الرئيسية / من / قصص وعبر / ومُبشِّراً برَسولٍ يأتي مِن بعدي اسمُهُ أحمد – كمال السيد

ومُبشِّراً برَسولٍ يأتي مِن بعدي اسمُهُ أحمد – كمال السيد

في وادٍ ضيّق طويل وعلى مقربة من بئر زمزم، نشأت مكّة قريةً صغيرة لتصبح بعد عقود من السنين « أمّ القرى ». ولقد ظلت مكّة بعيدة عن عبث الفاتحين، قروناً مديدة تتألّق مجداً بين مدن الحجاز وقُراه، ففي أرضها: البيت العتيق.. البيت الذي بناه إبراهيم وإسماعيل.

 
حتّى إذا أطلّ عام 570 من الميلاد، فكّر الأحباش ـ الذين احتلّوا اليمن في القرن السادس الميلادي ـ في السيطرة على الطريق البرّي للتجارة، دعماً لموقف حلفائهم الرومان، فيما اتّجه الفُرس إلى تحريض يهود اليمن والنصارى المعارضين، وتعزيز وجوداتهم، واستيقظ الحجاز على دويّ الصراع بين الامبراطوريتين.

 

 
وهكذا وجدت مكّة نفسها في مهبّ الإعصار القادم من اليمن، فقد زحفت جيوش الأحباش يتقدمها فيل مدرّب من أجل تدمير بيت الله؛ بعد أن عجز « القليس » (1) عن اجتذاب أنظار العرب، فظلّت قوافلهم تهوي في بطون الأودية في مواسم الحج.

 

 
كان عبدالمطّلب قد تخطّى السبعين آنذاك؛ شيخ وضيء القسمات في عينيه انعكاسات من بريق النبوّات الغابرة، مذ وطئت قدم إبراهيم الخليل ترابَ « وادٍ غيرِ ذي زرع ».
واعتصم المكيّون ـ الذين تهيّبوا ضخامة الغزو ـ برؤوس الجبال ينظرون من بعيد إلى الكعبة مهوى الأفئدة، ويردّدون كلمات قالها عبدالمطّلب.
ـ للبيت ربٌّ يَحميه.

 

 
وقف أبرهة قبالة الكعبة ينظر باستعلاء إلى جنوده وهم يتقدّمون لتدمير الكعبة وسحقِ كرامة الإنسان العربي الذي ظلّ محافظاً على ولائه لإبراهيم. وفي تلك اللحظات المثيرة ظهرت في الأفق سحابة دَكناء سُرعانَ ما أسفرت عن أسراب كثيفة من طيور « أبابِيل » تحمل بمناقيرها حجارةً من سِجّيل.
وقد يتصوّر المرء مدى الدهشة والرعب الذي غمر الجنود، وهم يتعرّضون لقصف جهنميّ رهيب، أحال قوّتهم إلى ضعف، ومرّغ كبرياءهم بالوحل.

 

 
ورأى أبرهة غضب السماء يبدّد أحلامه في قلب الحجاز، فامتلأت نفسه رعباً، كان يتفادى الحجارة المشتعلة دون جدوى، وولّى الجيش مذعوراً لا يلوي على شيء.
وشهدت مكّة والطريق المؤدية إلى اليمن تساقطَ جثث الأحباش كعصفٍ مأكول، ومات أبرهة على بوّابة صنعاء.
وفي ذلك العام ذاعت شهرة عبدالمطّلب حفيد إبراهيم وراعي البيت العتيق.

* * *

وقد ولد الربيع
ورأى عبدالمطّلب أن يزوّج ابنه عبدالله آخر الأبناء بعد أن بلغ من العمر أربعة وعشرين عاماً.
واقترن الشاب الذي افتداه أبوه من الإبل (2) بفتاة اسمها « آمنة » كريمة المَحتِد، فأبوها سيّد بني زهرة.

 

 
وأقام العَروسان عند أهل العروس استجابةً لعادة عربيّة حينما يتمّ الزواج في بيت العروس.
ولمّا مضت ثلاثة أيام انتقلت الأسرة الصغيرة إلى منازل بني عبدالمطّلب.
وعندما انتهت الاستعدادات في رحلة قريش في الصيف غادر عبدالله مكّة نحو الشام، إلى مدينة غزّة.
وقد استغرقت الرحلة شهوراً ليعود بعدها إلى أرض الحجاز. ويشاء القدر أن يتوقّف عند أخواله في مدينة يثرب، ولم يكن يدري أن هذه المحطّة ستغدو مثواه الأخير.

 

 
وفُجِعت العروس بوفاة زوجها وكانت حاملاً، كما فُجع أبوه عبدالمطّلب ومكّة كلها بهذا النبأ.
وتأثر عبدالمطّلب لرحيل ابنه السريع، وهو الذي افتداه فداء لم تسمع به العرب من قبل.
لم يترك عبدالله سوى خمسة من الإبل وقطيعاً صغيراً من الغنم وجارية هي أمّ أيمَن.
وتمرّ الشهور وتحين ساعة المخاص ليولد حفيد عبدالمطّلب؛ كان سيّد مكّة في رحاب الكعبة عندما بُشِّر بميلاد الحفيد. وفي تلك اللحظة تفجرت ينابيع الحبّ في قلب الجدّ.

 

 
احتضن الشيخ حفيده وهتف:
ـ سمّيتُه محمداً.
وانتقل الاسم العجيب في منازل مكّة، اسم جميل حلو، يشبه نغمة حالمة.. كيف ومض هذا الاسم في ذهن سيّد مكّة، ويتساءل بعضهم:
ـ وأسماء الآباء.. والأجداد.. لماذا محمّد ؟!
تمتم الشيخ:
ـ ليكون محموداً في السماء وفي الأرض.
وهكذا اقترن ميلاد محمّد بعام الفيل.. لقد هُزمت عاصفة الشتاء ووُلد الربيع في موسم الربيع (3).

* * *

 

 

 

القاعدة الجغرافية للتاريخ
إذا كان للبيئة تأثيرها في طبيعة الإنسان، فلقد أكسبت بيئة الحجاز، بتضاريسها ومناخها، وبمعالمها الجغرافية الإنسانَ العربي صفات عديدة.
فهو خفيف في وزنه، نحيف في بدنه، صبور في مواجهة المشاقّ قنوع في طعامه، في فكره سرعة وبديهة، وفطنة وذكاء وخيال مشتعل، وكبرياء وعزّة تتألق في عينيه السوداوَين، وشاعريّة مُرهفة، جعلته شغوفاً بالحِكمة والأمثال، ولم تكن الكاميرا ـ التي ظهرت قبل أقل من قرنين ـ موجودة آنذاك لتنقل لنا صورة عن هذا الإنسان العظيم.

 

 
ولكن التاريخ الذي استيقظ مأخوذاً في سنة 610 م قدّم لنا ملامح عن محمّد وقد بلغ الذروة في نموّه الجسدي والفكري.
لم يكن فاحش الطول، كان رَبعة وقد « جُعل الخير كلّه في الربعة » أمّا بَشَرته فكان أزهَرَ لونُها، أي بيضاء ناصعة، لا تشوبها صُفرة ولا حمرة.
رَجِلُ الشَّعر لا مسترسل ولا جَعد، يشبه تموّجات الصحراء، وكان يبلغ شحمةَ أُذنيه، وقد بدت سوالفه متلألئة.

 

 

 
واسع الجبين، بين حاجبَيه فاصل لطيف، وعيناه نجلاوان، فإذا ابتسم أفترّ عن لآلئ منضودة.
فإذا مشى بدا كزورق ينساب في بحيرة هادئة، وكان يقول:
ـ أنا اشبه الناس بآدم، وكان أبي إبراهيم أشبه الناس بي.

شاهد أيضاً

قصيدة تلقى قبل أذان الصبح في حضرة الإمام الحسين عليه السلام في شهر رمضان المبارك

  أشرب الماءَ وعجّل قبل َأن يأتي الصباح  أشربَ الماءَ هنيئا أنهُ ماءٌ مباح أشربَ ...