الرئيسية / تقاريـــر / ممارسة خاطئة أم ثقافة مشوّهة – الشيخ حسين الخشن

ممارسة خاطئة أم ثقافة مشوّهة – الشيخ حسين الخشن

قتل دجاجة هو أمر عظيم عند الله
فلو عدنا إلى الماضي لرأينا أنّ أول حركة تكفيرية وهي حركة الخوارج، قد اشتُهرت بالقسوة والجرأة على انتهاك الحرمات وكفّرت المؤمنين واستحلّت دماءهم وعاثت في الأرض فساداً، قبل أن ينهض الإمام عليّ (ع) ليضع حدّاً لتمرّدهم وإخلالهم بالأمن الاجتماعي والنظام العام، وإنّ الحادثة التي ينقلها لنا الطبري وغيره من المؤرّخين عن قَتْلهم عبد الله نجل الصحابي خباب بن الأرت وبَقْر بطن زوجته وهي حامل مُقْرِب، خير شاهد على مدى الوحشية التي بلغوها، وقد نقلنا هذه الحادثة في بداية الكتاب.

إنّ اعتراض هذه الجماعة على قتل صاحبهم خنزير رجلٍ “ذمّي” واعتبارهم أنّ ذلك يشكّل فساداً في الأرض! وفي المقابل جرأتهم على قتل رجل مسلم وبقر بطن زوجته دون أن يرمش لهم جفن، إنّ هذا إن دلّ على شيء، فإنّه يدلّ على حالة من التخبُّط والضياع لديهم وافتقارهم إلى الميزان الديني والأخلاقي الذي يمنح الإنسان توازن الشخصيّة، وهذا ما جعلهم يعظِّمون الصغائر ويستهينون بالعظائم.

وقد وعظهم أمير المؤمنين (ع) وحذّرهم عاقبة أعمالهم قائلاً: “فبيّنوا لنا بماذا تستحلّون قتالنا والخروج من جماعتنا أن اختار الناس رجلين، أن تضعوا أسيافكم على عواتقكم ثم تستعرضوا الناس تضربون رقابهم وتسفكون دماءهم، إنّ هذا لهو الخسران المبين، والله لو قتلتم على هذا دجاجة لعظم عند الله قتلها، فكيف بالنفس التي حرّم الله”[1].

وأمّا في عصرنا الحاضر فقد رأينا الحركات التكفيرية تمارس العنف بأشكالٍ مختلفة في العديد من بلدان العالم الإسلامي من الجزائر إلى أفغانستان والعراق وسوريا وسواها من الدول التي سُفكت ولا تزال تُسفك فيها الدماء بدمٍ بارد، وهذا ما ساهم في تقديم صورة قاتمة سوداوية عن الإسلام والمسلمين.
من الجهاد إلى اللصوصية

ومن النقاط المشتركة التي تتلاقى عليها الجماعات التكفيرية في الماضي والحاضر، أنّها إذا ما ضُيّق عليها الخناق وحوصرت تكون عاقبتها أن يتحوّل أفرادها إلى لصوص وقطّاع طرق، وبذلك ينتقلون من موقع الجهاد إلى موقع اللصوصية، وقد تنبّأ بهذا المصير أمير المؤمنين (ع) بشأن الخوارج، فإنّه بعد أن حاربهم وقضى عليهم، قيل له: يا أمير المؤمنين هلك القوم بأجمعهم؟ فقال (ع): “كلا، والله إنّهم نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء، وكلما نجم منهم قرن قُطع حتى يكون آخرهم لصوصاً سلابين”[2].

وهكذا يلاحظ أنّ الجماعات المذكورة تختلط عليها الأمور وتضيع الأولويات فيأخذون البريء بجريرة المذنب ولا يفرّقون بين مدني مسالم أو مقاتل، وبين صغير أو كبير، وبين عدوٍّ أو صديق، وهذه صفة تلاقى عليها مكفِّرة الماضي والحاضر، أمّا مكفِّرة الماضي فكانوا كما وصفهم الإمام عليّ (ع): “سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء والسقم وتخلطون مَن أذنَب بمَن لم يُذنِب”[3] وأما مكفِّرة زماننا فهم كذلك بل أشدّ سوءاً، كما يُنبِئ شعارهم القائل: “إن قتلنا مجرماً عجّلنا به إلى النار، وإن قتلنا بريئاً عجّلنا به إلى الجنّة”!!
العنف ممارسة خاطئة أم منهجٌ خاطىء

ولو فتّشنا عن السبب في جنوح هذه الحركات إلى العنف واعتمادها نهجاً وطريقاً في مواجهة الآخر ممّن لا تتّفق معهم في الرأي مسلماً كان أو كتابياً أو مشركاً، لما وجدنا مبرّراً لذلك سوى سوء فهم أتباع هذه الحركات للدين وجهلهم بأهدافه ومقاصده وتطلّعاته، وتمسّكهم بنصوصه بشكلٍ مجتزئ وانتقائي وعدم إحاطتهم به من جميع جوانبه.

وساهم في ذلك عوامل أخرى منها: هوى النفس وحبّ الدنيا والأطماع والعُقَد النفسية الخاصة، وعزّز ذلك أساليب القمع والوحشية التي لجأت إليها بعض السلطات الجائرة في مواجهتهم ومحاولة استئصالهم، وهو ما زادهم شراسة وعنفاً وقسوة، وفي هذا الجوّ نشأت وترعرعت الأفكار التكفيرية وتشكّل ما بات يُعرف “بثقافة العنف”، لأنّ المشكلة لا تكمن في مجرّد ممارسات عنيفة وقاسية تُرتكب هنا أو هناك، بل في ثقافة مشوّهة وتعبئة خاطئة تنتج التطرّف وتنتهج العنف وسفك الدماء وتصنع أفراداً وجماعات أشدّاءَ غلاظاً قساةً على المؤمنين والكافرين على السواء.

وعلى ضوء ذلك غدا علاج المشكلة معقّداً وبمكان من الصعوبة، فهو لا يتمّ بواسطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو تنبيه هنا أو توجيه هناك، لأنّ هؤلاء لا يرون أنفسهم فاعلين لمنكرٍ أو تاركين لمعروف، بل يعتقدون أنّهم يقومون بواجبهم الديني والرسالي، وإنّما العلاج باعتماد عملية توعية وتثقيف شاملة تعمل على غرس ثقافة الرفق في النفوس وتعميمها في كلّ الأوساط وتربية الجيل الصاعد عليها، إنّ علينا أن نعمل على مواجهة العنف من خلال تفكيك وتفنيد البنى التحتية التي يرتكز عليها، وهي الثقافة التي تنتج العنف وتضفي عليه بعض التبريرات الدينية الموهومة.

وهذا المنهج إذا عمل العلماء والمفكّرون على التنظير له وتأصيله، ومن ثَمَّ إشاعته في مختلف الأوساط وتربية الأُمة عليه، فإنّه كفيل بالتخفيف من وطأة التكفيريين ونزع سلاح الشرعية من أيديهم، بخلاف ما لو كان الأسلوب المتّبع معهم هو أسلوب القمع والشدّة فقط، فإنّ ذلك لن يزيدهم إلاّ شراسة وعدوانية وربّما أوجب تعاطف الكثيرين معهم لما يرون من مظلوميّتهم، ولهذا وجدنا أنّ أمير المؤمنين (ع) تريّث كثيراً قبل أن يفكّر في مواجهة مكفّرة زمانه، أعني الخوارج، بل ناظَرهم وحاورهم وأرسل إليهم عبد الله بن عباس لمحاججتهم وتفنيد ادّعاءاتهم، وأرشده إلى الأسلوب الأنجح في إبطال حججهم قائلاً: “لا تخاصمهم بالقرآن فإنّ القرآن حمّالٌ ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسُّنّة، فإنّهم لن يجدوا عنها محيصاً”[4] إنّ في ذلك درساً لنا بأن نفكّر في أسلوب الحوار مع الآخر قبل أن نفكّر في الحوار نفسه.
الإسلام والرفق

وبناءً على ما تقدّم يكون من الضروري أن نطلّ على نظرة الإسلام لمفهومَي العنف والرفق لنحدّد موقعهما في الحياة وفق الرؤية الإسلامية، وغير خفيّ أنّ الرفق قيمة كبرى يريدنا الإسلام أن نحملها في قلوبنا ونجسّدها على أرض الواقع، ففي الحديث عن رسول الله (ص): “إنّ الله رفيق يحبّ الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف”[5] وعنه (ص) أيضاً: “الرفق لم يُوضَع على شيء إلاّ زانَه ولم يُنْزَع من شيء إلاّ شانَه” وفي حديث الإمام الباقر (ع): “إنّ لكلّ شيء قفلاً وقفل الإيمان الرفق”[6].

ولن يستطيع الإنسان بلوغ غاياته بدون انتهاج سبيل الرفق، يقول عليّ (ع): “الرفق مفتاح النجاح”[7]، ويقول الصادق (ع): “من كان رفيقاً في أمره نال ما يريد من الناس”[8]، وهل انتشر الإسلام إلاّ بثقافة الرفق ولغة المحبة؟ وهل تربّع رسول الله (ص) على عرش القلوب لو لم يكن رحمة شاملة ومهداة للناس جميعاً؟!

وقد غدا الحديث عن رحابة الإسلام وأنّه دين المحبة والرفق حديثاً استهلاكياً، وآن الأوان أن نخرج من لغة التعميمات وطوباوية الكلمات وضبابيتها وندخل في التفاصيل والجزئيات وننزل إلى أرض الواقع وننشر ثقافة الرحمة ونبرهن على أنّ الرفق ليس مجرّد قيمة متسامية وشعار عريض نزيّن به ساحاتنا ونردّده في البروج العاجية، بل إنّه سلوك ومنهج حياة ينبغي أن يحكم كلّ مرافق الحياة ومختلف الدوائر الإنسانية العامة والخاصة، وأنّه من جهة أخرى محميّ بتشريعات وقوانين تكفل تطبيقه وتمنع تجاوزه، آن الأوان لكي ننقذ الرحمة نفسها من نصال العنف وأنيابه المتوحّشة، لأنّ الضحية الكبرى لمنطق العنف هو غياب قيمة الرحمة نفسها وتلاشيها.
الرفق منهج حياة

أمّا الجانب الأول: وهو أنّ الرفق ليس مجرّد شعارات عامّة نُطلِقُها بل هو سلوك يفترض أن يحكم كلّ الدوائر الإنسانية، فهذا ما تسعفنا النصوص والتعاليم الإسلامية لإثباته بشكلٍ واضح، حيث نجدها تؤكّد: أنّ العلاقات الإنسانية برمّتها لا بدّ أن تتحرك على أساس الرفق لا العنف، فالعلاقة بين الرجل وزوجته عمادها المحبّة والرحمة، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً…} [الروم: 21]، وكذلك العلاقة بين الولد ووالديه قال عزّ وجل: {.. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ..} [الإسراء: 24].

ولو خرجنا من دائرة الأسرة إلى دائرة الأرحام والجيران والإخوان، سنجد الدعوة واضحة إلى أن يكون الرفق منهاج حياتنا، فعن رسول الله (ص): “الراحمون يرحمهم الرحمان، إرحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء”[9]، وقد وصف الله تعالى عباده المؤمنين بأنّهم: {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].

والحاكم المسؤول لا بدّ أن ينتهج أسلوب الرفق في تعامله مع الأُمة، قال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران: 159] ، وعن الإمام عليّ (ع) في عهده لمالك الأشتر: “وأَشْعِرْ قلبك الرحمة للرعية والمحبّة لهم واللطف بهم ولا تكونَنَّ عليهم سَبُعاً ضارياً تغتنم أُكُلَهم فإنّهم صنفان، إمّا أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق”[10].

ولا بدّ أن تمتدّ حبال المودّة وسياسة الرفق إلى الآخر الذي يختلف معنا في الدين، كما أكّد عليه الإمام (ع) في كلامه الآنف، لأنّه إنْ لم يكن أخاً لك في الدين فإنّه أخٌ لك في الإنسانية، قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].

وهكذا يريد لنا الله تعالى أن نرفق ونرحم حتى الحيوان، فعن رسول الله (ص): “ينادي منادٍ في النار: يا حنّان يا منّان نجِّني من النار فيأمر الله ملكاً فيخرجه حتى يقف بين يديه، فيقول الله عزّ وجلّ: هل رحمت عصفوراً؟”[11].
حماية المجتمع

وأما الجانب الثاني: وهو الآليات القانونية الكفيلة بحماية المجتمع من النتائج السلبية لنزعة العنف والعدوانية التي قد لا تستطيع كلّ أساليب التربية أن تروّضها، فيمكننا القول إزاءه: إنّ التشريع الإسلامي وَضَعَ مجموعة من الضوابط القانونية الكفيلة بتحقيق الهدف المذكور والحدّ من كلِّ أشكال العنف والعدوان على الآخر ابتداءً من العنف الزوجي الذي غالباً ما تكون النساء ضحاياه، أو العنف الأسري الذي يكون الأطفال أوّل ضحاياه، أو العنف مع الجيران أو مع الناس جميعاً، والضوابط المذكورة تنتظم في النظام الجنائي الإسلامي الذي يُعطي للمعتدَى عليه حقّ الدفاع عن النفس وحقّ القِصاص أو الِديَة على قاعدة: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِي الأَلْبَابِ}[البقرة: 179]، ويعطيه أيضاً حقّ التعويض المالي على قاعدة: “مَن أتلف مال غيره فهو له ضامن” وقاعدة: “على اليد ما أخذت حتى تؤدّي”[12] وفوق ذلك كلّه مُنِحَ الحاكم سلطة منع الظلم والتعدّيات بكافة أشكالها، ولذا ورد في الحديث “الإمامة نظام الأُمة”[13].
هذا على نحو العموم، أمّا في التفاصيل فيمكننا الإشارة إلى بعض النماذج:

1- إذا اعتدى الزوج على زوجته فعلى الحاكم منعه بسلطة القانون، وإذا بقي مصرّاً على ذلك، وكانت الحياة الزوجية عسراً وحرجاً على المرأة، فيمكن للحاكم الشرعي أن يفرّق بينهما، كما يرى جَمْعٌ من الفقهاء[14].

2- ولو أنّ الأب ضرب ابنه فأثّر الضرب فيه اسوداداً أو احمراراً عُوقِب من قبل الحاكم الشرعي وأُلزم بدفع الديّة كما هو مقرّر في محلّه، وإذا كان الضرب سلوكاً مستمرّاً له فعلى الحاكم أن يعزله عن الولاية وينتزع الولد منه، لأنّ الولاية تعني سدّ نقص المولى عليه وتكميله، وهي تقتضي القيام بشؤونه وتربيته ورعايته لا ضربه والاعتداء عليه، باستثناء الضرب الخفيف الذي قد تقتضيه ضرورة التربية أحياناً ويتحرّك في الإطار التربوي لا ما ينطلق بداعي الانتقام أو شفاء الغيظ[15].

3- ويمنع الإسلام كذلك من الإضرار بالآخرين وأذيّتهم ولو اقتضى الأمر أن يحدّ من سلطة الإنسان ويقيّد حريّته، وقد اشتهرت قصة سمرة بن جندب الذي كان يملك نخلة في دار رجل من الأنصار وكان مصرّاً على الدخول إليها بدون استئذان ممّا يؤذي الأنصاري وعياله، فشكاه الأنصاري إلى الرسول، فاستدعاه (ص) وقدّم له بعض الحلول، ولمّا رفض كلّ الحلول والعروضات التي قدّمها له النبيّ (ص) بما في ذلك أن يأخذ عوضاً عن نخلته عشر نخلات في الجنّة بضمانة رسول الله (ص)، أمر النبي الأنصاري بقلع الشجرة ورميها في وجه سمرة، معلّلاً ذلك بقوله: “لا ضرر ولا ضرار في الإسلام”[16].

4- وهكذا لا يسمح القانون الإسلامي بالاعتداء على غير المسلم أو انتهاك حرمته أو سرقة ماله، بل إنّه يحميه ويحترم خصوصيّته ويعطيه حقّ ممارسة عباداته وغيرها من الحقوق، ولو أنّ مسلماً اعتدى عليه عُوقِب وضُمِّن، حتى لو أنّ مسلماً قتل خنزيراً لرجل ذميّ فهو ضامن كما فعل أمير المؤمنين (ع)، مع أنّ الخنزير لا مالية له في الإسلام[17].
عنف الجهاد والقانون

إنّ الرفق هو الأصل في الإسلام، لكن ذلك لا يمنع من وجود بعض الاستثناءات المنطقية، وأولى تلك الاستثناءات حالة الدِّفاع عن النفس والجهاد في سبيل التحرّر والتخلّص من نير الظلم والعدوان والاحتلال، فهنا يختلف الأمر ويتبدّل الموقف ويصبح المنطق الطبيعي هو منطق: {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ}[الفتح: 29] واللغة السائدة هي لغة: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}[التوبة: 73].

والاستثناء الآخر: هو عنف القانون بهدف تجسيد العدل وإحقاق الحقّ ومحاسبة المجرمين والمعتدين والمخلّين بالأمن الاجتماعي، فهنا لا يكون الموقف هو العفو بشكلٍ مطلق، لأنّ العفو قد يكون مضرّاً، يقول الإمام زين العابدين (ع) فيما عُرِف برسالة الحقوق: “وحق مَن ساءَك أن تعفو عنه وإن علمت أنّ العفو يضرّه انتصرت”[18]، والإسلام لا يؤمن بقاعدة: “مَنْ لطمك على خدّك الأيمن فحوّل له الأيسر”[19]، إلاّ على المستوى الشخصي والحقّ الخاص.
وأعتقد أنّ كلام السيد المسيح المذكور ناظر إلى هذه الدائرة الأخلاقية، وليس هو في مقام إلغاء القانون أو إلغاء حقّ الدفاع عن النفس، خلافاً لما فهمه الشاعر القرويّ منه، ولذا قال بلغة المعترض عليه:

إذا أردت رفع الضيم فاضرب بسيف محمد واهجر يسوعا
فيما حملاً وديعاً لم يخلّف سوانا في الورى حملاً وديعا
أَجِرْنا من عذاب النيّر لا من عذاب النار إنْ تك مستطيعا
إنّ محمداً(ص) والمسيح(ع) يدعوان إلى التسامح والعفو على المستوى الفردي باعتبار أنّ العفو سجية أخلاقية ممدوحة وحسنة، وقد قال تعالى في هذا الشأن: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[البقرة: 237]، ولكن على المستوى الاجتماعي والحقّ العام لا يجوز أن تكون القاعدة لا عند محمد (ص) ولا عند عيسى (ع) هي التسامح والعفو، لأنّ معنى ذلك نسف فكرة القانون من أصلها وسيادة شريعة الغاب وانتشار الفوضى في المجتمع، ومن هنا لمّا سئل عليّ (ع): أيّهما أفضل العدل أم الجود (العفو)؟ قال: “العدل يضع الأمور في مواضعها والجود يخرجها من جهتها، العدل سائس عام والجود عارض خاص، فالعدل أشرفهما وأفضلهما”[20]، إنّ علياً (ع) يريد أن يقول لنا: إنّ العدل هو القاعدة والقانون العام، لأنّه يضع الأمور في مواضعها، أمّا العفو فهو استثناء وحالة خاصة وربّما كان مضرّاً بالمعفوّ عنه، كما أسلفنا، ولذا قال (ع) في كلمةٍ أخرى: “إذا كان الرفق خرقاً كان الخرق رفقاً”[21]، وقد أجاد المتنبّي في التعبير عن هذا المعنى عندما قال:

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضرٌّ كوضع السيف في موضع الندى
وما ذكرناه حول استثناء عنف القانون نقوله مع عِلْمِنا وإدراكنا بأنّ الكثير من الحكّام المستبدّين والظلمة قد يسيئون استغلال القانون وينحرون الحرّيات ويصادرون الحقوق ويقمعون الشعوب باسم سلطة القانون وتحت رايته.

من كتاب [ العقل التكفيري قراءة في المنهج الإقصائي ] 10/3/2014
[1] تاريخ الطبري ج4 ص63.
[2] نهج البلاغة ج1 ص108.
[3] المصدر نفسه، ج2 ص7، وعنه بحار الأنوار ج33 ص373.
[4] نهج البلاغة ج3 ص136.
[5]مسند أحمد ج 1 ص112، وصحيح مسلم ج8 ص 22.
[6] الكافي ج2 ص118- 119 .
[7] تصنيف غرر الحِكَم ص294.
[8] الكافي ج2 ص120.
[9] سنن أبي داوود ج2 ص465، وسنن الترمذي ج3 ص317، وعوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي ج1 ص362.
[10]نهج البلاغة ج3 ص83.
[11] كنز العمال ج3 ص167.
[12] وهذا نصّ حديث شريف مرويّ عن رسول الله (ص)، انظر: السنن الكبرى للبيهقي ج3 ص411.
[13] تصنيف غرر الحكم 339.
[14] راجع أقوال الفقهاء في كتاب الفقه على المذاهب الخمسة 415.
[15] انظر للتعرف على الموقف الإسلامي من ضرب الأطفال ما ذكرناه في كتاب: “حقوق الطفل في الإسلام”.
[16] الكافي ج5 ص294، وحديث نفي الضرر مرويّ من طرق السُّنّة أيضاً، انظر: سنن ابن ماجة ج2 ص784.
[17] راجع وسائل الشيعة ج 29 ص262 الباب 26 من أبواب موجبات الضمان.
[18] أمالي الصدوق ص456.
[19] إنجيل متّى الاصحاح الخامس ص38.
[20] نهج البلاغة ج4 ص102.
[21] المصدر نفسه، ج3 ص52.ممارسة خاطئة أم ثقافة مشوّهة
————————————
قتل دجاجة هو أمر عظيم عند الله
الشيخ حسين الخشن
فلو عدنا إلى الماضي لرأينا أنّ أول حركة تكفيرية وهي حركة الخوارج، قد اشتُهرت بالقسوة والجرأة على انتهاك الحرمات وكفّرت المؤمنين واستحلّت دماءهم وعاثت في الأرض فساداً، قبل أن ينهض الإمام عليّ (ع) ليضع حدّاً لتمرّدهم وإخلالهم بالأمن الاجتماعي والنظام العام، وإنّ الحادثة التي ينقلها لنا الطبري وغيره من المؤرّخين عن قَتْلهم عبد الله نجل الصحابي خباب بن الأرت وبَقْر بطن زوجته وهي حامل مُقْرِب، خير شاهد على مدى الوحشية التي بلغوها، وقد نقلنا هذه الحادثة في بداية الكتاب.

إنّ اعتراض هذه الجماعة على قتل صاحبهم خنزير رجلٍ “ذمّي” واعتبارهم أنّ ذلك يشكّل فساداً في الأرض! وفي المقابل جرأتهم على قتل رجل مسلم وبقر بطن زوجته دون أن يرمش لهم جفن، إنّ هذا إن دلّ على شيء، فإنّه يدلّ على حالة من التخبُّط والضياع لديهم وافتقارهم إلى الميزان الديني والأخلاقي الذي يمنح الإنسان توازن الشخصيّة، وهذا ما جعلهم يعظِّمون الصغائر ويستهينون بالعظائم.

وقد وعظهم أمير المؤمنين (ع) وحذّرهم عاقبة أعمالهم قائلاً: “فبيّنوا لنا بماذا تستحلّون قتالنا والخروج من جماعتنا أن اختار الناس رجلين، أن تضعوا أسيافكم على عواتقكم ثم تستعرضوا الناس تضربون رقابهم وتسفكون دماءهم، إنّ هذا لهو الخسران المبين، والله لو قتلتم على هذا دجاجة لعظم عند الله قتلها، فكيف بالنفس التي حرّم الله”[1].

وأمّا في عصرنا الحاضر فقد رأينا الحركات التكفيرية تمارس العنف بأشكالٍ مختلفة في العديد من بلدان العالم الإسلامي من الجزائر إلى أفغانستان والعراق وسوريا وسواها من الدول التي سُفكت ولا تزال تُسفك فيها الدماء بدمٍ بارد، وهذا ما ساهم في تقديم صورة قاتمة سوداوية عن الإسلام والمسلمين.
من الجهاد إلى اللصوصية

ومن النقاط المشتركة التي تتلاقى عليها الجماعات التكفيرية في الماضي والحاضر، أنّها إذا ما ضُيّق عليها الخناق وحوصرت تكون عاقبتها أن يتحوّل أفرادها إلى لصوص وقطّاع طرق، وبذلك ينتقلون من موقع الجهاد إلى موقع اللصوصية، وقد تنبّأ بهذا المصير أمير المؤمنين (ع) بشأن الخوارج، فإنّه بعد أن حاربهم وقضى عليهم، قيل له: يا أمير المؤمنين هلك القوم بأجمعهم؟ فقال (ع): “كلا، والله إنّهم نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء، وكلما نجم منهم قرن قُطع حتى يكون آخرهم لصوصاً سلابين”[2].

وهكذا يلاحظ أنّ الجماعات المذكورة تختلط عليها الأمور وتضيع الأولويات فيأخذون البريء بجريرة المذنب ولا يفرّقون بين مدني مسالم أو مقاتل، وبين صغير أو كبير، وبين عدوٍّ أو صديق، وهذه صفة تلاقى عليها مكفِّرة الماضي والحاضر، أمّا مكفِّرة الماضي فكانوا كما وصفهم الإمام عليّ (ع): “سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء والسقم وتخلطون مَن أذنَب بمَن لم يُذنِب”[3] وأما مكفِّرة زماننا فهم كذلك بل أشدّ سوءاً، كما يُنبِئ شعارهم القائل: “إن قتلنا مجرماً عجّلنا به إلى النار، وإن قتلنا بريئاً عجّلنا به إلى الجنّة”!!
العنف ممارسة خاطئة أم منهجٌ خاطىء

ولو فتّشنا عن السبب في جنوح هذه الحركات إلى العنف واعتمادها نهجاً وطريقاً في مواجهة الآخر ممّن لا تتّفق معهم في الرأي مسلماً كان أو كتابياً أو مشركاً، لما وجدنا مبرّراً لذلك سوى سوء فهم أتباع هذه الحركات للدين وجهلهم بأهدافه ومقاصده وتطلّعاته، وتمسّكهم بنصوصه بشكلٍ مجتزئ وانتقائي وعدم إحاطتهم به من جميع جوانبه.

وساهم في ذلك عوامل أخرى منها: هوى النفس وحبّ الدنيا والأطماع والعُقَد النفسية الخاصة، وعزّز ذلك أساليب القمع والوحشية التي لجأت إليها بعض السلطات الجائرة في مواجهتهم ومحاولة استئصالهم، وهو ما زادهم شراسة وعنفاً وقسوة، وفي هذا الجوّ نشأت وترعرعت الأفكار التكفيرية وتشكّل ما بات يُعرف “بثقافة العنف”، لأنّ المشكلة لا تكمن في مجرّد ممارسات عنيفة وقاسية تُرتكب هنا أو هناك، بل في ثقافة مشوّهة وتعبئة خاطئة تنتج التطرّف وتنتهج العنف وسفك الدماء وتصنع أفراداً وجماعات أشدّاءَ غلاظاً قساةً على المؤمنين والكافرين على السواء.

وعلى ضوء ذلك غدا علاج المشكلة معقّداً وبمكان من الصعوبة، فهو لا يتمّ بواسطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو تنبيه هنا أو توجيه هناك، لأنّ هؤلاء لا يرون أنفسهم فاعلين لمنكرٍ أو تاركين لمعروف، بل يعتقدون أنّهم يقومون بواجبهم الديني والرسالي، وإنّما العلاج باعتماد عملية توعية وتثقيف شاملة تعمل على غرس ثقافة الرفق في النفوس وتعميمها في كلّ الأوساط وتربية الجيل الصاعد عليها، إنّ علينا أن نعمل على مواجهة العنف من خلال تفكيك وتفنيد البنى التحتية التي يرتكز عليها، وهي الثقافة التي تنتج العنف وتضفي عليه بعض التبريرات الدينية الموهومة.

وهذا المنهج إذا عمل العلماء والمفكّرون على التنظير له وتأصيله، ومن ثَمَّ إشاعته في مختلف الأوساط وتربية الأُمة عليه، فإنّه كفيل بالتخفيف من وطأة التكفيريين ونزع سلاح الشرعية من أيديهم، بخلاف ما لو كان الأسلوب المتّبع معهم هو أسلوب القمع والشدّة فقط، فإنّ ذلك لن يزيدهم إلاّ شراسة وعدوانية وربّما أوجب تعاطف الكثيرين معهم لما يرون من مظلوميّتهم، ولهذا وجدنا أنّ أمير المؤمنين (ع) تريّث كثيراً قبل أن يفكّر في مواجهة مكفّرة زمانه، أعني الخوارج، بل ناظَرهم وحاورهم وأرسل إليهم عبد الله بن عباس لمحاججتهم وتفنيد ادّعاءاتهم، وأرشده إلى الأسلوب الأنجح في إبطال حججهم قائلاً: “لا تخاصمهم بالقرآن فإنّ القرآن حمّالٌ ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسُّنّة، فإنّهم لن يجدوا عنها محيصاً”[4] إنّ في ذلك درساً لنا بأن نفكّر في أسلوب الحوار مع الآخر قبل أن نفكّر في الحوار نفسه.
الإسلام والرفق

وبناءً على ما تقدّم يكون من الضروري أن نطلّ على نظرة الإسلام لمفهومَي العنف والرفق لنحدّد موقعهما في الحياة وفق الرؤية الإسلامية، وغير خفيّ أنّ الرفق قيمة كبرى يريدنا الإسلام أن نحملها في قلوبنا ونجسّدها على أرض الواقع، ففي الحديث عن رسول الله (ص): “إنّ الله رفيق يحبّ الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف”[5] وعنه (ص) أيضاً: “الرفق لم يُوضَع على شيء إلاّ زانَه ولم يُنْزَع من شيء إلاّ شانَه” وفي حديث الإمام الباقر (ع): “إنّ لكلّ شيء قفلاً وقفل الإيمان الرفق”[6].

ولن يستطيع الإنسان بلوغ غاياته بدون انتهاج سبيل الرفق، يقول عليّ (ع): “الرفق مفتاح النجاح”[7]، ويقول الصادق (ع): “من كان رفيقاً في أمره نال ما يريد من الناس”[8]، وهل انتشر الإسلام إلاّ بثقافة الرفق ولغة المحبة؟ وهل تربّع رسول الله (ص) على عرش القلوب لو لم يكن رحمة شاملة ومهداة للناس جميعاً؟!

وقد غدا الحديث عن رحابة الإسلام وأنّه دين المحبة والرفق حديثاً استهلاكياً، وآن الأوان أن نخرج من لغة التعميمات وطوباوية الكلمات وضبابيتها وندخل في التفاصيل والجزئيات وننزل إلى أرض الواقع وننشر ثقافة الرحمة ونبرهن على أنّ الرفق ليس مجرّد قيمة متسامية وشعار عريض نزيّن به ساحاتنا ونردّده في البروج العاجية، بل إنّه سلوك ومنهج حياة ينبغي أن يحكم كلّ مرافق الحياة ومختلف الدوائر الإنسانية العامة والخاصة، وأنّه من جهة أخرى محميّ بتشريعات وقوانين تكفل تطبيقه وتمنع تجاوزه، آن الأوان لكي ننقذ الرحمة نفسها من نصال العنف وأنيابه المتوحّشة، لأنّ الضحية الكبرى لمنطق العنف هو غياب قيمة الرحمة نفسها وتلاشيها.
الرفق منهج حياة

أمّا الجانب الأول: وهو أنّ الرفق ليس مجرّد شعارات عامّة نُطلِقُها بل هو سلوك يفترض أن يحكم كلّ الدوائر الإنسانية، فهذا ما تسعفنا النصوص والتعاليم الإسلامية لإثباته بشكلٍ واضح، حيث نجدها تؤكّد: أنّ العلاقات الإنسانية برمّتها لا بدّ أن تتحرك على أساس الرفق لا العنف، فالعلاقة بين الرجل وزوجته عمادها المحبّة والرحمة، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً…} [الروم: 21]، وكذلك العلاقة بين الولد ووالديه قال عزّ وجل: {.. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ..} [الإسراء: 24].

ولو خرجنا من دائرة الأسرة إلى دائرة الأرحام والجيران والإخوان، سنجد الدعوة واضحة إلى أن يكون الرفق منهاج حياتنا، فعن رسول الله (ص): “الراحمون يرحمهم الرحمان، إرحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء”[9]، وقد وصف الله تعالى عباده المؤمنين بأنّهم: {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].

والحاكم المسؤول لا بدّ أن ينتهج أسلوب الرفق في تعامله مع الأُمة، قال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران: 159] ، وعن الإمام عليّ (ع) في عهده لمالك الأشتر: “وأَشْعِرْ قلبك الرحمة للرعية والمحبّة لهم واللطف بهم ولا تكونَنَّ عليهم سَبُعاً ضارياً تغتنم أُكُلَهم فإنّهم صنفان، إمّا أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق”[10].

ولا بدّ أن تمتدّ حبال المودّة وسياسة الرفق إلى الآخر الذي يختلف معنا في الدين، كما أكّد عليه الإمام (ع) في كلامه الآنف، لأنّه إنْ لم يكن أخاً لك في الدين فإنّه أخٌ لك في الإنسانية، قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].

وهكذا يريد لنا الله تعالى أن نرفق ونرحم حتى الحيوان، فعن رسول الله (ص): “ينادي منادٍ في النار: يا حنّان يا منّان نجِّني من النار فيأمر الله ملكاً فيخرجه حتى يقف بين يديه، فيقول الله عزّ وجلّ: هل رحمت عصفوراً؟”[11].
حماية المجتمع

وأما الجانب الثاني: وهو الآليات القانونية الكفيلة بحماية المجتمع من النتائج السلبية لنزعة العنف والعدوانية التي قد لا تستطيع كلّ أساليب التربية أن تروّضها، فيمكننا القول إزاءه: إنّ التشريع الإسلامي وَضَعَ مجموعة من الضوابط القانونية الكفيلة بتحقيق الهدف المذكور والحدّ من كلِّ أشكال العنف والعدوان على الآخر ابتداءً من العنف الزوجي الذي غالباً ما تكون النساء ضحاياه، أو العنف الأسري الذي يكون الأطفال أوّل ضحاياه، أو العنف مع الجيران أو مع الناس جميعاً، والضوابط المذكورة تنتظم في النظام الجنائي الإسلامي الذي يُعطي للمعتدَى عليه حقّ الدفاع عن النفس وحقّ القِصاص أو الِديَة على قاعدة: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِي الأَلْبَابِ}[البقرة: 179]، ويعطيه أيضاً حقّ التعويض المالي على قاعدة: “مَن أتلف مال غيره فهو له ضامن” وقاعدة: “على اليد ما أخذت حتى تؤدّي”[12] وفوق ذلك كلّه مُنِحَ الحاكم سلطة منع الظلم والتعدّيات بكافة أشكالها، ولذا ورد في الحديث “الإمامة نظام الأُمة”[13].
هذا على نحو العموم، أمّا في التفاصيل فيمكننا الإشارة إلى بعض النماذج:

1- إذا اعتدى الزوج على زوجته فعلى الحاكم منعه بسلطة القانون، وإذا بقي مصرّاً على ذلك، وكانت الحياة الزوجية عسراً وحرجاً على المرأة، فيمكن للحاكم الشرعي أن يفرّق بينهما، كما يرى جَمْعٌ من الفقهاء[14].

2- ولو أنّ الأب ضرب ابنه فأثّر الضرب فيه اسوداداً أو احمراراً عُوقِب من قبل الحاكم الشرعي وأُلزم بدفع الديّة كما هو مقرّر في محلّه، وإذا كان الضرب سلوكاً مستمرّاً له فعلى الحاكم أن يعزله عن الولاية وينتزع الولد منه، لأنّ الولاية تعني سدّ نقص المولى عليه وتكميله، وهي تقتضي القيام بشؤونه وتربيته ورعايته لا ضربه والاعتداء عليه، باستثناء الضرب الخفيف الذي قد تقتضيه ضرورة التربية أحياناً ويتحرّك في الإطار التربوي لا ما ينطلق بداعي الانتقام أو شفاء الغيظ[15].

3- ويمنع الإسلام كذلك من الإضرار بالآخرين وأذيّتهم ولو اقتضى الأمر أن يحدّ من سلطة الإنسان ويقيّد حريّته، وقد اشتهرت قصة سمرة بن جندب الذي كان يملك نخلة في دار رجل من الأنصار وكان مصرّاً على الدخول إليها بدون استئذان ممّا يؤذي الأنصاري وعياله، فشكاه الأنصاري إلى الرسول، فاستدعاه (ص) وقدّم له بعض الحلول، ولمّا رفض كلّ الحلول والعروضات التي قدّمها له النبيّ (ص) بما في ذلك أن يأخذ عوضاً عن نخلته عشر نخلات في الجنّة بضمانة رسول الله (ص)، أمر النبي الأنصاري بقلع الشجرة ورميها في وجه سمرة، معلّلاً ذلك بقوله: “لا ضرر ولا ضرار في الإسلام”[16].

4- وهكذا لا يسمح القانون الإسلامي بالاعتداء على غير المسلم أو انتهاك حرمته أو سرقة ماله، بل إنّه يحميه ويحترم خصوصيّته ويعطيه حقّ ممارسة عباداته وغيرها من الحقوق، ولو أنّ مسلماً اعتدى عليه عُوقِب وضُمِّن، حتى لو أنّ مسلماً قتل خنزيراً لرجل ذميّ فهو ضامن كما فعل أمير المؤمنين (ع)، مع أنّ الخنزير لا مالية له في الإسلام[17].
عنف الجهاد والقانون

إنّ الرفق هو الأصل في الإسلام، لكن ذلك لا يمنع من وجود بعض الاستثناءات المنطقية، وأولى تلك الاستثناءات حالة الدِّفاع عن النفس والجهاد في سبيل التحرّر والتخلّص من نير الظلم والعدوان والاحتلال، فهنا يختلف الأمر ويتبدّل الموقف ويصبح المنطق الطبيعي هو منطق: {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ}[الفتح: 29] واللغة السائدة هي لغة: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}[التوبة: 73].

والاستثناء الآخر: هو عنف القانون بهدف تجسيد العدل وإحقاق الحقّ ومحاسبة المجرمين والمعتدين والمخلّين بالأمن الاجتماعي، فهنا لا يكون الموقف هو العفو بشكلٍ مطلق، لأنّ العفو قد يكون مضرّاً، يقول الإمام زين العابدين (ع) فيما عُرِف برسالة الحقوق: “وحق مَن ساءَك أن تعفو عنه وإن علمت أنّ العفو يضرّه انتصرت”[18]، والإسلام لا يؤمن بقاعدة: “مَنْ لطمك على خدّك الأيمن فحوّل له الأيسر”[19]، إلاّ على المستوى الشخصي والحقّ الخاص.
وأعتقد أنّ كلام السيد المسيح المذكور ناظر إلى هذه الدائرة الأخلاقية، وليس هو في مقام إلغاء القانون أو إلغاء حقّ الدفاع عن النفس، خلافاً لما فهمه الشاعر القرويّ منه، ولذا قال بلغة المعترض عليه:

إذا أردت رفع الضيم فاضرب بسيف محمد واهجر يسوعا
فيما حملاً وديعاً لم يخلّف سوانا في الورى حملاً وديعا
أَجِرْنا من عذاب النيّر لا من عذاب النار إنْ تك مستطيعا
إنّ محمداً(ص) والمسيح(ع) يدعوان إلى التسامح والعفو على المستوى الفردي باعتبار أنّ العفو سجية أخلاقية ممدوحة وحسنة، وقد قال تعالى في هذا الشأن: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[البقرة: 237]، ولكن على المستوى الاجتماعي والحقّ العام لا يجوز أن تكون القاعدة لا عند محمد (ص) ولا عند عيسى (ع) هي التسامح والعفو، لأنّ معنى ذلك نسف فكرة القانون من أصلها وسيادة شريعة الغاب وانتشار الفوضى في المجتمع، ومن هنا لمّا سئل عليّ (ع): أيّهما أفضل العدل أم الجود (العفو)؟ قال: “العدل يضع الأمور في مواضعها والجود يخرجها من جهتها، العدل سائس عام والجود عارض خاص، فالعدل أشرفهما وأفضلهما”[20]، إنّ علياً (ع) يريد أن يقول لنا: إنّ العدل هو القاعدة والقانون العام، لأنّه يضع الأمور في مواضعها، أمّا العفو فهو استثناء وحالة خاصة وربّما كان مضرّاً بالمعفوّ عنه، كما أسلفنا، ولذا قال (ع) في كلمةٍ أخرى: “إذا كان الرفق خرقاً كان الخرق رفقاً”[21]، وقد أجاد المتنبّي في التعبير عن هذا المعنى عندما قال:

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضرٌّ كوضع السيف في موضع الندى
وما ذكرناه حول استثناء عنف القانون نقوله مع عِلْمِنا وإدراكنا بأنّ الكثير من الحكّام المستبدّين والظلمة قد يسيئون استغلال القانون وينحرون الحرّيات ويصادرون الحقوق ويقمعون الشعوب باسم سلطة القانون وتحت رايته.

من كتاب [ العقل التكفيري قراءة في المنهج الإقصائي ] 10/3/2014
[1] تاريخ الطبري ج4 ص63.
[2] نهج البلاغة ج1 ص108.
[3] المصدر نفسه، ج2 ص7، وعنه بحار الأنوار ج33 ص373.
[4] نهج البلاغة ج3 ص136.
[5]مسند أحمد ج 1 ص112، وصحيح مسلم ج8 ص 22.
[6] الكافي ج2 ص118- 119 .
[7] تصنيف غرر الحِكَم ص294.
[8] الكافي ج2 ص120.
[9] سنن أبي داوود ج2 ص465، وسنن الترمذي ج3 ص317، وعوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي ج1 ص362.
[10]نهج البلاغة ج3 ص83.
[11] كنز العمال ج3 ص167.
[12] وهذا نصّ حديث شريف مرويّ عن رسول الله (ص)، انظر: السنن الكبرى للبيهقي ج3 ص411.
[13] تصنيف غرر الحكم 339.
[14] راجع أقوال الفقهاء في كتاب الفقه على المذاهب الخمسة 415.
[15] انظر للتعرف على الموقف الإسلامي من ضرب الأطفال ما ذكرناه في كتاب: “حقوق الطفل في الإسلام”.
[16] الكافي ج5 ص294، وحديث نفي الضرر مرويّ من طرق السُّنّة أيضاً، انظر: سنن ابن ماجة ج2 ص784.
[17] راجع وسائل الشيعة ج 29 ص262 الباب 26 من أبواب موجبات الضمان.
[18] أمالي الصدوق ص456.
[19] إنجيل متّى الاصحاح الخامس ص38.
[20] نهج البلاغة ج4 ص102.
[21] المصدر نفسه، ج3 ص52.

شاهد أيضاً

دمشق تنتصر بالعالم على الارهاب.. افتتاح معرض الكتاب الدولي بمشاركة عالمية

 لن يجد الإرهاب طريقاً إلى عقول أمّة اتخذت من العلم سبيلاً لها.. هذا هو حال ...