الرئيسية / بحوث اسلامية / أساس الالهام الأخلاقي – اية الله مرتضى مطهري

أساس الالهام الأخلاقي – اية الله مرتضى مطهري

قبل أن نبدأ البحث نذكر عدة أحاديث تتمة لأحاديث البحث السابق لنبين روح الأوامر الأخلاقية الإسلامية، وبالخصوص موضوع الشعور بالعزة والكرامة، وكيف اهتمت به النصوص الإسلامية، يقول الإمام السجاد (ع): “طلب الحوائج إلى الناس مذلة للحياة ومذهبة للحياء واستخفاف بالوقار وهو الفقر الحاضر”[1] أي أن الفقر لا يقتصر على فقدان المال، الفقير يعني الحاجة، وفقدان المال احتياج وفقر، واظهار الإحتياج إلى الآخرين هو عين الفقر “وقلة طلب الحوائج إلى الناس هو الغنى الحاضر”.

وخلاصة الكلام هي أن الفقر والغنى لا ينحصران بالفقر والغنى المالي والمادي، بل هناك فقر وغنى آخر، وعلى الإنسان أن لا يخطئ ويصاب بفقر آخر بدافع من رفع فقره المادي، وعليه أن يعلم بأن الغنى المعنوي أفضل من الغنى المادي.

يقول علي (ع): “ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء طلباً لما عند الله، وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء اتكالاً على الله”[2] مفهوم عبارة “تيه” تشابه تقريباً مفهوم التفاخر والتكبر، ولكن التكبير بهذا المعنى ليس مذموماً، والقصد منه هو حفظ الشخصية وعدم تحقير النفس لأجل الثروة والغنى أي لا تنحني لأجل ثروة الآخرين، بل كن شامخاً أمامهم.

المراد هنا تأكيد الشعور بعزة النفس وشرفها وكرامتها أيضاً، وقال (ع) أيضاً: “البخل عار، والجبن منقصة، والفقر يخرس الفطن عن حجته، والمقل غريب في بلدته، والعجز آفة، والصبر شجاعة، والزهد ثروة، والورع جنّة”[3] .

هنا يذم البخل والجبن والفقر والعجز لأسباب سنذكرها، ويمدح الصبر والزهد والورع لأدلة أخرى، الأدلة التي تنفي وتثبت كلها تقوم على أساس شعور الإنسان بشخصيته، وعلى أساس الشعور بالعزة والكرامة.

البخل عار، فمن يخشى العار، عليه أن لا يكون بخيلاً.

والجبن منقصة للإنسان، فلا يحسن به أن يتحمل هذا النقص.

الفقر يخرس الفطن عن حجته، فمهما كان الإنسان قوياً في بيانه، فإن الفقر سوف يفقد هذا البيان، إذاً الفقر مذموم بدليل أنه يحقر ويصغر الإنسان، المقل غريب في بلدته، ـ يختلف المقل عن الفقير ـ المقلُّ، هو الذي عنده مال قليل فهو غريب حتى في بلدته، الجزع آفة للإنسان وليس كمالاً: وفي المقابل يكون الصبر شجاعة.

والورع جنة والزهد ثروة، لأنه يجعل الإنسان مستغنياً عن الآخرين لماذا يريد الإنسان الثروة؟ لأجل الغنى، والزهد نفسه يجعل الإنسان غنياً ـ سئل الإمام السجاد (ع): “من أعظم الناس خطرا؟ قال (ع): “من لم ير الدنيا خطراً لنفسه”[4] ، أي يكون من كراُمة النفس وعزتها بحيث لو وضعت الدنيا بأكملها في كفة ميزان ووضع شرف النفس وكرامتها في الكفة الأخرى فسوف يرجح كفة نفسه.

يقول الإمام السجاد (ع): “من كرمت عليه نفسه هانت عليه الدنيا”[5] ، يريد أن يقول إن الإنسان لو عرف عظمة نفسه وكرامتها سوف تصغر الدنيا في عينه.

في نهج البلاغة جملتان ـ تؤكدان موضوع الكراُمة والعزة ـ وهما قوله (ع) “الصادق على شفا منجاة وكرامة، والكاذب على شرف مهواة ومهانة”.

وهناك آيتان توضحان الفكرة جيداً قال تعالى (ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم) [6] ، يمكن أن يقال: إن كثرة الحلف والقسم تنشأ من المهانة، فالإنسان الذي يشعر بالعزة في نفسه لا يؤكد كلامه بالحلف المكرر، لذلك فإن القسم الكاذب حرام والحلف الصادق مكروه.

وأكثر من هذا تصريحاً الآية الشريفة (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) [7] .

التكريم نوعان، أحدهما تكريم الإنسان لأخيه الإنسان، وهذا أمر اعتباري، مثلاً عندما تدخلون بيتي استطيع أن أعاملكم بصورتين: إحداهما أن لا أعتني بمجيئكم وذهابكم، والثانية أن أحترمكم وأتواضع لكم، ولكن عندما يقول الله تعالى: (ولقد كرمنا) ليس قصده هو أننا عاشرنا الإنسان لفترة، واحترمناه وجعلناه أفضل الموجودات، إنما قصده هو أننا كرمناه في الخلق والإيجاد أي جعلنا الكراُمة والشرف والعظمة في خلقته وطبيعته، في الواقع ان العزة والكراُمة والعظمة جزء من طبيعة الإنسان، لذلك فإن الإنسان لو عرفت نفسه بما هي، لعرف العزة والكرامة.

اللذات المادية واللذات المعنوية

تتمة لهذا نقول: هناك موضوع كان مطروحاً منذ القدم ألا وهو المادة والمعنى كانوا يقسمون الأمور إلى مادية ومعنوية، ليس المقصود من الأمور المعنوية الأمور المجردة وما وراء الطبيعة “الله والملائكة… الخ”.

بل المقصود أن في حياة الإنسان أموراً غير محسوسة أو ملموسة، وليس لها حجم أو وزن ولكنها موجودة، كالأمور التي ذكرناها، وكان هذا السؤال يطرح على البشر دائمأً: ما هي الحرية؟

لا يستقر المال في يدي الأحرار، كما لا يستقر الصبر في قلب العاشق ولا الماء في الغربال.

لا تنحصر الأمور التي يهتم بها الإنسان ويعيرها أهمية وقيمة بالأمور المادية والجسمانية، والأمور المحسوسة التي لها حجم ووزن، إن الماء والخبز ضروريات للإنسان ولكن هناك أمور أخرى ذات أهمية للإنسان أيضاً، كالحرية الإجتماعية وحرية العقيدة، فإن لحرية العقيدة أهمية خاصة عند الإنسان فيها يتمكن أن يكون حراً في اعتقاده ولا يزاحمه أحد في عقيدته.

عَرَّفَ العلماء القدامى هذه الأمور “بالأمور المعنوية”، فالإنسان يتمتع ويلتذ بنيل أهدافه المعنوية، كما يلتذ بنيل الأهداف المادية، وفي المقابل تكون آلام الإنسان نوعين أيضاً فبعدم نيل الأهداف المادية والمعنوية أو الوصول إلى ضدها تحصل الآلام المادية والمعنوية.

وهناك تفسير مماثل في علم النفس أيضاً، يقولون: اللذات المادية واللذات المعنوية، والآلام المادية والآلام المعنوية، ويفرقون بين الاثنين مثلاً بأن اللذات المادية والآلام هي عضوية وجسمية أي أنها تختص بعضو معين وأنها ترتبط بعامل خارجي، أي أنها تحصل بسبب التلاقي والتماس مع التعامل الخارجي، كلذة الأكل، فإنها تختص بعضو معين، أي ان الإنسان يحس بها في عضو خاص هو عضو التذوق، ولا يشعر بها في باطن يده مثلاً؛ إضافة إلى أنه لابدّ من وجود شيء فوق اللسان لتحدث هذه الانفعالات وتحصل اللذة. أما اللذات المعنوية فإنها لا تختص بعضو وليس لها مكان خاص للإحساس بها. وهي لا ترتبط بعامل خارجي يسبب الاحساس باللذة بسبب التماس معه. فكم يحدث أن تؤدي فكرة ما إلى التذاذ الإنسان كلذة الافتخار التي تنتاب الفائز في المسابقة. لنفرض أن شخصاً اشتهر بعنوان أفضل فنان أو كاتب ويسمع بأنه مُدِحَ في المكان الفلاني، فإنه سوف يشعر باللذة في نفسه “لا يمكن القول بأن لهذا عاملاً خارجياً وهو السماع. لأن الاستماع وسيلة لاخباره واطلاعه على الموضوع، وأما اللذة فهي ليست لذة السمع والأذن كالتي يلتذ بها في سماع الموسيقى مثلاً”. أين هذه اللذة؟ هل هي في حاسة البصر؟ أم في الأذن؟ أم في الفم؟ كلا، إنه يشعر باللذة في تمام وجوده، دون أن يتمكن من تعيين مكان ونقطة واحدة.

إن الأمور المادية والمعنوية كانت معروفة لدى الإنسان. يعتقد الفلاسفة أن اللذة على ثلاثة أقسام:

1 ـ اللذات الجسمية.

2 ـ اللذات العقلية.

3 ـ اللذات الوهمية.

والتي تعتبر محقرة بالنسبة إلى اللذات العقلية، وعلى الإنسان أن يبحث عن اللذات العقلية لا الوهمية.

أصل القيمة والأهمية

تطرح هنا مسألة أخرى وهي: أن البشر يريد هذه الأمور فهو مضطر لأن يعطي أهمية وقيمة لها. القيمة هي نفسها التي نسميها في اصطلاح العرف: الثمن.

والآن من أين تحصل القيمة، ولماذا توجد قيمة للاشياء؟ إن الشيء إذا كان مفيداً ومحققاً لغرض خاص ويعد كمالاً للوجود الإنساني ولا يحصل عليه بسهولة أو دون ثمن، يكون ذا قيمة وأهمية. فليس للهواء مثلاً قيمة. لماذا؟ لأنه لا يشترى بثمن، ولا يمكن تملكه. أما الأرض فانها ليست كذلك؛ فإن البعض يستثمر الأراضي ويختص بها دون غيره ويحرم الآخرين منها. ومن هنا تحصل لها القيمة والأهمية.

ولهذا السبب يكون للأمور المعنوية قيمة. فإن الإنسان ينجذب نحو الأمور المادية بالفطرة وهو لنفس السبب ينجذب نحو الأمور المعنوية. لهذا فنحن نقيم للأمور المعنوية وزناً وقيمة، ولكنها قيمة معنوية. إن القيم المعنوية من مختصات الإنسان والقيم المادية ليست من مختصاته، فإنسانية الإنسان هي أن تكون القيم المعنوية قوية لديه وبمقدار ما يكون ملتزماً بهذه القيم، فانه يعد متكامل الإنسانية.

كان القدماء يطرحون المسائل بهذا النحو من الاُصول والمباني التي لا تنتهي إلى طريق مغلق. ولكن الغربيين اليوم يطرحونها بنحو آخر، ولهذا وصلوا إلى طريق مسدود، لقد فككوا بين الأمور المادية والأمور المعنوية وبين المنفعة والقيمة، قالوا: إن بعض الأشياء نافعة ومفيدة للإنسان، وبعضها غير نافعة، لكن الإنسان يضع لها قيمة ويثمنها. أما القسم الأول فهو الأمور المادية، وأما القسم الثاني فيقيّمه الإنسان مع أنه لا فائدة فيه، ولا يزيد من كماله. إننا نبحث عن الشيء المفيد، أما الشيء الذي لا يحقق لنا الخير والسعادة، فلا نقيم له أهمية وقدراً. انه لا يعد كمالاً لنا، ليمدحنا عليه الآخرون. انه يدخل ضمن الأمور هذه الفرضية والخيالية والاعتبارية.

علة هذا التفكير إنهم لم يريدوا وضع معنى في مقابل المادة، ولم يريدوا وضع قيم معنوية لواقع الإنسان، ويقولون: إن للإنسان بطناً، وله ما وراء البطن أيضاً؛ كل ما تحتاجه بطنه يعد قيماً، وهكذا لكل ما يحتاجه ما وراء بطنه قيمة واهمية، هؤلاء لم يضعوا قوة أخرى وراء هذه القوى المادية. رأوا في الظاهر أن الإنسان لا يملك غير هذه البنية المادية. فاهتموا فقط بما تحتاجه هذه البنية. وقالوا: إن إرادة الشيء غير المفيد للبنية المادية مخالف للمنطق، والسؤال: ما هو أصل هذه القيمة؟ لا جواب لذلك.

يرى البعض اننا نضع لأعمالنا قيمة؛ نحن أنفسنا نخلق القيمة والثمن هل أن القيمة شيء مخلوق واعتباري؟ ان ما يمكننا خلقه وإيجاده هو الاعتبارات. ونحن لا نتمكن من أن نخلق لكل شيء قيمة دون سبب؟ القيمة والمنفعة شيء واحد، أي أنهما متساويان من جهة واحدة. ويرتبطان بواقع الإنسان الذي يبحث عن خيره وكماله.

ولكن الإنسان ليس فقط هذه البنية المادية، فان الخير المادي له نوع من القيمة بالنسبة للإنسان، والخير المعنوي له نوع آخر من القيمة. فبدلاً من قولنا: المنفعة والربح والقيمة، نقول المادة والمعنى أو القيمة المادية والقيمة المعنوية. هذا هو الكلام المنطقي، وإنما يسمون دنيا اليوم بعالم تزلزل القيم لأنهم يريدون قطع جذور القيم وإعطاء البشر قيمة في الوقت نفسه، وهذا تناقض. إنهم قطعوا جذور القيم بما لديهم من نظرة بشأن تعريف الإنسان. عندما ينظرون إلى الإنسان نظرة مادية ويعرفونه بأنه هذا الجسم المادي فقط، فإن الأخلاق والقيم المعنوية وأصالة البشر والإنسانية تصبح كلها بدون معنى. عندما يكون الإنسان مادة أعقد من باقي المواد، إذاً فما معنى الشرف؟ يقال إن جهاز “أبولو” يتكون من خمسة ملايين جزءاً وقطعة اتصلت ببعضها، لا يمكن مقايسة هذا الجهاز مع كرسي صغير متكون من أربع قطع، لكن هل تقيمون “لأبولو” وزناً وشرفاً كما تقيمون للإنسان شرفاً؟ كلا، إن “أبولو” لا يختلف عن باقي المواد لكنه أعقد منها. لو اعتبرنا الإنسان ماكنة عظيمة فحتى لو كان حجم هذه الماكنة بقدر الدنيا فلا قيمة لها. لهذا فإنهم قطعوا جذور تلك الأشياء التي سموها أنفسهم (قيماً) ـ أو التي نسميها نحن “معاني” ـ. نحن لا نفكك بين المادة والمعنى، ولا نقول بأن الشخص يريد شيئاً دون سبب، ولكن نقول “إرادة” الاثنين لها سبب ومنطق خاص، ومن المستحيل أن يبحث الإنسان عن شيء ويتابعه دون سبب.

معرفة النفس أصل الالهامات الأخلاقية

بعد أن عرفنا هذا الموضوع ندرك جيداً فلسفة الشيء الذي أكده الإسلام كثيراً. رأينا أنه عندما يريد أن يأمر الإنسان بالأخلاق الحسنة ـ أو بقول المعاصرين القيم الإنسانية العليا ـ فانه يوجهه إلى معرفة باطن وجوده ان اكتشف نفسك، تلك النفس العقلانية، تلك الحقيقة الوجودية، حينئذٍ نشعر بأنك وصلت إلى شرف نفسك، فعندما يعرف باطن ذاته، وعندما يرى الإنسان نفسه [يشعر بكرامتها وشرفها] أي أنه يشعر بأن المهانة والدناءة لا توافق هذا الجوهر العظيم، الكذب والنفاق والفحشاء لا توافقه، إن الإنسان بمعرفة النفس يحصل على الالهامات الأخلاقية، وهذه الالهامات لم تأت بالتعلم، بل إن إدراك “النفس” وحدها كاف للقيام بفعل شيء أو تركه. وهذا هو معنى (ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها). ( سورة الشمس، الآيات: 7 ـ 10).

عذاب ورضا الوجدان “الضمير”

لنوضح معنى الوجدان والإلهامات الوجدانية: تذكير النفس، التوجه إلى النفس، وإدراك ما هو مناسب وملائم لها الجوهر وما هو مضاد له. هذه الحالة موجودة إلى حد بين الناس وتدعى [بعذاب الوجدان]. ما هو [عذاب الوجدان] عند البشر؟ وما هو “رضا الوجدان”؟

إن الإنسان حينما يقوم بأعمال معينة يشعر بالرضا في عمق وجدانه، ويعد تلك الأعمال التي قام بها موفقية له، وعندما يرتكب أعمالاً أخرى فإن وجدانه يشعر بعدم الرضا ويحس بأن هناك قوة تؤنبه وتعذبه، ما أكثر المجرمين الذين سلموا أنفسهم إلى العدالة وقالوا: اقتلونا؛ فنحن نستحق القتل. ما هذا الشعور الموجود في الإنسان الذي يجعله لا يتحمل عذاب ضميره؟ هكذا يكون أغلب الجناة. وكما نقرأ في قصة كربلاء هناك الكثير ممن ندموا على ما فعلوا وأصيبوا بالكوابيس المرعبة. أحدهم يتعلق بأستار الكعبة ويقول: “إلهي ارحمني مع علمي بأنك لن ترحمني” أليس هذا هو الوجدان؟ كانت نهاية الطيار الذي ألقى القنابل على هيروشيما في دار المجانين. هذا الإلهام بالفجور أو التقوى ناتج على إدراك الذات. وهذا يتناسب فقط مع فلسفة ما وراء الطبيعة، وانه ليس الإنسان هو هذا الجسم فقط. وبهاذ التفكير يكون للإنسانية معنى ومفهوم. كتبت في مجلة (المرأة المعاصرة) مقالة مفصلة حول العالم الأوروبي وكيف أنه من جهة يسقط الإنسان من جميع القيم ولا يعتبره سوى ماكنة فقط، ومن جهة أخرى يرفع شعار حقوق البشر وشرفهم واستقلالهم، ان هذا الكلام مضحك جداً. في مقدمة لائحة حقوق البشر: “نظراً لامتلاك كل إنسان مقاماً وشرفناً ذاتياً وبموجب هذا المقام فانه يتمتع بنوع من الشرف والرفعة…” ما هو هذا المقام والشرف الذاتي؟ هذا الإنسان الذي عرفتموه لا يختلف عن السيارة التي نستقلها، إلا أنه سيارة أعقد؛ إذاً لا معنى للشرف الذاتي فيَّ ولا فيكم. أنا ماكنة وأنتم مكائن أخرى. فالبشر لا يختلف عن غير البشر والكل بحكم الماكنة. لغاندي عبارات رائعة في هذا المجال في كتاب “هذا مذهبي”.

فالفلسفة إذاً إضافة إلى أنها تعرفنا بمحور وأساس الأخلاق الإسلامية أو على الأقل تبين لنا معنى قواعد الأخلاق الإسلامية، فإنها تبين لنا أن هذه الأخلاق تقوم على أسس منطقية تستطيع توجيه وتوضيح ما يسمى اليوم بالقيم الأخلاقية ـ إن فلسفة اليوم هدّمت أسس القيم الأخلاقية..

تزلزل القيم في العالم الغربي

جاء في مقالة لداريوش اكشوري في مجلة “العالم الجديد” عبارة جيدة جدا هي أن دنيا الغرب جعلت جميع القيم البشرية متزلزلة، ولا أساس لها وحينما شاهدوا نتائج أفكارهم أرادوا إحياء تلك القيم، بقالب جديد، وكان الوقت متأخراً جداً لهذا العمل. ثم نقل أقوال سارتر وأمثاله، وانتقد أصالتهم البشرية، يقول: إن سارتر وهايدجر صنعاً شيئاً وهمياً في الواقع وقاما بتأليهه، افترضا أن للبشر بين الجماعة وجوداً غير وجوده الفردي، يرجو شيئاً آخر غير الأفراد يسمى “الإنسانية” وهي موجودة دائماً. وكل ما يقوله الآلهيون حول الله وانه يجب العمل لله، يقوله هؤلاء للبشر أو الههم الوهمي، وأنه يجب العمل لأجل البشرية والإنسانية؛ إنهم يجعلون لهذا الإله الوهمي وجوداً واقعاً ولأنفسهم وجوداً اعتبارياً.

هؤلاء بسبب الطرق المغلقة التي أوجدوها بشأن المسائل المعنوية أو ما يسمونه بالقيم الإنسانية، أنكروا الدين من الأساس، ونفوا الأخلاق والتربية القائمة على أساس الدين، وذلك على أساس الفرض أن الدين قائم على أساس الخوف من جهنم والطمع بالجنة وأمثال ذلك، إذاً علينا ترك ما لا اعتقاد لنا به، في حين أن الدين يحيي ملاك القيمة في نفس الإنسان. إن الدين لا يُحملُ الأخلاق جبراً عن طريق الجنة والنار، بل ينمي في اعتقاد الإنسان أموراً من الإنسانية، وبعبارة أخرى، يحيي إنسانية الإنسان بنحو خاص بحيث إن جميع القيم الإنسانية “التي فقدت اليوم معناها الحقيقي والعملي” تصبح ذات معنى منطقياً ودقيقاً، في ظل هذا الإحياء.

التوسع النفسي

كان الحديث حول وعي النفس أو تذكير النفس أو معرفة النفس وبعبارة أخرى الإلتفات إلى الذات، ومن ذاك استلهموا أولى فصول الأخلاق، ونذكر الآن أصلين هما من مباني وأسس الأخلاق والتربية في الإسلام، لنختم هذا البحث. أحدهما موضوع الوجدان العام.

إنه لا شك بأن الإسلام في اُصوله التربوية والأخلاقية يحارب نوعاً من النفس هي “النفس الفردية” إن التكبر بمعنى [إرادة] النفس الفردية التي يستلزم نفي بقية الأفراد، هو الأمر المذموم في منطق الإسلام ومنطق أغلب الأخلاقيين. إن مفهوم التكبر والعجب موجود في اصطلاحاتنا اليومية، نقول مثلاً: إن فلاناً إنسان متكبر، أو معجب بنفسه. وذكرنا أن هذه “النفس” هي غير تلك النفس الإنسانية والملكوتية لكل شخص.

الإنسان موجود ذو مراتب

للإنسان نوعان من “الأنا” أحدهما: الأنا الملكوتية، وهي التي عبر عنها القرآن بـ(نفخت فيه من روحي) (سورة الحجر، الآية: 29). ولا تحتاج في حياتها إلى الطبيعة ولا في بقائها، ولكن الإنسان موجود له مراتب. إحدى مراتب الوجود الإنساني هي الطبيعة، فمن مختصات الإنسان كونه موجوداً ذا مراتب ما يقال من أن “الإنسان ملك حيوان نباتي وجمادي” صحيح، لكن ليس بمعنى انه ملك وانه حيوان ونبات معاً. بل شيء واحد لا أكثر، لكن هذا الشيء وجود له مراتب متعددة نستطيع تشبيهه بعمارة ذات عدة طوابق يكون الطابق الأول منها حقيقة، والطابق الآخر حقيقة أخرى وهكذا. الإنسان موجود له مراتب ودرجات بحيث يكون في اعلى درجات ملكاً أو أفضل من الملائكة، وفي الدرجة الأخرى يكون نباتاً، وفي الدرجة الثالثة جماداً إن الإنسان باعتبار درجته العليا [لا يجد بنانياً] بين أنانياته أو [مجاميع الأنا فيه] كما أنه لا يوجد بن الملائكة حرب ومنازعة الإنسان في تلك المرحلة من وجوده لا يجد فرقاً بينه وبين الآخرين فالكل كخيوط أشعة من نور لا تشتبك ولا تتزاحم فيما بينها أبداً. ولكن عندما يصل إلى درجاته الدانية والطبيعية، فإن كل “أنا” في وجوده ستسعى لحفظ وبقاء نفسها بحكم التزاحم الموجود في الطبيعة، وبالطبع ستنفي الآخرين وتحدث مسألة التنازع على البقاء “أنا” أو أنانية كل شخص تقف أمام “أنانية” الآخرين، وكأن حفظ أنانية كل شخص يستلزم نفي الأنانيات الأخرى. فحالة انحصار الطلب للنفس والنظر إلى النفس وترك الآخرين هي من مختصات “أنانية” الإنسان الطبيعية، ويجب محاربتها وتدميرها، ويجب هدم هذا الجدار، جدار “الأنا” الطبيعية مع “الأنانيات” الأخرى.

بتعبير السيد الطباطبائي إن الإنسان موجود مستخدم، أي أنه يريد استخدام الموجودات الأخرى ومن جملتها الإنسان الآخر لنفسه، وباصطلاح اليوم فإن الإنسان مستثمر، أي أنه ينظر لكل موجود بعين الآلة والوسيلة، ويريد كل شيء لنفسه. يقول الشاعر مولوي:

إن أرواح الذئاب والكلاب منفصلة، لكن أرواح اسود الله متحدة.

عندما تكون روح الإنسان ذئبية وكلبية يعني أن الإنسان يفقد نفسه الحقيقية ويصبح أغلب وجوده طبيعياً، فلا يبقى إلا الحرب والنزاع ويصبح الكل ذئاباً وكلاباً وهما مظهر الحرب والنزاع. ولكن إذا لم تكن الروح، روح ذئب وكلب، بل روح رجل رباني فلا يمكن أن ينشب حرب أو نزاع.

——————————————————————————–

[1] تحف العقول، ص279.

[2] نهج البلاغة، الحكمة، 406.

[3] نهج البلاغة، الحكمة: 2.

[4] في رحاب أئمة أهل البيت، ج4، ص76.

[5] تحف العقول، ص288.

[6] سورة القلم، الآيتان: 10 ـ 11.

[7] سورة الإسراء، الآية: 70.

شاهد أيضاً

عوامل التربية (2) الإحسان – اية الله مرتضى مطهري

عوامل التربية (2) الإحسان ـ تقوية شعور البحث عن الحقيقة ـ المراقبة والمحاسبة من المسائل ...