الرئيسية / تقاريـــر / الدور التاريخي للمسيحيين المشرقيين ومركزية سوريا (الجزء الثاني)

الدور التاريخي للمسيحيين المشرقيين ومركزية سوريا (الجزء الثاني)

الوقت – يمكن القول بأن المسيحيين السوريين تميزوا بوعيهم لمخاطر الحرب على سوريا قبل غيرهم من الأفرقاء. في حين يجب الإعتراف بمظلوميتهم، جرّاء أعمال التنظيمات الإرهابية بحقهم. لكن مواقفهم تميّزت بالوعي، لا سيما لجهة فهم الحاضر والإستفادة من تجارب التاريخ. فكيف يمكن تبيين ذلك؟

لقد كان للمسيحيين السوريين، دورٌ سياسي فعَّال في بناء سوريا الحديثة بعد الإستعمار الغربي. ولعل عدداً من الأسماء السورية المسيحية، دخلت التاريخ كأعلامٍ مناهضين للإستعمار. من “فرانسيس مراش” وهو من أعلام حركة النهضة العربية، الى “أسبر زغيبي” المجاهد ضد الإحتلال الفرنسي، وصولاً لـ “فارس الخوري” رئيس الحكومة في عهد الإستقلال، وغيرهم من الأسماء التي ساهمت في بناء سوريا في القرن العشرين. وهنا فليس صحيحاً محاولات البعض، تصوير المسيحيين، كطرفٍ بعيدٍ عن مقارعة الإستعمار. فتاريخهم مليء برفض التدخلات الخارجية، وسعيهم لتعزيز اللحمة الوطنية.

وهنا فإن عدداً من الصفات، ميَّزت دور المسيحيين اليوم، فيما يخص الأزمة السورية، والتي يمكن اعتبار مواقف العديد من فعالياتهم مُتَّفِقة في هذا الصدد. وهنا نأخذ ما صدر عن متروبوليت حلب للسريان الأرثوذكس المطران يوحنا ابراهيم، في الندوة الحوارية تحت عنوان “مسيحيو سوريا وأحداثها”، والتي أقيمت في لبنان خلال شهر شباط 2012. حيث أشار المطران في كلمته، الى التالي: “نحن في أحداث سوريا أمام أزمة داخلية، ومؤامرة خارجية. الأزمة الداخلية تحرّكها المعارضة التي لم تنظم نفسها بعد لا داخلياً ولا خارجياً، ومطالب إصلاحية جاءت بشكل عفوي”…”أما المؤامرة الخارجية فتحققت من خلال الهجوم الإعلامي المكثّف من بعض الفضائيات. وتعتقد سوريا أن هذه الفضائيات مأجورة، ولها أجندات مشبوهة، لا تفكر بمصلحة الشعب السوري بقدر ما تُعمّق الجراحات في جسم سوريا وطناً وشعباً. الى جانب ذلك جاء موضوع وقوف تركيا وقطر ضد سوريا، بعد أن كان كلٌ من البلدين قد تجاوز في علاقاته مع سوريا حالة الصداقة الى الأخوة. فتبدُّل موقف البلدين، زاد من تفكير السوريين بأن اللعبة التي تجري اليوم على أرض سوريا لها أبعاد مؤامرة، يشارك فيها بعض البلدان في الشرق والغرب، وجاءت زيارة السفيرين الأمريكي والفرنسي لمدينة حماه في هذه الظروف الصعبة والمتشنجة، إشارة واضحة الى أن دولاً مثل الولايات المتحدة الامريكية وفرنسا وبريطانيا لها أصابع تلعب في تأجيج هذا الحراك الشعبي.”

إذن يبدو واضحاً، حجم الوعي الذي يتصف به خطاب المطران ابراهيم. وهو ما يعني بأن المسيحيين وفي وقتٍ انزلق فيه البعض الى الفتنة واغتر بشعارات التغيير، استفادوا من الماضي، وقرؤوا الأزمة بأنها مُفتعلة لتقسيم سوريا. فيما كان واضحاً رفض المسيحيين، كما عبّر المطران، لسياسات واشنطن وبعض أدواتها في الشرق.

واليوم، فإن السؤال المطروح هو، كيف يتفق مشروع المسيحيين مع مشروع النظام السوري؟

– يتفق المسيحيون مع النظام السوري في أكثر من نقطة. ففي وقتٍ يُعبرون عن رغبتهم في إحداث تغييراتٍ في الآليات، يؤمن المسيحيون في سوريا بأن النظام الحالي (العلماني)، يمكن أن يُشكل لهم ضمانةً لإستمراريتهم من النواحي الوجودية كافة. فالمشروع الذي جاء به التكفيريون، لم يكن يوماً مشروع بناء دولة أو تحرير مجتمع، بل كان مشروعاً لا هدف له، في حين يمكن وصفه بمشروع حكمٍ همجيٍ لا يمكن أن يتفق في جوهره مع قضايا المجتمع الإنساني بشكلٍ عام، قبل أن يتفق مع احترام التنوع الديني. وهو ما لا يمكن أن يتفق معه المسيحيون في سوريا، نظراً لترسُّخ قيمهم الشرقية الوحدوية، والداعية للسلام والمحبة.

– من جهةٍ أخرى، أدرك المسيحيون قبل سواهم، أن الحرب على سوريا، لم تكن لتغيير نظامٍ أو إحداث إصلاحٍ سياسي. وهو ما لم يكن يؤمنوا به بالطرق العسكرية على الإطلاق. مما يعني أنهم يقفون في صف الحلول السلمية السياسية. فهم رفضوا مراراً التغيير عن طريق حمل السلاح، وعبروا عن عدم رغبتهم بانخراط المسيحيين في حالة اقتتال طائفي داخلي، لن تولِّد إلا الدمار والفتن.

– ولعل حالة القلق وانعدام الأمن والإستقرار التي خلفتها التنظيمات التكفيرية، ومشروعهم المُعادي للديانات السماوية، ورفضهم الفكر الآخر، وأعمالهم الإجرامية بحق المسلمين والمسيحيين، رسّخ لدى الأطراف المسيحية، أهمية أن يكون النظام السوري الحكم والمرجعية في كل الأمور. وذلك لقدرته على أن يجمع جميع الأطياف تحت كنف الدولة.

إذن لم يكن المسيحيون السوريون يوماً، جزءاً من الأزمة السورية. بل إن رفضهم حمل السلاح مقابل الدولة، وسعيهم للتغيير السياسي بالطرق السلمية، لم يتخطَ حد احترام النظام. مما يُمكن أن يُعطيهم دوراً كبيراً في المستقبل. فالتاريخ الذي يمتلكه المسيحيون السوريون من نضالٍ بوجه المستعمر الخارجي، وتمسُّكهم بالقيم المسيحية المشرقية التي تدعو للسلام والمحبة واحترام تعددية الرأي والأديان، الى جانب إيمانهم بالدولة كحاضنٍ للجميع، أمورٌ كلها يمكن أن تجعل من المسيحيين طرفاً مهماً في رسم سوريا المستقبل