العابدون درك البكاء عندي شيئاً؛ فإنّي لأبني لهم في الرفيق الأعلى قصراً لا يشاركهم فيه غيرهم”16.
والبكاء سبيل وقاية في يوم القيامة، فمن بكت عيناه في الدنيا لن تبكيان في يوم القيامة:
روي: “ما مِنْ عين إلا وهي باكية يوم القيامة؛ إلا عين بكت من خشية الله، وما اغرورقت عين بمائها من خشية الله؛ إلا حرّم الله سائر جسده على النّار، ولو فاضت على خدّه لم يرهق ذلك الوجه قتر ولا ذلَّة، وما من شيء إلا وله كيل أو وزن؛ إلا الدمعة؛ فإنّ الله يطفئ باليسير منها بحاراً من النار، ولو أنّ عبداً بكى في أمّة لرحم الله تلك الأمّة؛ ببكاء ذلك العبد”17.
________________________________________
16- الطوسي، الأمالي، م.س، المجلس19، ح1، ص532.
17- الكليني، الكافي، م.س، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب اجتناب المحارم، ص482.
وقفة تأملية
التدبّر في صفات المتّقين:
عن الإمام علي عليه السلام في وصفه للمتّقين: “فَهُمْ والْجَنَّةُ؛ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ، وهُمْ والنَّارُ؛ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ، قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وشُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ، وأَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ، وحَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ، وأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ، صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً؛ أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً، تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ، أَرَادَتْهُمُ الدُّنْيَا، فَلَمْ يُرِيدُوهَا، وأَسَرَتْهُمْ؛ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا. أَمَّا اللَّيْلَ، فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ، تَالِينَ لأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلًا، يُحَزِّنُونَ به أَنْفُسَهُمْ، ويَسْتَثِيرُونَ بِه دَوَاءَ دَائِهِمْ، فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً، وتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً، وظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، وإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ، أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ، وظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ، فَهُمْ حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ، مُفْتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِمْ وأَكُفِّهِمْ ورُكَبِهِمْ وأَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ، يَطْلُبُونَ إِلَى الله تَعَالَى فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ، وأَمَّا النَّهَارَ؛ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ، قَدْ بَرَاهُمُ الْخَوْفُ بَرْيَ الْقِدَاحِ، يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ، فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى، ومَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ، ويَقُولُ لَقَدْ خُولِطُوا، ولَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ، لَا يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ، ولَا يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ، فَهُمْ لأَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ، ومِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ، إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ؛ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَه، فَيَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي، ورَبِّي أَعْلَمُ بِي مِنِّي بِنَفْسِي، اللهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، واجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ”18.
________________________________________
18- الشريف الرضي، نهج البلاغة، م.س، ج2، الخطبة193، ص161-162.