الرئيسية / الاسلام والحياة / التحذير من ظلم مَنْ لا يجد ناصراً إِلا الله

التحذير من ظلم مَنْ لا يجد ناصراً إِلا الله

نصُّ الوصيّة:

روى ثقة الإسلام الكليني قدس سره بإسناده إِلَى أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام، قَالَ: “لَمَّا حَضَرَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ عليه السلام الْوَفَاةُ ضَمَّنِي إِلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ أُوصِيكَ بِمَا أَوْصَانِي بِهِ أَبِي عليه السلام حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَبِمَا ذَكَرَ أَنَّ أَبَاهُ أَوْصَاهُ بِهِ، قَالَ: يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ وَظُلْمَ مَنْ لَا يَجِدُ عَلَيْكَ نَاصِراً إِلَّا الله”[1].

 

خصائص هذه الوصية:

تمتاز هذه الوصيّة بمجموعةٍ من الخصائص تؤكّد على أهميّتها ولزوم العمل بها:

منها: أَنَّها صدرت عن معصوم خبيرٍ بشؤون النفس البشرية، كخبرةِ الطبيب الحاذق والحكيم الماهر، وقد جاء في نهج البلاغة لسيِّد الفصحاء والمتكلمين يصف طبيب النفوس من نبيٍّ أو وصيٍّ بأنَّه: “طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ وَأَحْمَى مَوَاسِمَهُ يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ وَآذَانٍ صُمٍّ وَأَلْسِنَةٍ بُكْمٍ مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ وَمَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ”[2]. فكما أَنَّ المريض في الأمراض

 

الجسدية يحاول أن يرجع إِلَى أفضل الأطبّاء في التشخيص والمعالجة، فلا بدّ له في الأمراض المعنوية والعلل النفسية أنْ يرجع إِلَى مَنْ كان مطّلعاً على خصائص النفس البشرية، ومرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بخالق النُّفوس، ومَنْ هو أفضلُ من المعصوم عليه السلام في ذلك؟

 

ومنها: تكرُّر هذه الوصيّة من أكثر من معصوم, حيث تقدّم في نصِّ الوصيّة أَنَّ الإِمام السجاد عليه السلام أوصى ولده

بها، وأخبره أَنَّها وصيّة الإِمام الحسين عليه السلام له أيضاً. ولا يخفى ما في هذا التَّكرار من الاهتمام من قِبَلِهم عليه السلام بمضمون هذه الوصيّة، وشدّة حرصهم عليها، ورغبتهم في تحقيقها.

 

ومنها: أَنَّها صدرت في لحظة حضور الوفاة، تلك المرحلة التي يكون فيها الإنسان بعيداً كلّ البعد عن التأثيرات الدُّنيوية، والأهداف الشخصانية، كيف وهو مزمعٌ على الرحيل، ومنصرفٌ إِلَى المثول بين يدي الجبّار الَّذِي لا تخفى عليه خافية، وهو عليمٌ بذاتِ الصدور! وكيف إذا اجتمع ذلك مع كونه معصوماً لا ينطق عن أهواء نفسانية ووسوساتٍ شيطانية.

 

ومنها: كونها إشفاقية، كما يستفاد ذلك من قوله: (ضَمَّنِي إِلَى صَدْرِهِ)، ولا يخفى أَنَّ شفقة الموصي على الموصَى له أدخل في تقبُّل النفس.

 

ومنها: اشتمالها على التحذير، كما يفهم من تصديرها بكلمة: (إِيَّاكَ)، الأمر الَّذِي يدلُّ على خطورة مضمونها، وكونه أمراً لازم الاجتناب.

 

والحاصل: أيُّها الحبيب، أنت مقبلٌ على الاستماع إِلَى وصيِّةٍ صادرةٍ من إمام معصومٍ خبيرٍ بنفوسنا وطبيب لأسقامنا، يهمُّه أمرنا، ويشفقُ على حالنا، ويريد منَّا أنْ نحذر من عاقبةِ هذا الأمر الخطير الَّذِي يدعونا إِلَى الابتعاد عنه. فهلّا أقبلت بآذانٍ صاغية، وجوارح مطيعة!

 

حقيقة الظُّلم

الظُّلم الَّذِي هو من ألأم الرذائل كما ورد في الخبر[3]، قد اهتمّ علماء الأخلاق في تعريفه وبيان حدوده، ويمكن تلخيص

ذلك بعبارةٍ جامعة:

إِنَّه الاعوجاج في الطريق، والخروج منه يمنةً ويسرةً، وعدم الاستقامة في العمل، ويختصر ذلك بقولهم: (جعل الشيء في غير موضعه). كما أَنَّ حقيقة العدل الَّذِي يقابله: عبارة عن الاستواء والاستقامة في جادة الشرع، وعدم الخروج منها يمنة ويسرة، وهو المعبّر عنه بـ (وضع كلّ شيء في موضعه).

 

وعليه، فالتجاوز والإضرار المحض الَّذِي لا نفع يترتّب عليه، ولا يكون لأجل دفع ضرر أعظم، في العاجل أو الآجل، يكون ظلماً.

 

والظلم بهذا المعنى يتناول جميع ذمائم الصفات والأفعال، فتمكين الظالم من ظلمه لمّا كان صفة ذميمة يكون ظلماً، كما أَنَّ تمكين الظالم من النفس والانقياد له نوعٌ من الذّلة، وهذا ظلمٌ للنفس، وظلم النفس من أقسام الظلم[4].

 

ظلم مَنْ لا ناصر له

من أقبح أنواع الظلم وأشدّها عقاباً عند الباري عزّ وجلّ هو: (ظُلْمَ مَنْ لَا يَجِدُ عَلَيْكَ نَاصِراً إِلَّا الله) كما ورد في نصّ الوصية. وقد سُئِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: أَيُّ ذَنْبٍ أَعْجَلُ عُقُوبَةً لِصَاحِبِهِ؟ فَقَالَ: “مَنْ ظَلَمَ مَنْ لَا نَاصِرَ لَهُ إِلَّا الله”[5]، ومن هنا رُوي عنه عليه السلام أيضاً: “ظُلْمُ الضَّعِيفِ أَفْحَشُ الظُّلْمِ”[6].

 

وطبيعيٌّ جدّاً أَنَّ الباري ينصرُ المظلوم سواء كان قوياً أم ضعيفاً إِلَّا أَنَّ نصره للضعيف آكد وأشدّ، فقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّه قال: “الْعَبْدُ إِذَا ظُلِمَ فَلَمْ يَنْتَصِرْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَنْصُرُهُ رَفَعَ طَرَفَهُ إِلَى السَّمّاِء فَدَعَا اللهَ تَعَالَى، قَالَ جَلَّ جَلَالَهُ: لَبَّيْكَ عَبْدِى أَنْصُرَكَ عَاجِلاً وَآَجِلاً اشْتَدَّ غَضَبِي عَلَى مَنْ ظَلَمَ أَحَداً لَا يَجِدُ نَاصِراً غَيْرِي”[7]، وقد حُكِي أَنَّ ظالماً ظلم ضعيفاً أعواماً، قال المظلوم للظالم يوماً: إِنَّ ظلمك عليَّ قد طاب بأربعة أشياء:إِنَّ الموت يعمّنا، والقبر يضمّنا، والقيامة تجمعنا، والديّان يحكم بيننا.

 

جزاء الظلم في العاجلة قبل الآجلة

فيما رُوي من الشعر عن سيّد الساجدين الإِمام عليّ بن الحسين عليه السلام أَنَّه قال:

لا تظلِمَنَّ إذا ما كنتَ مقتدراً          فالظُّلم آخره يأتيك بالندمِ

نامت عيونك والمظلوم منتبهٌ         يدعو عليك وعين الله لم تنمِ

 

والتجارب البشريّة لمسيرة الظالمين تشهد بأنَّ الله سبحانه وتعالى لم يهملهم، بل ولم يمهلهم بشكلٍ تامٍّ في العقاب والعذاب إِلَى يوم الجزاء الأكبر، بل انتقم منهم في هذه الدُّنيا الزائلة، ولا أقلّ بانكشاف ظلمهم وانفضاحهم أمام الناس.

 

ولذا نجد الحثَّ على اجتناب الظُّلم ولو كان صغيراً، أو كان لغير الإنسان أَيضاً، فهذا أمير المؤمنين عليه السلام يقول صادعاً بالحقّ: “وَالله لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا عَلَى أَن أَعْصِيَ الله فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جِلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ وَإِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا مَا لِعَلِيٍّ وَلَنَعِيمٍ يَفْنَى وَلَذَّةٍ لَا تَبْقَى”[8].

 

[1] الكُلَيْني، مُحَمَّد بن يعقوب، الكافي، ص2، ج331، ح 5، تصحيح وتعليق على أكبر غفاري، الطَّبعة الثّالثة 1367ش، دار الكتب الإسلاميَّة، طهران.

[2] نهج البلاغة، ص120، تحقيق وتصحيح: عزيز الله العطاردي، نشر: مؤسسة نهج البلاغة، الطبعة الأولى 1414هـ، قم المقدسة.

[3] انظر: اللَّيثي الواسطي، علي بن مُحَمَّد، عيون الحكم والمواعظ، ص51، تحقيق الشَّيْخ حسين الحسني، الطَّبعة الأُولى 1376ش، دار الحديث، قم.

[4] راجع: النراقي، الملا محمد مهدي، جامع السعادات، ج2، ص83، تحقيق وتعليق: السَّيِّد محمد الكلانتري، تقديم: الشَّيْخ محمد رضا المظفّر، نشر: دار النعمان، الطبعة الرابعة. محاضرات في أصول الفقه (تقرير بحث السَّيِّد الخوئي) ج2، ص103، الطبعة الأولى 1419، نشر: مؤسسة النشر الإسلامية التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

[5] المحدّث النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، ج12، ص102، نشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام، الطبعة الأُولى 1408، بيروت.

[6] نهج البلاغة، ص345، تحقيق وتصحيح: عزيز الله العطاردي، نشر: مؤسسة نهج البلاغة، الطبعة الأولى 1414هـ، قم المقدسة.

[7] انطر: المولى المازندراني، محمد صالح، شرح أُصول الكافي، ج9، ص360، تحقيق: أبو الحسن الشعراني، الطبعة الأولى 1382هـ، نشر: المكتبة الإسلامية، طهران.

[8] نهج البلاغة، ص265.

شاهد أيضاً

ليلة القدر .. بين اصلاح الماضي و رسم المستقبل

أشار العالم الديني و استاذ الاخلاق الزاهد الفقيد الراحل سماحة آية الله مجتبي طهراني ، ...