الرئيسية / بحوث اسلامية / دور أهل البيت عليهم السلام في بناء الجماعة الصالحة

دور أهل البيت عليهم السلام في بناء الجماعة الصالحة

ـ العبادة والزهد:

الزهد والمواضبة على العبادة بجميع أبعادها، فقد ورد في عدّة روايات تصوير النموذج الرائع لذلك. منها عن أبي جعفر(عليه السلام) في رواية أبي المقداد قال: «يا أبا المقداد، إنما شيعة علي(عليه السلام) الشاحبون الناحلون الذابلون. ذابلة شفاههم، خميصة بطونهم، متغيّرة ألوانهم، مصفرّة وجوههم، إذا جنّهم الليل اتّخذوا الارض فراشاً واستقبلوا الارض بجباههم، كثير سجودهم، كثيرة دموعهم، كثير دعاؤهم، كثير بكاؤهم، يفرح الناس وهم محزونون…»([1][29]).

ومنها رواية الارشاد للمفيد والامالي للطوسي: «روي أن أمير المؤمنين(عليه السلام)خرج ذات ليلة قمراء فأمّ الجبّانة، ولحقه جماعة يقفون أثره، فوقف عليهم ثم قال: من أنتم؟ قالوا: شيعتك يا أمير المؤمنين. فتفرّس في وجوههم ثم قال: فما لي لا أرى عليكم سيماء الشيعة؟! قالوا: وما سيماء الشيعة يا أمير المؤمنين؟ فقال: صفر الوجوه من السهر، عمش العيون من البكاء، حدب الظهور من القيام، خمص البطون من الصيام، ذبل الشفاه من الدعاء، عليهم غبرة الخاشعين»([2][30]).

ويمكن أن نفهم هذه المناقبية الرائعة في تصوير هذا النموذج الحي الذي وضعه الامام علي(عليه السلام) للفرد الشيعي، في الصورة المعبرة التي يقدّمها الامام(عليه السلام) في حديثه مع الاحنف بن قيس فيما رواه الصدوق في كتابه صفات الشيعة قال: «لما قدم أمير المؤمنين(عليه السلام) البصرة بعد قتال أهل الجمل دعاه الاحنف بن قيس واتخذ له طعاماً، فبعث إليه صلوات الله عليه وإلى أصحابه، فأقبل ثم قال: يا أحنف ادع لي أصحابي، فدخل عليه قوم متخشّعون كأنهم شنان بوال، فقال الاحنف بن قيس: يا أمير المؤمنين، ما هذا الذي نزل بهم؟ أمن قلة الطعام؟ أو من هول الحرب؟ فقال  صلوات الله عليه: لا يا أحنف، إن الله سبحانه أحب أقواماً تنسّكوا له في دار الدنيا تنسك من هجم على ما علم من قربهم من يوم القيامة من قبل أن يشاهدوها فحملوا أنفسهم على مجهودها، وكانوا إذا ذكروا صباح يوم العرض على الله سبحانه توهموا خروج عنق يخرج من النار يحشر الخلائق إلى ربهم تبارك وتعالى، وكتاب يبدو فيه على رؤوس الاشهاد فضائح ذنوبهم، فكادت أنفسهم تسيل سيلاناً أو تطير قلوبهم بأجنحة الخوف طيراناً، وتفارقهم عقولهم إذا غلت بهم من أجل التجرد إلى الله سبحانه غلياناً. فكانوا يحنّون حنين الواله في دجى الظلم، وكانوا يفجعون من خوف ما أوقفوا عليه أنفسهم فمضوا ذبل الاجسام، حزينة قلوبهم كالحة وجوههم ذابلة شفاههم خامصة بطونهم، تراهم سكارى سمّـار وحشة الليل. متخشعون كأنهم شنان بوال، قد أخلصوا لله أعمالهم سراً وعلانية، فلم تأمن من فزعه قلوبهم، بل كانوا كمن حرسوا قباب خراجهم.

فلو رأيتهم في ليلتهم، وقد نامت العيون، وهدأت الاصوات، وسكنت الحركات من الطير في الوكور وقد نهنههم هول يوم القيامة بالوعيد عن الرقاد كما قال سبحانه: (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون)فاستيقظوا إليها فزعين، وقاموا إلى صلاتهم معولين باكين تارة واخرى مسبّحين، يبكون في محاريبهم ويرنّون، يصطفون ليلة مظلمة بهماء يبكون.

فلو رأيتهم يا أحنف في ليلتهم قياماً على أطرافهم، منحنية ظهورهم يتلون أجزاء القرآن لصلاتهم، قد اشتدت أعوالهم([3][31]) ونحيبهم وزفيرهم، إذا زفروا خِلتَ النار قد أخذت منهم إلى حلاقيمهم، وإذا أعولوا حسبت السلاسل قد صفّدت في أعناقهم فلو رأيتهم في نهارهم إذاً لرأيت قوماً يمشون على الارض هوناً ويقولون للناس حسناً فإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً، وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراماً، قد قيدوا أقدامهم من التهمات، وأبكموا ألسنتهم أن يتكلّموا في أعراض الناس، وسجموا أسماعهم أن يلجها خوض خائض، وكحّلوا أبصارهم بغض البصر عن المعاصي، وانتحوا دار السلام التي من دخلها كان آمناً من الريب والاحزان.

فلعلك يا أحنف شغلك نظرك في وجه واحدة تبدي الاسقام بغاضرة وجهها، ودار قد أشغلت بنقش رواقها وستور قد علقتها، والريح والاجام موكّلة بثمرها، وليست دارك هذه دار البقاء، فأحمتك الدار التي خلقها الله سبحانه من لؤلؤة بيضاء، فشقق فيها أنهارها، وغرس فيها أشجارها، وظلّل عليها بالنضج من أثمارها وكبسها بالعواتق من حورها، ثم أسكنها أولياءه وأهل طاعته.

فلو رأيتهم يا أحنف وقد قدموا على زيادات ربّهم سبحانه، فإذا ضربت جنائبهم صوّتت رواحلهم بأصوات لم يسمع السامعون بأحسن منها، وأظلتهم غمامة فأمطرت عليهم المسك والرادن، وصهلت خيولها بين أغراس تلك الجنان، وتخلّلت بهم نوقهم بين كثب الزعفران، ويتّطئ من تحت أقدامهم اللؤلؤ والمرجان، واستقبلتهم قهارمتها بمنابر الريحان وهاجت لهم ريح من قبل العرش فنثرت عليهم الياسمين والاقحوان، وذهبوا إلى بابها فيفتح لهم الباب رضوان ثم يسجدون لله في فناء الجنان، فقال لهم الجبار: ارفعوا رؤوسكم، فإنّي قد رفعت عنكم مؤنة العبادة وأسكنتكم جنّة الرضوان.

فإن فاتك يا أحنف ما ذكرت لك في صدر كلامي، لتتركنّ في سرابيل القطران ولتطوفنّ بينها وبين حميم آن، ولتسقين شراباً حار الغليان في إنضاجه، فكم يومئذ في النار من صلب محطوم ووجه مهشوم، ومشوّه مضروب على الخرطوم، قد أكلت الجامعة كفّه، والتحم الطوق بعنقه فلو رأيتم يا أحنف ينحدرون في أوديتها، ويصعدون جبالها، وقد ألبسوا المقطّعات من القطران، واقرنوا مع فجّارها وشياطينها، فإذا استغاثوا بأسوأ أخذ من حريق شدّت عليهم عقاربها وحيّاتها، ولو رأيت منادياً ينادي وهو يقول:

يا أهل الجنّة ونعيمها، ويا أهل حليّها وحللها خلود فلا موت. فعندها ينقطع رجاؤهم، وتغلق الابواب، وتنقطع بهم الاسباب فكم يومئذ من شيخ ينادي:

واشيبتاه! وكم من شباب ينادي: واشباباه! وكم من امرأة تنادي: وافضيحتاه! هتكت عنهم الستور، فكم يومئذ من مغموس، بين أطباقها محبوس، يالك غمسة ألبستك بعد لباس الكتان، والماء المبرّد على الجدران، وأكل الطعام ألواناً بعد ألوان لباساً لم يدع لك شعراً ناعماً كنت مطعمه إلاّ بيّضه، ولا عيناً كنت تبصر بها إلى حبيب إلاّ فقأها، هذا ما أعدّ الله للمجرمين وذلك ما أعدّ الله للمتّقين»([4][32]).

وكذلك الصورة الاخرى التي رواها الكراجكي في كتابه (الكنز)([5][33]) في رواية نوف البكالي([6][34]) عن علي(عليه السلام) في حديث له مع جماعة من أصحابه منهم همام ابن عبادة بن خثيم والتي ذكر جانباً منها الشريف الرضي في نهج البلاغة([7][35]).

([1][29]) الخصال 2، ح40 من باب العشرة.

([2][30]) الارشاد : 114، وأمالي الطوسي 1 : 219.

([3][31]) هكذا وردت في المصدر، وصوابها «قد اشتد إعوالهم».

([4][32]) صفات الشيعة: 118، ح63.

([5][33]) البحار 68 : 191، ب19 صفات الشيعة ح47.

([6][34]) المصدر السابق: 192، ب19 صفات الشيعة ح48.

([7][35]) نهج البلاغة، الصالح، الخطبة : 193.

شاهد أيضاً

الادب العربي – الأمثال العربية: محمد رضا المظفر

المقدمة من سنن الاسلام مراعاة النفس الانسانية،فهناك نفس مؤمنة قوية مطمئنة،ونفس كافرة قلقة هشة.نفسيات متباينة ...