سكرة الموت

“وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَق ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ”1.

عن أمير المؤمنين عليه السلام

وَ هُوَ يَرَى الْمَأْخُوذِينَ عَلَى الْغِرةِ1حَيْثُ لَا إِقَالَةَ2وَ لَا رَجْعَةَ كَيْفَ نَزَلَ بِهِمْ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَ وَ جَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ الدنْيَا مَا كَانُوا يَأْمَنُونَ وَ قَدِمُوا مِنَ الْآخِرَةِ عَلَى مَا كَانُوا يُوعَدُونَ فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِمْ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ3وَ حَسْرَةُ الْفَوْتِ4فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ5وَ تَغَيرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ ثُم ازْدَادَ الْمَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً6فَحِيلَ بَيْنَ أَحَدِهِمْ وَ بَيْنَ مَنْطِقِهِ7وَ إِنهُ لَبَيْنَ أَهْلِهِ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ وَ يَسْمَعُ بِأُذُنِهِ عَلَى صِحةٍ مِنْ عَقْلِهِ وَبَقَاءٍ مِنْ لُبهِ8يُفَكرُ فِيمَ أَفْنَى عُمُرَهُ وَ فِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ وَ يَتَذَكرُ أَمْوَالًا جَمَعَهَا أَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا9وَ أَخَذَهَا مِنْ مُصَرحَاتِهَا وَ

________________________________________
1- ق،19.
2- الغفلة.
3- لا فسخ ولا تراجع.
4- شدته وغشيته.
5- الحسرة على ما فات ومضى.
6- فسكنت لها أعضاءهم.
7- دخولاً.
8- كناية عن عجزه عن الكلام.
9- كناية عن بقائه عاقلا يدرك ما يحيط به.
10- لم يفرق بين حلال وحرام.
مُشْتَبِهَاتِهَا قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا10وَ أَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ يَنْعَمُونَ فِيهَا وَ يَتَمَتعُونَ بِهَا فَيَكُونُ الْمَهْنَأُ لِغَيْرِهِ11وَ الْعِبْ‏ءُ عَلَى ظَهْرِهِ12وَ الْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ بِهَا13فَهُوَ يَعَض يَدَهُ نَدَامَةً عَلَى مَا أَصْحَرَ14لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ وَ يَزْهَدُ فِيمَا كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ أَيامَ عُمُرِهِ وَ يَتَمَنى أَن الذِي كَانَ يَغْبِطُهُ بِهَا وَ يَحْسُدُهُ عَلَيْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ فَلَمْ يَزَلِ الْمَوْتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِهِ حَتى خَالَطَ لِسَانُهُ سَمْعَهُ15فَصَارَ بَيْنَ أَهْلِهِ لَا يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ وَ لَا يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ يُرَددُ طَرْفَهُ بِالنظَرِ فِي وُجُوهِهِمْ يَرَى حَرَكَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ وَ لَا يَسْمَعُ رَجْعَ كَلَامِهِمْ ثُم ازْدَادَ الْمَوْتُ الْتِيَاطاً16بِهِ فَقُبِضَ بَصَرُهُ كَمَا قُبِضَ سَمْعُهُ وَ خَرَجَتِ الروحُ مِنْ جَسَدِهِ فَصَارَ جِيفَةً بَيْنَ أَهْلِهِ قَدْ أَوْحَشُوا مِنْ جَانِبِهِ وَ تَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ لَا يُسْعِدُ بَاكِياً وَ لَا يُجِيبُ دَاعِياً ثُم حَمَلُوهُ إِلَى مَخَط فِي الْأَرْضِ فَأَسْلَمُوهُ فِيهِ إِلَى عَمَلِهِ وَ انْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ17. 2

________________________________________
11- ما يطالبه الناس من حقوق.
12- ما أتاك من خير بلا مشقة
13- الحمل والثقل.
14- استحقها وعجز عن أدائها.
15- ظهر له.
16- في العجز وأداء الوظيفة
17- التصاقاً.
18- زيارته.
19- نهج البلاغة، الخطبة 190.

تمهيد:

لو كان يخلد في الدنيا أحدٌ لكان الأنبياء والأولياء أحق بالخلود فيها. ولو كانت الدنيا تدوم لأحد لكان الأقوياء والملوك والأغنياء ما زالوا ينعمون بقوتهم وقصورهم فيها، لكن شاء الله أن يخط على جيد ابن آدم قلادة الموت، وينكت من أعماقه غصة الفوت، فلا مفر منه ولا مهرب، وليس هو إلا قنطرة يعبر منها إلى عالم آخر، وهكذا كانت مشيئة الله أن يدرك الموت كل من عليها، فكيف بحال من أدركه الموت؟ وما هي الصورة التي يكون عليها في تلك اللحظات العصيبة؟ هذا ما وصفه لنا الأمير في خطبته المذكورة، ونحن نشير إلى أهم المضامين منها:

1- الموت يأتي فجأة

يحيا الإنسان في هذه الدنيا وهو يرسم خططاً لمستقبله، مؤملاً في الحياة كثيراً، ولا يضع في حسبانه أن ساعة الموت قد تحين في أي لحظة وتفاجئه، فتنزل به في غفلة من نفسه، وهو يعيش الأمان من هذا الخطر المحدق به، لم يستأذن ملك الموت من أحد، ولم يرسل الوفود للإخبار بقدومه لأحد، إنه الملك الذي يدخل البيوت دون استئذان، والقلوب دون رأفة وتحنان، فيصل الإنسان بفعله إلى أصعب لحظات تحل به، إنها سكرة الموت، وقد تطول وقد تقصر. ولكن هذه اللحظات التي لا بد أن تُلقي بثقلها على كل إنسان، هي في غاية الصعوبة. ولكن من يقدر على وصف هذه السكرة العسيرة غير الخبير، غير المعصومين عليهم السلام.

2 ـ صعبة سهلة

يصف الإمام الصادق عليه السلام في الرواية صعوبة هذه اللحظات على المذنب
العاصي، ويسرها وسهولتها على المؤمن المطيع فيقول: “للمؤمن كأطيب ريحٍ يشَمه، فينعس لطيبه، وينقطع التعب والألم كله عنه. وللكافر كلسعِ الأفاعي، ولدغ العقارب وأشد !.

قيل: فإن قوماً يقولون: إنه أشد من نشرٍ بالمناشير! وقرضٍ بالمقاريض! ورضخٍ بالأحجار! وتدوير قطب الأرحية على الأحداق!.

قال عليه السلام: “كذلك هو على بعض الكافرين و الفاجرين…”3.