الرئيسية / الشهداء صناع الحياة / الشهيد محمّد إبراهيم همّت

الشهيد محمّد إبراهيم همّت

الأوقات الصعبة 

في تلك المنطقة الموحشة، بقيتُ لوحدي ثلاثة أيّامٍ، أسهر وأطالع الكتب، فجأًة دقَّ الباب، كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة بعد منتصف الليل، عرفته من طريقة الطرق على الباب، نهضتُ وفتحتُ له الباب، دخل مطأطئ الرأس قائلًا: “أنا خجلٌ منكِ، جئت بك إلى هنا قبل أسبوعين في مثل هذه الأوضاع وها أنا أعود هكذا إلى البيت”.

كان الحاج ملطّخًا بالوحل والتراب ومتعباً جدًّا، دخل مباشرة إلى الحمّام، استحمَّ بالماء البارد, لعدم وجود سخّانٍ للمياه. مع ذلك كنت راضية ومسرورة, لأنّني كنت إلى جانبه في هكذا أوضاع.

الشهادة الميمونة
بدأت أوقات الشهيد تزداد ضيقًا وقلّما كنتُ ألتقي به. في إحدى الليالي, قبل بداية إحدى العمليَّات بليلةٍ واحدة، جاء إلى المنزل وأراني ورقة مكتوباً عليها أسماء ثلاثة عشر من إخوانه، وترك إلى جانب

الرقم 14 مكانًا خاليًا, قال لي: “هؤلاء الأربعة عشر سيستشهدون”.
– “كيف عرفتَ ذلك”؟
– “نستطيع معرفة الشباب الذين يُحتمل أن يستشهدوا”.
– “أتعلمون الغيب”؟
– “لا، ولكنّ الشواهد تدلّنا على ذلك”.
– “أيّ شواهد”؟
– “وجوههم، كلامهم، حركاتهم ومشاعرهم وعلامات كثيرة”.
– “لكنّي أرى هنا ثلاثة عشر إسمًا، فمن هو الرابع عشر الذي تركته خاليًا”؟
– “هو ذلك الشخص الذي ما زلتِ تدعي له حتَّى يأتي”.

وهنا فهِمتُ مراده، فليست المرّة الأولى التي يتحدَّث فيها عن ذهابه، كان يقول لي: “ما دام الإنسان لم يشأ أن يستشهد فلن يستشهد، وإذا قرّر الذهاب فعليه أن ينزع من قلبه كلّ شيء، وأنا نزعت من نفسي الكثير من الأشياء وتخلّيتُ عنها، إلاّ أنّني ما زلت متعلِّقًا بكِ، ولم أستطع إخراج حبّك من قلبي بعد, لذا أطلب منك أن تدعي لي، واطلبي لي من الله أن أُصبح في عداد الشهداء”.

مضت تلك الليلة وحدثت تلك العمليّة، وبقيت حسرة الرحيل قابعة في قلب الحاجّ، ومنذ ذلك اليوم، كان يزداد الحاج استعدادًا للشهادة دون أن يقرّ له قرار.

الوداع الأخير
كَثُرت إشارات الرحيل، وأكثرَ هو من الاستعداد له. هيَّأ نفسه كما هيَّأ زوجته كي تتمكّن بعده من الاستمرار فقال لها: “نحن من مذهبٍ

وُلِد نبيُّه يتيمًا لذا فإنّ مشكلة أيتامك ستُحلّ”.

جاءت أيّام شباط من عام 1984م. ترك فيها الحاج همّت معسكر “دوكوهه” قاصدًا مدينة “إسلام أباد”, لتكون رحلة اللقاء الأخير بين الشهيد وزوجته التي تروي تفاصيل ما حدث، فتقول: وصل عند الغروب منهكًا، يغطّي التراب والوحل رأسه ووجهه، وتفوح من ثيابه رائحة الأرض. في كلّ مرّة كان يعود فيها من الجبهة كان يشعر وكأنّه أنِسَ بالتراب أكثر، وفي تلك الليلة كان هدوؤه أكثر من ذي قبل، لم يكن عنده شيء ليقوله، أشاح بنظره عنّي وخلد إلى النوم.

جلست عند رأسه، فأغلق عينيه، تأمّلتُ في وجهه فلاحظت للمرّة الأولى أنّ الحاج قد كبُر، ورأيت تجاعيدَ تختلف عن تلك التي أعرفها ورأيتها مئات المرّات. كان مصطفى ومهدي نائمين، أمّا أنا فغرقتُ بالتفكير بتصرّفاته، بالعبارات التي طالما سمعتها من فيه: “ما زلت متعلِّقًا بك، ادعي الله أن ينزع حبّك من قلبي”. تلك الليلة شعرتُ بانقطاع الحاجّ, فقد كان تعامله (البارد) هذا علامة لكلِّ شيء، وفي لحظة ما شعرت كأنّها الليلة الأخيرة واللقاء الأخير.

أخبرني الحاج ليلة البارحة أنَّ السيّارة ستكون في اليوم التالي عند الساعة السادسة والنصف صباحًا أمام المنزل, لذا قام باكرًا وهيّأ نفسه، إلاّ أنَّ السيارة لم تأتِ. وعند الساعة السابعة وصل السائق وحده قائلًا: “لقد تعطّلت السيّارة”، فتأخَّر الحاج حتَّى الساعة التاسعة.

بقي ساعتين في المنزل دون أن ينبس ببنت شفة. جلس متّكئًا على السرير في زاوية الغرفة، قابضًا يدَيه على ركبتيه، غارقًا في حالة من الذهول والحزن. كان مهدي يحمل إبريق الشاي في يده ويدور في

الغرفة ويقول “بابا، بابا”. كان يقترب أحيانًا من أبيه، لكن الحاج لم يكن يتفاعل معه. عندها ضقت ذرعًا من نظراته الباردة، فالتفتُّ إليه وقلت: “هذه المرّة أصبحت بلا عاطفة تجاهنا، ليس مهمًّا أمري، على الأقلّ راعِ ذلك من أجل هذا الطفل! “.

سكت الحاج، ثمَّ أدار وجهه إلى ناحية أخرى فلم أستطع رؤيته بالكامل، فغيَّرتُ مكاني وأخذت أتأمّله، كانت دموعه تسيل على خديه. وصلت السيّارة، وكان الحاج جاهزًا. أذكر أنَّه في الأسفار السابقة كان يربط شريط حذائه في السيارة، لكن ذلك اليوم، وببرودة كاملة جلس أمام الباب، وربط الشريط بكلّ هدوء. عند الوداع طأطأ رأسه قائلًا: “أشكر الله, لأنَّ السيارة تأخّرت, لأمكث معكم أكثر، والآن أنا ذاهب”.

– “إلى أين”؟
– “إلى حيث يجب أن أمضي. إن لم أعد ثانيةً، سامحيني”.

كنت أدرك تماماً معنى كلماته، فقلت له في هذه الحالة: “من غير الممكن أن تستشهد” فسأل: “وكيف ذلك؟!” قلت: “لا أظنّ أنَّ الله، -وفي لحظةٍ واحدة-، يأخذ من عبده كلّ شيء”.

وذهب الحاج، رافقناه أنا ومصطفى إلى فناء الدار. وعندما تناهى إلى مسمعي هدير محرّك السيارة، خيّم إحساس افتقاده بشدَّة على قلبي.

كان الوداع الأخير، حظي بعدها بالشهادة وفاز بما أمل ونال ما ابتغاه، وبقي أحبّته وعشَّاقه في غمٍّ وحزنٍ عميقَين.

حكاية العروج
يروي “مهدي شفازند” عن الرحلة الأخيرة للحاج همَّت فيقول:
كان الحاج همَّت والسيِّد حميد يستقلّان درّاجة ناريّة، ويسيران أمامي، كانت المسافة بيننا لا تتجاوز المترين، وكنّا نريد أن نعبر الطريق المستحدثة مؤخّرًا لنصل إلى جزيرة مجنون, الجزيرة التي استحدثها العدوّ في فترة الحرب عبر ضخّ المياه, ليمنعونا من التقدُّم، فقمنا ببناء طريقٍ ترابيّة في وسط المياه للوصول إلى الجزيرة. كان العراقيّون يرصدون هذه الطريق من أحد مواقعهم, حيث كانت تتمركز فيه دبّابة تقوم باستهداف كلّ سيّارة أو درّاجة تعبره.

كنّا نسلك هذه الطريق يوميًّا، وكنّا نعرف أنّه من الممكن أن يتمّ قصفه أثناء عبورنا، لكن عندما مرَّت دراجة الحاج حميد لم نشهد أيّ إطلاقٍ للنار، بعدها أحسستُ بشعوٍر داخليّ أنّه سيتمّ استهدافنا، صرخت بأعلى صوتي: “حاج همَّت، ينبغي أن نسرع أكثر” ولم أكمل جملتي حتَّى قذفتني الموجة الإنفجارية فأحسست للحظات أنّني قد فقدتُ الوعي ولكن بعد أن استجمعت قواي ونهضت رأيت الدراجة ملقاة على طرف الطريق الترابيّة، بحثت عن الحاج همَّت والسيِّد حميد فوجدت جسدين مطروحَين جانب الطريق، كان الجسد الأوَّل سالمًا لكنَّه بدون رأس، أمّا الجسد الثاني كان جسد السيّد حميد.

أمّا عن كيفيّة إعلان نبأ الشهادة، فيروي أحد المجاهدين:
رأيته للمرّة الأخيرة في جزيرة مجنون، في ذلك الوقت كانت قد وصلت عمليَّات خيبر إلى ذروتها، كان يتمتّع بروحيَّة غير عاديَّة، تشعر للوهلة الأولى أنَّ في عينه شوقًا كبيرًا للسفر، لكن للأسف لم ندرك

معنى هذه النظرة حينها، اقتربتُ منه وسلَّمت عليه، فردّ سلامي، وأضاف: “سيأتي إخوة جُدد لاستلام المنطقة، يجب أن تشرحها لهم بشكلٍ كامل” وافترقنا.

كان من الواضح لدينا، مدى التأثير الذي سيتركه إعلان خبر استشهاد الحاج على إنهاء العمليَّات, لذلك أخفينا خبر شهادته عدّة أيّام، بعد انتهاء العمليَّات أعلن الراديو الخبر: “استشهاد فاتح خيبر، القائد، الحاج إبراهيم همَّت، قائد لواء 27 محمّد رسول الله”.

نُقل جسد الشهيد من جزيرة العشق “جزيرة مجنون” إلى معسكر “دوكوهه”، حتَّى يوَدِّع المكان الذي طالما عشقه، ومن هناك إلى طهران ثم أصفهان ثمَّ “شهر رضا”. لعلّه من القلائل الذين أخرجوا – عند شهادتهم -، هذه المدن لتوديع جنازته، ولعلّ أبلغ ما قيل فيه ما كتبه الشهيد مرتضى آويني: “لن أدع صوت الحاج همَّت يخفت في قلبي أبدًا، فاتح خيبر ذاك، فتح قلاع قلوبنا أيضًا” .