الرئيسية / القرآن الكريم / مفاهيم القرآن الكريم

مفاهيم القرآن الكريم

الاِمامة والخلافة
قد تقدّم في صدر الكتاب انّ هناك أصلين انفرد بهما مذهب الشيعة الاِمامية، ولذلك يُعدّان من أُصول المذهب، دون أُصول الدين، لاَنّ الثاني عبارة عن الاَُصول التي يشترك فيها جميع المسلمين بخلاف أُصول المذهب، فانّها من خصوصيات مذهب دون مذهب آخر، وقد تقدّم انّ التوحيد والمعاد والنبوة العامة والخاصة ممّا اتفقت عليه عامة المسلمين دون العدل والاِمامة، فالاَوّل قالت به المعتزلة و الشيعة، والثاني انفردت به الشيعةوبالاَخص الاِمامية منهم، وقد فرغنا عن بيان العدل ودلائله و شبهاته و حلولها، فحان البحث في الاَصل الثاني وهو الاِمامة والخلافة.

وليُعلم انّ أصل الاِمامة ممّا اتّفقت عليه كلمة المسلمين إلاّ بعض الفرق الشاذة، فالجميع على لزوم وجود إمام يقود الاَُمة إلى الصلاح والفلاح، ويقوم بإدارة البلاد على أفضل وجه، ويُطبّق الشريعة على صعيد الحياة إلى غير ذلك ممّا كان النبي – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- يقوم به. وهذا ممّا لا خلاف فيه بين المسلمين.

إنّما الكلام في أنّ تعيين النبي – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- ونصبه لهذا المنصب، هل هو بيد اللّه سبحانه وبذلك يُعَدُّ منصب الاِمامة كالنبوة، منصباً إلهياًً؟ أو بيد الاَُمَّة أو بعضهم فتصير الاِمامة منصباً اجتماعياً كسائر المناصب الاجتماعية أو السياسية التي يقوم
——————————————————————————–

( 80 )
به آحاد الاَُمَّة أو طبقة منهم؟

فالاِمامية عن بكرة أبيهم على القول الاَوّل، حيث يرون انّ نصب الاِمام بيد اللّه تبارك وتعالى ويسوقون على ذلك دلائل عقلية وتاريخية، كما أنّأهل السنة على القول الثاني، وبذلك تجاذب تيّاران مختلفان الاَُمَّة الاِسلامية .

بما انّأهل السنة يرون الاِمامة منصباً اجتماعياً أو سياسياً، قالوا بأنّ الاِمامة من فروع الدين لا من أُصوله، وهي من أغصان الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر،وذلك لاَنّ تحقيق ذلك الاَصل في المجتمع، أي إشاعة المعروف و تحجيم دور المنكر يتوقف على وجود إمام عادل مبسوط اليد يتمتع بنفوذ على نطاق واسع، ولذلك يجب على الاَُمّة نصب إمام بغية تحقّق الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر،وإليك سرد كلماتهم في هذا المجال:

1. يقول الاِيجي (المتوفّى عام 757هـ) في كتاب «المواقف» :وهي عندنا من الفروع، وإنّما ذكرناها في علم الكلام تأسّياً بمن قبلنا.(1)

2. يقول سعد الدين التفتازاني (المتوفّى عام 791هـ): لا نزاع في أنّمباحث الاِمامة بعلم الفروع أليق لرجوعها إلى أنّالقيام بالاِمامة ونصب الاِمام الموصوف بالصفات المخصوصة من فروض الكفايات، ولا خفاء انّ ذلك من الاَحكام العملية دون الاعتقادية.(2)

وعلى هذا فالاِمامة أمر لا يناط به الاِيمان والكفر، بل موقفه كسائر الاَحكام الشرعية الفرعية التي لا يكفر المنكر إلاّإذا استلزم إنكارهُ إنكارَ الرسالة والنبوة لنبينا – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- . فلا فرق بين مسألة الاِمامة، ومسألة المسح على الخفين حيث أصبحت
____________

(1)المواقف:395.

(2)شرح المقاصد:2|271.
——————————————————————————–

( 81 )
مسألة خلافية بين أهل السنّة.

ولكن ـ يا للاَسف ـ انّهم ربما يتعاملون مع الاِمامة والخلافة بعد النبي – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- بغير هذا النحو، فربما و يُكفرون أو يفسقون من لم يعترف بإمامة الخلفاء عن اجتهاد. ولذلك نرى أنّ إمام الحنابلة (المتوفّى عام 241هـ) يذكر خلافة الخلفاء الاَربعة في عداد المسائل العقائدية(1)، و تبعه أبو جعفر الطحاوي (المتوفّى عام 321هـ) في «العقيدة الطحاوية»(2)

، و قد تبعهما أكثر من جاء بعدهم كالاَشعري (المتوفّى عام 324هـ) في كتاب «الاِبانة»(3) وعبد القاهر البغدادي (المتوفّى عام 924هـ) في «الفرق بين الفرق»(4) ، كلّ ذلك تبعاً لاِمام الاَشاعرة أو الشيخ الطحاوي الذي أصبح الاَخير إماماً للعقيدة في الديار المصرية.

والحقّ هو ما صرّح به عضد الدين الاِيجي والتفتازاني من أنّ الاِمامة من فروع الدين لا من أُصوله، و انّ النصب لتحقيق غاية الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر و لا صلة له بأُصول الدين، وقد كان النبي – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- يقبَل إسلام من أسلم واعترف بالشهادتين من دون أن يسأله عن واقع الاِمامة، وانّه هل هو منصب إلهي أو اجتماعي، ومن دون أن يعلمه بلزوم اجتماع الاَُمّة بعد رحيله على نصب إمام لهم، و لم يكن أي أثر من تلك المباحث في عصر النبي – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- فلذلك لم يتلق أهل السنّة الاِمامة والخلافة بعد النبي – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- أمراً أصيلاً من صميم الدين.

نعم أوّل من أدخل خلافة الشيخين في أُصول الدين هو داهية العرب عمرو
____________

(1)كتاب السنَّة:49.

(2)شرح العقيدة الطحاوية:471.

(3)الابانة في أُصول الديانة: 190، الباب 16.

(4)الفرق بين الفرق: 350.
——————————————————————————–

( 82 )
ابن العاص عند اجتماعه مع أبي موسى الاَشعري في دومة الجندل للتشاور في مسألة التحكيم المعروفة، ولم يكن هدفه من عدّخلافة الخليفتين من أُصول الاِسلام إلاّالاِطاحة بالاِمام علي بن أبي طالب – عليه السّلام- .

حيث تقدم عمرو بن العاص بالكلام، وقال للكاتب: اكتب، فكتب الشهادة بالتوحيد والرسالة، ثمّ قال للكاتب: ونشهد انّ أبا بكر خليفة رسول اللّه، عمل بكتاب اللّه وسنّة رسول اللّه حتى قبضه اللّه إليه،وقد أدّى الحق الذي عليه…(1)

فخرجنا بالنتيجة التالية: انّ منصب الاِمامة عندهم منصب اجتماعي يُشبه منصبَ رئاسة الجمهورية في الوقت الحاضر، أو منصب رئاسة الوزراء في الحكومات الملكية أو ما يشبه ذلك،ولذلك لا يشترط فيه سوى الكفاءة لاِدارة البلاد. ولا ينعزل بالفسق و الظلم ولا بأكبر من ذلك، و ما هذا إلاّ لاَنّه منصب اجتماعي، وما أكثر الظلم والفسق في أوساط الاَمراء و روَساء الجمهور، وإن كنت في شكّ من ذلك فاقرأ ما كتبه عظيم الاَشاعرة أبوبكر الباقلاني وغيره.

قال الباقلاني(المتوفّى عام 403هـ): لا ينخلع الاِمام بفسقه وظلمه بغصب الاَموال، وضرب الاَبشار، وتناول النفوس المحرمة،وتضييع الحقوق، وتعطيل الحدود، ولا يجب الخروج عليه بل يجب وعظه وتخويفه وترك طاعته في شيء ممّا يدعو إليه من معاصي اللّه.(2)

وليس الباقلاني نسيج وحده في تلك الفكرة، بل هي فكرة سادت عبر القرون، تراها في كلمات الآخرين،يقول التفتازاني:
____________

(1)مروج الذهب:2|397.

(2)التمهيد:181.
——————————————————————————–

( 83 )
ولا ينعزل الاِمام بالفسق أو بالخروج عن طاعة اللّه تعالى والجور، لاَنّه قد ظهر الفسق وانتشر الجور من الاَئمّة و الاَُمراء بعد الخلفاء الراشدين،والسلف كانوا ينقادون لهم ويقيمون الجُمَع والاَعياد بإذنهم، ولا يرون الخروج عليهم،ونقل عن كتب الشافعية انّالقاضي ينعزل بالفسق، بخلاف الاِمام، والفرق انّ في انعزاله ووجوب نصب غيره، إثارة الفتن لما له من الشوكة بخلاف القاضي.(1)

هذا كلّه عند أئمّة السنة،وأمّا الشيعة فماهيَّة الاِمامة عندهم،عبارة عن الرئاسة العامة في أُمور الدين والدنيا نيابة عن النبي – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- .

و بعبارة أُخرى: الاِمامة هي استمرار وظائف النبوة (لا نفسالنبوة لانقطاعها برحيلالنبي – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- )، فيقوم الاِمام بنفس ما كان النبي – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- يقوم به، فالنبوة ونزول الوحي منقطعة لكن الوظائف الملقاة على عاتق النبي – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- كلّها على عاتق الاِمام، فهو يقوم وراء إدارة البلاد و عمرانها و توزيع الاَرزاق وتأمين السبل والطرق والجهاد في سبيل اللّه لاِشاعة الاِسلام وكسر الموانع و العوائق.

فهو يقوم مع هذه الوظائف بوظائف أُخرى ، تطلب لنفسها صلاحيات إلهية وتربية سماوية، وتلك الوظائف عبارة عن:

1. بيان الاَحكام الاِسلامية من كليات وجزئيات.

2. تفسير الكتاب العزيز وشرح مقاصده، وبيان أهدافه، وكشف رموزه وأسراره.

3. تربية المسلمين، وتهذيبهم وتزكيتهم وتخليص نفوسهم من شوائب الشرك والكفر والجاهلية.
____________

(1)شرح العقائد النسفية:185ـ 186، ط اسلامبول.
——————————————————————————–

( 84 )
4. الردّ على الشبهات والتشكيكات التي كان يُلقيها أعداء الاِسلام ويوجهونها ضد الدعوة الاِسلامية.

5. الحفاظ على الرسالة الاِلهية من أية محاولة تحريفية، ومن أي دسٍّ في التعاليم المقدسة.

فقد كان النبي – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- يقوم بهذه الاَُمور معتمداً على الوحي، فيجب أن يقوم من ناب بها عنه بتعليمٍ غيبيّ حتى لا يطرأ خلل في الحياة الدينيّة.

و عندئذٍ يطرح هذا السوَال نفسه، وهو إذا كان النبي – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- قائماً بهذه الوظائف العلمية والفكرية معتمداً على الوحي، فكيف يقوم غيره مقامه مع انقطاع الوحي والسفارة من اللّه سبحانه. و الاِجابة عن هذا واضحة، فانّ الفيض الاِلهي لم يزل يمدُّ عباده الصالحين وإن لم يكونوا رسلاً وأنبياء، وهذا هو الذي يعبر عنه بالمحدَّث، فيلهم إليه وإن لم يكن نبياً من عند اللّه، و هذا هو مصاحب موسى يعرفه سبحانه بقوله: (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدنا وَعَلّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً).(1)

فعلى ذلك فالاِشراقات الاِلهية على قلوب الصالحين لا تلازم النبوة والرسالة، بل يكفي أن يكون إنساناً مثالياً، وهذا هو جليس سليمان يصفه سبحانه بقوله: (قالَ الّذي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ أَنَا آتيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرفُكَ فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقرّاً عِنْدَهُ قالَهذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي).(2)

وهذا الجليس لم يكن نبيّاً، ولكن كان عنده علم من الكتاب، وهو لم يحصِّله
____________

(1)الكهف: 65.

(2)النمل: 40.
——————————————————————————–

( 85 )
من الطرق العادية بل كان علماً إلهياً أُفيض إليه، لصفاء قلبه و روحه و لاَجل ذلك يَنسب علمه إلى فضل ربه، ويقول: (هذا مِنْ فَضْلِ رَبّي) .

كما تضافرت الروايات على أنّ في الاَُمّة الاِسلامية ـ كالاَُمم الغابرة ـ رجالاً مخلصين محدَّثين تفاض عليهم حقائق من عالم الغيب من دون أن يكونوا أنبياء، وإن كنت في شكّ من ذلك فارجع إلى ما رواه أهل السنّة في هذا الموضوع:

أخرج البخاري في صحيحه: «لقد كان في من كان قبلكم من بني إسرائيل يُكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء ، فإن يكن من أُمّتي منهم أحد فعمر» (1).

قال القسطلاني: ليس قوله: «فان يكن» للترديد بل للتأكيد، كقولك: إن يكن لي صديق ففلان، إذ المراد اختصاصه بكمال الصداقة لا نفي الاَصدقاء.

وإذا ثبت أنّ هذا وجد في غير هذه الاَُمّة المفضولة، فوجوده في هذه الاَُمّة الفاضلة أحرى (2) .

وأخرج البخاري في صحيحه أيضاً بعد حديث الغار: عن أبي هريرة مرفوعاً: أنّه قد كان فيما مضى قبلكم من الاَُمم محدَّثون، إن كان في أُمّتي هذه منهم، فإنّه عمربن الخطاب (3).

قال القسطلاني في شرحه: قال الموَلف: يجري على ألسنتهم الصواب من غير نبوّة (4).

وقال الخطابي: يُلقى الشيء في روعه، فكأنّه قد حُدِّث به يظن فيصيب،
____________

(1)صحيح البخاري: 2|149.

(2) إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري: 6| 99.

(3)صحيح البخاري: 2|171.

(4) إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري: 5|431.
——————————————————————————–

( 86 )
ويخطر الشيء بباله فيكون، وهي منزلة رفيعة من منازل الاَولياء.

وأخرج مسلم في صحيحه في باب فضائل عمر عن عائشة عن النبي – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- : «قد كان في الاَُمم قبلكم محدَّثون، فإن يكن في أُمّتي منهم أحد فإنّ عمر بن الخطاب منهم».

ورواه ابن الجوزي في صفة الصفوة، وقال: حديث متّفق عليه.(1)

وأخرجه أبو جعفر الطحاوي في «مشكل الآثار» بطرق شتى عن عائشة وأبي هريرة، وأخرج قراءة ابن عباس: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدّث. قال: معنى قوله محدَّثون أي ملهمون، فكان عمر ـ رضى اللّه عنه ـ ينطق بما كان ينطق مُلهماً.(2)

قال النووي في شرح صحيح مسلم: اختلف تفسير العلماء للمراد بـ«محدّثون»، فقال ابن وهب: ملهمون، وقيل: مصيبون، إذا ظنّوا فكأنّهم حُدِّثوا بشيء فظنّوه. وقيل: تكلّمهم الملائكة، وجاء في رواية: مكلّمون.

وقال البخاري: يجري الصواب على ألسنتهم، و فيه إثبات كرامات الاَولياء.

وقال الحافظ محبّ الدين الطبري في «الرياض» : ومعنى «محدّثون ـ واللّه أعلم ـ أي و يلهمون الصواب، ويجوز أن يحمل على ظاهره، وتحدّثهم الملائكة لا بوحي، وإنّما بما يطلق عليه اسم حديث، وتلك فضيلة عظيمة». (3)

قال القرطبي: محدَّثون ـ بفتح الدال ـ اسم مفعول جمع محدَّث ـ بالفتح ـ أي
____________

(1)صفة الصفوة: 1|104.

(2)مشكل الآثار: 2|257.

(3)الرياض: 1|199.
——————————————————————————–

( 87 )
ملهم أو صادق الظن، وهو من أُلقي في نفسه شيء على وجه الاِلهام والمكاشفة من الملاَ الاَعلى، أو من يجري الصواب على لسانه بلا قصد، أو تكلّمه الملائكة بلا نبوّة، أو مَن إذا رأى رأياً أو ظنّ ظنّاً أجاب كأنّه حُدِِّّث به وأُلقي في روعه من عالم الملكوت فيظهر على نحو ما وقع له، وهذه كرامة يُكرم اللّه بها من شاء من عباده، وهذه منزلة جليلة من منازل الاَولياء.

فإن يكن من أُمّتي منهم أحد فإنّه عمر، كأنّه جعله في انقطاع قرينة في ذلك كأنّه نبيّ، فلذلك أتى بلفظ «إن» بصورة الترديد. قال القاضي: ونظير هذا التعليق في الدلالة على التأكيد والاختصاص، قولك: إن كان لي صديق فهو زيد، فإنّ قائله لا يريد به الشكّ في صداقته بل المبالغة في أنّ الصداقة مختصّة به لا تتخطّاه إلى غيره .(1)

فإذا كان في الاَُمم السالفة رجال بهذا القدر والشأن ، فلِماذا لا يكون في الاَُمّة الاِسلامية رجال شملتهم العناية الاِلهية فأحاطوا بالكتاب والسنّة إحاطة كاملة يرفعون حاجات الاَُمّة في مجال العقيدة والتشريع.

فمن زعم أنّ مثل هذه الاِفاضة تساوق النبوّة والرسالة، فقد خلط الاَعم بالاَخصّ، إذ النبوّة منصب إلهيّ يقع طرفاً للوحي يسمع كلام اللّه تعالى ويرى رسول الوحي، ويكون إمّا صاحب شريعة مستقلّة أو مروّجاً لشريعة من قبله.

وأمّا الاِمام: وهو الخازن لعلوم النبوّة في كل ما تحتاج إليه الاَُمّة من دون أن يكون طرفاً للوحي أو سامعاً كلامه سبحانه أو رائياً للملك الحامل له. ولاِحاطته بعلوم النبوّة طرق أشرنا إليها.
____________

(1)للوقوف على سائر الكلمات حول المحدَّث، لاحظ كتاب الغدير: 5|42 ـ 49.
——————————————————————————–

( 88 )
ومن التصوّر الخاطىَ: الحكم بأنّ كل من أُلهم من اللّه سبحانه أو كلّمه الملك فهو نبيّ ورسول، مع أنّ الذكر الحكيم يعرّف أُناساً، أُلهموا أو رأوا الملك ولم يكونوا بالنسبة إلى النبوّة في حلّ ولا مرتحل.

هذه أُمّ موسى يقول سبحانه في حقّها : (وَأَوْحَيْنَا إلى أُمِّ مُوسى أنْ أرْضِعيهِ فإِذا خِفْتِ عَلَيهِ فَأَلْقِيهِ في اليَمِّ ولا تَخافِـي ولا تَحْزَني إنَّا رادُّوهُ إليكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ) .(1)

أفصارت أُمّ موسى بهذا الاِلهام نبيّة من الاَنبياء؟

وهذه مريم البتول، تكلّمها الملائكة من دون أن تكون نبيّة، قال سبحانه: (وإذْ قالَتِ الملائِكَةُ يا مَريمُ إنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ وطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ العالَمِينَ* يا مَرْيمُ اقْنُتِـي لِرَبِّكِ… ) .(2)

بلغت مريم العذراء مكاناً شاهدت رسول ربّها المتمثَّل لها بصورة البشر، قال سبحانه: (فَأََرْسَلْنَا إلَيْهَا رُوحَنا فَتَمثَّلَ لَهَا بَشَـراً سَوِيّاً * قَالتْ إنّي أعُوذُ بالرَّحمنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِيّاً * قَالَ إنَّما أنا رَسُولُ رَبِّكِ لاَِهَبَ لَكِ غُلامَاً زَكِيّاً * قَالتْ أنّى يكُونُ لي غُلامٌ وَ لَمْ يَمْسَسنِي بَشرٌ و لَمْ أَكُ بَغِيّاً * قَالَ كذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَليَّ هَيـِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنّاسِ وَرحْمَةً مِنّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيّاً).(3)

نرى أنّ مريم البتول رأت الملك وسمعت كلامه ولم تُصبح نبيّة ولا رسولة.

فمن تدبّر في الكتاب والسنّة يقف على أبدال شملتهم العناية الاِلهية و وقفوا على أسرار الشريعة ومكامن الدين بفضل من اللّه سبحانه من دون أن يصيروا أنبياء.

ثمّ إن بيان نظامالحكم فيالاِسلام يأتي ضمن فصول:
____________

(1)القصص: 7.

(2)آل عمران: 42ـ 43.

(3)مريم: 17ـ21.

شاهد أيضاً

مفاهيم القرآن الكريم

الفصل السادس العدل الاِلهي والمصائب والبلايا المصائب والبلايا في حياة الاِنسان من المسائل الشائكة التي ...