الرئيسية / تقاريـــر / حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن – الشيخ نعيم قاسم

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن – الشيخ نعيم قاسم

الوطن حيِّزٌ جغرافي له حدود، تكوّنت من خلال مسار وتطوّرات تاريخية، ينتمي إليه من وُلد فيه، ما يُكسبه حقوق المواطنة، ولا يملك أحد حق نزع هذه الصفة عنه. فالوطن لجميع أبنائه الذين ولدوا فيه.الولاء للوطن: تعبيرٌ ملتبس، حيث تختلط فيه الجغرافيا بالسياسة، فإذا ما كان المقصود هو الارتباط الجغرافي، فكل فرد مواطن ما لم يتخلَّ عن جنسيته ليختار جنسية أخرى في بلدٍ آخر. وإذا ما كان المقصود الموقف السياسي، فسيأتي الحديث عن قواعد الولاء وتطبيقاتها، لنعرف كيفية ارتباط المواطن بوطنه.

 

تعريف الإسلام: الإسلام هو آخر رسالة سماوية أتى بها سيّد الرسل وخاتمهم محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، تحمل منهجاً كاملاً للحياة، ففيها العقيدة والشريعة، وهي منظومة فكرية وسياسية واجتماعية واقتصادية كاملة صالحة للفرد والجماعة، ولنظام حكم الدولة طبق تعاليمها، وهي دعوة إلهية تحثّ الناس على أن يلتزموها، فلا تقتصر على علاقة الإنسان بربّه وبنفسه، وإنما تشمل تنظيم علاقات الناس كافة، إذا ما اختاروا تطبيقها في حياتهم ودولتهم.

 

وليّ أمر المسلمين: قال تعالى: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّور﴾2، فهو الآمر الناهي للمؤمنين، وقد أمرهم بالطاعة للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولأولي الأمر الذين يتولّون شؤونهم، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾3. والواضح أن السلطة من الموقع الديني لأولي الأمر بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فلا يمكن للمؤمن أن تبرأ ذمّته أمام الله تعالى إلاَّ إذا التزم أوامر وتوجيهات الوليّ، وهذه مسألة إيمانية عقيدية، ولكن من هو الوليّ؟ وما هي حدود سلطته على المؤمنين؟ وما تأثير ذلك في وطن لا يتبنّى نظامه السياسي الحكم الإسلامي على أساس قيادة (ولاية الأمر)؟ هذا ما سيتّضح إن شاء الله تعالى في طيّات هذا البحث.

 

حزب الله: انطلق حزب الله على أساس التزامه بالإسلام عقيدة وشريعة، ويضم في صفوفه من يؤمن بالإسلام كمنهج حياة. وهو يلتزم قيادة الوليّ الفقيه انسجاماً مع إيمانه بولاية الأمر، كركنٍ أساس لهذا الإيمان، ويتحرّك في الساحة كحزب لبناني له تطلّعاته وآراؤه ومساهماته في حماية الوطن وإدارته. وقد برز بمقاومته لإسرائيل المحتلَّة في مفصل تاريخي واكب نشأته وقناعاته، وله رؤيته المتكاملة كحزب جهادي سياسي من كل القضايا المطروحة على الساحة، والتي يترجمها عملياً من خلال المواقف التي يتّخذها، ومنها ما سنبيّنه في النظرة إلى الوطن وولاية الفقيه.

 

المبدأ واتجاهاته

 

يحتاج الإنسان إلى مبدأ أو رؤية أو منهج يؤمن به في حياته، ليرسم معالمه على أساسه، ما يؤمِّن له ترابط خطواته انطلاقاً من هذا المبدأ. والقاعدة الأمثل أن يختار الإنسان مبدأه بقناعة عقلية بعيداً عن المؤثّرات المجتمعية الضاغطة. لكنَّ المجتمع بعاداته وموروثاته يؤثّر غالباً في تشويش الصورة. لكنَّها مسؤولية الإنسان في بحثه عن خياره، وهو الأمر الاعتقادي الذي تتأثّر به كل حياته فكرياً وسياسياً واجتماعياً… فالمنطلق قبل كل شيء يبدأ من عقيدة الإنسان، ما يعتقده ويؤمن به ويعتبره مبدأً له ومنهاجاً، والذي ينعكس على حياته وسلوكه على جميع الأصعدة في المجتمع، فإذا ما اختار الشريعة المنسجمة مع هذه العقيدة حقَّق الترابط الأفضل في إطار المبدأ الذي آمن به.

 

اختلفت عقائد الناس عبر التاريخ، فانقسموا إلى اتجاهين كبيرين متباينين:

 

1- الاتجاه الإلهي: باتّباع الأنبياء والرسل وتعاليمهم بحذافيرها.

 

2- الاتجاه المادّي: بتحديد تعاليم ابتدعها الناس من خلال مفكّريهم وقياداتهم وزعمائهم، مبنية على رؤيتهم المادية للحياة..

 

ثم اختلطت الأمور اختلاطاً كبيراً، فتمايز الاتجاهان مع مرور الزمان بخلافٍ حاد بينهما، وفي الوقت نفسه صاحبهما اتجاهات كثيرة مزجت وحذفت وعدَّلت بين الاتجاهين، فنشأت اتجاهات جديدة مختلفة تماماً عنهما، لها خصوصياتها ومعالمها البارزة.

 

برز الإسلام كاتجاه إلهي يحمل منظومة متكاملة منذ ألف وأربعمائة سنة ونيِّف، في حياة المؤمنين به من ناحية، وفي موقع الحكم والسلطة من ناحية أخرى. ولكنَّ الكثير من ممارسات الحكام والدول شوَّهت وأساءت وراكمت سلبياتٍ لا علاقة لها بالإسلام، أضرَّت كثيراً بهذه التجربة، ومنها بدعة وراثة الحكم، والنزاعات الدموية على السلطة، وقهر المواطنين على اتّباع مذهب السلطان… وإنْ بقيت الشريعة من خلال الأحكام الشرعية في المعاملات محفوظة بالإجمال، والعهدة على سلامة التطبيق ومداه.

 

كما تمَّت صياغة وتطبيق أنظمة حكم مادية عبر التاريخ، كان أبرزها كصيغ مترابطة ما اشتهر في القرنين الأخيرين من خلال الاتجاهين الشيوعي والرأسمالي. وقد طغى على الشيوعي الجانب العقيدي فبرز بوضوح أنه موجِّه للجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولم يكن هذا الطغيان موجوداً في الاتجاه الرأسمالي الذي آثر في عقيدته حرية الفرد بما فيها حرية الاعتقاد، متجاوزاً إلى رسم معالم المنظومة الاقتصادية المجتمعية على أساس آراء المفكرين الذين صاغوا المبدأ الرأسمالي.

 

ومع نشوء الدول وانقسامها، كما هي موزّعة اليوم، أصبحنا أمام اتجاهات سياسية حاكمة كثيرة التنوّع، وإن كانت المعالم الأساسية في أنظمة حكم العالم بشكل عام هي الأنظمة المادية، التي استفادت من بعضٍ من التشريعات الإلهية، واستقلت ببعضٍ آخر، وتفاوتت فيما بينها.

 

العقيدة والشريعة: يحتاج الإنسان إلى مبدأ، وهو ما نعبِّر عنه بأمرين متلازمين: العقيدة التي يؤمن بها وهي التي تتعلّق بالنظرة إلى الخالق وطبيعة الحياة ودور الإنسان فيها، والشريعة أو (طريقة الحياة) التي تنظم الحياة والعلاقات بين الناس، في الميادين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية…

 

تنعكس العقيدة على حياة الفرد الشخصية، فإذا ما كان مؤمناً بالله تعالى التزم بالعبادات، وامتنع عن المحرّمات، وذلك بحسب ما تمليه عقيدته الإيمانية، وإذا ما كان ملحداً، انعكس إلحاده على ما يفعله وما يرفضه في حياته الشخصية بحرّية تامة تعود إلى تقديره فيما يناسب أو لا يناسب، وكذلك إذا لم يكن مؤمناً ولا كافراً بحدودٍ واضحة، وإنما في حالة اعتقاد انتقائية، يعود الأمر إلى تقديره للخير والشر، وللعادات التي نما عليها واقتنع بها. فبذلك تكون العقيدة مؤثرة على السلوك الفردي، وعلى العلاقات مع الناس بتطبيق ما في الشريعة في هذا المجال، وهو إطار محدود وضيِّق، لأنَّ الإطار الأرحب في العلاقات بين الناس يتمثَّل في نظام الحكم.

 

أمَّا الشريعة فهي المدى الأوسع الذي تشمل معاملات الناس كلها، ومنها ما يرتبط بنظام الحكم، وبذلك يمكن أن تكون الشريعة قاعدة لنظام الحكم السائد في البلد، فيطبّقها الأفراد كقوانين، أو أن لا تُطبَّق كنظام للحكم فيختار الأفراد من الشريعة ما يستطيعونه في علاقاتهم اليومية في التعامل الاجتماعي والاقتصادي بما لا يتصادم مع النظام العام، أو بما يدخل في المعاملات الفردية. فالشريعة تؤدّي إلى نظام الحكم في الدولة، فإنْ لم يتحقّق هذا الأمر، فهي تطبيقات محدودة في حياة الأفراد بحسب إيمانهم وبما يتاح لهم.

 

بما أنَّ خيارات الناس مختلفة ومتنوعة جداً، فسنكون أمام حالات عدة، في الحالة الفردية وحالة الجماعة.

 

1- على المستوى الفردي: إمَّا أن يحمل الفرد على مستوى العقيدة والشريعة أو (طريقة الحياة) رؤية متجانسة، بارتباط الشريعة بالعقيدة، وإمَّا أن تكون رؤيته غير متجانسة بعدم ارتباطهما، فتكون العقيدة من اتجاه، والشريعة أو (طريقة الحياة) من اتجاهٍ آخر. فيطبِّق من الشريعة أو (طريقة الحياة) في حياته الفردية، بحسب ما يحمله طابع التكليف الفردي ومستوى إيمان هذا الفرد، ويسعى لتُطبِّق الجماعة في حياتها ما يؤمن به.

 

2– على مستوى الجماعة: بما أن المجتمعات اليوم محكومة في إطار دول لها حدود جغرافية، فإنَّ الانتظام العام لاستمرارية أي دولة واستقرارها، أن تختار نظام الحكم فيها، وأن يكون لها قوانين وأنظمة تنسجم مع خياراتها، وتتضمّن آليات التغيير والتعديل فيها، وبالتالي فلا يمكن لجماعة واحدة داخل الدولة الواحدة أن تنفرد بما تريد، ولا تستطيع أن تفرض ما تريد، وبالتالي فإنَّ ترويج كل جماعة لأفكارها وقناعاتها والدفاع عنها، جزء لا يتجزّأ من محاولة تكوين الرأي العام في الدولة، الذي ينتج عنه التوافق أو الأرجحية، ثم يتكوّن نظام الدولة.

 

أمَّا رغبة تغيير نظام الحكم أو تثبيته، والتعبير عن الرضا به أو عدمه، فهو أمر يعود للأفراد أو الجماعات في كيفية تظهير قناعاتهم، وعندها يكون تقييم كل حزب أو حركة أو جماعة من خلال طروحاتهم، وما يتّخذه مواطنو الدولة من موقف بتأييد أو رفض هذه الطروحات. فالشريعة أو (طريقة الحياة) للجماعة تتجلَّى بنظام الحكم الذي لا يُطبَّق في دولةٍ ما لمجرّد إيمان أفراد أو جماعةٍ ما به، بل هو مسارٌ معقَّد لتثبيت اختيار نظام الحكم تتداخل فيه عوامل كثيرة. فإذا ما كانت الشريعة مختلفة عما يؤمن به الفرد أو الجماعة، فهذا لا يمنعهم من التعبير النظري عن إيمانهم، وتطبيق ما أمكن من الشريعة في حياتهم الخاصة، وهو حق مشروع لجميع الناس في التعبير عن الموقف، من دون إكراه أو فرضٍ بالقوة.

 

الحزب الإسلامي

 

يؤمن حزب الله بالإسلام عقيدة وشريعة من الموقع المبدئي، ويرى أن عمله السياسي في الساحة، وأداءه المقاوم لتحرير الأرض والدفاع عنها، وحمل مطالب الناس الاجتماعية والاقتصادية، وسلوكه الحزبي الذي يؤدّي إلى الانتماء إليه، ووجود المناصرين حوله، كل ذلك انعكاسٌ لرؤيته المبدئية.

 

فالحزب الذي عُرف منذ النشأة بجهاده ومقاومته للاحتلال الصهيوني، يحمل الرؤية المتكاملة للإسلام، ويعمل على أساسها في كل الميادين السياسية والاجتماعية وغيرها في بلده، من ضمن تحديده لمتطلبات الساحة وأولوياتها. فإذا ما برز بمقاومته لإسرائيل إلى درجة اعتباره حزب المقاومة، فلأنَّ هذه المرحلة المثقلة بالاحتلال تتطلّب أولوية الاهتمام بطرد المحتل، وتحرير الأرض، وحشد كل الطاقات والإمكانات لذلك. وقد تحقَّق إنجاز التحرير عام 2000 الذي انعكس على كل الواقع اللبناني، وجعل العمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي وحمل هموم وقضايا الناس أموراً نافعة ومؤثّرة. تبقى المقاومة أولوية بوتيرة تنسجم مع طبيعة كل مرحلة، وترتبط باستمرار احتلال مزارع شبعا وتلال كفر شوبا من ناحية، ووجود اسرائيل كمحتلٍ للأرض الفلسطينية يمثِّل خطراً حقيقياً وتهديداً دائماً بالحرب والقتل ومحاولة فرض الحلول السياسية للسيطرة على المنطقة من جهة أخرى.

 

أخطأت الدوائر الغربية بسعيها لعرض مقايضةٍ على الحزب، بالتخلّي عن المقاومة مقابل إعطائه دوراً سياسياً فاعلاً في الحياة اللبنانية، لأنَّ الحزب بإيمانه مقاومٌ وسياسي، وله مشروع متكامل، ويعمل كما تعمل الأحزاب في ساحاتها، ويعتبر مقاومته جزءاً من أهدافه وبرامجه، وهو لا يبحث عن دور سياسي ممنوح، فدوره يتشكَّل من خلال نشاطاته وقناعة الناس بأهليته لقيادتها. وعندما لا يستثمر نجاحه المقاوم في تحقيق إنجازات سياسية داخلية، فلأنَّه مقتنع بأنَّ مسار المقاومة له مستلزماته ونتائجه، ومسار العمل السياسي له مستلزماته ونتائجه، ولا يصحّ استخدام قوة المقاومة لفرض شروط سياسية في الداخل. فمن وجهة نظر الحزب يجب احترام آليات العمل السياسي وخياراته السلمية بعيداً عن السلاح والقوة والفرض. وعندما يضحّي الحزب ببعض المكتسبات السياسية لمصلحة العمل المقاوم، فلا يرتبط الأمر بالمقايضة، وإنما بأولوية المقاومة لديه، لإيمانه بأنَّ نتائج عملها أوسع وأشمل وأكثر فائدة وانعكاساً لمصلحة رؤيته ومصلحة البلد بشكل عام. ومع ذلك فإنَّ حضوره السياسي والشعبي يزداد بشكل كبير، ويترك بصماته بوضوح على الحياة السياسية والعامة في لبنان.

 

حزب الله ليس تنظيماً للطائفة التي ينتمي إليها الغالبية الساحقة من أفراده والمؤيّدين المباشرين لخطِّه ومنهجه، بل مشروعٌ مبدئي يلتزم الإسلام. إنَّه حزبٌ إسلامي، انضمّ إليه من يؤمن بمشروعه، ومن الطبيعي أن يكون الأغلب الأعم من طائفة محدَّدة، لأنَّ خيارات الناس في الأفكار المبدئية تتأثّر بشكل كبير بالبيئة التي نشأوا فيها وترعرعوا عليها، وعادة ما تكون التحوّلات في أي بيئة مغايرة بطيئة وطويلة الأمد.

 

وبما أن الحرّية متاحة لكل فرد في المجتمع أن يؤمن بالمبدأ الذي يراه، وقد أمر الله تعالى المؤمنين بعدم إكراه أحد على الالتزام بالدين، أو اختيار المنهج الذي يريده، قال تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾4، فقد دعا الحزب الراغبين المؤمنين بمبدئه للانتماء إليه ونصرته، ولا علاقة له بالخيارات الأخرى لدى بعض الناس، والتي تُترجَمُ أحزاباً وحركاتٍ وتجمّعات، تطرح قناعاتها ومشاريعها لجذب الناس إليها، فحرّية الاختيار حقٌّ مشروع للجميع من دون استثناء وفي كل الاتجاهات.

 

إنَّ الدعوة إلى الإسلام جزء لا يتجزّأ من رسالة محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولذا وضَّح القرآن الكريم دور النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في تبليغ الدعوة، ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إلى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً * وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا﴾5، وأمر المؤمنين بالسير على خطاه، على أن يلتزموا في دعوتهم الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن: ﴿ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾6، انسجاماً مع سياق عدم الإكراه، وعرض المشروع الإلهي على الناس ليتبيَّنوا ويفكِّروا ويختاروا، وهكذا اختار حزب الله أن يقتدي بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في تبليغ دعوته، بالأسلوب الأمثل، بالحكمة والموعظة الحسنة، إلى جانب جهاده في سبيل الله تعالى.

 

وعندما نتحدّث عن حزب الله كحزب إسلامي، فهذا لا يعني وجود صورةٍ واحدة في العالم عن الحزب الإسلامي لتنطبق عليه. فقد تفاوتت الأحزاب الإسلامية كثيراً، ماضياً وحاضراً، في مشروعها السياسي، وآليات عملها، وأولوياتها في بلدانها، وتعاطيها مع الأمة الإسلامية على امتداد العالم، ونظرتها إلى أوطانها، وأساليب تعبيرها… فأصبح لا يجمعها إلاَّ عنوان الإسلام، بينما تفرِّقها المضامين والطروحات التي تتراوح بين أقصى اليمين وأقصى اليسار.

 

فمن الأحزاب الإسلامية من يرى وجوب فرض الحكم الإسلامي بالقوة العسكرية، وقتل المخالفين القريبين قبل الأعداء، وأن حزبهم يمثل الفرقة الناجية، أمَّا الباقون فهم كفارٌ أصليون أو مرتدون عن الإسلام، وأنَّ فريضة الجهاد مسؤوليتهم لإقامة الحكم الإسلامي بالقوة في مواجهة مخالفيهم وأعدائهم.

 

ومنها من يرى وجوب النأي عن العمل السياسي، وترك الأمر للحكام، والاكتفاء بالدعوة الثقافية التربوية إلى الإسلام، وتكثير المؤمنين، والمحافظة على التزامهم الديني بعيداً عن الحكم والسياسة.

 

ومنها من يرى وجوب الجهاد لمواجهة الأعداء والمحتلين، على أن يكون العمل الدعوي والسياسي في بلدانهم بطريقة الإقناع والعمل الهادئ البنَّاء، فلا قتال لفرض الدين أو الحكم الإسلامي.

 

ومنها من لا يرى ضيراً في أن يكون في كنف الاستكبار العالمي ليصل إلى مبتغاه، على قاعدة أنَّ الغاية الشريفة تبرّر أي وسيلة، وأن خدمة الدين تتمّ بكل الوسائل والأساليب المتاحة.

 

ومنها من يحمل آراء أخرى لا يتّسع المجال لذكرها جميعاً، كي لا نخرج عن سياق بحثنا. لكنَّ الواضح هو عدم وجود تصوّر واحد للحزب الإسلامي. ولذا يصبح الحديث عن حزب الله بخصوصيته أجدى للتعريف عنه وعن رؤيته، بدل الإسقاطات الفكرية أو السياسية التي تتمّ استعارتها من هنا وهناك، والتي تعطي عنه صورة غير واقعية.

 

تعدّدت المذاهب الإسلامية بسبب الاختلاف في تفسير أصول الدين وفروعه. ومع أن المشتركات بينها كثيرة جداً، إلاَّ أن اعتبار كل مذهب تفسيره هو الأصح، والمبرئ للذمة أمام الله تعالى، والمنسجم مع ما أمر الله تعالى ونهى، جعل المذاهب حالة واقعية متجذِّرة، فيما يعتبر دعاة كل مذهب – بحسب علمائه ومؤيّديه – أنَّه الطريق الأسلم للالتزام الدقيق بالمنهج الإلهي وهو الإسلام.

 

يلتزم حزب الله كحزب إسلامي المذهب الشيعي (الاثني عشري) كطريق لتطبيق تعاليم الإسلام، متقيّداً بمبانيه وأحكامه في أصول الدين وفروعه، أي في العقيدة والشريعة. وكما ذكرنا سابقاً، فإنَّ من العقيدة الإيمان بالله تعالى، الذي أرسل رسله إلى الناس ليؤمنوا برسالاته، وآخرهم سيّد الرسل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي أتى برسالة الإسلام، وهذا ما يؤسِّس لتبنّي الشريعة الإسلامية التي فيها العبادات والمعاملات، وتتضمّن قواعد وأحكام النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي على مستوى الحياة.

 

مرجع التقليد

 

إنَّ مهمة العلماء الفقهاء تحديد وتبيان أحكام الشريعة، من خلال إطلاعهم ودراستهم وبحثهم في كتاب الله تعالى القرآن الكريم، والسنة الشريفة بما فيها من قول وفعل وتقرير، للنبي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والأئمة المعصومين عليهم السلام. فهم الذين يجتهدون لتفصيل الأحكام الشرعية بأقسامها الخمسة: الواجب، والحرام، والمستحب، والمكروه، والمباح، ليكون المكلَّف، رجلاً أو امرأة، عارفاً بالحلال والحرام، مدركاً مسؤوليته تجاه الأعمال والوقائع المختلفة. وبما أنَّ عدداً من الفقهاء قادرٌ على استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة فهؤلاء مجتهدون، ومن أجل مركزة الآراء الاجتهادية بما يحقق الاطمئنان لدقة وسلامة الاجتهاد، فقد أجمع الفقهاء تقريباً على أن يتصدَّى أعلم المجتهدين، ليكون المرجع الذي يعود الناس إليه فيقلدونه، ويأخذون منه الفتاوى والأحكام الشرعية. ولذا أصبح مصطلح (المرجع الأعلى) أو (مرجع التقليد) يرمز إلى أعلى الفقهاء رتبة علمية تجعله مرجعاً للمكلفين، (مُقلَّداً) منهم، يعودون إليه لمعرفة تكليفهم بحسب الأحكام الشرعية. وعندما يختلف العلماء في تحديد الأعلم المتصدي لشؤون المرجعية، يتعدد المراجع، وكذا عندما لا يقول بعضهم بتصدي الأعلم، فيتصدى غير الأعلم، يتعدد (المقلَّدون).

 

وبما أن الشريعة الإسلامية خاتمة الشرائع وأكملها، أتمَّ الله تعالى النعمة بها، ورضيها للناس، وجعلها خالدة باقية ما بقيت الحياة، محفوظة عن التحريف، قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾7، وهي التي تعالج ثوابت الفطرة الإنسانية، وتضع القواعد والحلول المرنة للمتغيرات، ما يجعل الحاجة إليها مستمرة في كل زمان ومكان.

 

وبما أنَّ تغير الزمان والظروف سيُنشئ متطلبات جديدة في حياة الناس، وأسئلة مستحدثة حول الأحكام الشرعية، كما أنَّ تطور الفهم البشري سيؤدي إلى استيعاب أفضل لمضمون الآيات القرآنية والروايات الشريفة عن المعصومين، فضلاً عن تراكم الخبرة واتساع المعرفة في تسليط الضوء على جوانب جديدة أو فهمٍ أفضل لحدود بعض الأحكام الشرعية، فإنَّ الحاجة إلى (مرجع التقليد) الحي في كل زمان تصبح ضرورية، كي لا يجمَّد التشريع مقتصراً على حقبة زمنية بخصوصياتها من دون غيرها. لذا بقي باب الاجتهاد مفتوحاً، ورجَّح الفقهاء ضرورة عودة المكلفين في كل زمان إلى مرجع زمانهم الأعلم لتقليده، وعن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): «من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فعلى العوام أن يقلِّدوه»8.

 

تحديد المرجع في زمانه مرتبطٌ بعلمه وتصدِّيه للمرجعية، فعلمه بالشريعة وتقواه يؤهلانه لأن يلتزم المؤمنون باجتهاده في (المسائل العملية) التي يحتاجها المكلَّف، على امتداد الكرة الأرضية، ولا توجد أي أهمية لمكان ولادة المرجع أو جنسيته، فهو يبيِّن الأحكام الشرعية للمكلفين، ولا يقدم لهم قوانين وأنظمة بلد معين، ولا ينظم شؤونهم في منظومة حزبية أو هيكلية تنظيمية مرتبطة به، وإنما يرتبطون به بما يعرِّفهم تكليفهم، ليديروا شؤونهم في بلدانهم ومواقعهم المختلفة، داخل العائلة أو العمل أو الحياة العامة، وعلى مسؤوليتهم، وبمعنى آخر: المرجع يبيِّن لهم طريق الحلال والحرام المفصَّلة بالأحكام الشرعية، والمكلَّف ينفِّذ على مسؤوليته في هذا الإطار. فالمرجع في زمانه مرجعٌ لأهل الزمان في كل البلدان، وذلك لمن اختار مرجعيته وآمن بها.

 

دور الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وامتداد الولاية: الرسول محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نبيٌّ معصوم، بلَّغ رسالة الله تعالى إلى البشرية وهي الإسلام، قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾9، وهو القدوة التي علينا الاحتذاء بها، ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً﴾10. وقد عمل من موقعة كداعية إلى الله تعالى، وكقائد للأمة في شتى المجالات. فعلَّم المؤمنين وربَّاهم على رسالة الإسلام، وعرَّفهم الأحكام الشرعية في عباداتهم ومعاملاتهم، وطلب منهم أن يلتزموا ما التزمه، فقال لهم: «صلوا كما رأيتموني أصلي»11، وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «خذوا عني مناسككم»12، وهذَّب أخلاقهم، وبشَّرهم بالجنة، وأنذرهم من النار، كل ذلك في إطار دعوتهم إلى الله تعالى. كما قادهم في بناء الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، فكان رئيساً لأول دولة إسلامية، وقادهم في الغزوات والحروب والدفاع في وجه المعتدين على الدولة الناشئة، كل ذلك في مشهد متكامل ومترابط، ومنسجم مع الإسلام الذي لا يفصل بين العبادة والسياسة، بين الحياة الخاصة والعامة، ما يشمل مناحي الحياة البشرية في جوانبها كافة، فالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) داعيةٌ وقائد.

 

يؤمن المسلم بأنَّ الولاية لله جلَّ وعلا، أيَّ أنَّ الآمرية والنهي له، قال تعالى: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ﴾13، وأنَّ الله يرعى المؤمنين برحمته، وعلى المؤمنين أن يطيعوه ويتولوه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾14.

 

الولاية للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) متصلة بالولاية لله تعالى، فالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وليُّ الذين آمنوا، وهو المُرسَل من الله تعالى إليهم، ويبلِّغهم عنه جلَّ وعلا، وعلى المؤمنين أن يطيعوه ويتولوه في أمورهم وقضاياهم ﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾.

 

يعتقد الشيعة بالإمامة بعد النبوة، وأنَّ الإمام معصوم كعصمة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لكنَّ الوحي مختصٌّ بالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم). فما يقوله الإمام أو يفعله من موقعه ودوره كمعصوم لا يأتيه عن طريق الوحي، وإنَّما مما علَّمه وبيَّنه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للإمام (عليه السلام)، وعلَّمه الإمام للذي يليه، ومن إلهام الله تعالى وهدايته التي تصل إلى عقله وقلبه بإرادة الله تعالى، فقوله وفعله وتقريره نصوصٌ وأحكام شرعية، توضِّح وتفصِّل وتبيِّن ما يحتاج إلى المكلفون في العقيدة والشريعة..

 

تجسَّدت الإمامة بسيد الأئمة وأولهم ابن عم النبي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ونزل في إمامته قرآن كريم، كالآية الكريمة: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾15، وقصتها أنَّ الإمام علياً (عليه السلام) كان راكعاً أثناء الصلاة في المسجد، فدخل فقير يطلب صدقة، فأشار الإمام إليه بإصبعه أثناء الركوع ليأخذ خاتمه، ونزلت الآية الكريمة بهذه المناسبة تتحدث عن الولاية لله تعالى، والولاية للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والولاية للذين آمنوا، والمقصود من ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ في هذه الآية الكريمة، بحسب حادثة نزولها، هو الإمام علي (عليه السلام)، فتكون الولاية لعلي (عليه السلام)، من ضمن منظومة تربط المؤمنين بالولاية بخطٍّ يمثلهم ويجمعهم هو حزب الله، على قاعدة الولاية لله ولرسوله وللأئمة المعصومين.

 

وفي آخر حج للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى بيت الله الحرام قبل وفاته، (حجة الوداع)، وبعد انتهاء مناسك الحج، دعا الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المسلمين إلى الاجتماع قبل أن يتفرقوا للعودة إلى ديارهم في مكان اسمه (غدير خم)، وخطب فيهم بإعلانٍ صريحٍ لولاية علي (عليه السلام) على المسلمين من بعده. وقد ورد في مسند أحمد، عن البراء بن عازب، قال: كنَّا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في سفر، فنزلنا بغدير خم، فنودي فينا، الصلاةُ الجامعة، وكُسح لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تحت شجرتين، فصلى الظهر، وأخذ بيد علي (عليه السلام)، فقال: «ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟

 

قالوا: بلى.

 

قال: ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟

 

قالوا: بلى.

 

قال: فأخذ بيد علي (عليه السلام)، فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): من كنت مولاه فعليُّ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه.

 

قال: فلقيه عمر بعد ذلك،فقال له: هنيئاً يا ابن أبي طالب، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة»16.

 

وفي رواية أخرى: «اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وأحب من أحبه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغايب»17.

 

الولاية للإمام بعد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وللإمام الذي يليه من بعده. أمَّا مجموع الأئمة عليهم السلام فهم اثنا عشر إماماً، ففي صحيح مسلم، عن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: «لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً. ثم تكلم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بكلمةٍ خفيت عليَّ، فسألت أبي: ماذا قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ فقال: كلهم من قريش»18.

 

وعن سلمان الفارسي رضوان الله عليه قال: «دخلت على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فإذا بالحسين (عليه السلام) على فخذه، وهو يقبِّل عينيه ويلثم فاه ويقول: أنت سيد ابن سيد، ابن إمام، أخو إمام، أبو أئمة، أنت حجة الله وابن حجته، وأبو حجج تسعة، من صلبك تاسعهم قائمهم»19. وقد نص كل إمام على الذي يليه من بعده، ليتسلم الإمامة، ويكون ولياً للمسلمين في زمانه:

 

1- أولهم علي بن أبي طالب (عليه السلام).

 

2- الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام).

 

3- الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام).

 

4- علي بن الحسين (عليه السلام) (زين العابدين).

 

5- محمد بن علي (عليه السلام) (الباقر).

 

6- جعفر بن محمد (عليه السلام) (الصادق).

 

7- موسى بن جعفر (عليه السلام) (الكاظم).

 

8- علي بن موسى (عليه السلام) (الرضا).

 

9- محمد بن علي (عليه السلام) (الجواد).

 

10- علي بن محمد (عليه السلام) (الهادي).

 

11- الحسن بن علي (عليه السلام) (العسكري).

 

12- محمد بن الحسن (عليه السلام) (المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف).

 

أول الأئمة عليهم السلام علي (عليه السلام)، ثم ولداه الحسن فالحسين، ثم الأئمة التسعة من ولد الإمام الحسين (عليه السلام) يتسلم كل إمام عن أبيه، إلى خاتم الأئمة الثاني عشر الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، الذي غاب عن الأنظار في سنة 329 هـ، ثم يظهر في يوم من الأيام في آخر الزمان ليكون الولي القائد للأمة، وبذلك تكون الساحة قد فرغت من قيادتها المعصومة الظاهرة منذ سنة 329هـ. قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «المهدي من ولدي، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، أشبه الناس بي خلقاً وخُلقاً، تكون له غيبةٌ وحيرة، تضلُّ فيها الأمم، ثمَّ يُقبل كالشهاب الثاقب، يملؤها عدلاً وقسطاً، كما ملئت جوراً وظلماً»20.

 

انسجاماً مع دور الولاية في التشريع الإسلامي، ومع غياب الإمام المعصوم، تنتقل الولاية إلى الفقيه، فلا بدَّ من وجود وليٍّ يقود الأمة ويوجهها كجماعة وأفراد. يترتَّب على هذا الإيمان: أنَّ الولاية لله تعالى أولاً، ثم للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ثم للإمام (عليه السلام)، ثم للفقيه العالم الكفوء العادل العارف بالزمان، والقادر على الإدارة، والمتصدي لشؤون الأمة.

 

الولاية الخاصة والولاية العامة

 

حصل خلاف حول دور الفقيه سعة وضيقاً، فمن الفقهاء من قال بولاية الفقيه الخاصة، أي الولاية المحدودة تنفيذياً وإدارياً في الأمور التي لا يرضى الشارع المقدس بإهمالها وتركها، ولا بدَّ من القيام بها رعاية لشؤون المسلمين ومصالحهم، كالولاية على أموال اليتيم، وأموال الغائب، والأوقاف والوصايا التي لا وصي عليها، وكل ما من شأنه أن يحتاج إلى متابعة ورعاية وإجراء لعدم وجود الولي المباشر كالأب والوصي، وتسمى هذه الأمور بـ (الأمور الحسبية) التي يحتسب فيها الفقيه أجره على الله تعالى، ولا يرضى الشارع المقدس بإهمالها وتركها، فيقوم بها حفظاً للانتظام العام. فعلى هذا المبنى، ولايةُ الفقيه الخاصة ولايةٌ ضيقة ومحدودة تنفيذياً، وإن كان الفقيه معنياً بتبيان الأحكام الشرعية للمكلفين، وهذا ما قام به مراجع التقليد من بداية عصر غيبة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، فكتبوا (الرسائل العملية) التي تحدد الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات، وأصدروا الفتاوى في المسائل الخاصة أو المستحدثة، واستلموا أموال الخمس والزكاة والكفارات، وصرفوا الأموال الشرعية على الفقراء والمساكين والحوزات الدينية والتبليغ والأعمال الاجتماعية والثقافية والخيرية العامة، وأشرفوا على الأمور الحسبية.

 

ومن الفقهاء من قال بولاية الفقيه العامة، وهي الولاية المطلقة تنفيذياً وإدارياً، والتي تتضمن كل ما ذكرناه عن الولاية الخاصة وتبيان الأحكام الشرعية للمكلفين، يُضاف إليها إدارة شؤون المسلمين على مستوى كل الأمة في السياسات العامة، وتحديد المصالح والأولويات والواجبات، والأمر بالجهاد أو عدمه، وكيفية تعاطي جماعة المسلمين مع أحكام الإسلام في بلدانهم، على ضوء الواقع المحلي والدولي.

 

يقول الإمام الخامنئي (دام ظله): «المراد بالولاية المطلقة للفقيه الجامع للشرائط هو أنَّ الدين الإسلامي الحنيف – الذي هو خاتم الأديان السماوية، والباقي إلى يوم القيامة – هو دين الحكم، وإدارة شؤون المجتمع، فلا بد أن يكون للمجتمع الإسلامي بكل طبقاته ولي أمر، وحاكم شرع، وقائد ليحفظ الأمة من أعداء الإسلام والمسلمين، وليحفظ نظامهم، وليقوم بإقامة العدل فيهم، وبمنع تعدي القوي على الضعيف، وبتأمين وسائل التقدم والتطور الثقافية، والسياسية، والاجتماعية، والازدهار لهم»21.

 

برزت ولاية الفقيه العامة مع الإمام الخميني (قدّس سرّه) وكأنَّها فكرة جديدة في نظرة علماء المسلمين إليها، مع العلم بأنَّ علماء كباراً في التاريخ الإسلامي قد قالوا بها، كالشيخ المفيد، والشيخ الطوسي، والعلامة الحلي، والشهيد الثاني العاملي، والشيخ النجفي صاحب كتاب الجواهر، كما قال بها جمع من العلماء المعاصرين كالسيد البروجردي، والسيد الگلپايگاني، والشهيد السيد محمد باقر الصدر، لكنَّ الظروف التاريخية للعلماء والمؤمنين لم تكن سانحة في السابق للتعبير عنها عملياً وبشكل واسع، وحتى في الأطر الأضيق من إقامة الدولة الإسلامية، لعدم وجود السلطة بأيديهم، أو عدم ملاءمة الأجواء المحيطة بهم لإِعْمال ولايتهم، فالأمر لا يقتصر على وجود المؤهَّل لولاية الأمر أو القناعة بها، بل يستلزم وجود المؤمنين الموالين الذين يستطيعون تطبيق أوامر ونواهي ولي الأمر في حياتهم العامة.

 

والذي أدَّى إلى بروزها بهذا الشكل وهذه السعة مع الإمام الخميني (قدّس سرّه)، سببان رئيسان:

 

الأول: مستوى الاهتمام بها من قِبَله، وتفصيلها في مجموعة من المحاضرات التي ألقاها أثناء نفيه في النجف الأشرف، والتي بيَّن فيها رؤيته عن ولاية الفقيه، وقد جُمعت في كتاب «الحكومة الإسلامية».

 

الثاني: تطبيقها العملي بسقوط الشاه وقيام الجمهورية الإسلامية في إيران، وكتابةُ دستورٍ مبني على الالتزام بولاية الفقيه كركيزة أساسية في الحكم.

 

إنَّ تصدي الإمام الخميني (قدّس سرّه) لولاية الأمر لم يسبقه مثيل منذ زمن الأئمة عليهم السلام. وقد حاز على الموقع بأهليته وجدارته الفقهية والسياسية. وليس كل من تصدى بعنوان الولاية أو الخلافة أو الإمارة يستحق هذا الموقع بمجرد تصديه، وليس الولي على الشريعة من يحكم المسلمين كيفما كان براً أو فاجراً، فالأمر منوط- بحسب هذا المنهج- بمن يملك التقوى والكفاءة العلمية والقيادية.

 

صلاحيات الولي الفقيه: يُبيِّن الإمام الخميني (قدّس سرّه) رؤيته في ولاية الفقيه، فيقول: «فتوهُّم أن صلاحيات النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الحكم كانت أكثر من صلاحيات أمير المؤمنين (عليه السلام)، وصلاحيات أمير المؤمنين (عليه السلام) أكثر من صلاحيات الفقيه، هو توهُّم خاطئ وباطل. نعم إنَّ فضائل الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالطبع هي أكثر من فضائل جميع البشر، لكن كثرة الفضائل المعنوية لا تزيد في صلاحيات الحكم. فالصلاحيات نفسها التي كانت للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة عليهم السلام في تعبئة الجيوش، وتعيين الولاة والمحافظين، واستلام الضرائب وصرفها في مصالح المسلمين، قد أعطاها الله تعالى للحكومة المفترضة هذه الأيام. غاية الأمر لم يعيِّن شخصاً بالخصوص، وإنما أعطاه لعنوان العالِم العادل»22.

 

إنَّ صلاحية الولي الفقيه هي كصلاحية النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وصلاحية الإمام (عليه السلام)، انطلاقاً من موقعه ومسؤوليته في قيادة الأمة، وهو موقع تنفيذي، له صلاحية الإدارة والآمرية الكاملتين، ولا يوجد ربط بين هذه الصلاحية والوحي، فالوحي للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقط، والإلهام للإمام (عليه السلام)، والاجتهاد على ضوء الكتاب والسنة للفقيه في تحديد الأحكام الشرعية. إذاً الصلاحية ملازمة للقيادة، أمَّا المكانة والفضائل فيتمايز بها البشر، وهي مسألة أخرى لا علاقة لها بصلاحية قيادة الأمة.

 

وبما أنَّ الاجتهاد المؤدي إلى تحديد الأحكام الشرعية الفردية لا يكفي لإدارة شؤون الأمة، يقول الإمام الخميني (قدّس سرّه): «لا يكفي الاجتهاد المصطلح عليه في الحوزات، بل حتى ولو وجد إنسان هو الأعلم في العلوم المعروفة في الحوزات، لكنَّه غير قادر على تشخيص مصلحة المجتمع، أو لا يقدر على تشخيص الأفراد الصالحين والمفيدين من الأفراد غير الصالحين، ويفتقد بشكل عام للرأي الصائب في المجال الاجتماعي والسياسي والقدرة على اتخاذ القرار، فإن مثل هذا الإنسان يكون غير مجتهد في المسائل الاجتماعية والحكومية، ولا يمكنه التصدي لاستلام زمام المجتمع»23. فالاكتفاء بمرجع التقليد لا يملأ الفراغ في إدارة شؤون الأمة، لذا تكون الحاجة قائمة للولي الفقيه الذي حصل على درجة الاجتهاد، وتصدَّى لإدارة هذه الشؤون، سواءً أكان مرجع التقليد نفسه الذي يجمع بين المرجعية والولاية، أو كان مرجع التقليد شخصاً آخر، في تمايزٍ واضح بين المهمتين، مع أنَّ الجمع أفضل عند توفره في شخص الفقيه الواحد، هذا ما حصل مع الإمام الخميني (قدّس سرّه)، وما هو حاصلٌ اليوم مع الإمام الخامنئي (دام ظله)، لمن آمن بولاية الفقيه العامة والتزم بها.

 

ينطلق الولي الفقيه من رؤيته الإسلامية لرسم السياسات العامة للأمة، ووضع الحلول المناسبة لقضاياها ومشاكلها، بما يحفظ قوتها واستقرارها وحريتها وازدهارها، وهو الحكيم الذي يعطي أحكاماً تتناسب مع متطلبات الواقع ولا تكون تجريدية، وهو العادل الذي يعطي كل ذي حق حقه، ويتصرف بما يواكب الفطرة الإنسانية، وهو المنصف الذي يراعي متطلبات الانتظام الإنساني في ظل الخلافات العقائدية والفكرية بين الناس، وهو الحصيف الذي يتخذ الموقف السليم على ضوء الظروف الموضوعية التي تعيشها الجماعة الملتزمة ولايته في أي بلد من بلدان العالم، وهو الذي لا يأمر المكلفين بما لا يستطيعونه بحسب قدرتهم وخصوصية ظروفهم. فالولي الفقيه قائدٌ، عاقلٌ، حكيمٌ، عادلٌ، منصفٌ، حصيفٌ، موضوعي، يقود بناء لضوابط إيمانه وتقواه وكفاءته وخوفه من الله تعالى ورعايته لمصالح المكلفين.

 

يقرِّر الولي الفقيه التوجهات العامة، والسياسات الإجمالية الكبرى، ويرسم حدود وضوابط الجهاد في حماية الأمة من أعدائها والدفاع عن أوطانها، ويعيِّن ضوابط المشاركة السياسية المشروعة وحدودها، ويحث على الدعوة والتبليغ لنشر الإسلام، ويحكم بكل ما من شأنه أن يكون قاعدةً أو موقفاً عاماً شاملاً وذلك بتحديد معالمه الكبرى والأساسية، ما يشكل أهدافاً ومساراً للمؤمنين بولاية الفقيه. لكنَّه لا يتدخل في الجزئيات والتفاصيل، ولا يتدخل بالإدارة المباشرة، ولا يتجاوز خصوصيات المؤمنين في بلدانهم، فقراراته أسس وقواعد، ولكل جماعة قيادتها الميدانية، وآليات عملها، وتعبيرها عن آرائها وقناعاتها، وكيفية نشاطها السياسي، وإعدادها العدة لمواجهة العدو والمحتل، وهيكليتها التنظيمية والإدارية، ومتابعة قراراتها والتزاماتها، وكيفية المشاركة بعد الحكم بمشروعيتها وفي حدودها، في تركيبة النظام السياسي القائم… فالسياسات العامة التي يرسمها الولي الفقيه إطارٌ للمشروعية الدينية لعمل حزب الله، أمَّا الأداء والتحرك السياسي والجهادي والاجتماعي وكل حركة الحزب فمسؤولية قيادة حزب الله المنتخبة من كوادره، وهي الشورى التي يرأسها الأمين العام، ضمن آليات العمل الحزبية في توزيع المهام والصلاحيات.

 

الإيمان بولاية الفقيه

 

ما هو موقع من لا يؤمن بولاية الفقيه العامة من الفقهاء والمسلمين؟

 

يقول الإمام الخامنئي (دام ظله): «ولاية الفقيه في قيادة المجتمع وإدارة المسائل الاجتماعية في كل عصر وزمان من أركان المذهب الحق الاثني عشري، ولها جذور في أصل الإمامة، ومن أوصله الاستدلال إلى عدم القول بها فهو معذور، ولكن لا يجوز له بث التفرقة والخلاف»24.

 

ويقول: «عدم الاعتقاد اجتهاداً أو تقليداً بولاية الفقيه المطلقة في زمن غيبة الإمام الحجة (أرواحنا فداه)، لا يوجب الارتداد والخروج عن الإسلام»25.

 

فمن آمن بولاية الفقيه التزمها، ومن لم يؤمن بولاية الفقيه معذور اجتهاداً إذا كان فقيهاً، وتقليداً إذا كان مكلفاً مقلِّداً، ولكنَّه مسؤول شرعاً كفقيه أو مقلِّد في إطاعة أوامر الولي الفقيه في قضايا المسلمين العامة، ذلك أنَّ الولي الفقيه هو المتصدي، ولا محل لرأي فقيه آخر يعارضه في التصدي لبعض الشؤون العامة طالما أنه ليس المتصدي الأول والقائد المسؤول، ولا يملك صلاحية الرفض أو المواجهة أو توجيه مقلديه في مرجعيته إلى مخالفة الولي الفقيه المتصدي لشؤون الأمة، فهو ليس مسؤولاً عنها بحسب موقعه، ولا يملك الصلاحية لذلك، فإذا تدخَّل مخالفاً اختلَّ النظام العام مع المخالفة، وتبعثرت قدرة الأمة، وضاعت في تحديد مسؤولياتها وأولوياتها تجاه القضايا العامة المختلفة.

 

وفي تفصيل وتوضيح صورة وجوب التزام الفقهاء وعموم المقلِّدين طاعة الولي الفقيه، يبيِّن الإمام الخامنئي (دام ظله) هذا الأمر في عدة نصوص نذكرها للفائدة:

 

1- «طبقاً للفقه الشيعي، يجب على كل المسلمين إطاعة الأوامر الولائية الشرعية الصادرة من ولي أمر المسلمين، والتسليم لأمره ونهيه، حتى على سائر الفقهاء العظام، فكيف بمقلديهم! ولا نرى الالتزام بولاية الفقيه قابلاً للفصل عن الالتزام بالإسلام وبولاية الأئمة المعصومين عليهم السلام»26.

 

2- «يجب إطاعة أوامر ولي أمر المسلمين في الأمور العامة التي منها الدفاع عن الإسلام والمسلمين ضد الكفرة والطغاة المهاجمين»27.

 

3- «اتِّباع حكم ولي أمر المسلمين واجب على الجميع، ولا يمكن لفتوى مرجع التقليد المخالِفة أن تعارضه»28.

 

4- «رأيُ ولي أمر المسلمين هو المتَّبَع في المسائل المتعلقة بإدارة البلد الإسلامي، وبالقضايا العامة للمسلمين، وكل مكلف يمكنه اتّباع مرجع تقليده في المسائل الفردية المحضة»29.

 

توجد نظريات إسلامية أخرى مختلفة عن نظرية ولاية الفقيه في إدارة شؤون الأمة، فبعضهم يعتبر الحاكم باسم الإسلام ولياً للأمر ولو لم يكن مجتهداً، وذلك بمجرد تنصيبه وإعلانه الالتزام بالأحكام الإسلامية في شؤون الدولة، وهو غير الفقيه في الدولة. وبعض الآخر يدعو إلى نظام الخلافة على أن تكون البيعة لولي الأمر من خلال (أهل الحل والعقد). وبعض ثالث يدافع عن الوراثة التي نشأت في التاريخ الإسلامي لاهتمامه بعنوان الحكم الإسلامي بصرف النظر عن شخص الولي الحاكم. وتوجد آراء أخرى في هذا المجال، لا إمكانية لعرضها ومناقشتها في هذه الدراسة المختصرة، كي لا نخرج عن هدفنا في الاكتفاء بعرض رؤيتنا عن دور الولي الفقيه.

 

معنى الأمة

 

استُعملت كلمة (الأمَّة) في معانٍ كثيرة، ولعلَّ أبرزها أحد استعمالات القرآن الكريم، التي عبَّر عنها بجماعة المسلمين الذين يؤمنون بالإسلام بصرف النظر عن مكان ولادتهم أو إقامتهم أو لغتهم، فهم يشكلون (الأمة الإسلامية)، قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾30. وقال: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾31. فالجامع للأمة الإسلامية هو إيمانها بالإسلام.

 

ويمكن إطلاق كلمة (أمة) على قواسم مشتركة أخرى، كأن تُطلق على قوم يتحدثون لغة واحدة فنقول: (الأمة العربية)، ونقصد بها من يتحدث اللغة العربية، أو نُطلقها على سكان بلد ما، فنقول (الأمة الفرنسية)، ونقصد بها من يعيشون في داخل الوطن الفرنسي، وهكذا نستفيد من لفظة الأمة بحسب القيد الذي يحدد معناها، وعليه فعندما نقول (الأمة الإسلامية) فإننا نقصد أولئك الذين يؤمنون بالإسلام.

 

لم تكن الحاجة موجودة سابقاً للتفريق بين مصطلح (الأمة الإسلامية) و(الوطن الإسلامي)، بسبب حكم الإسلام على امتداد العالم الإسلامي، فكان المصطلحان يؤديان معنىً واحداً، ولكن مع تفكك الدولة الإسلامية في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي بانتهاء الخلافة العثمانية، ثم تقسيم العالم الإسلامي إلى دول متعددة، واختيار هذه الدول لأنظمة حكم غير إسلامية، أكانت رأسمالية أو شيوعية أو خليطاً استنسابياً من هنا وهناك، أصبحنا أمام واقع جديد وهو انتشار المسلمين في بلدان مختلفة، ووجود أنظمة حكم متباينة، ووجود خلاف بين المسلمين حول العودة إلى الإسلام أو القبول بنظام الحكم القائم في البلد أو الإيمان بأنظمة أخرى، كما تمايزت البلدان بين كون سكانها من مذهبٍ واحد أو طائفة واحدة أو مذاهب وطوائف متعددة.

 

أصبحنا أمام أوطان لها حدود جغرافية، يقطنها مواطنوها، وتحكمها دساتير وقوانين تم تثبيتها بظروف خاصة بكل بلد، فلكل وطن نظام يحكمه، والمواطنون في داخله لهم حقوق وواجبات على أساس هذا النظام.

 

نظرتنا إلى الوطن

 

الوطن تعبير عن دولة يعيش فيها شعب ضمن حدود جغرافية، وتتبنى نظام حكمٍ له دستور وقوانين، بصرف النظر عن كيفية تثبيت هذا النظام في بداية تَشَكُّل الدولة أو في مراحلها المختلفة، بحيث يعيش الناس تحت سقف هذا النظام، سواء وافقوه أو اعترضوا عليه، ولكن لا يملك أحد صلاحية أن ينكر مواطنية من وُلِد في هذا الوطن، فهو حقُّ قهري لا يمكن انتزاعه، والوطن لأبنائه.

 

روي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (حب الوطن من الإيمان)32. فالوطن أرضٌ حضنت ولادتنا، وفيها ذكريات وتضحيات الآباء والأجداد، ومنها الخيرات، وفيها السكن وتربية الأولاد، فهي المستقر الدنيوي مع الأهل والأحبة وتمضية الحياة، وهذا ما يولِّد علاقة عاطفية مشروعة، وبالتالي فإن الفطرة الإنسانية تدفع لحب الوطن والدفاع عنه. والإسلام يحثنا على ذلك، فلا تعارض بين حب الوطن والإيمان بالإسلام، ولا تنافر بين الوطن والعلاقة مع الأمة. فإذا ما اعتدى الأعداء على وطننا أو أرادوا أن يخرجونا منه ليحتلوه، فإنَّ علينا واجب الدفاع عنه لمنعهم وطردهم، قال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌَ﴾33، وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إنَّ الله (عزَّ وجلّ) يُبغض رجلاً يُدْخل عليه في بيته ولا يقاتل»34، فالقتال والتضحية بالنفس دفاعاً عن الأرض دفاعٌ مشروع عن الحق، ويندرج تحت عنوان (سبيل الله تعالى).

 

شجَّعنا أمير المؤمنين علي (عليه السلام) على الاهتمام ببلدنا، فاعتبر خير البلاد بالنسبة إلينا ما حَمَلنا، قال (عليه السلام): «ليس بلدٌ بأحق بك من بلد، خيرُ البلاد ما حَمَلك»35، وإنما تعمر البلاد بالحب، قال (عليه السلام): «عمرت البلاد بحب الأوطان»36.

 

ومع أن العصبية مذمومة، لكنَّها تختلف عن حب المرء لقومه، فحب القوم ليس من العصبية بل المطلوب أن يحب المرء قومه. سئل الإمام زين العابدين (عليه السلام) عن العصبية، فقال: «العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحبَّ الرجل قومه، ولكن العصبية أن يُعين قومه على الظلم»37.

 

وفي توجيه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أثناء خلافته لواليه على مصر مالك الأشتر، أمره بأن يتعامل مع الناس على أساس وجودهم كرعيةٍ في بلد واحد، يشتركون في الحقوق والواجبات، ولا يحق له أن يعاملهم على أساس انتمائهم الديني، فقال: «وأشعِر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم. ولا تكوننَّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنَّهم صنفان: إمَّا أخٌ لك في الدين، وإمَّا نظيرٌ لك في الخلق، يفرطُ منهم الزَّلل، وتعرضُ لهم العِلل، ويُؤتى على أيديهم في العمد والخطأ. فأعطهم من عفوك وصفحك، مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنَّك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاَّك»38.

 

ينظر حزب الله إلى الوطن كأرضٍ للآباء والأجداد والأجيال الآتية، وأنَّ جميع أبنائه معنيون به، فهو لهم جميعاً، وهذا ما بيَّنه في وثيقته السياسية التي أعلنها الأمين العام للحزب سماحة السيد حسن نصر الله في مؤتمر صحفي، بمناسبة المؤتمر الثامن للحزب وانتخاب الشورى الجديدة: «إنّ لبنان هو وطننا ووطن الآباء والأجداد، كما هو وطن الأبناء والأحفاد وكل الأجيال الآتية، وهو الوطن الذي قدّمنا من أجل سيادته وعزته وكرامته وتحرير أرضه أغلى التضحيات وأعزّ الشهداء. هذا الوطن نريده لكل اللبنانيين على حد سواء، يحتضنهم ويتسع لهم ويشمخ بهم وبعطاءاتهم.

 

ونريده واحداً موحَّداً، أرضاً وشعباً ودولةً ومؤسسات، ونرفض أي شكل من أشكال التقسيم أو (الفدرلة) الصريحة أو المقنَّعة. ونريده سيداً حراً مستقلاً عزيزاً كريماً منيعاً قوياً قادراً، حاضراً في معادلات المنطقة، ومساهماً أساسياً في صنع الحاضر والمستقبل كما كان حاضراً دائماً في صنع التاريخ»39.

 

الولاء للوطن: الولاء للوطن يعني التمسك به، وعدم التخلي عنه، والدفاع عنه في مواجهة الأعداء والمحتلين، فالولاء محبةٌ وارتباط، وليس آمرية وطاعة، فالجغرافيا لا تأمر وتنهى. أمَّا الإيمان وما يتفرع عنه فهو التزامٌ بمسار في الحياة فيه آمرية وطاعة. وبالتالي لا يمكن الحديث عن تعارض أو تضاد بين الولاء للوطن وبين الإيمان الإسلامي أو الولاء للدين أو الولاية للفقيه أو أي قناعة أخرى يحملها المواطن، لأننا أمام سنخيّتين يتم الجمع بينهما بسهولة على ضوء رؤيتنا وإيماننا، فولاية الفقيه جزءٌ من إيمانٍ بمنهج، وهي ليست مقابل الولاء للوطن.

 

ولكن ألا يمكن أن تصدر توجهات عامة عن الولي الفقيه تتعارض مع الولاء للوطن؟

 

نعود إلى تفسير الولاء للوطن، فمحوره هو التمسك به، وهذا جزء من الإيمان بوجوب الدفاع عن الأرض وحمايتها. لكن إذا وسَّعنا التفسير، لنتحدث عما يمكن أن يسميه بعضهم «مصلحة الوطن»، سنكون أمام مجموعة من الأسئلة تتوجه إلى جميع القوى:

 

1- من يحدِّد مصلحة الوطن؟

 

2- وهل توجد مرجعية سياسية تحسم تحديد المصلحة والأولويات عند الاختلاف؟

 

3- وما هي المقاييس الموحدة التي تحدِّد هذه المصلحة؟

 

الواضح أن تقدير المصلحة مرتبط بالمواقف السياسية من القضايا المطروحة، فهي المقياس لتحديد الاتجاه. وهنا تتباين القوى السياسية في تحديد مصلحة الوطن انسجاماً مع مواقفها، فمن يدعو إلى المقاومة ويعمل لها يعتبرها مصلحة للوطن ولأبنائه، ويطرح مبرراته للدفاع عن موقفه، ومن يرفض وجود المقاومة ويدعو إلى العمل الدبلوماسي يعتبر ذلك مصلحة للوطن ولأبنائه. بعضهم يدعو إلى علاقة مميزة مع دولة ما لنا مصالح مشتركة معها وننتفع منها ويرى ذلك مصلحة للوطن، وبعضٌ آخر يشدِّد على تقييد هذه العلاقة ويتطلَّع إلى دولٍ أخرى معتبراً مصلحة الوطن في الاحتماء بهذه الدول مقابل هذه الدولة. من منهما يحدد مصلحة الوطن؟ أو من يحسم هذا الاختلاف؟ وهل يمكن العودة إلى مقاييس محددة لحسم الموقف الذي يؤدي إلى مصلحة الوطن؟

 

فلنحصر الحديث عن مصلحة الوطن بشكل أضيَق ومحدَّد، فإنَّ مصلحة الوطن أن لا يُستخدم لمصلحة أو خدمة أوطان أخرى أو جهات خارجية. وهنا أيضاً تتباين القوى السياسية في مواقفها، وتنظِّر لها على أساس أنها مصلحة للوطن، رافضة أي اتهام لها بأنَّها تعمل لخدمة أوطان أخرى أو جهات خارجية، وتسوِّق موقفها على أنَّه المصلحة الأكيدة لوطنها.

 

اختلفت القوى بشكل حاد في لبنان بين موالاة ومعارضة، فرأت الموالاة أنَّ تدخُّل أمريكا في مفردات الوضع اللبناني، وعملها للهيمنة على القرار السياسي اللبناني، ونصرة فريق على آخر من الموقع الدولي، وصرف المال الخليجي دعماً لها، هو لمصلحة لبنان وليس لمصلحة المشروع الأمريكي الشرق أوسطي، أو لجعل لبنان تحت الوصاية الأمريكية. كما رأت المعارضة أنَّ دعم إيران وسوريا لحق لبنان في المقاومة، ووقوفهما إلى جانبه، ليس تدخلاً في الشأن اللبناني، بل لو قدَّمت دولٌ أخرى هذا النموذج من الدعم لقبلته، لأنَّ لبنان هو المستفيد الحقيقي من تحرير أرضه ومنع الوصاية عليه، وهذه هي مصلحة لبنان. من منهما يحدد مصلحة الوطن؟

 

بما أنَّ تقدير المصلحة مرتبطٌ بالمواقف السياسية من القضايا المطروحة، فسيبقى التباين قائماً في تقديرها بين القوى السياسية المختلفة ما دامت المواقف مختلفة.

 

نحن نؤمن بأنَّ ما يُصدره الولي الفقيه من توجيهات عامة ومن موقعه الديني الشرعي يشكل مصلحة أكيدة للمؤمنين في أوطانهم وقضاياهم، وبالتالي لا محلَّ للسؤال إن كان التوجيه يتعارض مع مصلحة الوطن! بل السؤال المطروح على الآخرين: ما هي الضمانات كي لا تؤدي رؤيتكم أو مواقفكم إلى التعارض مع مصلحة الوطن؟ وعندما يعبِّر الحزب عن مواقفه فهو يتصرف من منطلق رؤيته، وبناءً لتقديره للمصلحة، فإذا كان الأمر يتعارض مع توجهات ومواقف قوى أخرى فهو خلافٌ في تقدير المصلحة والموقف السياسي، وفي النهاية يعود الحكم للناس ليقبلوا أو يرفضوا أي موقف من المواقف.

 

المشترك بين الأوطان: يتجاوز الإيمان بالمبدأ أو المنهج الأوطان، إذ يشترك المؤمنون به بقناعاتهم ونظرتهم إلى الأمور بشكل متشابه، فترى في كثير من الأحيان موقفاً واحداً من القضايا ذات الاهتمام المشترك، يظهر في التعبير عنه نظرياً وعملياً. ولا تمنع الحدود الجغرافية للوطن من الاشتراك عبر الأوطان برؤية موحدة، فالمسألة مرتبطة بالفكر والقناعات، ومَنْ ذا الذي يقول إنَّ هذا الاشتراك ضد مصلحة الوطن؟ وبما أننا نختلف فكرياً في داخل الوطن الواحد، وتتغاير مواقفنا من بعض القضايا، فإنَّ المشكلة هي في التباين الحاد والتغاير الذي يؤدي إلى التناقض، وليست في الاشتراك الفكري مع الآخرين عبر الأوطان، فالأساس هو الموقف السياسي الذي يتخذه كل فريق، ومدى تأثير الاختلاف الداخلي على مسار الدولة وتنظيم علاقات الناس مع بعضهم.

 

لا يوجد أي تعارض بين اشتراك المختلفين في المنهج في أرضٍ واحدة ووطنٍ واحد يعيشون فيه كمواطنين، وبين الاشتراك والاتفاق بين مواطنين من بلدان مختلفة في حمل المنهج الواحد، والتماهي في الإيمان المشترك بينهم، ومناصرة بعضهم بعضاً في قضاياهم العادلة، بحسب ظروفهم الموضوعية، وذلك في كثير من الأحيان وبسبب الظروف المتشابهة، من وجودٍ للاستكبار العالمي يريد قهرنا والسيطرة على بلداننا ومقدراتها، ووجود أزمات مشتركة تتشابه فيها بلداننا، بحيث تتلاقى متطلبات وطننا مع متطلبات أمتنا، ويستفيد الوطن والأمة من المشتركات، ويتضرر الوطن والأمة من الأخطار والعدوان، كما في حالة إسرائيل التي لم تُبقِ وطناً في المنطقة إلاَّ وتضرَّر منها، فأوجدت لنا أزمة مفتوحة على الأمة الإسلامية، والأمة العربية، والأوطان المنتشرة حولها.

 

تطبيقات ولاية الفقيه

 

تتَّسع ولاية الفقيه لتشمل نظام الحكم بإدارة الفقيه، ولكنَّ تطبيقها بهذه السعة والشمولية يستلزم موافقة الناس على تبنيها لتكون حاكمة في بلدٍ ما، وأمامنا تجربتان للمقارنة والتوضيح:

 

1- تجربة الجمهورية الإسلامية في إيران، التي اختارت الإسلام كنظام حكم لها، واختارت الولي الفقيه كقائد أعلى، له صلاحيات واسعة في دستور الجمهورية الإسلامية لإدارة البلد وتحديد سياساتها وحربها وسلمها، ويتم انتخابه من مجلس الخبراء المنتخب من الشعب الإيراني. وبالتالي فإنَّ حاكمية الولي الفقيه تحولت إلى قانون يلتزمه الشعب الإيراني، من دون فرق بين من آمن منهم بولاية الفقيه دينياً أو من لم يؤمن بها، فهذا هو دستورهم الذي صوتوا عليه واختاروه ناظماً لشؤونهم. أمَّا المؤمن بولاية الفقيه فقد حقَّق مراده وانسجم مع إيمانه ويطيع من موقع التزامه وعبادته، وأمَّا غير المؤمن بها، فهو يلتزم بها في إطار القانون، وقد يكون له رأي مخالف لها، لكن القوانين المرعية الإجراء تبقى حاكمة بسبب النظام العام، ولها آلياتها في التعبير والتغيير أو الثبات. فالولي الفقيه بالنسبة لإيران، قيادة شرعية وقيادة دستورية.

 

2- تجربة حزب الله – لبنان، الذي اختار الإسلام عقيدة وشريعة، وآمن بالولي الفقيه قائداً، والتزم بقيادة الولي الفقيه الذي رآه متصدياً لشؤون الأمة، والذي توفرت فيه الكفاءة والأهلية لهذا الموقع. جاء ذلك تلبية لإيمان الحزب بوجوب الالتزام الديني بالولي الفقيه، ليحصل على مشروعية عمله، وليعرف الأحكام الشرعية التي تُبرئ ذمة المرتبطين به بقيامهم بتكليفهم الشرعي. فالحزب بحاجة لمعرفة الواجبات والمحرمات في القضايا العامة التي تتطلب حكماً أو فتوىً أو أمراً من الولي الفقيه، ليكون منسجماً مع إيمانه.

 

التزم حزب الله بولاية الإمام الخميني (قدّس سرّه)، ومن بعده بالولي الفقيه الإمام الخامنئي (دام ظله)، كحلقة من سلسلة الولاية التي تبدأ من الولاية لله تعالى، ثم الولاية للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ثم الولاية للإمام (عليه السلام)، ثم الولاية للفقيه العالم العادل، وهو اختيار يحمِّل الحزب مسؤولية التزام أوامره من موقع الإيمان الديني. وبالتالي فالحزب لا يلتزم قيادة دستورية خاصة بإيران، بل يلتزم قيادة شرعية لا تحدها الأوطان، اتخذت نمطاً للإدارة والحكم، ولها نمط آخر في لبنان له علاقة بتبني حزب الله لقيادة الفقيه الشرعية. فالولي الفقيه بالنسبة إلى حزب الله قيادة شرعية. أمَّا ارتباط الآخرين من المؤمنين بولاية الفقيه في البلدان الأخرى، فعائدٌ إلى درجة إيمانهم بها وظروفهم، وإذا ما كانوا أفراداً أو علماء أو جماعات أو أحزاباً، كل ذلك في إطار تبرئة المكلفين لذمتهم الشرعية.

 

يؤمن حزب الله بولاية الفقيه، ولا يُلزم بها غيره، ولا أولئك المؤمنين بالإسلام والذين لا يؤمنون بولاية الفقيه، والأولى أن لا يُلزم بها من لا يؤمن بمشروع الإسلام، وهذا منسجم تماماً مع إيمانه بأنَّ الله تعالى لم يُكرِه أحداً على الإيمان: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لاَمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾40، إذ يقتصر تكليفنا على دعوة الناس إلى ما نؤمن به، وهم أحرار في خياراتهم، وعلينا أن نتعامل معهم في الوطن الواحد على أساس أنَّنا مختلفون في الرؤية والمنهج بشكل عام، لكنَّنا نعيش في بلد واحد، وعلينا البحث عن القواسم المشتركة التي تمكِّننا من الاستمرار معاً، في إطار الشراكة والمسؤولية المشتركة في إدارة البلد وحمايته من الأعداء، وبما لا يتعارض مع ما نؤمن به، وفق منظومة تعاقدية، تتجسد في نظام الحكم القائم على الرضا بين أبناء الوطن الواحد، ولو كان بعنوان الحد الأدنى المشترك، وذلك لينتظم الاجتماع العام في لبنان مع وجود الاختلافات في الرؤية والمنهج.

 

لبنان ليس دولة إسلامية، وولاية الفقيه ليست جزءاً من دستورها. لبنان بلدٌ متعدد الطوائف، وله دستور وقوانين ناظمة لحكمه، والأصل أن يساهم حزب الله وجمهوره في بناء وإدارة هذا الوطن مع جميع أبنائه. وقد حكم الولي الفقيه بمشروعية عمل حزب الله ضمن واقع النظام القائم في لبنان، فالمشاركة في الانتخابات مشروعة وهي تعبِّر عن تمثيل الناس في البرلمان لحمل قضاياهم والدفاع عن حقوقهم وإقرار القوانين التي تحفظ مصالحهم، والمشاركة في الحكومة بشكل مؤثر مشروعة خاصة عندما تكون طريقاً للقرارات المصيرية والكبرى وما فيه مصلحة البلد، وللمشاريع والقوانين والقرارات والمراسيم التي تتعلق ببناء البلد والانتظام العام ومصالح الناس.

 

وافق حزب الله على العمل في إطار تنفيذ اتفاق الطائف الذي تحوَّل دستوراً، والذي شكَّل المخرج من الحرب الأهلية الطاحنة التي استمرت خمسة عشر عاماً من سنة 1975 إلى سنة 1990، ورأى أنَّ الملاحظات عليه يمكن متابعتها بحسب الآليات القانونية المعتمدة في الدستور، فهي لا تتطلب ولا تتحمل انقلاباً جذرياً عليها، وهذا لا يعني أنَّه الحل الأمثل، بل هو الحل الممكن في ظل تعقيدات الواقع اللبناني الداخلية والمؤثرات الإقليمية والدولية عليه، وحرصاً على الاستقرار السياسي والأمني الذي يتطلب قاعدة ارتكاز يُجمع عليها اللبنانيون. لكنَّ هذا لا يمنعنا من الدعوة إلى الأفضل، والاستفادة من الشريعة الإسلامية السمحاء، في إطار توافق مكونات المجتمع، بما يحافظ على الاستقرار وعدم العودة إلى الحرب الأهلية.

 

استقلالية لبنان: الوطن جامع لأبنائه، وكلهم مواطنوه، لكنَّ القناعات متفاوتة. وهذا حقٌّ مشروع في إطار حرية الإيمان والاعتقاد اللتين كفلهما الدستور، الذي ورد في مقدمته، الفقرة ط: «أرضُ لبنان أرضٌ واحدة لكل اللبنانيين. فلكل لبناني الحق في الإقامة على أي جزء منها، والتمتع به في ظل سيادة القانون، فلا فرز للشعب على أساس أي انتماءٍ كان، ولا تجزئة، ولا تقسيم، ولا توطين»41.

 

وجاء في المادة التاسعة: «حرية الاعتقاد مطلقة، والدولة بتأديتها فروض الإجلال لله تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب، وتكفل حرية إقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها، على أن لا يكون في ذلك إخلالٌ في النظام العام، وهي تضمن أيضاً للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية»42.

 

وفي المادة الثالثة عشرة: «حرية إبداء الرأي قولاً وكتابة، وحرية الطباعة، وحرية الاجتماع، وحرية تأليف الجمعيات، كلها مكفولة ضمن دائرة القانون»43.

 

المهم أن لا يتحول الخلاف العقائدي أو السياسي إلى تقاتل داخلي، لأنَّه يؤدي إلى خسارة الجميع. ولكن لا يوجد في الوطن من يمنح شهادة للآخرين في المواطنة الصالحة أو الوطنية، فالأعمال هي التي تدل على نفسها وعلى أصحابها. ولا يوجد في الوطن من يُعتبر مرجعاً لتحديد سلامة الرؤية أو التفكير المنسجم مع الولاء للوطن، طالما أن الآراء مرتبطة بالرؤى التي يختلف الناس عليها. تبقى قاعدة واحدة تساعد على ضبط الإطار الوطني العام، وهي الاحتكام إلى الدستور والقوانين لحل الخلافات وتحصيل الحقوق، وعدم اللجوء إلى القوة لتغليب رؤية جماعة على أخرى.

 

تشكَّل لبنان في إطار تقسيم الدولة الإسلامية الكبرى في القرن العشرين، حيث تشكَّلت دولٌ عديدة في المنطقة بحدودها الجغرافية المعترف بها دولياً. وهو بالتالي دولةٌ مستقلة لجميع أبنائها كباقي الدول، وليس مطروحاً أن تنضمَّ إلى بلدٍ مجاور أو غير مجاور، ولها أن تختار مدى التنسيق والتعاون مع البلدان الأخرى، وكذلك أن تكون أو لا تكون جزءاً من اتحادٍ له قواعده مع دول أخرى كما هو حال الاتحاد الأوروبي مثلاً، وأن تتماهى أو لا تتماهى مع أنظمة سياسية لها قضايا مشتركة مع لبنان.

 

يختلف لبنان بخصوصية تعدُّد طوائفه ونظامه السياسي عن محيطه، ولا بدَّ أن تؤخذ هذه الخصوصية بعين الاعتبار لطمأنة أبنائه. وهو يشترك مع سوريا في حدود جغرافية طويلة (325 كلم)، ومصالح سياسية واقتصادية مشتركة، ويواجه عدواً إسرائيلياً توسعياً يحتلُّ من البلدين أجزاءً منهما، وله أطماع كثيرة فيهما، ما يستدعي علاقات مميَّزة مع سوريا، لا تلغي خصوصية واستقلال كل منهما، ولا تُعطي الغلبة بالانقياد لأحدهما في ركب الآخر، وإنما بترجمة هذه العلاقات المميزة بخطط وإجراءات عملية تنفع البلدين. ونحن نوافق بالكامل على ما ورد في وثيقة الوفاق الوطني اللبناني (اتفاق الطائف) حول العلاقات اللبنانية السورية: «إنَّ لبنان، الذي هو عربي الانتماء والهوية، تربطه علاقات أخوية صادقة بجميع الدول العربية، وتقوم بينه وبين سوريا علاقات مميزة تستمد قوتها من جذور القربى والتاريخ والمصالح الأخوية المشتركة، وهو مفهوم يرتكز عليه التنسيق والتعاون بين البلدين وسوف تجسده اتفاقات بينهما، وفي شتى المجالات، بما يحقق مصلحة البلدين الشقيقين في إطار سيادة واستقلال كل منهما. استناداً إلى ذلك، ولأن تثبيت قواعد الأمن يوفر المناخ المطلوب لتنمية هذه الروابط المتميزة، فإنه يقتضي عدم جعل لبنان مصدر تهديد لأمن سوريا وسوريا لأمن لبنان في أي حال من الأحوال. عليه فإن لبنان لا يسمح بأن يكون ممراً أو مستقراً لأي قوة أو دولة أو تنظيم يستهدف المساس بأمنه أو أمن سوريا. وإنَّ سوريا الحريصة على أمن لبنان واستقلاله ووحدته ووفاق أبنائه لا تسمح بأي عمل يهدد أمنه واستقلاله وسيادته»44. نحن ندعو إلى الالتزام بهذا النص وترجمته عملياً.

 

قضية فلسطين: يشترك لبنان مع فلسطين بحدود طولها 72 كلم. وقد غصب الصهاينة القادمون من شتى أنحاء العالم أرض فلسطين، فاحتلوها بإشراف وتواطؤ دولي من خلال عصبة الأمم المتحدة، وبرعاية مباشرة من بريطانيا، فسيطروا في المرحلة الأولى عام 1948 على ثلاثة أرباع مساحة فلسطين، ثم أكملوا احتلالهم لباقي فلسطين عام 1967، واحتلوا معها أراضيَ عربية أخرى من مصر وسوريا والأردن، ثم اجتاحوا جنوب لبنان عام 1978 فاحتلوا منه مساحة 500 كلم2 ضمَّت 61 مدينة وقرية، ثم اجتاحوا لبنان مجدداً عام 1982 وسيطروا على ثلث مساحته تقريباً، ثم ما لبثوا أن انسحبوا بفعل ضربات المقاومة إلى مساحة احتلال بلغت في العام 1985 نصف محافظتي الجنوب والنبطية بما يعادل 1100كلم2 أي حوالي 11% من مساحة لبنان شملت 168 مدينة وقرية. ولم تنسحب إسرائيل من لبنان في العام 2000 بعد 22 سنة من الاحتلال إلاَّ بجهاد المقاومة، التي كان لحزب الله الدور الأبرز فيها، وبقيت مزارع شبعا وتلال كفر شوبا محتلة.

 

إسرائيل عدو محتلٌّ لفلسطين وجزءٍ من لبنان وأراضٍ عربية أخرى. فهي بالميزان الديني معتدية ومحتلة وظالمة لشعب فلسطيني مجاورٍ لنا، يشترك معنا في قضايا كثيرة، فضلاً عن احتلالها لأرضنا في لبنان. وبالميزان الوطني فإسرائيل تحتل أرضنا اللبنانية، وتشكل خطراً يومياً علينا، كما انعكس احتلالها لفلسطين تهجيراً للاجئين الفلسطينيين إلى لبنان. ولها أطماع سياسية واقتصادية توسعية في لبنان والمنطقة تجعل منها أزمة حقيقية تواجه لبنان وفلسطين وبلدان المنطقة.

 

أن نؤمن بتحرير فلسطين فهذا مرتبط بإيماننا وقناعتنا بحق الشعب الفلسطيني في أرضه، وعدم مشروعية الاحتلال الإسرائيلي ولو دعمته دول العالم في إطار لعبة المصالح. وأن نرى وجوب تحرير فلسطين فلأنها أرض مقدسة للمسلمين والمسيحيين، ومهدٌ للأنبياء والمرسلين، ومسرى النبي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إليها، وأول قبلة للمسلمين في صلاتهم، وفيها شعبٌ نشترك معه بالجوار وأمور كثيرة، يجعل لهم علينا حق الأخوة في دعم مشروعهم للتحرير. ومن الطبيعي أن يكون أصحاب الأرض طليعة الذين يعملون لتحرير أرضهم، وليس مطروحاً ولا ممكناً أن ينوب شعبٌ في أرض أخرى عن أصحاب الأرض في تحريرها من الاحتلال. وقد سجّل التاريخ المعاصر ملاحم البطولة والفداء للشعب الفلسطيني المجاهد في مقاومته التي لم تتوقف، بل هي في تصاعد مستمر رغم الضغوطات والمؤامرات الدولية والإقليمية وجرائم إسرائيل وعدوانها. ولكنَّ النصرة لهذا الشعب مطلوبة، بحسب الإمكانات المتاحة والظروف الملائمة، التي يعود تقديرها للمؤمنين بالنصرة، وهذا أقل الإيمان. وبما أنَّ العالم اليوم قرية كونية واحدة، وتتداخل مصالح الدول والقوى المختلفة، وتتشكَّل التحالفات التي تتعارض مع خصوصيات ومشاريع دول وجهات مستقلة، فمن السذاجة والخطأ أن ننأى بأنفسنا عن دعم القضايا المحقَّة في منطقتنا ومحيطنا بما يمسنا بنتائجه في نهاية المطاف. ففي الدعم للقضية الفلسطينية نصرةٌ لها، وتعطيلٌ لمشاريع التوسع العدواني الإسرائيلي، وتأديةٌ للواجب، في مقابل الدعم المطلق دولياً للإجرام والاحتلال الإسرائيلي. ومن الموقع الوطني اللبناني يشكل هذا الدعم إرباكاً للعدو في ساحة احتلاله، وإضعافاً لتأثيره في ساحتنا، ولا تعارض بين دفاعنا عن بلدنا ومناصرة إخواننا في دفاعهم عن بلدهم، بل يكمِّل كل منهما الآخر في تحقيق الحد الأدنى من حماية بلدنا من الشر الإسرائيلي المزروع في هذه المنطقة.

 

نجاحات حزب الله: يرى حزب الله وجوب الجهاد وقتال إسرائيل لإنهاء احتلالها وعودة الأراضي المحتلة إلى أهلها. ويرى وجوب تحرير فلسطين والقدس، كما يرى وجوب تحرير الأرض اللبنانية المحتلة. ولأن الجهاد يستلزم الشهادة والجَرح وسقوط الدماء، فلا بدَّ من الحصول على إذنٍ بشرعية الجهاد ضد إسرائيل، كي لا يكون القتال عبثياً أو رمياً بالنفس إلى التهلكة، فسقوط الدم وإزهاق الروح مسؤولية لا يملك الفرد التفريط فيها. ومع الإجازة الشرعية من الولي الفقيه يكون المقتول شهيداً عند الله تعالى وله أجر الشهداء، وتبرأ ذمة المكلف مهما كانت نتائج هذا العمل. أمَّا ضوابط الإعداد والتنظيم والتسلح والتخطيط والقيام بالعمليات وكل ما يحيط بمواجهة إسرائيل، فهي من مختصات قيادة حزب الله، في المكان والزمان والكيفية والأولوية، بما يتناسب مع القدرة وتقدير المصلحة والظروف الموضوعية.

 

بدأ حزب الله مقاومته للاحتلال الإسرائيلي في لبنان مع نشأته عام 1982، وجعل أولويته قتال العدو الإسرائيلي المحتل، في مناطق ومواقع احتلاله في لبنان. ولم يربط عملياته العسكرية بأي تحرك سياسي أو دبلوماسي لقناعته بعقمه وعدم جدواه، في ظل واقع دولي يدعم إسرائيل بالكامل، ويهيئ لها مقومات ترسيخ احتلالها واستثماره. ثم تبيَّن صحة الرهان على المقاومة، فقد طال زمن الاحتلال 22 سنة إلى التحرير المشرِّف في 25 أيار من العام 2000، من دون أن تتقدم الحلول السياسية خطوة واحدة، ومن دون تنفيذ القرار الدولي 425 القاضي بوجوب

 

انسحاب إسرائيل من لبنان. وأنجزت المقاومة الإسلامية في هذا التاريخ بدعم شعب لبنان وجيشه وسوريا وإيران وكل المؤمنين بالمقاومة كخيار، تحريراً مشرفاً عزيزاً من دون أي ثمن سياسي، لقد كان تحريراً نظيفاً ومضيئاً. وفي الوقت نفسه، سقط خيار فريق من اللبنانيين من الذين تعاملوا مع إسرائيل سقوطاً مدوياً، وهم الذين اعتبروا العمالة والتبعية لإسرائيل وطنية، وخدموا المشروع الإسرائيلي لترسيخ احتلاله في لبنان ضد أهلهم وشعبهم، ووقفوا أكياس رمل ليدافعوا عنه عسكرياً وسياسياً بحجة مصلحة لبنان، إلاَّ أنَّ الاحتلال لا يملك أي صفة وطنية فضلاً عن منحها، والعمالة للعدو تخرِّب الوطن وتضيِّعه وتُفقده استقلاله. وقد حمى الله تعالى لبنان من رؤيتهم الضَّالة وعملهم المنكر، ببركة وعي الشعب اللبناني والتفافه حول مقاومته ضد الاحتلال.

 

حقَّق حزب الله هدفاً كبيراً بتحرير لبنان، وتماهى في ذلك مع رؤية كل مواطن يريد بلده محرَّراً ومستقلاً. لم تكن مقاومته نيابةً عن أحد، بل هي جزء من إيمانه وقناعته، ولم يفتح جبهةً مغلقة كرمى لعيون أحد، فالاحتلال الصهيوني أتى إلينا واحتل أرضنا، وكان القتال ضد مواقع الاحتلال، ولم يغامر فيما أنشأه وطوَّره من العمل المقاوم، إذ لا تتوقع أي مقاومة أن تحصد نتائج عملها سريعاً، وهي مصحوبةٌ عادةً بالتضحيات والآلام التي تُعتبر أقل من كلفة الاحتلال، لكنَّها تأمل بالفوز والتحرير، وهذا ما حصل في إنجاز التحرير المدوي، وبفترة زمنية قياسية، مع قلة العدد والعدة، في مواجهة التآمر الدولي، وتفوُّق قدرة العدو العسكرية.

 

حدَّد حزب الله نظرته للمقاومة ودورها في وثيقته السياسية كالتالي: «تَحقَّقَ هذا الإنجاز الوطني للمقاومة بمؤازرة شعب وفيٍّ وجيش وطني، وأَحبطَ أهدافَ العدو وأوقعَ به هزيمةً تاريخيةً، لِتَخْرج المقاومة بمجاهديها وشهدائها ومعها لبنان بشعبه وجيشه بانتصارٍ عظيم أسَّس لمرحلةٍ جديدة في المنطقة عنوانها محورية المقاومة دوراً ووظيفةً في ردع العدو وتأمين الحماية لاستقلال الوطن وسيادته والدفاع عن شعبه واستكمال تحرير بقية الأرض المحتلة.

 

إنَّ هذا الدور وهذه الوظيفة ضرورةٌ وطنيةٌ دائمةٌ دوام التهديد الإسرائيلي ودوام أطماع العدو في أرضنا ومياهنا ودوام غياب الدولة القوية القادرة، وفي ظل الخلل في موازين القوى ما بين الدولة والعدو – الخلل الذي يدفع عادةً الدول الضعيفة والشعوب المستهدفة من أطماع وتهديدات الدول المتسلطة والقـوية، إلى البحث عن صيغ تستفيد من القدرات والإمكانات المتاحة – فإنَّ التهديد الإسرائيلي الدائم يفرض على لبنان تكريس صيغة دفاعية تقوم على المزاوجة بين وجود مقاومةٍ شعبية تساهم في الدفاع عن الوطن في وجه أي غزو إسرائيلي، وجيشٍ وطني يحمي الوطن ويثبِّت أمنه واستقراره، في عملية تكاملٍ أثبتت المرحلة الماضية نجاحها في إدارة الصراع مع العدو وحقَّقت انتصاراتٍ للبنان ووفرت سبل الحماية له.

 

هذه الصيغة، التي توضع من ضمن استراتيجية دفاعية، تشكّل مظلّة الحماية للبنان، بعد فشل الرهانات على المظلات الأخرى، سواء أكانت دُوليّة أم عربية أم تفاوضية مع العدو، فانتهاج خيار المقاومة حقّق للبنان تحريراً للأرض واستعادةً لمؤسسات الدولة وحمايةً للسيادة وإنجازاً للاستقلال الحقيقي»45.

 

سيستفيد من نجاح خيار المقاومة كل من يؤمن بها ويدعمها، وسيتضرر وينزعج كل من أيَّد إسرائيل واحتلالها. ربحت المقاومة الفلسطينية من كسر شوكة إسرائيل في لبنان، واستفادت من تجربة مقاومة حزب الله بعد أن استفاد الحزب من تجربتها، وانطلقت مجدداً انتفاضة المسجد الأقصى المسلحة بعد تحرير العام 2000، بأملٍ يحدوها في أن يتكرر ما حصل في لبنان. وربحت سوريا من إضعاف عدونا المشترك إسرائيل، الذي فشل في استثمار احتلاله في لبنان، ولم يتمكن من ابتزاز سوريا من خاصرتها الرخوة. وربحت إيران عندما فشلت إسرائيل في استمرار احتلالها للبنان، وهذا ما ينسجم مع رؤيتها في كون إسرائيل غدة سرطانية خطرة على المنطقة. واستأنس كل عربي ومسلم وحر، وكل جهة إقليمية أو دولية تؤمن برفع المظلومية والاحتلال عن لبنان. لا تُنقص هذه الأرباح شيئاً من ربح لبنان، بل لا يمكن أن يتحقق لأيّ منها هذا الربحُ لولا ربح لبنان ومقاومته، فالكسب أولاً لمشروع تحرير لبنان، ولكل من أطلقه وضحى لأجله.

 

خسرت أمريكا في لبنان لأنها لم تستطع إلزامه بخياراتها الشرق أوسطية، ولم تنجح مؤامراتها المتتالية لإنهاء المقاومة في لبنان، وانكسرت ذراعها الإسرائيلية بالتحرير عام 2000 وبهزيمة الصهاينة في تموز 2006، ولم يتمكن مؤيدو سياساتها في لبنان من تحقيقها، وخسر مناصرو التسوية السياسية في لبنان والمنطقة لأنَّ فشل إسرائيل في لبنان سيعطِّل فرض شروطها السياسية، وسيكون لبنان حجر عثرة حقيقية بوجه التوطين الناتج عن التسوية المزعومة، وبالتالي خسرت كل الدول والاتجاهات التي أرادت لبنان معبراً لتثبيت الكيان الإسرائيلي كدولة مستقرة في المنطقة.

 

انعكس نجاح مقاومة حزب الله في طرد إسرائيل بتألُّقه على الساحة السياسية في لبنان، والالتفاف الجماهيري الواسع حوله، ومناصرة قوى سياسية فاعلة ووازنة للمشروع المقاوم. وقد اكتسب حزب الله هذا الموقع والدور من الأولوية التي أعطاها للمقاومة على ما عداها، فقوي بها وقويت به، وأصبح قوة سياسية فاعلة ومؤثرة في لبنان.

 

هذا النجاح مدينٌ للرؤية، والعمل الدؤوب بتضحية وصبر، والاستفادة من الظروف السياسية والموضوعية التي أحاطت بهذه المرحلة. وقد ملأ الحزب فراغ تعثر الدولة اللبنانية بأجهزتها وقدراتها في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي للبنان، وحرص على التمييز بين أدائه المقاوم وموقعه في النظام السياسي في لبنان، فلم يستثمر مقاومته لتحقيق المكاسب ضمن مشروع الدولة، بل عمل كجهة سياسية كالجهات الأخرى، يشارك في الحكم وبناء الدولة، ويعتمد آليات العمل السياسي المعروفة، كالمشاركة في الانتخابات، ويقبل بنتائجها، ويساهم في جلسات الحوار للاتفاق على القضايا الكبرى الرئيسة في البلد، ويشارك في حكومة الوحدة الوطنية كمكوِّن رئيس مع المعارضة الفاعلة الموجودة في لبنان، ويحمل مطالب الناس وقضاياهم لمعالجتها، ضمن أطر الدولة وأجهزتها، وكذلك أبقى حزب الله على اهتمامه بالمقاومة من أجل التحرير ومواجهة الخطر الإسرائيلي.

 

الحضور القوي للحزب: تنامى دور حزب الله في لبنان، وتقدَّم على كل الأصعدة، بسبب أهدافه وبرامجه لتحقيق هذه الأهداف. فقد أعطى نموذجاً مميزاً للمقاومة والمقاومين، واهتم بالشؤون الاجتماعية للناس، وأولى رعايته لمؤسسات المجتمع المدني، والتزم إعمار ما هدَّمه العدوان الإسرائيلي فيما لم تتبنّه الدولة، وصدَقَ مع الناس في مدى قدرته على معالجة قضاياهم من ضمن واقع الدولة المربك والمتخلِّف، ووفَّر من جانبه كل عناصر المساهمة في تدعيم السلم الأهلي، ورفض الانجرار إلى الفتنة المذهبية والفتنة الطائفية، وبذل جهداً كبيراً وتضحيات كثيرة لتعطيل مشاريع الفتنة، ونسج علاقات سياسية واضحة وفاعلة في خدمة لبنان، مع قوى وازنة، كالتيار الوطني الحر، من خلال وثيقة تفاهم أكَّدت على البعد الوطني في المشتركات السياسية.

 

أزعج هذا التنامي قوىً سياسية مخالفة لرؤية حزب الله في استمرار دوره وموقعه المقاوم، وقوىً تراجعت شعبيتها وحضورها ولا زالت تعيش أمجاد التاريخ، فعملت على طرح رؤيتها مطالبةً بتجريد الحزب من قوته المقاومة، اعتقاداً منها بأنَّها تتوازن معه بعد ذلك، وتُقلِّص الفارق بينها وبين الحضور القوي لحزب الله، ولكن كيف نحرِّر باقي الأرض؟ وكيف ندفع خطر المشروع الإسرائيلي الذي يهددنا بالاجتياح والاحتلال والقتل والتوطين؟ وهل تستطيع الدولة اللبنانية بواقعها الحالي وقدراتها الفعلية أن تتصدى للاحتلال وأن تحمي لبنان من دون وجود المقاومة؟

 

يرى حزب الله أنَّ قدرة المقاومة وإنجازاتها مصلحة كبرى للبنان، ومن لديه قوة لا يفرِّط بها ليقف ضعيفاً ومكشوفاً أمام إسرائيل ويمكن نقاش مستقبل المقاومة ودورها في إطار إستراتيجية دفاعية جدِّية وواقعية، ولكن لا يصح إسقاط القواعد السياسية المجرَّدة على واقعنا بما يؤدي إلى إضعاف لبنان. فلا يصح شعار حق الدولة وجيشها فقط في مواجهة إسرائيل، على أن تنسحب المقاومة من الميدان مهما كانت النتائج! كل الدول التي ترزح تحت الاحتلال تفتش عن شعبها ليرفدها بالمقاومة، فكيف نتخلى عنها ونحن بأمسِّ الحاجة إليها، وقد أثبتت جدواها وأثمرت نتائجها؟! فلبنان ما زال في دائرة الخطر المحدق الذي يتهدده من إسرائيل.

 

الدولة في لبنان ضعيفة، ينتشر فيها الفساد والمحاصصة والهدر، وتتعزز فيها سلطة المَزَارع على حساب الدولة القوية، وترزح تحت مديونية تتجاوز الخمسين مليار دولار أمريكي، وتتداخل السلطات فيها إلى درجة التسييس والتطييف لكل شيء، ولم تنطلق الحكومات المتعاقبة بخطوات جدِّية وعملية للإصلاح والتغيير والمحاسبة، وهي ضعيفة بسبب إدارتها وأداء الجهات السياسية المختلفة فيها. إنَّ الانتقال من الضعف إلى القوة، ومن الفساد إلى الإصلاح، ومن المزرعة إلى الدولة، يحتاج إلى تظافر جهود الجميع وتضحياتهم.

 

إنَّ حضور حزب الله القوي سياسياً وجهادياً لا يتعارض مع وجود الدولة القوية التي لا تشكِّل منافساً له، بل يريحه وجودها لتأمين مصالح الناس بعدالة وتوازن واستقامة. ولم يكن حضور حزب الله القوي على حساب الدولة وبنيتها، بل من رصيد تضحياته وأولوياته، فهو لم يشارك الكثيرين ممن غرفوا من المال العام ومراكز الإدارة. وإذا ما بقيت الدولة على حالتها الحاضرة فلن تكون قوية، حتى ولو لم يكن حزب الله موجوداً، فخلل الدولة بنيوي وعملي.

 

لم يَسْعَ حزب الله ليحل محل الدولة في أبسط الأمور، حتى في المرحلة التي انتشرت فيها الإدارة المدنية لبعض الأحزاب أثناء الحرب الأهلية. عندما تتقاضى الدولة الرسوم والضرائب، وتعتقل المخلين بالأمن والاجتماع العام والجواسيس، وتقضي بين الناس، وتقرر القوانين، وتصدر المراسيم والقرارات، وتشرف على الانتخابات، وتسير وفق الدستور، فهذا ما يعني أنها تقوم بدورها ولا أحد ينافسها على ذلك، بصرف النظر عن حسن التطبيق أو سوئه. لم يتصدَّ حزب الله لأيٍ من هذه الأمور، وعندما اتهمه بعضهم بأنَّه دولة داخل الدولة، فلأنَّه هالهم أن يكون قوياً في حضوره بين الناس وخدمته لهم وتحريره للأرض، فضاقوا ذرعاً بهذا النموذج، واعتقدوا أن بإمكانهم إرباكه باتهامهم له. لكنَّ هذا الاتهام لا يغيِّر الوقائع. فلكي تكون الدولة قوية تحتاج إلى مسار يعزِّز قوتها. وإذا كانت القوى السياسية قوية فيها فهذه قوةٌ للدولة، وليس إضعافاً لها، طالما أنَّ دور الدولة محفوظ ولا يقترب منه أحد. الدولة القوية هي التي تسلح جيشها وقواها الأمنية بما يتناسب مع حاجاتها الدفاعية والأمنية، وهي التي تعدل بين الناس في الحقوق والواجبات، وتهيئ فرص العمل، وتهتم بالزراعة والصناعة والتجارة وحاجات الناس، وتلبي متطلبات المجتمع… وليست قوتها من ضعف الآخرين.

 

كل الجهات السياسية موضع تقييم بحسب رؤيتها السياسية. فلا توجد جهة محدَّدة تملك زمام التقييم، وإنما الجميع تحت غرباله، وعلى كلّ منهم إقناع الآخرين بصوابية طروحاته. وإنَّ وجود قوى سياسية متعددة دليلٌ على وجود تمايز بينها، حتى لو كان هذا التمايز محدوداً مع بعضها. وهذه هي طبيعة البشر وطبيعة الحياة السياسية. وهنا يجب أن يكون البحث عن المشتركات للتعاون، كي لا يبقى الخلاف السياسي مؤثراً ومعطلاً لقدرة الدولة.

 

عندما تثبت التجربة أنَّ حزب الله، الذي طرح رؤيته وأهدافه وبرامجه على الشعب اللبناني، استطاع أن يكون الحزب الأكثر انتشاراً وفعالية ومقبولية، ونسج تحالفات واسعة مع قوى سياسية متعددة، واتخذ موقعه التمثيلي للشعب بجدارة، واعترف العالم بحضوره وتأثيره في الساحة، فهذا يعني أنَّه ركن أساس في استقلال وحضور لبنان.

 

البحث عن المشروعية: كل جماعة في لبنان تبحث عن مشروعية عملها بالاستناد إلى ما تؤمن به. فمنهم من يرى مشروعية عمله من قيادته المحلية بالكامل، فيحمل رؤيتها للعمل في لبنان سياسياً واجتماعياً، ويفصل بين المشروعية السياسية والمشروعية الدينية الفردية، فيأخذ مشروعيته الدينية العبادية من مصدر آخر كالفاتيكان أو بطريركية إنطاكية أو من الأزهر أو من السعودية أو من النجف الأشرف… ومنهم من يدَّعي التزام المشروعية السياسية المحلية، لكنَّه يلتزم ضوابط التوجيه السياسي الإقليمي والدولي، وهو يبرِّر ذلك بالصداقة أو الدعم. وهذا خيار يختلط فيه البحث عن المشروعية السياسية بالتبعية للآخر، ومع ذلك فهو خيار موجود عند بعض الجهات في لبنان. ومنهم من يؤمن بضرورة تغيير النظام في لبنان، ويرفض التعايش معه، ويرى منهجاً آخر لإدارة شؤون البلد، لكنه يلتزم العمل السلمي للتغيير، ومنهم غير ذلك.

 

إذاً، نحن أمام رؤى متفاوتة في دفاع الجهات المختلفة عن رؤاها.

 

لكن الجميع – تقريباً – قد تسالم على التزام الدستور والقوانين الناظمة لعلاقات الناس مع بعضهم، والتعبير عن رؤاهم في إطار هذه القوانين.

 

عندما انطلق حزب الله في العام 1982، على أساس إيمانه برسالة الإسلام، وحدَّد أهدافه التي يريد تحقيقها في ساحة عمله في لبنان، كان المؤسسون بحاجة إلى التأكد من شرعية عملهم وانسجامه مع إيمانهم وتكليفهم، فحصلوا على الشرعية بإمضاء الولي الفقيه الإمام الخميني (قدّس سرّه) لمشروعهم كحزب إسلامي يريد العمل في ساحته لبنان. وهكذا انطلق (حزب الله) منسجماً مع ما قدمناه من وجوب الطاعة للقيادة الشرعية من الموقع الديني الإسلامي، ثم تحمَّلت قيادته المتمثلة بالشورى المنتخبة من كوادر الحزب مسؤولية تحقيق الأهداف والبرامج والدفاع عنها.

 

اقتصر الحزب في حركته خلال السنوات العشر الأولى لانطلاقته على العمل الجهادي والسياسي خارج إطار الدولة ومؤسساتها. وقد كان البلد منقسماً خلال تلك الفترة بين منطقتين وحكومتين، ثم واجه في العام 1992 قضية رئيسة تُعتبر مفصلية في العمل السياسي وهي المشاركة في الانتخابات النيابية.

 

جرى نقاشٌ موسَّع داخل الأطر القيادية للحزب حول مشروعية المشاركة في الانتخابات النيابية وآثارها العملية، «وتمحورت النقاشات حول الأسئلة التالية:

 

1- ما مدى مشروعية الدخول في مجلس نيابي يعتبر جزءاً من نظام سياسي طائفي ولا يعبِّر عن رؤية الحزب للنظام الأصلح؟

 

2- إذا حُلت أزمة المشروعية، فهل تعتبر المشاركة موافقة على واقع النظام السياسي، ما يرتب مسؤولية في الدفاع عنه وتبنِّيه، وتنازل عن الرؤية الإسلامية؟

 

3- ما هي حجم المصالح والمفاسد التي تترتَّب على هذه المشاركة أو عدمها؟ وهل يوجد ما يُغلِّب أحدهما على قاعدة المصالح الأكيدة والواضحة؟

 

4- هل تؤدِّي المشاركة إلى تعديل في الأولويات، بحيث يتم التخلِّي عن المقاومة لمصلحة الانخراط في اللعبة السياسية الداخلية؟»46.

 

إنَّ المشاركة في نظام غير إسلامي تتطلب موافقة الولي الفقيه. وهو نقاش مفتوح بين الفقهاء تاريخياً بين من يرى حرمة المشاركة في نظام غير إسلامي على قاعدة وجوب السعي لإقامة الحكم الإسلامي في كل مكان، وبين من يفتح الباب للمشاركة شرط رعاية الضوابط الشرعية بعدم الموافقة على المحرمات وتقريب القوانين من الأحكام الإسلامية وضوابطها.

 

أعطى الولي الفقيه الإمام الخامنئي (دام ظله) موافقته على المشاركة في الانتخابات، وهي جزء من المشاركة في تركيبة النظام اللبناني، شرط رعاية الضوابط الشرعية.

 

الولي الفقيه سبيلُ الحزب إلى الاطمئنان على مشروعية الرؤية الإيمانية السياسية التي يتم رسم أهدافه وبرامجه على أساسها. وهذا أمر تأسيسي يعني الحزب في تكوينه وحضوره واستمراريته، ولا علاقة للآخرين في كيفية حصوله على مشروعية رؤيته، إنما لهم أن يناقشوا أهدافه وسياساته وبرامجه ويقيِّموها، قبولاً أو رفضاً، ويسائلوه على مستوى النتائج، ولهم أيضاً أن يناقشوا في إيمانه المبدئي من موقع الحوار والحجة، وأن يختلفوا معه، ولكن ليس من حقهم أن يسيئوا لحكم شرعي مبني على الإيمان بولاية الفقيه بالتوهين أو الإهانة.

 

ما هو مهمٌّ في نظرتنا لأي جهة سياسية هو رؤيتها، التي تعرض من خلالها أهدافها وبرنامجها، فنناقشها لتحديد صوابية أو خطأ هذه الرؤية، ونحلل أبعادها ونتائجها، ونقيِّمها إذا ما كانت تبني الوطن أو تهدمه، وإذا ما كانت تساهم في تعزيز المشتركات بين القوى السياسية أم تباعد بينها. فالرؤية تُقيَّم على المستوى الوطني بأهدافها وبرامجها ونتائجها، ولا تقيَّم بكيفية تشكُّلها وقناعة القيمين عليها.

 

ولكل جهة أن تبحث عن مشروعية عملها بالطريقة التي تطمئن بها. ولا يملك أحد حصرية تحديد طريقٍ معيَّن للمشروعية، بل هو أمر اعتقادي عقلي يتشكَّل عند كل جهة بحسب تفكير قياداتها ومؤسسيها.

 

فالذين اعتبروا أنفسهم مصدر المشروعية، وأن لا قيادة فوقهم، وصلوا إلى هذه القناعة باعتقاد وتفكير، كما أن الذين لجأوا إلى قيادة أعلى منهم داخل أو خارج بلدهم، أو رؤية ليست مطروحة في وطنهم، استفادوا منها بهذا التبادل الإنساني العالمي، ووصلوا إلى قناعتهم هذه باعتقاد وتفكير أيضاً.

 

النقاش في المشروعية نقاش عقلي نظري. فمن يؤمن بولاية الفقيه، ينطلق من الإيمان بالإسلام كمنهج للحياة، ويتبنى الأهداف والبرامج التي يمضيها ولي الأمر، الفقيه القائد، واجب الطاعة، الذي يعطي المشروعية للعمل. ومن يؤمن بقيادة شخص أو زعيم من موقع التزام العلمانية، ينطلق من القواعد العلمانية التي رسمها مفكرون في العالم، ويتبنى الأهداف والبرامج التي تنسجم معها، ويتبنى إمضاء هذا الزعيم الذي يعطيها المشروعية التي يحتاج إليها من يؤمن بآرائه وقناعاته ومشروعية دوره. هنا يكون النقاش في المشروعية جزءاً من النقاش في المبدأ والمنطلقات.

 

لا مجال للعودة إلى قاعدة أو مقياس معترفٍ به بين البشر لحسم الجدل حول المبدأ والمنطلقات الأصوب، فكلّ فريق يدَّعي الأصوب بما أرشدته إليه عقولهم، فإذا ما حصل نقاشٌ مبدئي بين مختلفين، فإمَّا أن يُقنع أحدهما الآخر فيتفقان، وإمَّا أن يتمسك كل واحد منهما برأيه فيختلفان، وإمَّا أن يضيِّقا من مساحة اختلافهما لكنهما يبقيان أيضاً في إطار قناعتين مختلفتين، وهذا هو ديدن البشرية عبر التاريخ، فهذا

 

ما خلقه الله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينََ﴾47.

 

نحن أمام رؤىً لكل منها طريقٌ لمشروعيتها. فمن أراد الحوار أو الجدال أو الإقناع أو تثبيت الاختلاف فعليه النقاش في الرؤية، لأنَّه لا ينتفع ولا يعنيه كيفية تحصيل المشروعية لهذه الرؤية. فمن اختلف مع حزب الله يمكنه مناقشته في رؤيته الإسلامية، لكنه لن ينتفع بإثارة طريقه للمشروعية بإيمانه بولاية الفقيه، لأنها حكمٌ شرعي ديني يعني المؤمنين بها، وهي جزء من الرؤية المتكاملة. وهذا لا يعني سد باب النقاش، وإنما منع التراشق السياسي في مسألة إيمانية. كما لا يستفيد حزب الله من مناقشة تحصيل المشروعية عند القوى الأخرى، فالمهم هو رؤيتهم وانعكاسها أهدافاً وبرامج على الواقع في لبنان.

 

إذاً نحن أمام رؤية فكرية سياسية ومشروعية دينية أو فكرية أو سياسية لطمأنة أصحاب الرؤية حول سلامتها. فالمشروعية طريق إلى الرؤية، التي تتضمن المنطلق والأهداف ويتفرع عنها البرامج والسياسات والمواقف. وإنما يتواجه المختلفون بالرؤية، بينما تندرج المشروعية في داخلها وتكون من خصائصها ومستلزماتها الذاتية، والعبرة بإثبات أحقية الرؤية.

 

ترجمة الولاء للوطن: إذاً كيف يكون تقييم الولاء للوطن مع اختلاف المبادئ والقناعات؟

 

يترجَمُ الولاء للوطن من خلال الأهداف والبرامج التي تنعكس أداءً ونتائج تؤشر إلى حقيقة الموقف.

 

وقد كان سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله واضحاً وصريحاً عندما حدَّد رؤية الحزب في نظرته إلى الحكم في لبنان، وتقدير المصلحة في ذلك، وضرورة تكاتف جميع أبنائه لبنائه، فقال في كلمة له في ذكرى التحرير والانتصار في 26/5/2008: «نحن لا نريد السلطة في لبنان لنا، ولا نريد السيطرة على لبنان، ولا نريد أن نحكم لبنان، ولا نريد أن نفرض فكرنا أو مشروعنا على الشعب اللبناني، لأنَّنا نؤمن بأنَّ لبنان بلدٌ خاص ومتنوع ومتعدد… لا قيامة لهذا البلد إلاَّ بمشاركة الجميع، وتعاون الجميع، وتكاتف الجميع، وهذا ما كنا نطالب به…ثم قال: إنَّ ولاية الفقيه تقول لنا: إنَّ لبنان المتنوع المتعدد يجب أن تحافظوا عليه».

 

يعتبرُ حزب الله لبنان وطناً لجميع أبنائه، ولا يقبلُ تصنيف المواطنين وفق درجات متفاوتة على أساس انتماءاتهم الدينية والسياسية، بل يجب أن يتساوى المواطنون بالحقوق والواجبات، ويقبل بخيارات الناس لممثليهم في التعبير عن قضاياهم، ويدعو إلى مشاركة جميع القوى للنهوض والإعمار والإصلاح وحماية البلد، ويعارض الاستئثار والإقصاء الفئوي أو المناطقي أو الطائفي أو المذهبي، ويقبل دستور الطائف سياسياً وتنفيذياً كنظام تعاقد عليه اللبنانيون واتفقوا عليه لإدارة شؤونهم، وهو الذي يشكل الحد الأدنى للاستقرار السياسي الضروري،

 

ويؤكد على إبقاء الفرصة متاحة لتطوير النظام السياسي في لبنان نحو الأفضل، ويدعو إلى معالجة القضايا المختلفة في إطار المؤسسات الدستورية، ويؤكد على حفظ وحماية وتدعيم السلم الأهلي، ويرفض تشكيل الميليشيات المسلَّحة أو استخدام العنف والإرهاب لتحقيق الغلبة السياسية أو الاجتماعية، ويؤمن بالدفاع عن لبنان بكل الوسائل الممكنة وعلى رأسها المقاومة المسلحة لتحرير أرضه وحمايته من أخطار الاعتداء والاحتلال والتهديد، ويرفض الوصاية الأجنبية على لبنان أو جعله ملحقاً بأي جهة إقليمية أو دولية، ولا يقبل توطين الفلسطينيين في لبنان إيماناً منه بحقهم في العودة إلى أرضهم الفلسطينية وتحريرها من المحتل الإسرائيلي، ويولي اهتماماً كبيراً لمصالح الناس الاقتصادية والاجتماعية، وأن تكون سياسات الدولة إنسانية في تأمين حاجات مواطنيها، وأنه يجب أن يكون لدينا جيش قوي، وقضاء مستقل غير مسيَّس، وأن تتم محاسبة المرتكبين والمجرمين والعملاء والخونة لحماية الساحة.

 

لا يكون الولاء للوطن بالخطب الرنَّانة، ولا بالشعارات المخادعة، ولا بالعمالة لإسرائيل، ولا بقبول الاحتلال أو التغاضي عنه، ولا باستقدام الأجنبي والاستنصار به على الآخرين، ولا بالتحريض الطائفي أو المذهبي أو المناطقي، ولا بالبهتان وبث الإشاعات والأكاذيب لتضليل الرأي العام، ولا بالمواقف المستندة إلى مقدمات ومعطيات خاطئة تؤدي إلى التصادم والتوتير.

 

الولاء للوطن سلوك تعكسه المبادئ والقناعات من خلال الأهداف والبرامج عند تطبيقها عملياً. وهنا يكون النقاش في السلوك. وهل هناك وطني أشرف ممن يقاتل لتحرير أرضه مقدماً دمه وماله من أجل قضيته؟ هذا هو المعيار الأساس الذي نجح فيه من قاتل أو أيَّد أو نصر أو دعا أو آزر أو دافع… فوطنيته عَلَمٌ وولاؤه ساطع. أمَّا من برَّر للعدو أو تعامل معه أو وضع العراقيل أو ثبَّط العزائم والهمم… فقد ارتكب خيانة للوطن، تتطلب توبة عنها لمن أراد أن يكون وطنياً.

 

ـــــــــــــــ

 

1- نائب الأمين العام لحزب الله.

 

2- البقرة: 257.

 

3- النساء: 59.

 

4- البقرة: 256.

 

5- الأحزاب: 45-48.

 

6- النحل: 125.

 

7- الحجر: 9.

 

8- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج27، ص131.

 

9- الحشر: 7.

 

10- الأحزاب: 21.

 

11- صحيح البخاري، ج1، ص155.

 

12- شرح مسلم للنووي، ج8، ص220.

 

13- البقرة: 257.

 

14- النساء: 59.

 

15- المائدة: 55-56.

 

16- الإمام أحمد بن حنبل، مسند أحمد، ج4، ص281.

 

17- الشيخ الأميني، الغدير، ج1، ص11.

 

18- مسلم النيسابوري، صحيح مسلم، ج6، ص3.

 

19- الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص262.

 

20- المصدر نفسه، ص286.

 

21- الإمام الخامنئي، أجوبة الاستفتاءات، ج1، ص24.

 

22- الإمام الخميني، الحكومة الإسلامية، ص86.

 

23- منهجية الثورة الإسلامية، ص163.

 

24- الإمام الخامنئي، أجوبة الاستفتاءات، ج1، ص23.

 

25- المصدر نفسه، ص22.

 

26- المصدر نفسه، ص23.

 

27- المصدر نفسه، ص21.

 

28- المصدر نفسه، ص21.

 

29- المصدر نفسه، ص20.

 

30- الأنبياء: 92.

 

31- المؤمنون: 52.

 

32- الريشهري، ميزان الحكمة، ج4، ص3566.

 

33- الحج: 39-40.

 

34- الريشهري، ميزان الحكمة، ج4، ص3568.

 

35- ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول، ص208.

 

36- النمازي الشهرودي، مستدرك سفينة البحار، ج10، ص375.

 

37- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص309.

 

38- نهج البلاغة، ص672.

 

39- الوثيقة السياسية لحزب الله، الفصل الثاني، لبنان، نُشرت في الصحف بتاريخ 1/12/2009م.

 

40- يونس: 99.

 

41- الدستور اللبناني، ص8.

 

42- المصدر نفسه، ص11.

 

43- المصدر نفسه، ص13.

 

44- وثيقة الوفاق الوطني اللبناني، مجلس النواب، ص17 و18.

 

45- الوثيقة السياسية لحزب الله، الفصل الثاني، المقاومة، نُشرت في الصحف بتاريخ 1/12/2009م.

 

46- المؤلف، حزب الله: المنهج، التجربة، المستقبل، ص333-335.

 

47- هود: 118.

 

شاهد أيضاً

السيد نصر الله: اعتذارات السويد والدنمارك ليست كافية ويجب منع التصرفات المسيئة للقرآن

نوّه الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله، بكل التحركات التي خرجت نصرة ...