الرئيسية / الاسلام والحياة / قصّةٌ فيها عبرة (هند والحجّاج)

قصّةٌ فيها عبرة (هند والحجّاج)

يُحكى أَنَّ هند بنت أبيها كانت أحسن أهل زمانها، فوصف للحجّاج حسنها. فأرسل إليها يخطبها، وبذل لها مالاً كثيراً وتزوج بها. ووضع لها صداقاً مئتي ألف درهم ودخل بها. ثُمّ إِنَّ الحجّاج رحل إلى العراق فأقامت معه ما شاء الله، واطّلعت على شديد ظلمه وسوء خلقه. فدخل عليها يوماً وهي تنظر في المرآة وتنشد شعراً:

وما هند إِلَّا مهرةً عربيةً         سليلة أفراس تحلّلها بغلُ

فإنْ ولدت فحلاً فللَّه درّها     وإنْ ولدت بغلاً فجاء به البغلُ

 

فانصرف الحجّاج ولم يدخل عليها. ولم تكن قد علمت به. فأراد أن يطلّقها، فأرسل لها صداقها، وقال للرسول: “طلّقها بكلمتين ولا تزد عليهما”. فدخل عليها الرسول فقال لها: “كنتِ فبنتِ” ـ أي: كنتِ زوجةً وأصبحتي بائناً ـ وهذه المئتا ألف درهم. فقالت له: اعلم يا ابن طاهر: إنَّا ـ والله ـ كنّا فما حمدنا، وبِنّا فما ندمنا، وهذه المئتا ألف درهم التي جئت بها بشارة لك بخلاصي من كلب ثقيف.

 

ثم بلغ الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان خبرها، ووُصِف له جمالها، فأرسل إليها يخطبها. فكتبت بعد الثناء عليه: “يا أمير المؤمنين ـ والله ـ لا أحلّ العقد إلا بشرط، فإنْ قلت ما هو الشرط؟ قلت: أنْ يقود الحجّاج محملي إلى بلدك التي أنت فيها، ويكون ماشياً حافياً بحليته التي كان فيها أولاً”.

 

فلمّا قرأ عبد الملك ذلك الكتاب ضحك ضحكاً شديداً، وأنفذ أمره إلى الحجّاج وأمره بذلك فامتثل الحجّاج للأمر ولم يخالف. وسار في موكبه حتى وصل المعرّة بلد هند، فركبت هند محمل الزفاف، وركب حولها جواريها وخدمها، وأخذ الحجّاج بزمام البعير يقوده ويسير بها. فأخذت هند تقول:

 

وما نبالي إذا أرواحنا سلمت        بما فقدناه من مال ومن نشب

فالمال مكتسبٌ والعزّ مرتجعٌ       إذا النفوس وقاها الله من عطب

 

ولم تزل كذلك إلى أن قربت من بلد الخليفة، فرمت بدينار على الأرض ونادت: يا جمّال، إنّه قد سقط منّا درهمٌ فارفعه لنا. فنظر الحجّاج إلى الأرض فلم يجد درهماً، فقال: إنّما هو دينار. فقالت: بل هو درهم.

 

فقال: بل دينار. فقالت: الحمد لله، سقط منّا درهم فعوّضنا الله بدينار. فخجل الحجاج وسكت[1].

فانظر ـ أيّدك الله تعالى ـ لطاغيةٍ مثل الحجّاج قد أذلّه الله في الدُّنيا على يدِ امرأةٍ ضعيفةٍ لا تملك من أمرها شيئاً، بعد أنْ كان متجبّراً ظالماً، لا تأخذه في سبيل شهواته ونزواته رأفةً بأحدٍ من عباد الله.

 

وهذه هي حال كلّ ظالم في هذه الحياة الدُّنيا، وفي مقابل ذلك فإنّ الله تعالى يعطي المؤمن من عباده المظلومين في هذه العاجلة قبل الآجلة ما يعوّضه فيها عن بعض الظّلم الَّذِي وقع عليه صابراً محتسباً.

 

ومن عبر الأيام الخالدة، أنْ مرّ ـ ذات يوم ـ الأديب السوري المعروف، الأستاذ محمد المجذوب، بقبر معاوية فرآه كومة من

التراب المهين، يغطيه الذّباب فصدم لمرآه، وقارن ذهنه بينه وبين قبر أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في النجف الأشرف، ثمّ لم يتمالك نفسه فقال مخاطباً معاوية بقصيدة عصماء أنقل بعض الأبيات منها

 

أينَ القصورُ أبا يزيد ولهوها                 والصافنات وزهوها والسؤدد

أين الدهاء نحرت عزّته على                أعتاب دنيا سحرها لا ينفد

تلك البهارج قد مضت لسبيلها            وبقيتَ وحدك عبرةً تتجدد

هذا ضريحك لو بصرت ببؤسه             لأسال مدمعك المصير الأسود

 

كِتَلٌ من الترب المهين بخربة           سكر الذباب بها أفراح يعربد

خفيت معالمها على زوّارها            فكأنّها في مجهل لا يقصد

أأبا يزيد لتلك حكمة خالق          تجلّى على القلب الحكيم فيرشد

أرأيت عاقبة الجموح ونزوة            أودى بلبّك غيّها المترصد

أغرتك بالدنيا فرحت تشنها         حرباً على الحقّ الصراح وتوقد

تعدو بها ظلماً على من حبّه         دين وبغضته الشقاء السرمد

أأبا يزيد وساء ذلك عترة             قم وارمق النجف الشريف بنظرة

تلك العظام أعزّ ربّك قدرها          ماذا أقول وباب سمعك موصد

يرتدّ طرفك وهو باك أرمد            فتكاد لولا خوف ربك تعبد

 

 

[1] انظر: الأبشيهي، شهاب الدين محمد بن أحمد، المستطرف في كلّ فنٍّ مستظرف، نشر: دار ومكتبة الهلال.

شاهد أيضاً

قصيدة تلقى قبل أذان الصبح في حضرة الإمام الحسين عليه السلام في شهر رمضان المبارك

  أشرب الماءَ وعجّل قبل َأن يأتي الصباح  أشربَ الماءَ هنيئا أنهُ ماءٌ مباح أشربَ ...