الرئيسية / الاسلام والحياة / التقوى في القرآن الكريم – التبعات الوجودية

التقوى في القرآن الكريم – التبعات الوجودية

ولا تقتصر الآيات القرآنية على بيان التبعات السلبية للفجور في الحياة الفردية للانسان، بل تتجاوزها إلى ما هو أعمق غوراً وأوسع أثراً، حيث تثبت أنّ هناك رابطة مباشرة بين فجورالانسان وإفساده في الارض، وبين ظهور الكوارث والامراض ونحوهما.
ومعنى ذلك: «أنّ الحوادث الكونية تتبع الاعمال الانسانية بعض التبعية، فإذا جرى النوع الانساني على طاعة الله سبحانه وسلك الطريق الذي يرتضيه، فإنّه يستتبع نزول الخيرات وانفتاح أبواب البركات، أمّا إذا انحرف عن صراط العبودية، وتمادى في الغيّ والضلال، وفساد النيّات، وشناعة الاعمال، فإنّ ذلك يوجب ظهور الفساد في البرّ والبحر، وهلاك الاُمم بانتشار الظلم وارتفاع الامن وبروز الحروب وسائر الشرور الراجعة إلى الانسان وأعماله. وكذا تظهر المصائب والحوادث الكونية المبيدة، كالسيل والزلزلة والصاعقة والطوفان وغير ذلك، وقد عدّ الله سبحانه سيل العرم وطوفان نوح وصاعقة ثمود وصرصر عاد من هذا القبيل»( [226]).
قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِين وَشِمَال كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُل خَمْط وَأَثْل وَشَيْء مِنْ سِدْر قَلِيل * ذلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ)( [227]).
وقال في قوم نوح (عليه السلام): (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصَاراً)( [228]).
وقال تعالى: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)( [229]). وموارد أخرى أشار إليها القرآن الكريم.
ربما كانت أشمل آية دلّت على هذه الحقيقة القرآنية، هي قوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)( [230]) «وهي بظاهر لفظها عامّة، ولا تختصّ بزمان دون زمان، أو بمكان أو بواقعة خاصّة، فالمراد بالبرّ والبحر معناهما المعروف ويستوعبان سطح الكرة الارضية. والمراد بالفساد الظاهر: المصائب والبلايا الظاهرة فيهما، الشاملة لمنطقة من مناطق الارض، من الزلازل وقطع الامطار والسنين والامراض السارية والحروب والغارات وارتفاع الامن، وبالجملة كلّ ما يفسد النظام الصالح الجاري في العالم الارضي، سواء كان مستنداً إلى اختيار بعض الناس، أو غير مستند إليه، فكلّ ذلك فساد ظاهر في البرّ أو البحر مخلّ بطيب العيش الانساني. وقوله: (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) أي بسبب أعمالهم التي يعملونها من شرك أو معصية»( [231]).
وهذا المعنى أُشير إليه في آية أُخرى، قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَة فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير)( [232])، «والخطاب في الآية اجتماعي موجّه إلى المجتمع، غير منحلّ إلى خطابات جزئية، ولازمه كون المراد بالمصيبة التي تصيبهم، المصائب العامّة الشاملة كالقحط والغلاء والوباء والزلازل وغير ذلك، فيكون المراد أنّ المصائب والنوائب التي تصيب مجتمعكم، إنّما تصيبكم بسبب معاصيكم.
والحاصل أنّ الخطاب في الآية لعامّة الناس من المؤمن والكافر، وهو الذي يفيده السياق وتؤيّده الآية التالية، هذا أوّلاً. والمراد بما كسبته الايدي: المعاصي والسيّئات دون مطلق الاعمال، وهذا ثانياً. والمصائب التي تصيب إنّما هي آثار الاعمال في الدنيا; لما بين الاعمال وبينها من الارتباط والتداعي، دون جزاء الاعمال (الاخروي) وهذا ثالثاً»( [233]).
فإذً إذا انغمر المجتمع في الرذائل والسيئات، وخرج عن الطريق الذي أودعه الله في فطرته (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ)( [234]) أذاقه الله وبال أمره، وأدّى ذلك إلى إهلاكه وإبادته، قال تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الاَْرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الاَْرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ وَاق)( [235]).
وقال تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً)( [236]). وقال أيضاً: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّمَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْم لاَ يُؤْمِنُونَ)( [237]).
وهذه من السنن الالهية التي أكّدها القرآن في مواضع كثيرة، وبيّن أنّها لا تقبل التبديل والتحويل، قال تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الاُْمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً * اسْتِكْبَاراً فِي الاَْرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الاَْوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً)( [238]).
وقد أكّدت جملة وافرة من الروايات هذه الحقيقة القرآنية، منها:
1 ـ عن الامام الباقر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «خمس إن أدركتموهن فتعوّذوا منهنّ:
 لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوها إلاّ ظهر فيهم الطاعون، والاوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا.
 ولم ينقصوا المكيال والميزان إلاّ أُخذوا بالسنين وشدّة المؤونة وجور السلطان.
 ولم يمنعوا الزكاة إلاّ مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا.
 ولم ينقضوا عهد الله ورسوله إلاّ سلّط الله عليهم عدوّهم، وأُخذوا بعض ما في أيديهم.
 ولم يحكموا بغير ما أنزل الله إلاّ جعل الله عزّوجلّ بأسهم بينهم»( [239]).
«الفاحشة هي الزنا، والسنة هي الجدب والقحط، والمؤونة هي القوت، وشدّة المؤونة ضيقها وعسر تحصيلها»( [240]).
قال المازندراني في شرح أصول الكافي: «إنّ الاوّل لما كان فيه تضييع آلة النسل، ناسبه الطاعون الموجب لانقطاع النسل. والثاني لما كان فيه زيادة المعيشة، ناسبه القحط وشدّة المؤونة وجور السلطان بأخذ المال وغيره، والثالث لما كان فيه منع ما أعطاه الله بتوسط الماء، ناسبه منع نزول المطر من السماء. والرابع لما كان فيه ترك العدل، والحاكم العادل، ناسبه تسلّط العدوّ وأخذ الاموال. والخامس لما كان فيه رفض الشريعة وترك القوانين العدلية، ناسبه وقوع الظلم بينهم وغلبة بعضهم على بعض.
وفيه تنبيه على أنّ لهذه الاُمور تأثيراً عظيماً في نزول هذه البلايا، وورود هذه المصائب، لاستعداد أهلها بالانهماك فيها، وعدم المبالاة بها، لسخط الله وعقوبته.
وأشار بقوله: «ولولا البهائم لم يمطروا» إلى أن وجود البهائم رحمة للناس، وسبب لوصول فيض الحقّ إليهم، وذلك لانّ بقاء البهائم ونشوءها بالماء والكلاء، وهو متوقّف على نزول المطر من السماء، فإذا نزل المطر رعاية لحالها وحفظاً لنظام أحوالها، انتفع به بنو آدم أيضاً، كما دلّت عليه حكاية النملة واستسقائها وقولها «اللّهم لا تؤاخذنا بذنوب بني آدم». وكما أنّ عقوبة الله عزّوجل قد تعمّ الابرار بشؤم الاشرار، كذلك رحمة الله قد تعمّ الاشرار لرعاية الضعفاء والاخيار.
ولعلّ المراد بعهد الله وعهد رسوله، هو العهد بنصرة الامام الحقّ واتباعه في جميع الامور، وظاهر أنّ ذلك موجب لظهور العدل بينهم وحفظ أموالهم ودمائهم، وقطع أيدي الاعداء عنهم. وأنّ نقض ذلك العهد والهجران عن الامام، موجب لتسلّط سلطان الجور عليهم وأخذ أموالهم وسفك دمائهم، كما هو مشاهد الآن في أقطار الارض. وأمّا جعل بأسهم بينهم وهو القوّة والشدّة والعذاب، فكأنّ المراد به غلبة بعضهم على بعض، بالتعدّي والطغيان ومعاونة بعضهم لبعض على الظلم والعدوان»( [241]).
2 ـ عن الامام الصادق (عليه السلام) قال: «إذا فشت أربعة، ظهرت أربعة: إذا فشا الزنا ظهرت الزلزلة، وإذا فشا الجور في الحكم احتبس القطر، وإذا خفرت الذمة( [242]) أُديل( [243]) لاهل الشرك من أهل الاسلام، وإذا منعت الزكاة ظهرت الحاجة»( [244]).
3 ـ عن الامام زين العابدين (عليه السلام) : «الذنوب التي تغيّر النعم، البغي على الناس، والزوال عن العادة في الخير واصطناع المعروف، وكفران النعم، وترك الشكر، قال الله عزّوجلّ: (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)( [245]).
والذنوب التي تُنزل النِقم: عصيان العارف بالبغي، والتطاول على الناس، والاستهزاء بهم، والسخرية منهم.
والذنوب التي تنزل البلاء: ترك إغاثة الملهوف، ومعاونة المظلوم، وتضييع الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والذنوب التي تُديل الاعداء: المجاهرة بالظلم، وإعلان الفجور، وإباحة المحظور، وعصيان الاخيار، والاتباع للاشرار.
والذنوب التي تعجِّل الفناء: قطيعة الرحم، واليمين الفاجرة، والاقوال الكاذبة، والزنا، وسدّ طرُق المسلمين، وادّعاء الامامة بغير حقّ.
والذنوب التي تحبس غيث السماء: جور الحكّام في القضاء، وشهادة الزور، وكتمان الشهادة، ومنع الزكاة والقرْض والماعون، وقساوة القلوب على أهل الفقر والفاقة، وظلم اليتيم والارملة، وانتهار السائل وردّه بالليل»( [246]).
ثمّ أشار الامام (عليه السلام) إلى جملة من الآثار الفردية للذنوب، حيث قال: «والذنوب التي تردّ الدعاء: سوء الامنية، وخُبث السريرة، والنفاق مع الاخوان، وترك التصديق بالاجابة، وتأخير الصلوات المفروضات حتى تذهب أوقاتها، وترك التقرّب إلى الله عزّوجلّ بالبرّ والصدقة، واستعمال البذاء والفحش في القول.
والذنوب التي تقطع الرجاء: اليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله، والثقة بغير الله، والتكذيب بوعد الله عزّوجلّ.
والذنوب التي تكشف الغطاء: الاستدانة بغير نيّة الاداء، والاسراف في النفقة على الباطل، والبُخل على الاهل والولد وذوي الارحام، وسوء الخُلق، وقلّة الصبر، واستعمال الضجر والكسل، والاستهانة بأهل الدين.
والذنوب التي تورث الندم: قتل النفس التي حرّم الله، قال الله تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ)( [247])، وقال عزّوجلّ في قصّة قابيل حين قتل هابيل فعجز عن دفنه: (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ)( [248])، وترك صلة القرابة حتى يستغنوا، وترك الصلاة حتى يخرج وقتها، وترك الوصية وردّ المظالم، ومنع الزكاة حتى يحضر الموت وينغلق اللسان.
والذنوب التي تدفع القِسْم (النصيب والحظ) إظهار الافتقار، والنوم عن العتمة، وعن صلاة الغداة، واستحقار النعم، وشكوى المعبود عزّوجلّ.
والذنوب التي تهتك العِصَم: شرب الخمر، واللعب بالقمار، وتعاطي ما يُضحك الناس من اللغو والمِزاح، وذكر عيوب الناس، ومجالسة أهل الريب»( [249]).

شاهد أيضاً

اليتيم في القرآن الكريم – عز الدين بحر العلوم

11- « يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والاقربين واليتامى والمساكين وابن ...