الرئيسية / تقاريـــر / في سايكولوجيا الشائعة – أ.د.قاسم حسين صالح

في سايكولوجيا الشائعة – أ.د.قاسم حسين صالح

ثمة حقيقة هي ان الحرب النفسية تحسم النصر لمن يجيد استخدامها، بمعنى ان الكلمة تكون احيانا اقوى من البندقية في حسم المعركة، وان الشائعة اصبحت الآن اكثر انتشارا واقوى تأثيرا بفعل الانترنت ومواقع الاتصال الاجتماعي، فضلا عن وسائل الاعلام التقليدية.
نختار لكم واقعتين، الاولى حدثت قبل سنة والثانية تحدث الآن. في الاولى: اصاب العراقيون الذهول عند سماعهم سقوط الموصل بيد ارهابيي (داعش) وهروب قوات الجيش العراقي تاركة اسلحتها ومعداتها..واختفاء الشرطة المحلية من شوارع المدينة، وفرّار الناس من المدينة مذعورين. وتحول الذهول الى هلع حين توالت الاخبار بأن الارهابيين استولوا ايضا على مدينة تكريت..وأنهم في طريقهم الى بغداد..وكان للشائعة الدور الأكبر فيما احرزه الارهابيون من انتصارات وما اصاب الناس من انكسارات.
والثانية: واقعة الثرثار (ناظم التقسيم)..فقد تناقلت مواقع الاتصال الاجتماعي (الفيس بوك) تحديدا عن مقتل ما بين 140 الى 150 ضابطا وجنديا في هجوم لـ”داعش”، وان هذه القوات كانت محاصرة وطلبت النجدة وارسال المساعدات من الحكومة ووزارة الدفاع ولم يستجب احد. وقد نقل لي مسؤول اعلامي بأن قناته الفضائية تلقت رسائل استغاثة من قادة عسكريين كبار.

وانها بثتها بأصواتهم..ولم يستجب احد. وعلى اثرها ادان مسؤول لجنة الامن والدفاع في البرلمان هذه الجريمة البشعة وطالب بمحاسبة المسؤولين عنها، وحصلت تظاهرات في جامعات (ذي قار مثلا) تطالب بإقالة وزير الدفاع، فيما صرح رئيس الوزراء حيدر العبادي (مساء يوم 27 نيسان) بأن العدد لا يتجاوز (13) ضابطا وجنديا (وان قصة ذبح 140 مقاتلا مفبركة بالكامل)، وان منطقة الثرثار بيد القوات العراقية وان ما يجري هو تهويل اعلامي..الذي هو في المنطق العلمي..حرب نفسية..اداتها الشائعة. ولكي لا تتكرر في واقعة ثالثة ورابعة..ومن اجل الوطن والناس تأتي هذه المقالة العلمية المتخصصة بسايكولوجيا الدعاية والشائعة.
بعيدا عن تفاصيل انواع الدعاية والشائعة، وبهدف حصر الموضوع بالحدث الأخطر الذي يواجهه العراقيون فان الدعاية تعني معلومات، او معتقدات، أو التبشير بمشروع او: اثارة، ايحاء، تحريض، مناورة، تضليل.. وتستخدم للتأثير في الناس لتحقيق ثلاثة اهداف عبر ثلاث مراحل وهي: تغيير الاتجاهات، وحصول الاقناع، وصولا الى تغيير موقف يتبدى في سلوك عملي.
ذلك هو الهدف النهائي للدعاية في اوقات الحروب والازمات: تغيير السلوك الفعلي للناس الناجم عن تأثير الدعاية في تغيير اتجاهاتهم وحصول اقتناع لديهم بما تحمله تلك الدعاية من مضامين وافكار وتوقعات وخطط ومشاريع..يعتمد نجاحها على جودة صياغتها علميا وواقعية اجراءاتها عمليا.
اما الشائعة فهي خبر او حدث يجري تداوله شفاها بين الناس، قد يكون مختلقا وقد يتضمن حقيقة او جزءا منها (واقعة ناظم التقسيم مثلا)، يجري تضخيمه بطريقة تشبه رسم فأر صغير يتحول عبر سلسلة من الرسامين الى بعير كبير..وهدف الشائعة الرئيس هو خلق تشوش فكري وفوضى معلوماتية تفضي سايكولوجيا الى شعور المتلقي بالخوف او الرعب الناجم عن توقع الشرّ، او تضخيم الادانة. ويمتد تأثيرها من خفض المعنويات وتفريق الناس بين مصدّقين مرعوبين، وخائفين، ومحبطين، ومتذمرين من نظام سياسي او حكومة مسؤولة عن امنهم..الى انعكاس تأثيراتها السلبية (الخوف، الهلع، كيل التهم، الفتنة….)، كما جرى في نزوح اهالي الانبار.
تتحكم في انتشار الشائعة ثلاثة قوانين هي: اهمية الحدث، وصدمة المفاجأة، والغموض.. بمعنى: انه كلما كان الحدث كبيرا، ووقوعه مفاجئا، واكتنفه الغموض..كلما انتشرت الشائعة.. وهذا ما جرى في الواقعتين، ففي سقوط الموصل (10 حزيران 2014) وما تبعه من احداث: هروب قوات مسلحة وشرطة وسقوط مدن وفرار ناس..تحققت فيها قوانين الشائعة الثلاثة بشكل دقيق لم يحصل في تاريخ حروب العراق منذ عام 1980 رغم كارثيتها. نقول ذلك بوصفنا عاصرنا تلك الحروب وكتبنا عنها، فالحدث (سقوط الموصل) كان مهما جدا لدرجة ان المحللين السياسيين وصفوه بأنه شكّل بوابة الدخول الى شرق اوسط جديد، والخطوة العملية الأولى نحو تقسيم العراق.

والحدث حقق صدمة مفاجأة غير مسبوقة، ليس فقط بتساؤل الناس بذهول: كيف حصل هذا؟..بل وايضا في صعوبة تصديق هروب خمسين الف ضابط وجندي وخمسين الف شرطي امام ثلاثة آلاف ارهابي مسلّح.
وبتوفير الحكومة (السابقة) القانون الثالث لانتشار الشائعة (الغموض) – اذ قال رئيس الحكومة السابق، في حينها، بأن الذي جرى في الموصل كان (خدعة ومؤامرة) -تكون القوانين الثلاثة لانتشار الشائعة قد توافرت بحالة كاملة وغير مسبوقة في تاريخ الشائعات التي رافقت حروب العراق الكارثية، بعهديه..الدكتاتوري والديمقراطي..وإلي الشائعة يعزى الدور الرئيس في صنع مسرحية من نوع (اللامعقول) في مشاهد متلاحقة لانكسارات الجيش العراقي أمام ارهابيين قد يهزمون شرطة في شوارع مدينة ولكن ليس جيشا في ساحات الحرب.
والحال نفسه تكرر في واقعة (ناظم التقسيم)..اذ وفرت الحكومة الحالية قوانين الشائعة ولم تسارع الى ازالة (الغموض)الذي اكتنف حدثا مهما شكّل لهم صدمة مفاجأة..عنونتها وسائل الدعاية باسم (مجزرة الثرثار)..ثم (مجزرة طريبيل)..وفي هذا زخم سايكولوجي يغذي الشائعة ويساعد على انتشارها بسرعة..بتوظيفها بأنها ستحقق ثلاثة اهداف كبيرة: منع الحركة التجارية عن بغداد، وتأمين الامدادات للارهابيين، وادامة زخم تقدمهم نحو مناطق اخرى، فضلا عن رفع معنويات الارهابيين بتصوير ان ما كانوا يحلمون به، ويقاتلون من اجله قد تحقق جغرافيا على الارض بربط ارض الشام بأرض العراق وقيام دولتهم الاسلامية المزعومة..بل انهم سيمضون اكثر في توظيف شائعة نفسية ستثير رعب الناس حقا..وهي انهم سيقطعون المياه عن العراقيين بسيطرتهم عمليا على نهر الفرات!..وانهم سيغرقون الضفة التي فيها القوات العراقية لكونها منخفضة فيما هم في الضفة العليا.
اذكر أن القيادة العسكرية قالت قبل سنة ما عدّه الناس تضليلا واعترافا ضمنيا بانهيار نفسي عسكري بأن (انسحاب الجيش عن بلدات غربية كان تكتيكيا)، تبعه قول بأن الجيش سيشن هجوما كاسحا لاخراج “داعش” من الموصل. يضاف الى ذلك استحضار الناس لما كان يبثه الاعلام العراقي في السنتين الاخيرتين، اذ ما كانت تمر ليلة لم يكن فيها هنالك خبر عن قتل او اعتقال ارهابيين، والاستيلاء على اسلحة ومعدات..لو تم جمعهما بطريقة حسابية لكان المجموع يساوي جيشا لأكبر دولة!..ما جعل العراقي حائرا بين أمرين: اما ان يكون الارهابيون كائنات من الجن، وهذا غير معقول، او ان الاعلام العراقي كان يبالغ في تصوير الاحداث، وهو المعقول.
والواقع ان الحكومة الحالية شخصت ذلك حين قال رئيسها العبادي (27 نيسان 2015) بأن (هناك حربا نفسية موجهة ضد العراق)، وهو امر يجب الاشارة اليه، لأن الحرب النفسية يمكن لها ان تجلب الكارثة بفتح جبهتي حرب..طائفية ومناطقية.
لم يتعلم الاعلام العراقي بعد ان الدعاية والشائعة في زمن الحرب يجب ان تفنّد الخبر بصورة او بشهادة متحدث يتمتع بالمصداقية..لا بكلام معظمه فائض معنى لا يزال يمارس دور (تقبيح) وجه العدو و(تجميل) وجه الحاكم..ولا يزال يكثر من اظهار المتحدثين الذين يقولون ما يرضي الحاكم والسلطة التي ينتفع منها، ولا يزال يعتمد في دعايته على وجوه مستهلكة (مكروهة)، لدى الناس انطباع عنها بانها تكذب، فشتان بين ان يظهر في وسائل اعلام السلطة من هو محسوب عليها وآخر مفكّر مستقل يعرف كيف يحلل بموضوعية وكيف يبطل مفعول الشائعة التي اصابت الناس بالانكسار والخوف..ويسكنها الآن توقع الشر.
نعم ان “داعش” مسكت مساحات من الأرض..لكنها بالنتيجة لن تستطيع الاحتفاظ بها لمدة طويلة لان المجتمع العراقي بجميع مكوناته يرفضها، وان الارهابيين، وان بدوا الآن متحدين، فانهم مجاميع متقاطعة ايديولوجيا وعقائديا وسلوكيا، وان القتال فيما بينهم سيكون حتميا، فضلا عن ان الكثيرين بينهم من جنسيات مختلفة لا مستقبل لهم في العراق.
إن الاعلام العراقي بحاجة الآن الى دعاية من نوع جديد. وكما تشكل غرفة عمليات عسكرية يجب ان تشكل غرفة دعاية اعلامية تجيد صناعتها عقول متخصصة في الاعلام وعلم النفس والاجتماع من المستقلين سياسيا وغير المحسوبين على السلطة..ويمتد نشاطها الى اجراء بحوث ميدانية سريعة تستقرئ الحالة النفسية للشارع العراقي والجندي العراقي، وتنتقي وجوها جديدة تتمتع بالرصانة والمصداقية والحب الصادق للعراق وأهله، وتتعامل مع الحدث بما يبطل قوانين الشائعة في لحظتها..لاسيما وان المزاج العراقي صارت لديه شهية للشائعة والنيل من الآخر..اشاعها بينهم سياسيون..شهيتهم للثروة وقضم السمعة مثل جهنم..يسألونها هل امتلأت..فتقول هل من مزيد!!.

شاهد أيضاً

ليلة القدر .. بين اصلاح الماضي و رسم المستقبل

أشار العالم الديني و استاذ الاخلاق الزاهد الفقيد الراحل سماحة آية الله مجتبي طهراني ، ...