الرئيسية / الاسلام والحياة / حقوق الإنسان في نهج البلاغة – سماحة الشيخ محمد خاتون 3

حقوق الإنسان في نهج البلاغة – سماحة الشيخ محمد خاتون 3

أعوذ بالله من الشيطان. الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمي.ن والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وهادينا وقائدنا وحبيب قلوبنا وأنيس نفوسنا وشفيع ذنوبنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه الأخيار المنتجبين.

أشكر باسمكم جميعاً الأخ العزيز الأستاذ الدكتور جورج جبور على هذه المحاضرة القيمة.

بعض التعليقات السريعة

أولاً: أرحب به باسمنا كعلميين، فنحن علميون، وإذا كانت العلمانية تعني العلمية فنحن وإياه من العلمانيين، وإذا كانت العلمانية تعني بعداً آخراً وهو ابتعاد الله عز وجل عن خلقه وعدم ربط الدنيا بالآخرة وربط الآخرة بالدنيا فلا هو ولا نحن من هؤلاء العلمانيين.

المسألة الثانية: أن الذي يمكن أن يفوز في معركةٍ من المعارك السياسية التي تحصل في قديم الزمان وحاضره قد لا يكون بالضرورة صاحب حقٍ على الإطلاق ومن هنا فإنه أختصر الكلام

________________________________________
1- عضو المجلس المركزي في حزب الله.

لأقول لقد فازت الديمقراطية في إقصاء علي بن أبي طالب عليه السلام والإتيان بغيره وهو معاوية بن أبي سفيان ليصبح فيما بعد هذا الملك الإسلامي ملكاً عضوضاً يتوارثه الناس أقول نجحت الديمقراطية في إبعاد عليّ عن هذا الموضوع ولكن هل نجحت الديمقراطية في أن تصنع للأمة مجدها وكرامتها وما شابه ذلك وبالمقابل فشل علي بازاء الديمقراطية على المستوى الظاهري فشل علي بن أبي طالب لأنه لم يختر من قبل الأكثرية التي كانت موجودة آنذاك ولكنه نجح في أن يتحول إلى ذلك المنهل الفياض الذي يستقي منه المجاهدون والثوار جهادهم وثورتهم عبر التاريخ.

والمسألة الثالثة: أن موضوع نقد النصوص هو أمرٌ وارد ولكن إنما ينقد النص بمقدار ما يبتعد عن المقدسات الأساسية وهي الله تبارك وتعالى والنبوة فإذا كان هذا الأمر له علاقة مباشرة بالله عز وجل وبأنبيائه فإن النقد عندئذٍ لا يكون مقبولاً بأي حالٍ من الأحوال فيما يتعلق بنقد بعض النصوص الواردة طبعاً إذا كان المقصود هو أن ننقد ترجمةً ما لفقرة من فقرات مالك عهد مالك الأشتر فأن ننتقد فهماً معيناً لها فهذا أمر طبيعي باعتبار أن فلاناً من الناس فهم ذلك المقطع بالكيفية الفلانية أما انتقاد نفس الأمر فهذا الأمر هو الذي عانى منه علي ابن أبي طالب لأن أمره لم يكن مطاعاً وهو الذي ختم خطبة الجهاد الغراء التي يقول في آخرها “ولكن لا رأي لمن لا يطاع”.

وأدخل إلى المطلوب مني بعد حمد الله سبحانه وتعالى والثناء عليه أود في البداية أود أن أنقل خاطرة يذكرها المرحوم الشيخ محمد جواد مغنية رضوان الله عليه حيث كان في القاهرة في تكريم لأمير البيان في هذا
العصر الأديب الأمير شكيب إرسلان حيث ارتقى أحد الحاضرين المنصة وقال فيما قال رجلان في التاريخ يستحقان أن يلقبا بلقب أمير البيان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وشكيب إرسلان. فيقوم شكيب إرسلان من مجلسه غاضباً ويذهب إلى المنصة فيعتب على صديقه الذي عمل هذه المقارنة بينه وبين الإمام عليه السلام ويقول: “أين أنا وأين علي بن أبي طالب أنا لا أعد نفسي شسع نعل لعلي عليه السلام”.

هذا الكلام بالنسبة لي يعتبر مقدمةً جيدة أنا الذي جلست مجلساً لست أهلاً له فإن أحسنت في الكلام فلأن المتكلم عنه هو في غاية العلو والعظمة، وهو لذلك أهل.

وإن أسأت وكان كلامي فيه عيبٌ فإن العيب مني وإلي وأنا لذلك أهل ولا سيما فيما يتعلق بالجانب العرفاني في نهج البلاغة، وصاحبه هو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم “يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت وما عرفني إلا الله وأنت وما عرفك إلا الله وأنا”.

وأدخل إلى الموضوع العرفاني في نهج البلاغة من خلال نقطتين:

العرفان الحقيقي

النقطة الأولى:في إعطاء العرفان تعريفاً حقيقياً، فهو معرفة الله سبحانه وتعالى والاعتقاد بأن الله عزَّ وجل هو المسبب وهو المؤثر في كل شيء في هذا الوجود ثم بعد ذلك السلوك إلى الله تعالى من خلال المعرفة، وليس العرفان صورة ظاهرية لذلك، هذه الصورة قد توحي للإنسان بإظهار الفقر والمسكنة وما شابه ذلك والتي هي محكوم عليها في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وفي
نهج البلاغة محكوم عليها أنها انحراف عن الجادة وانجراف مع السيل، فليس كل هذا داخلا في العرفان الحقيقي وإن دخل بعضه فيه فإنه يدخل من باب الوسيلة والأداة وضمن شروط معينة.

ولعل هذا هو الذي عبَّر عنه أمير المؤمنين عليه السلام عندما دخل دار العلاء بن زياد الحارثي وهو من أصحابه يعوده مريضاً فلما رأى سعة داره قال: “ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج؟”.

وهل تركه الإمام في حيرة؟ لا لم يتركه في حيرة وإنما أكمل وأجاب عنه قال: “بلى إن شئت بلغت الآخرة ماذا تفعل ؟ تقري بها الضيف وتصل فيها الرحم وتطلع منها الحقوق مطالعها فإذن أنت قد بلغت بها الآخرة”.

الإمام عليه السلام طرح التساؤل أمامه ثم فكه من هذه الحيرة وأعطاه الجواب الكافي فقال له العلاء: هذا العلاء عندما سمع هذه الكلمة تشجع فقال له يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زياد فقال وما له؟ قال لبس العباءة وتخلى عن الدنيا، قال عليَّ به.

فلما جاء ومثل بين يديه قال: “يا عدي نفسه، لقد استهام بك الخبيث أما رحمت اهلك وولدك أترى الله أحل لك الطيبات ويكره أن تأخذها، أنت أهون على الله من ذلك” قال يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك فقال: “ويحك إني لست كأنت إن الله تعالى فرض على أئمة الحق أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كي لا يتبيغ بالفقير فقره”.(يعني حتى لا يأخذ الإنسان الهم والغم لأنه يكون فقيراً).
علاقة العرفان بالاجتماع والسياسة

والنقطة الثانية: إنما جُمِعَ من كلمات لأمير المؤمنين عليه السلام وخصوصاً فيما يتعلق بالجانب العرفاني منها إنما كان في فترة حكومة الإمام عليه السلام وحاكميته الفعلية وهي مسألة جديرة بالبحث والتوقف لأن المعرفة والسلوك إلى الله تعالى لا يكون مخصوصاً بزمان أو بظرف وإنما هو حالة اتصال وارتباط بالله تعالى تزيدها المسؤولية السياسية والاجتماعية تعمقاً لأنه كلما كبر حجم المسؤولية الاجتماعية والسياسية كلما ازدادت الحاجة إلى الله تعالى، بينما يمكن أن تطلق كلمات المعرفة والعرفان على حالة خاصة (طبعاً تطلق خطأً) عندما يكون الإنسان في موضع الانعزال عن السياسة والاجتماع حتى إذا عاش السياسة بتفاصيلها كان لحياته الشخصية عند ذاك لون آخر، فإما أن يفشل في عالم السياسة والاجتماع وإما أن ينحرف في حدود لا يعلمها إلا الله تعالى.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: “ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفَّى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني شجعي إلى تخير الأطعمة ولعلي بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع أو أبيت مبطانا وحولي بطونٌ غرثى وأكباد حرة أو أكون كما قال القائل:

وحسبك داءً أن تبيت ببطنةٍ وحولك أكباد تحن إلى القدِّ

أأطمع من نفسي بأن يقال هذا أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش فما خلقت
ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها أو المرسلة شغلها تقممها تكترش من أعلافها وتلهو عما يراد بها”.

معرفة الله وأثرها في حياة الإنسان

ثم نفتح بعد ذلك تلك الخزنة الهائلة في العرفان بدءاً من معرفة الله تعالى حيث يقول عليه السلام: “أو ل الدين معرفته وكمال معرفته التصديق به وكمال التصديق به توحيده وكمال توحيده الإخلاص له وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة”.

إلى الشهادة لله تعالى بالوحدانية بكل معانيها بكل أبعادها حيث يقول: “وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأول لا شيء قبله، والآخر لا غاية له، لا تقع الأوهام على صفة ولا تعقد القلوب منه على كيفية، ولا تناله التجزءات ولا التبعيض، ولا تحيط به الأبصار ولا القلوب”.

وبعد ذلك إلى شواهد المعرفة على المبدأ والميعاد حيث يقول: “وعجبت لمن شكَّ في الله وهو يرى خلق الله، وعجبت لمن نسي الموت وهو يرى من يموت، وعجبت لمن أنكر النشأة الأخرى وهو يرى النشأة الأولى”.

ثم إلى أثر الاعتقاد بالله تعالى في حياة الإنسان في أي موقع من المواقع حيث يقول لأبي ذر وقد نفي إلى الربذة “يا أبا ذر إنك غضبت لله فأرجو من غضبت له إن القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك فاترك لهم ما خافوك عليه واهرب بما خفتهم عنه فما

أحوجهم إلى ما منعتهم وما أغناك عما منعوك وستعلم من الرابح غداً والأكثر حُسَّداً ولو أن السموات والأراضين كانتا على عبدرتقا ثم اتقى الله لجعل الله له منهما مخرجاً لا يؤنسنك إلا الحق ولا يوحشنَّك إلا الباطل فلو قبلت دنياهم لأحبوك ولو اقترضت منها لأمنوك”.

معالم العبادة

ولا بدَّ لنا ونحن نرى هذه الجواهر المتلألئة أن نحدد معالم ذلك السلوك العرفاني المتجلي في نهج البلاغة، فمرة ننظر إلى العبادة التي خلق الله تعالى الجن والإنس من أجلها ننظر إليها على أنها تجارة مع الله تعالى وهي حقاً تجارة رابحة، ومرة أخرى ننظر إليها كما نظر إليها أمير المؤمنين عليه السلام على أنها هي المعراج إلى ساحة قدس الله عز وجل وعالم انتصار الروح بقيمها على قيم البدن وعالم أسمى مراتب الشكر لله سبحانه وتعالى فيقول عليه السلام: “إن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار”.

وقال عليه السلام “لو لم يتوعد الله على معصية لكان يجب أن لا يعصى شكراً لنعمته”.

ويقول عليه السلام أيضاً في هذا المضمار “إلهي ما عبدتك حين عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك”.

ومرة ثانية ينظر إلى أولئك الذين تعلقت قلوبهم بالله عز وجل
فيصف كيف يقضون أيامهم ولياليهم مرة في حالة البؤس والفقر والصبر على ذلك، ومرة في حال مقارعة الباطل والانتصار عليه والصبر على ذلك.

ومرة ثالثة في حالة العشق إلى الله سبحانه وتعالى والصبر على ذلك أيضاً فيقول عليه السلام عندما يصف أولئك الذين يعيشون البؤس والفقر والصبر “طوبى لنفس أَدَّت إلى ربها فرضها وعركت بجنبها بؤسها وهجرت في ليلها همضها، حتى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها، وتوسدت كفها، في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم وهمهمت بذكر ربهم شفاههم، وتقشعت بطول استغفارهم ذنوبهم أولئك حزب الله إلا إن حزب الله هم المفلحون فاتق الله يا ابن حنيف ولتكفك أقراصك ليكون من النار خلاصك.

ومرة يقول عليه السلام وهو ينظر إلى أولئك الذين قارعوا الباطل واستطاعوا أن ينتصروا عليه ولم ينعزلوا عن الحياة السياسية والاجتماعية وإنما واجهوا الطاغوت في ذلك الوقت وواجهم الطاغوت وقتل الطاغوت منهم كثيراً وعذب منهم كثيراً ولكنهم في نهاية المطاف تمكنوا من الانتصار يقول عليه السلام: “وتدبروا أحوال الماضيين من المؤمنين قبلكم، كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء، ألم يكونوا أثقل الخلائق أعباء، وأجهد العباد بلاء، وأضيق أهل الدنيا حالا. اتخذتهم الفراعنة عبيداً فساموهم سوء العذاب وجرَّعوهم المُرار فلم تبرح الحال بهم في ذل الهلكة وقهر الغلبة، لا يجدون حيلة في امتناع، ولا سبيلاً إلى دفاع. حتى إذا رأى الله سبحانه وتعالى جد الصبر منهم على الأذى في محبته، والاحتمال
للمكروه من خوفه، جعل لهم من مضايق البلاء فرجاً، فأبدلهم العز مكان الذل، والأمن مكان الخوف، فصاروا ملوكا حكاما، وأئمة أعيانا، وقد بلغت الحال من كرامة الله لهم ما لم تبلغ الآمال إليه منهم.

هذا ما ينطبق علينا نحن انطباقاً كلياً عندما لم تكن أحلامنا لتطال أن نحتل موقعاً من مواقع العدو الإسرائيلي ولكنه بعد فترة من فترات الجهاد والصبر على الأذى في سبيل الله تحققت أكثر من أحلامنا بل إن الذي تحقق لم يكن لنحلم به في وقتٍ من الأوقات.

ويقول عليه السلام عندما يصف ليل أولئك وتهجدهم فيه “أما الليل فصافون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلاً يحزنون به أنفسهم ويستثيرون به دواء دائهم فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً وتطلعت نفوسهم إليها شوقاً وطنوا أنها نُصب أعينهم وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم فهم حانون على أوساطهم، مفترشون لجباههم وأكفهم وركبهم وأطراف أقدامهم يطلبون إلى الله تعالى في فكاك رقابهم، وأما النهار فحلماء علماء، أبرار أتقياء، قد براهم الخوف بري القداح، (طبعاً الخوف من الله عز وجل) قد براهم الخوف بري القداح ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى ومابالقوم من مرض ويقول لقد خولطوا ولقد خالطهم أمر عظيم لا يرضون من أعمالهم القليل ولا يستكثرون الكثير، فهم لأنفسهم متهمون، ومن أعمالهم مشفقون، إذا ذكي أحد منهم خاف مما يقال له فيقول أنا أعلم بنفسي من غيري وربي أعلم مني بنفسي
اللهم لا تؤاخذني بما يقولون واجعلني أفضل مما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون”.

ومن الجميل هنا أن هذه المواصفات التي قالها علي عليه السلام لأولئك الذين اتقوا الله عز وجل بطلب من أحد أصحابه وهو همام عندما يسمع همام هذه الكلمات يخرّ إلى الأرض صريعاً ويصعق صعقة كانت نفسه فيها فيقول أمير المؤمنين عليه السلام أما والله لقد كنت أخافها عليه ثم قال “هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها فقال لهم قائل فما بالك يا أمير المؤمنين (يعني أنت لما لم تمتيا أمير المؤمنين ومنك خرجت هذه المواعظ) فقال ويحك إن لكل أجل وقتاً لا يعدوه وسبباً لا يتجاوزه فمهلاً لا تعد لمثلها فإنما نفث الشيطان على لسانك”.

ولم يكن لهذه الكلمات ذلك الوقع الذي يحصل لبعضنا عندما يسمعها والسبب في ذلك:

أولا:ً لأن القائل هنا هو علي بن أبي طالب عليه السلام بينما القائل بيننا غيره.

وثانياً: لأن الاستعداد الذي كان موجوداً عند همام ليس موجوداً عند أحدنا وإذا اجتمع هذا وذاك فإن المواعظ عندئذٍ سوف تبلغ ذروتها وتبلغ هذه الحالة قمتها.

حقيقة العلم

في ذلك المقطع الذي يتعرض فيه الإمام عليه السلام للتمييز بين الناس من خلال العلم الذي لا يعني تجميع كمية من المعلومات المتناثرة
التي لا يربطها رابط وإنما العلم الحقيقي هو ذلك الذي يصيب القلوب والبصيرة بالنور الإلهي الوضَّاء حيث يقول لكميل بن زياد (أختصر هنا قدر الاستطاعة) “يا كميل إنَّ هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها، فاحفظ عني ما أقول لك:الناس ثلاثة: فعالمٌ رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمجٌ رعاع، أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق…..

يا كميل هلك خزان الأموال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة (ثم يشير عليه السلام إلى صدره الشريف) ويقول: ها إنا ههنا لعلماً جماً لو أصبت له حمل، بلى أصبت لقناً غير مأمون عليه مستعملاً آلة الدين للدنيا ومستظهراً بنعم الله على عباده وبحججه على أولياءه ثم يعدد قسماً من هؤلاء الذين تعلموا العلم للعلم ولم يستفيدوا منه وسيلةً إلى الله عز وجل وبعد ذلك يستثني ويقول اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة إما ظاهراً مشهوراً وإما خائفاً مغموراً لئلا تبطل حجج الله وبيناته وكم ذا وأين أولئك، أولئك والله الأقلون عدداً والأعظمون عند الله قدراً يحفظ الله بهم حججه وبيناته حتى يودعوها نظرائهم ويزرعوها في قلوب أشباههم هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة وباشروا روح اليقين واستلانوا ما استوعره المترفون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه آه، آه شوقاً إلى رؤيتهم!”.

وعودٌ على بدء فإن أمير المؤمنين عليه السلام وهو الذي يقول لنا: “ألا وإن لكل مأمومٍ إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه ألا وإن
إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه ألا إنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورعٍ واجتهاد وعفةٍ وسداد”.

ويقول عليه السلام عن مقدار ما يضج في قلبه من ذلك العلم في كلامٍ طويل يختمه عليه السلام حيث يقول: “فإن أقل يقولوا حرص على الملك وإن أسكت يقولوا جزع من الموت هيهات بعد اللتي والتي والله لابن أبي طالب أنس بالموت من الطفل بثدي أمه بل اندمجت على مكنون علمٍ له بُحتُ به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة”. (ولعل علماء الفيزياء يفهمون هذا المعنى، إذ بقدر ما تكون البئر عميقة، فإن الحبل يهتز).

يقول الإمام عليه السلام “لو استطعتم أن تحصلوا على جزءٍ من مكنون علمي لحصل لكم ذلك، ولكن حكمة الإمام علي عليه السلام كما اقتضت حكمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحن معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلم الناس على مقدار عقولهم”.

عقولنا لا تستطيع أن تستوعب كل ما خرج من قلب أمير المؤمنين علي عليه السلام فكيف باستطاعتنا أن تستغرق في ذلك المكنون في قلبه صلوات الله وسلامه عليه عصمنا الله من الزلل ونفعنا يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.