولاية لواحدٍ فقط في الدائرة الواحدة؛ بمعنى صلاحيّة كلّ واحد منهم للولاية، وأهليّته لها، فإذا تعدّد الفقهاء في الدائرة الواحدة لا تكون الولاية الفعليّة إلّا لواحد منهم، وإذا تعدّدوا وكانت الدوائر متعدّدة يكون كلّ واحد منهم وليّاً بالفعل في دائرته الخاصّة.

 

وهذا الاحتمال هو الأشهر عند القائلين بتعدّد ولاية الفقيه، حيث يدَّعي أصحابه أنَّه لا يلزم منه الفساد الذي اقتضاه الاحتمال الأوّل، ولن يكون هناك تعارض بين أولياء الأمور الذين يعمل كلّ واحد منهم في دائرة مستقلّة عن الأخرى، واستدلّوا على ذلك بأنّ الأدلّة السابقة الشرعيّّة مطلقة؛ بمعنى أنّها تنطبق على كلّ فقيه جامع للشّرائط، وهي غير مختصّة بفقيه واحد، إلاّ في الحالات التي يلزم من ثبوت الولاية لكلّ واحدٍ(التعدّد في الدائرة الواحدة)الفساد، وتبقى سائر الحالات على حالها.

 

 

 

  وهو ما يصوّره هذا الاحتمال، بالضبط كما هو الأمر في القضاء، فإنَّ مقبولة عمر بن حنظلة التي يُستدلّ بها على ولاية الفقيه، قد استدلَّ بها الكثير من الفقهاء على ولاية القضاء، وهي ذاتها لم تمنع من تعدّد القضاة حتّى في البلد الواحد، ما لم يلزم منه الفساد، فلذا منعوا أن ينظر اثنان من القضاة في قضيّة واحدة ممّا يفتح الاحتمال على الاختلاف في الحكم وتكوين النزاع.

 

مناقشة فرضيّة التعدّد الأخيرة

 

إلّا أنَّ هذا الاحتمال الأبرز للتعدّد أيضاً مما لا ينبغي اللجوء إليه ولا الالتزام به وذلك لعدّة أمور:

 

1ـ هل يصحّ التمسّك بالإطلاق؟

 

إنّنا عندما نريد استفادة الإطلاق من الكلام الوارد من المعصوم – كما فعل أصحاب القول بالتعدّد في استدلالهم – لا بدّ وأن يكون الكلام قد ورد لبيان جعل الولاية للجميع فعلاً، أي نصب كلّ فقيه للولاية، ولكنَّ الرّوايات لم تكن بصدد بيان ذلك، بل أرادت بيان الصّفات المعتبرة التي ينبغي توفّرها في الوليّ.

 

2ـ كيف نفهم كلام المعصوم عليه السلام؟

 

إننَّا إذا أردنا أن نفهم كلام المعصوم لا بدَّّ وأن نفهمه ضمن القرائن العامّة التي يعيشها الناس في عصر الإمام عندما صدر منه الكلام, ومن القرائن العامّة ملاحظة المرتكزات الثابتة في أذهان الناس منذ صدر الإسلام حتّى العصور القريبة الماضية، وهي التي تتضمّن وحدة الوليّ والقائد ومن بيده الأمر وإليه يرجع الناس في أمورهم العامّة، وهذا يمنع من شمول الأدلّة الشرعيّة السابقة – التي استدلّوا بها – لكلّ فقيه بمفرده، وهذا يعني عدم ثبوت التعدّد بنحو فعليٍّ لكلّ فقيه.

 

3ـ هل يصحّ تقسيم الأمّة إلى دوائر؟

 

إنَّ تقسيم الأمّة والبلاد الإسلاميّّة إلى دوائر متعدّدة، يخالف ظاهر كلِّ الأدلّة الشرعيّة التي كانت تنظر إلى الأمّة الإسلاميّّة كوحدة غير مجزّأة، ولم يلحظ

 

 

في شيء من الخطابات الشرعيّة أنَّها فرضت أن تكون الأمّة وحدات متعدّدة، وقد تقدّم.

 

4ـ ما هي حدود التجزئة؟

 

لو سلّمنا وقبلنا القول بالتعدّد، فإنّنا لا نعرف المعيار الذي على أساسه تقسّم الأرض إلى دوائر، فإنَّ تعدّد الدوائر لن يقف عند حدٍّ معيّن، فإنَّ التجزئة إذا حصلت فلن تتوقف حتّى في إطار المدينة الواحدة التي يمكن جعلها أكثر من دائرة، كما هو الحال في الدوائر البلديّة والإداريّّة، وهذا بالنسبة إلى ولاية الأمر غاية في الفساد، يُقطع بعدم رضا الشريعة وصاحبها، والالتزام بتقسيمات محدودة لا معنى له، ولا يمكن تحديد ضابطته، فهل نعتمد أساس الجغرافيا والتجزئة الطبيعيّة أو الأساس اللغويّ أو القوميّ أو غير ذلك؟! وكلّ هذه الأسس لا يعترف بها الشرع كمنطلقات للفرز والتقسيم.

 

5ـ مَن يحكم في قضايا الأمّة؟

 

إنّ الكثير من القضايا التي هي بحجم الأمّة، وتعني الإسلام ككلّ، مَن الذي سيبتُّ بها على فرض التعدّد؟! فلو دهم المسلمين عدوّ، فالأدلّة الشرعيّة تفرض وجوب الدفاع على كلِّ الأمّة دون فرق بين القريب والبعيد، فعندئذٍ كيف تكون الولاية ولمَن وعلى مَن؟! ومَن الذي يشخّص المصلحة والموقف ويُصدر الأمر؟!

 

وهكذا يظهر أنَّ احتمال التعدّد هذا يلزم منه الفساد ويترتّب عليه مشاكل لا تقبلها الشريعة المقدّسة، كما هو الحال في الاحتمال الأوّل، لا كما ادّعى أصحاب هذا الاحتمال.

 

6ـ هل يصحّ قياس الولاية على القضاء؟

 

القياس على القضاء غير صحيح، لوجود الفارق الكبير بين الأمرين، فإنّ قضايا القضاء شخصيّة خاصّة, وقضايا الولاية عامّة غير شخصيّة، فإذا أمكن

 

التعدّد في القضاء عند تعدّد القضايا وانتفاء الترابط بينها، فإنّ الأمر ليس كذلك في قضايا ولاية الأمر المترابطة والشاملة والتي تتعلّق في الغالب بالأمّة كل الأمّة الإسلامية بلا حدود جغرافية أو غيرها…، وعليه فإنّ التعدّد فيها يؤدّي إلى الخلل والفساد، وبالتالي لا يصحّ هذا القياس.

 

الرأي الصحيح

 

وعليه فإنَّ الاحتمالات المتقدّمة التي فرضت التعدّد لا مجال لقبول شيء منها ولا الالتزام بها، ولا بدَّّ من المصير إلى القول بوحدة ولاية الأمر وهو ما دلّت عليه الأدلّة كما تقدّم ولا يلزم منه أيّ خلل أو فساد، هذا إن لم نقل ببركات وخيرات الوحدة التي ظهرت جليّة في هذه الآونة.

فالنتيجة أنَّ القاعدة الأوّليّة تقتضي وحدة ولاية الفقيه لكلّ الأمّة الإسلاميّّة مهما اتسعت, حتّى لو بلغت العالم أجمع.

وعليه فإذا تعدَّد الفقهاء الذين لهم الأهليّة والشأنيّة لولاية الأمر يكون الأولى والمتعيّن هو أعلمهم وأقدرهم وأتقاهم، وهذا ما يرجع في شأن تعيينه العلمي، والكشف عنه إلى أهل الخبرة، – وسيأتي درس مستقل عن دور أهل الخبرة – فإذا تصدّى للأمر وجب على الأمّة نصرته وطاعته والالتزام بولايته.

 

خلاصة

 

 

إنّ احتمالات تعدّد الوليّ، لا يمكن الاعتماد على مبرّراتها الشرعيّة ولوازمها العلميّة، ويمكن تصوّر التعدّد بعدّة صور:

 

الأولى: ثبوت الولاية الفعليّة لكلّ فقيه تتوفّر فيه الشروط، وهذا يلزم منه الاختلاف والفساد.

 

الثانية: ثبوت الولاية الفعليّة للمجموع لا للجميع، وهذا لا يدل عليه دليل، ولا يمكن استنباطه من أدلّة ولاية الفقيه النقليّة فضلاً عن الدليل العقليّ، أضف إلى أنّ آليّة تحصيل القرارات الملزمة تنحصر في اجتماعهم، وهو أمر لا يتيسّر.

 

الثالثة: ثبوت الولاية للأكثرية حضوراً وآراءً، وهذا لا دليل عليه.

 

الرابعة: ثبوت شأنيّة الولاية لجميع الفقهاء الذين تتوفّر فيهم الشروط، إلّا أن الولاية الفعليّة لا تكون إلّا لواحد منهم فقط في كلّ دائرة من دوائر الأمّة الإسلاميّّة، وهذا الاحتمال هو الأشهر عند القائلين بتعدّد ولاية الفقيه.

 

إلّا أنّ هذا الاحتمال أيضاً لا ينبغي المصير إليه ولا الالتزام به لعدّة أمور:

 

1- إن الروايات ليست بصدد بيان جعل الولاية للجميع حتّى يُتمسّك بإطلاقها، وإنّما وردت لبيان الصفات المعتبرة في الفقيه.

2- إنّ تقسيم الأمّة والبلاد الاسلاميّة إلى دوائر متعدّدة يخالف ظاهر كلّ الأدلّة الشرعيّة التي كانت تنظر إلى الأمّة الإسلاميّّة كوحدة غير مجزّأة.

3- إنّ تعدّد الدوائر سوف لن يقف عند حدٍّ معيّن.

4- الكثير من القضايا التي هي بحجم الأمّة، وتعني الإسلام ككلّ، من الذي سيبتّ بها على فرض التعدّد؟!

 

فالنتيجة إنّ القول بالتعدّد يؤدي إلى لوازم فاسدة، فضلاً عن أنّه لا دليل عليه، وأنّ القاعدة الأوّليّة تقتضي وحدة ولاية الفقيه لكلِّ الأمّة الإسلاميّّة مهما اتسعت، حتّى لو بلغت العالم أجمع.

 

 

 

ولاية الفقيه في كلمات العلماء

 

المحقّق النراقيّّ (متوفى 1244هـ): يقول قدس سره “إنَّ كليَّة ما للفقيه العادل توليّه وله الولاية فيه أمران: أحدهما كلّ ما كان للنبيّ والإمام ـ الذين هم سلاطين الأنام وحصون الإسلام ـ فيه الولاية وكان لهم, فللفقيه أيضاً ذلك, إلّا ما أخرجه الدليل بإجماع أو نصّ أو غيرهما, وثانيهما أنَّ كلّ فعل متعلِّق بأمور العباد في دينهم ودنياهم ولا بدَّّ من الإتيان به ولا مفرَّ منه…”1.

 

وبذلك يكون المحقّق النراقيّ هو أوّل من ظهر في كلماته اصطلاح “ولاية الفقيه”.

 

للمطالعة

 

 

مقتطفات من مقابلة أجراها مراسل صحيفة (استريت تايمز) السنغافوريّة، مع الإمام الخمينيّ قدس سره، بتاريخ 16 صفر 1399 هـ. ق. في باريس، نوفل لوشاتو، حول الأوضاع العامّة في إيران قبل وبعد انتصار الثورة:

 

سؤال: إن لم أكن مخطئاً في فهمي فأنتم ومؤيدوكم تريدون ذهاب (الشاه) ولا ترون لإيران مستقبلًا سوى الصورة الكاملة للدولة الإلهيّة أي الجمهوريّة الإسلاميّة التي تدار من قبل قائد دينيّ، هل تقولون بشكل مثاليّ أنّكم يجب أن تكونوا البديل عن (الشاه) في رأس الدولة وأن تُدار إيران بشكل أكثر إنسانيّة وأن تتمّ هدايتها من خلال الأسس الإسلاميّة؟

 

جواب: أنا وسائر رجال الدين لا نحتلّ منصباً في الدولة، فواجب رجال الدين هو إرشاد الحكومات، لكنّ ما نريده هو عزل الشاه، وتبديل هذا النظام الفاسد بدولة العدل الإسلاميّة، وسيكون النصر حليفنا.

1- النراقيّ، أحمد بن محمّد مهديّ، عوائد الأيّام، مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلاميّ، ص 188-189.

 

سؤال: هل المعارضة التي تُبدونها؛ نموذج لحكومة اشتراكيّة في إيران، أو أنّ حكومتكم لها مرجعيّة إنسانيّة على أساس الأصول الدينيّة؟

 

جواب: إنّ حكومتنا هي الحكومة الإسلاميّة التي ستنفّذ القوانين الإسلاميّة الّتي تصنع الإنسان وتوصله إلى قمّة إنسانيّته، وهي قادرة على تلبية حاجاته الماديّة أيضاً.

 

سؤال: إذا افترضنا أنّكم تسلّمتم قيادة الدولة، فكيف تتوقّعون أن تكون علاقاتكم بالغرب؟

 

جواب: مهمّتي في الدولة القادمة هي الإرشاد، ولا فرق عندي بين الشرق والغرب، فالأساس هو مصالح الشعب الإيرانيّ التي تجب رعايتها على أحسن وجه، فإذا التزم الغرب والشرق بمبدأ الاحترام المتبادل في معاملتهما للشعب الإيرانيّ عاملناهما على هذا الأساس أيضاً.

 

شاهد أيضاً

ليلة القدر .. بين اصلاح الماضي و رسم المستقبل

أشار العالم الديني و استاذ الاخلاق الزاهد الفقيد الراحل سماحة آية الله مجتبي طهراني ، ...