الرئيسية / تقاريـــر / مستقبل العلاقات الأوروبية – الإسرائيلية بعد انسحاب بريطانيا – السفير فيردي ايتان

مستقبل العلاقات الأوروبية – الإسرائيلية بعد انسحاب بريطانيا – السفير فيردي ايتان

من أجل فهم ما حدث على حقيقته لا بد من إعادة هذه الخطوة البريطانية إلى أسبابها الصحيحة، ودراسة ما يمكن أن يحدث لاحقاً، في المستقبل القريب والبعيد، في منطقتنا، وبشكل خاص الآثار التي يمكن أن يتركها ذلك على إسرائيل.

 
فيردي ايتان: على إسرائيل أن تستعد بما ينسجم انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

 
إن انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو قبل كل شيء مشكلة داخلية بريطانية خطيرة، والتي يجب على زعمائها حلها بجدية وبالسرعة الممكنة. وقد فوجئ قادة الاتحاد الأوروبي جداً بقرار البريطانيين وذلك لأنهم اعتمدوا على استطلاعات الرأي وتوقعوا ببرود، وبلا مبالاة، أن يتحلى معظم الشعب البريطاني بالمسؤولية وبالتضامن، وأن يواصل الانتماء إلى الاتحاد بما يتوافق مع أمنيات رئيس حكومتهم ديفيد كاميرون.

 
صحيح أن الإحباط والمرارة يسيطران فعلاً على قادة المجتمع الأوروبي، إلا أنه على الرغم من الصدمة الأولى فإن هناك ملامح تعافي معينة. وقد بدأت أوروبا بالاستيقاظ شيئاً فشيئاً. وغالبية عناوين الصحف التي تنبأت بحدوث هزة مالية عالمية، إلى درجة أنها تجرأت على عقد مقارنة تاريخية مع صعود النازيين إلى الحكم، هذه العناوين ستتلاشى بسرعة، وغالبية الردود السوداوية والتنبوءات الغاضبة قد خبت، والأسواق والبورصات ستصبح منذ الآن أقل عصبية وأكثر استقراراً.

ومن الواضح للجميع أن الاتحاد لن يتفكك بسرعة، فهو لايزال قائماً، يتنفس ويتحرك، وهو سيواصل على الأغلب، على المديين القصير والمتوسط، تمثيل 27دولة موحدة يعيش فيها حوالي نصف مليار شخص، يتجاوز الدخل المتوسط لكل واحد منهم 30.000 دولار.

 
الأسباب الحقيقة للانسحاب

من أجل فهم ما حدث على حقيقته لا بد من إعادة هذه الخطوة البريطانية إلى أسبابها الصحيحة، ودراسة ما يمكن أن يحدث لاحقاً، في المستقبل القريب والبعيد، في منطقتنا، وبشكل خاص الآثار التي يمكن أن يتركها ذلك على إسرائيل.

 

ويجب قبل كل شيء ذكر الحقائق التالية:
● لقد طُرحت فكرة إقامة “منطقة السلام ولاستقرار” في أوروبا في نهاية الحرب العالمية الثانية، وتمت صياغتها في تصريح علني في 9 أيار / مايو 1950 من قبل وزير الخارجية الفرنسي في ذلك الحين روبرت شومان.

 
● في 25 آذار / مارس 1957 ولدت المجموعة الأوروبية المشتركة الأولى وذلك بعد التوقيع على معاهدة روما. ولم تكن بريطانيا من مؤسسي الاتحاد الأوروبي وتم رفض محاولاتها للقبول بها في الاتحاد بشروط خاصة، وفي عام 1967 استخدم الجنرال ديغول الفيتو في الموضوع.

 

وبالمناسبة هذا هو الجنرال ديغول نفسه الذي كان قد فر من فرنسا بعد أن اُتهم بالخيانة وحكم عليه بالإعدام من قبل نظام فيشي وحصل على اللجوء السياسي في لندن. وكما قال بالفعل الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه: “الدول هي مخلوقات ممسوخة متبلدة المشاعر”.. حيث تطغى المصالح على كل شيء.

 
● وفقط، بعد مفاوضات مضنية استمرت سنوات طويلة، وفي نهاية الاستفتاء الذي جرى في عام 1975، تم قبول بريطانيا في السوق الأوروبية المشتركة.

 
● ومع ذلك فإن بريطانيا لم تكن جزءاً من فضاء العملة الأوروبية، فهي قد واصلت الاحتفاظ بالجنيه الإسترليني. كما أنها لم توقع على اتفاقيات شنغن لإلغاء الحدود والجمارك. كما أنها لم تكن عضواً في المؤسسات المعنية بالجوانب القانونية والاجتماعية الخاصة بالقارة. وقد عارضت بشدة أيضاً المداولات المشتركة حول الأمن الجماعي الأوروبي على الرغم من أنها عضو كامل العضوية في حلف شمال الأطلسي (الناتو). وهو ما يعني أن بريطانيا قد اختطت دائماً خطاً خاصاً للانفصال. وهي عملياً كانت فقط عضواً في الفضاء الأوروبي الضخم للتجارة الحرة.

 

وفي ظل الحقائق المذكورة أعلاه فإنه مما لا شك فيه سيكون لانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، من الناحية الاقتصادية، آثاراً أقل تدميراً مما أعتقد الكثيرون في البداية. ومع ذلك فإنه من الواضح أن أوروبا قد ضعفت سياسياً، وأنها ستفقد الوزن النوعي لبريطانيا عندما تريد الإقدام على اتخاذ قرارات مصيرية.

 
أسباب الانسحاب

بالإضافة إلى العوامل المختلفة المرتبطة بالسياسة الإنجليزية الداخلية، تجدر الإشارة إلى ثلاثة أسباب رئيسية أثارت قلق البريطانيين والتي أرغمتهم على الانسحاب من الاتحاد:

 
● الإدارة المرهقة والبيروقراطية الشديدة التي تعطي لموظفين من 28 دولة، ولجان مختلفة، وليس لأشخاص منتخبين من قبل الجمهور، صلاحيات مفرطة في اتخاذ القرارات في كل المواضيع وبخاصة تلك المرتبطة بالأمن الشخصي.

 
● تدفق المهاجرين من أوروبا الشرقية، ومؤخراً من العراق وسوريا وليبيا.

 
● العمليات الإرهابية التي يقوم بها مواطنون أوروبيون بإيحاء من تنظيمات إسلامية مثل داعش والقاعدة. وقد اثبتت التفجيرات في بروكسل وباريس غياب التنسيق وتعارض المصالح بين المؤسسات الأمنية، والفشل المدوي للجهات الاستخبارية.

ويجدر التأكيد هنا على أن الاتحاد الأوروبي قد فشل في كل ما يرتبط بالسياسة الخارجية. وهذه هي الإخفاقات الرئيسية التي حصلت خلال السنوات الأخيرة فقط:

 
● تشجيع أوروبا لرحيل القذافي ومبارك وبن علي من الحكم في ليبيا ومصر وتونس، وتأييدها لـ “لربيع العربي”، تسببا في حدوث أزمات وهزات لا تزال آثارها تطال الشرق الأوسط وبلاد المغرب، وبشكل غير مباشر، أوروبا نفسها أيضاً.

 
● حالة عدم اللامبالاة حيال حل الحرب الأهلية في سوريا، وازدياد قوة التنظيمات الإسلامية وظهور داعش، أدت إلى حدوث هجرة ضخمة ضمت ملايين المهاجرين. وبدلاً من حل الأزمة في الزمن والتوقيت الصحيحين يضطر الأوروبيون الآن لمواجهة المشكلة، ويشعرون بآثار الهجرة المنفلتة، وبتهديدات العمليات الإرهابية، على أرضهم.

 
وبالإضافة إلى ذلك يجب التأكيد على أن الإدارة الأمريكية لم تدعم الأوروبيين، وتعاملت معهم ببرود، وهي قد فشلت أيضاً بإيجاد الحلول المناسبة. ونشير هنا إلى أن الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، يشكل من وجهة النظر البريطانية، صفعة مدوية لإدارة أوباما. وكان رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، بقدره وجلاله، قد دعا إلى تأييد بقاء البريطانيين في الاتحاد، ولم يستمع أحد إلى دعوته هذه التي أطلقها خلال زيارته الأخيرة إلى لندن.

 
● الأزمة في أوكرانيا والتوتر مع فلاديمير بوتين مع فرض العقوبات الاقتصادية على روسيا.
إن أوروبا اليوم مرتبكة وتبحث عن نفسها. ففي موضوعي المهاجرين وموجة الإرهاب المستشري هي عملياً تدافع عن الوطن. وهذا التهديد قائم ويومي. وحالة الإفلاس لدى القيادة الأوروبية، وضعفها في إيجاد حلول للمشاكل الكثيرة، تعيد إلى الذاكرة التهديدات التي كانت قائمة في الثلاثينيات مع صعود هتلر إلى الحكم عشية الحرب العالمية الثانية. وقد تسببت العمليات الإرهابية بحالات الطوارئ والرعب وحالة من التشكيك بالمستقبل.

 

ولم يشأ البريطانيون، في هذه الظروف، الانجرار خلف هذا الفشل وفضلوا مواجهة المشاكل بمفردهم بدون مساعدة من الخارج. وبريطانيا التي خبرت أزمات في الماضي ستعرف كيف تواجه المشكلة الحالية. ونؤكد في هذا الشأن أنه في الثمانينيات لم تشكل قضية الهجرة من الدول الإسلامية أية مشكلة وذلك لأن الأوروبيين كانوا بحاجة إلى أيدٍ عاملة. وقد أفسحت الأحزاب اليسارية، التي كانت في سدة الحكم في ذلك الوقت، المجال أمام لم شمل العائلات بسهولة. وعلى خلاف كل التوقعات، وبعد ثلاثين عاماً من ذلك، تسارعت الثورة الإسلامية بشكل مذهل وسيطر الدين على أوروبا بدلاً من الأيديولوجيا العلمانية.

 

ولكن إلى جانب النجاحات والتغلغل الإسلامي تعاظمت الإسلاموفوبيا. ونؤكد أنه طالما أن المسلمين لا يستوعبون أن عليهم، مثل اليهود في عصرنا وكل بقية المهاجرين، التأقلم والقبول بقواعد الجمهورية فإن الوضع سيتفاقم ضدهم أكثر فـأكثر. وبالنسبة لغالبية الأوروبيين فإنه لا يمكن تصور أن يتم الاعتراف بالجالية المسلمة بوصفها جالية مختلفة بكل المفاهيم المرتبطة بالحضارة الغربية.

وفي موضوع السياسة الخارجية لا تزال تسود في أوروبا حالة احباط كبيرة كانت قد حصلت منذ عملية قاديش (العدوان الثلاثي على مصر) عام 1956 والانسحاب من المستعمرات الكولونيالية. فنهج المحافظة على النظام العالمي القديم يجد صعوبة في التكيف مع الابتكارات التكنولوجية والاجتماعية الموجودة في عصر الانترنت والهواتف الذكية.

لقد ارتكب الاتحاد الأوروبي خلال السنوات المنصرمة عدداً من الأخطاء الإستراتيجية. الخطأ الأول هو “توسيع النادي” أمام كل من طرق الباب من أوروبا ومن خارجها. كما أن هناك خمس دول أخرى، من ضمنهم تركيا، تقدمت بطلب عضوية. ومن الواضح أن هناك فرقاً كبيراً بين عمل أوروبا الموحدة وهي تضم تسعة أو اثني عشر عضواً أو إذا ما كانت تضم عشرين أو ما يفوق ذلك من أعضاء. وهناك خطأ آخر وهو إلغاء الحدود والذي وضع حداً للحماية التجارية وتسبب في طوفان من البضائع من الصين، وفي الاضطرار لإغلاق الكثير من المصانع الأوروبية والبطالة المتزايدة. وقد أدى إلغاء العوائق والحدود إلى الهجرة الحرة للأجانب.
المجموعة الأوروبية والمشكلة الفلسطينية

يمكن القول إنه في موضوع واحد فقط هناك اجماع في المجموعة الأوروبية وهو حل القضية الفلسطينية. والمبادرة الفرنسية الجديدة وعقد اجتماع دولي يُظهران بشكل جلي النهج الأوروبي لحل النزاع.

إن انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لن يغير من سياسة أوروبا في منطقتنا، وعلى إسرائيل أن تستعد بما ينسجم مع ذلك. وعلى خلاف بريطانيا التي عرفت كيف تواجه بمفردها مشكلات كبيرة فإن دولة إسرائيل لا تستطيع أن تسمح بعزل نفسها، وهي دائماً ستكون بحاجة إلى أصدقاء حقيقيين وإلى حلفاء.

وتُسمع بعض الأصوات في البلاد، التي تدعو إلى التركيز، من الآن فصاعداً، على الأسواق الآسيوية الواعدة والاستغناء عن أوروبا وذلك بسبب سياستها المؤيدة للفلسطينيين. وحسب تقديرنا فإن هذا الأسلوب خاطئ، لأنه اليوم، وعلى الرغم من ضعفها، فإنه يجب عدم الاستخفاف بالقوة الاقتصادية للمجموعة الأوروبية. وهي ستبقى تشكل بالنسبة لنا قوة عظمى هامة اقتصادياً وسياسياً ومتصلة بحبلنا السري من الناحية الجغرافية والتاريخية والثقافية.

وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن أوروبا ليست كتلة واحدة متجانسة، إذ أن هناك فروقات جدية بين الغرب والشرق. وتوجد لإسرائيل علاقات ثنائية في كل المجالات مع كل واحدة من الدول الأوروبية. والعلاقات مع بعضها وثيقة جداً وودية، أما مع بعضها الآخر فإن هذه العلاقات أقل قابلية للتطوير. وعلينا أن نتوقع ألا يضر انسحاب بريطانيا بالعلاقات وبالصادرات الإسرائيلية إلى أوروبا. ونؤكد أن إسرائيل عضو في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) الهامة والمرموقة. وقد وقعت على الكثير من الاتفاقيات ولها مصالح مشتركة في المجالات الاقتصادية والعلمية وفي مجال الطاقة. وهي ستظل عضواً في مشروع (HORIZON 2020). وكانت قد افتتحت للمرة الأولى ممثلية لها في مقر حلف شمال الأطلسي (الناتو) في بروكسل.

ويمكن التقدير، والأمل، بأن العلاقات الثنائية مع بريطانيا، وهي العضو الدائم في مجلس الأمن الدولي، ستزداد قوة وذلك على الرغم من الأصوات التي تُسمع هنا وهناك من المنظمات اليسارية المتطرفة ومن نشطاء حملة مقاطعة إسرائيل (BDS).

وبالمناسبة فإنه يجب التأكيد أن اختيار صِدّيق خان محافظاً لمدينة لندن لن يضر بالجالية اليهودية، وحتى أنه فتح حواراً مثيراً وهاماً مع رؤساء الجالية الإسلامية المعتدلة.

وفي الوقت نفسه يجب العمل من أجل منع المنظمات اليسارية أو اليمين المتطرف من استغلال انسحاب بريطانيا لأهداف قومية وشعبوية وعنصرية والتي قد تركز في البداية على المهاجرين المسلمين وعلى الأقليات الأجنبية، لتطال بعد ذلك اليهود، وإسرائيل بشكل غير مباشر.

وفي النهاية يمكن القول إن انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيوفر للبريطانيين هامشاً أكبر للمناورة من الناحيتين السياسية والاقتصادية. وستقلع لندن عن الارتهان لأهواء موظفي بروكسل في كل ما يرتبط بإسرائيل وبحل المشكلة الفلسطينية. وعلينا أن نجد، بالحكمة البالغة، السبل الدبلوماسية لتحقيق ذلك، والعمل من أجل الحفاظ على هذه الأصول القيّمة.

شاهد أيضاً

القصة الكاملة للعلاقات السعودية الإسرائيلية: قراءة في الحقائق والدلالات

تحوَّل تقرير صحيفة التايمز البريطانية والمتعلق بالخطوات المستقبلية لتطبيع العلاقات الإقتصادية بين السعودية والكيان الإسرائيلي، ...