الرئيسية / بحوث اسلامية / تذكير الاَنبياء بميثاق الفطرة

تذكير الاَنبياء بميثاق الفطرة

سمى الله عز وجل القرآن الكريم : الذكر ، ووصف عمل النبي صلى الله عليه وآله بأنه تذكير ، واستعمل مادة التذكير في القرآن للتذكير بالله تعالى ، والتذكير باليوم الآخر ، والتذكير بالفطرة والميثاق .

ووصف أمير المؤمنين علي عليه السلام عمل الاَنبياء عليهم السلام بأنه مطالبة للناس بالاِنسجام مع ميثاق الفطرة ، قال عليه السلام في خطبة طويلة في نهج البلاغة ج 1 ص 23 ، يذكر فيها خلق آدم عليه السلام وصفته :
فأهبطه إلى دار البلية ، وتناسل الذرية ، اصطفى سبحانه من ولده أنبياء ، أخذ على الوحي ميثاقهم ، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم ، لما بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم فجهلوا حقه واتخذوا الاَنداد معه ، واجتالتهم الشياطين عن معرفته ، واقتطعتهم عن عبادته ، فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ، ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكروهم منسي نعمته ، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول ، ويروهم آيات المقدرة من سقف فوقهم مرفوع . . . . إلى آخر الخطبة .

( 31 )
وقال الشيخ محمد عبده في شرح قوله عليه السلام ليستأدوهم ميثاق فطرته : كأن الله تعالى بما أودع في الاِنسان من الغرائز والقوى ، وبما أقام له من الشواهد وأدلة الهدى قد أخذ عليه ميثاقاً بأن يصرف ما أوتي من ذلك فيما خلق له ، وقد كان يعمل على ذلك الميثاق ولا ينقضه لولا ما اعترضه من وساوس الشهوات ، فبعث إليه النبيين ليطلبوا من الناس أداء ذلك الميثاق ، أي ليطالبوهم بما تقتضيه فطرتهم وما ينبغي أن تسوقهم إليه غرائزهم .
دفائن العقول : أنوار العرفان التي تكشف للاِنسان أسرار الكائنات ، وترتفع به إلى الاِيقان بصانع الموجودات ، وقد يحجب هذه الاَنوار غيوم من الاَوهام وحجب من الخيال ، فيأتي النبيون لاِثارة تلك المعارف الكامنة وإبراز تلك الاَسرار الباطنة .

ـ وقال الراغب الاِصفهاني في المفردات ص 179
الذكر : تارة يقال ويراد به هيئة للنفس بها يمكن للاِنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة ، وهو كالحفظ إلا أن الحفظ يقال اعتباراً بإحرازه ، والذكر يقال اعتباراً باستحضاره ، وتارة يقال لحضور الشيء القلب أو القول ، ولذلك قيل الذكر ذكران : ذكر بالقلب وذكر باللسان ، وكل واحد منهما ضربان ، ذكر عن نسيان وذكر لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ . وكل قول يقال له ذكر .
فمن الذكر باللسان قوله تعالى : لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم ، وقوله تعالى : وهذا ذكر مبارك أنزلناه ، وقوله : هذا ذكر من معي وذكر من قبلي ، وقوله : أأنزل عليه الذكر من بيننا ، أي القرآن ، وقوله تعالى : ص والقرآن ذي الذكر . . . .
ومن الذكر عن النسيان قوله : فإني نسيت الحوت وماأنسانيه إلاالشيطان أن أذكره.
ومن الذكر بالقلب واللسان معاً قوله تعالى : فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً ، وقوله : فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم . . . .
والذكرى : كثرة الذكر وهو أبلغ من الذكر ، قال تعالى : رحمة منا وذكرى لاَولي الاَلباب ، وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين . . . .

( 32 )
ـ وقال الراغب أيضاً : الوعظ زجر مقترن بتخويف . قال الخليل : هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب . والعظة والموعظة الاِسم ، قال تعالى : يعظكم لعلكم تذكرون ، قل إنما أعظكم . ذلكم توعظون به . قد جاءتكم موعظة من ربكم . . . .

ـ وقال أبو هلال العسكري في الفروق اللغوية ص 121
الفرق بين التذكير والتنبيه : أن قولك ذكر الشيء يقتضي أنه كان عالماً به ثم نسيه فرده إلى ذكره ببعض الاَسباب ، وذلك أن الذكر هو العلم الحادث بعد النسيان على ما ذكرنا . ويجوز أن ينبه الرجل على الشيء لم يعرفه قط ، ألا ترى أن الله ينبه على معرفته بالزلازل والصواعق وفيهم من لم يعرفه البتة فيكون ذلك تنبيهاً له كما يكون تنبيهاً لغيره ، ولا يجوز أن يذكره ما لم يعلمه قط . انتهى .
وفيما ذكره اللغويون فوائد ومحال للنظر ، وحاصل المسألة : أنه يصح القول إن تسمية القرآن والدين بالذكر لاَنه يدل على ما أودعه الله تعالى في عمق فكر الاِنسان ومشاعره من الفطرة على التوحيد ومعرفة الله ، ولكن السبب الاَهم أنه يثير ما بقي في ذهنه ووجدانه من نشأته الاَولى وحنينه إلى عالم الغيب والآخرة ، وإحساسه بالميثاق الذي أخذ عليه في تلك النشأة .
وقد لاحظت أن الروايات صريحة في أخذ الميثاق على الناس قبل خلقهم في هذه الدنيا ، وهي متواترة في مصادر المسلمين ، ولذا فإن تفسير تذكير الاَنبياء لا يصح حصره بتذكير الاِنسان بفطرته لكي ينسجم معها ، والتغافل عن التذكير الحقيقي بالميثاق الذي صرحت به الاَحاديث الشريفة .