الرئيسية / القرآن الكريم / قضايا المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم

قضايا المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم

ـ 6 ـ
بماذا يتكون ويعيش المجتمع الاسلامي ؟

لا ريب ان الاجتماع أي اجتماع كان إنما يتحقق ويحصل بوجود وغاية واحدة مشتركة بين أفراده المتشتتة ، وهو الروح الواحدة السارية في جميع أطرافه التي تتحد بها نوع اتحاد ، وهذه الغاية والغرض في نوع الاجتماعات المتكونة غير الدينية إنما هي غاية الحياة الدنيوية للإنسان لكن على نحو الاشتراك بين الأفراد لا على نحو الانفراد وهي التمتع من مزايا الحياة المادية على نحو الاجتماع .
والفرق بين التمتع الاجتماعي والانفرادي من حيث الخاصية ان الانسان لو استطاع أن يعيش وحده كان مطلق العنان في كل واحد من تمتعاته حيث لا معارض له ولا رقيب إلا ما قيد به بعض أجهزته بعضاً فإنه لا يقدر أن


( 29 )

يستنشق كل الهواء فإن الرئة لا تسعه وإن اشتهاه ، ولا يسعه أن يأكل من المواد الغذائية لا إلى حد فإن جهاز الهاضمة لا يتحمله فهذا حاله بقياس بعض قواه وأعضائه إلى بعض ، وأما بالنسبة إلى إنسان آخر مثله ، فإذا كان لا شريك له في ما يستفيد منه من المادة على الفرض فلا سبب هناك يقتضي تضييق ميدان عمله ، ولا تحديد فعل من أفعاله وعمل من أعماله .
وهذا بخلاف الانسان الواقع في ظرف الاجتماع وساحته فإنه لو كان مطلق العنان في إرادته وأعماله لأدى ذلك إلى التمانع والتزاحم الذي فيه فساد العيش وهلاك النوع وقد بينا ذلك في مباحث النبوة السابقة أوفى بيان . وهذا هو السبب الوحيد الذي يدعو إلى حكومة القانون الجاري في المجتمع غير أن المجتمعات الهمجية لا تتنبه لوضعها عن فكر وروية وإنما يكون الآداب والسنن فيها المشاجرات والمنازعات المتوفرة بين أفرادها فتضطر الجميع إلى رعاية أمور تحفظ مجتمعهم بعض الحفظ ، ولما لم تكن مبنية على أساس مستحكم كانت في معرض النقض والإبطال تتغير سريعاً وتنقرض ، ولكن المجتمعات المتمدنة تبنيه على أساس قويم بحسب درجاتهم في المدنية والحضارة فيرفعون به التضاد والتمانع الواقع بين الارادات وأعمال المجتمع بتعديلها بوضع حدود وقيود لها ثم ركز القدرة والقوة في مركز عليه ضمان إجراء ما ينطق به القانون .
ومن هنا يظهر أولاً : أن القانون حقيقة هو ما تعدل به إرادات الناس وأعمالهم برفع التزاحم والتمانع من بينهما بتحديدها .
وثانياً : أن أفراد المجتمع الذي يحكم فيه القانون أحرار فيما وراءه كما هو مقتضى تجهز الانسان بالشعور والإرادة بعد التعديل ، ولذا كانت القوانين الحاضرة لا تتعرض لأمر المعارف الالهية والأخلاق ، وصار هذان المهمان


( 30 )

يتصوران بصورة يصورها بهما القانون فيتصالحان ويتوافقان معه على ما هو حكم التبعية فيعودان عاجلاً أو آجلاً رسوماً ظاهرية فاقدة للصفاء المعنوي ، ولذلك السبب أيضاً ما نشاهده من لعب السياسة بالدين فيوماً تقضي عليه وتدحضه ويوماً تميل إليه فتبالغ في إعلاء كلمته ، ويوماً تطوي عنه كشحاً فتخليه وشأنه .
وثالثاً : ان هذه الطريقة لا تخلو عن نقص فإن القانون وإن حمل ضمان إجرائه على القدرة التي ركزها في فرد أو أفراد ، لكن لا ضمان على إجرائه بالنهاية بمعنى أن منبع القدرة والسلطان لو مال عن الحق وحول سلطة النوع على النوع إلى سلطة شخصه على النوع وانقلبت الدائرة على القانون لم يكن هناك ما يقهر هذا القاهر فيحوله الى مجراه العدل ، وعلى هذا القول شواهد كثيرة مما شاهدناه في زمننا هذا وهو زمان الثقافة والمدنية فضلاً عما لا يحصى من الشواهد التاريخية ، وأضف إلى هذا النقص نقصاً آخر ، وهو خفاء نقض القانون على القوة المجرية أحياناً ، أو خروجه عن حومة قدرته .
وبالجملة الاجتماعات المدنية توحدها الغاية الواحدة التي هي التمتع من مزايا الحياة وهي السعادة عندهم ، ولكن الاسلام لما كان يرى أن الحياة الانسانية أوسع مداراً من الحياة الدنيا المادية بل في مدار حياته الحياة الأخروية التي هي الحياة ، ويرى أن هذه الحياة لا تنفع فيها إلا المعارف الالهية التي تنحل بجملتها إلى التوحيد ، ويرى أن هذه المعارف لا تنحفظ إلا بمكارم الاخلاق وطهارة النفس من كل رذيلة ، ويرى أن هذه الاخلاق لا تتم ولا تكمل الا بحياة اجتماعية صالحة معتمدة على عبادة الله سبحانه والخضوع لما تقتضية ربوبيته ومعاملة الناس على أساس العدل الاجتماعي أخذ ( أعني الاسلام ) الغاية التي يتكون عليها المجتمع البشري ويتوحد بها دين التوحيد ثم وضع القانون الذي وضعه على أساس التوحيد ، ولم يكتف


( 31 )

فيه على تعديل الاردات والأفعال فقط بل تممه بالعباديات وأضاف اليها المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة .
ثم جعل ضمان إجرائها في عهدة الحكومة الاسلامية أولاً ، ثم في عهدة المجتمع ثانياً ، وذلك بالتربية الصالحة علماً وعملاً والامر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ومن أهم ما يشاهد في هذا الدين ارتباط جميع أجزائه ارتباطاً يؤدي إلى الوحدة التامة بينها بمعنى أن روح التوحيد سارية في الأخلاق الكريمة التي يندب اليها هذا الدين ، وروح الأخلاق منتشرة في الأعمال التي يكلف بها أفراد المجتمع ، فالجميع من أجزاء الدين الاسلامي ترجع بالتحليل إلى التوحيد ، والتوحيد بالتركيب يصير هو الاخلاق والأعمال ، فلو نزل لكان هي ولو صعدت لكان هو ، ( اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) ، فإن قلت : ما أورد من النقص على القوانين المدنية فيما إذا عصت القوة التنفذية عن إجرائها أو فيما يخفي عليها من الخلاف مثلاً وارد بعينه على الاسلام وأوضح الدليل عليه ما نشاهده من ضعف الدين وزوال سيطرته على المجتمع الاسلامي ، وليس إلا لفقدانه من يحمل نواميسه على الناس يوماً .
قلت : حقيقة القوانين العامة سواء كانت إلهية أو بشرية ليست إلا صوراً ذهنية في أذهان الناس وعلوماً تحفظها الصدور ، وإنما ترد مورد العمل وتقع موقع الحس بالإرادات الانسانية تتعلق بها ، فمن الواضح أن لو عصمت الإرادات لم توجد في الخارج ما تنطبق عليه القوانين ، وإنما الشأن فيما يحفظ به تعلق هذه الإرادات بالوقوع حتى تقوم القوانين على ساقها والقوانين المدنية لا تهتم بأكثر من تعليق الافعال بالإدارات أعني بإرادة الأكثرية ، ثم لم يهتموا بما تحفظ هذه الإرادة ، فمهما كانت الإرادة حية


( 32 )

شاعرة فاعلة جرى بها القانون ، وإذا ماتت من جهة انحطاط يعرض لنفوس الناس وهرم يطرأ على بنية المجتمع ، أو كانت حية لكنها فقدت صفة الشعور والادراك لانغمار المجتمع في الملاهي وتوسعه في الاتراف والتمتع ، أو كانت حية شاعرة لكنها فقدت التأثير لظهورة قوة مستبدة فائقة غالبة تقهر إرادتها إرادة الأكثرية ، وكذا في الحوادث التي لا سبيل للقوة التنفيذية على الوقوف عليها كالجرائم السرية ، أو لا سبيل لها إلى بسط سيطرتها عليها كالحوادث الخارجة عن منطقة نفوذها ففي جميع هذه الموارد لا تنال الأمة أمنيتها من تطبيق القانون وحصانة المجتمع من المفاسد والتلاشي وعمدة الانشعابات الواقعة في الامم الأوروبية بعد الحرب العالمية الكبرى الاولى والثانية من أحسن الأمثلة في هذا الباب .
وليس ذلك ( أعني انتقاض القوانين وتفسخ المجتمع وتلاشيه ) إلا لأن المجتمع لهم يهتم بالسبب الحافظ لإرادات الامة على قوتها وسيطرتها وهي الأخلاق العالية إذ لا تستمد الارادة في بقائها واستدامة حياتها إلا في الخُلق المناسب لها كما بين ذلك في علم النفس ، فلولا استقرار السنة القائمة في المجتمع واعتماد القانون الجاري فيه على أساس قويم في الاخلاق العالية كانت كشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار . واعتُبر في ذلك ظهور الشيوعية ، فليست إلا من مواليد الديمقراطية أنتجها إتراف طبقة من طبقات المجتمع وحرمان آخرين ، فكان بُعداً شاسعاً بين نقطتي القساوة وفقد النصفة ، والسخط وتراكم الغيظ والحنق ، وكذا في الحرب العالمية التي وقعت مرة بعد مرة وهي تهدد الانسانية ثالثة ، وقد أفسدت الأرض وأهلكت الحرث والنسل ولا عامل لها إلا غريزة الاستكبار والشره والطمع ، هذا .
ولكن الاسلام بنى سنته الجارية وقوانينه الموضوعة على أساس الاخلاق ، وبالغ في تربية الناس عليها لكون القوانين الجارية في الأعمال في


( 33 )

ضمانها على عهدتها فهي مع الانسان في سره وعلانيته وخلوته وجلوته تؤدي وظيفتها وتعمل عملها أحسن ما يؤديه شرطي مراقب أو أي قوة تبذل عنايتها في حفظ النُظُم . نعم تعتني المعارف العمومية في هذه الممالك بتربية الناس على الأخلاق المحمودة وتبذل جهدها في حض الناس وترغيبهم اليها لكن لا ينفعهم ذلك شيئاً .
أما أولاً : فلأن المنشأ الوحيد لرذائل الأخلاق ليس إلا الاسراف والافراط في التمتع المادي والحرمان البالغ فيه ، وقد اعطت القوانين للناس الحرية التامة فيه فأمتعت بعضاً وحرمت آخرين فهل الدعوة إلى فضائل الأخلاق والترغيب عليها إلا دعوة إلى المتناقضين أو طلباً للجمع بين الضدين .
على أن هؤلاء كما عرفت يفكرون تفكراً اجتماعياً ، ولا تزال مجتمعاتهم تبالغ في اضطهاد المجتمعات الضعيفة ودحض حقوقهم ، والتمتع بما في أيديهم ، واسترقاق نفوسهم ، والتوسع في التحكم عليهم ما قدروا ، والدعوة إلى الصلاح والتقوى مع هذه الخصيصة ليست إلا دعوة متناقضة لا تزال عقيمة .
وأما ثانياً : فلأن الأخلاق الفاضلة أيضاً تحتاج في ثباتها واستقرارها إلى ضامن يضمن حفظها وكلاءتها وليس إلا التوحيد أعني القول بأن للعالم إلهاً واحداً ذا أسماء حُسنى خَلقَ الخلق لغاية تكميلهم وسعادتهم وهو يحب الخير والصلاح ، ويبغض الشر والفساد وسيجمع الجميع لفصل القضاء وتوفية الجزاء فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، ومن الواضح ان لولا الاعتقاد بالمعاد لم يكن هناك سبب أصيل رادع عن اتباع الهوى والكف عن حظوظ النفس الطبيعية ، فإنما الطبيعة الإنسانية تريد وتشتهي مشتهيات نفسها لا ما ينتفع به غيرها كطبيعة الفرد الآخر إلا إذا رجع بنحو إلى مشتهى


( 34 )

نفسها . ففيما كان للأنسان مثلاً تمتع في إماتة حق من حقوق الغير ولا رادع يردعه ولا مجازي يجازيه ولا لائم معاتب يلومه ويعاتبه ، فأي مانع يمنعه في اقتراف الخطيئة وارتكاب المظلمة وإن عظمت ما عظمت ؟ وأما ما يتوهم ـ وكثيراً ما يخطئ فيه الباحث ـ من الروادع المختلفة كالتعلق بالوطن وحب النوع والثناء الجميل ونحو ذلك ، فإنما هي عواطف قلبية ونزوعات باطنية لا سبب حافظاً عليها إلا التعليم والتربية من غير استنادها إلى السبب الموجب فهي إذن أوصاف اتفاقية وأمور عادية لا مانع معها يمنع من زوالها فلماذا يجب على الانسان أن يفدي بنفسه غيره ، ليتمتع بالعيش بعده وهو يرى أن الموت فناء وبطلان ؟ والثناء الجميل إنما هو في لسان آخرين ولا لذة يلتذ به الفادي بعد بطلان ذاته .
وبالجملة لا يرتاب المتفكر البصير في أن الانسان لا يقدم على حرمان لا يرجع اليه فيه جزاء ولا يعود اليه منه نفع ، والذي يعده ويمنيه في هذه الموارد ببقاء الذكر الحسن والثناء الجميل الخالد والفخر الباقي ببقاء الدهر ، فإنما هو غرور يغتر به وخدعة ينخدع بها بهيجان إحساساته وعواطفه فيخيل إليه انه بعد موته وبطلان ذاته حاله كحاله قبل موته فيشعر بذكره الجميل فيلتذ به وليس ذلك إلا من غلط الوهم كالسكران يتسخر بهيجان إحساساته فيعفو ويبذل من نفسه وعرضه وماله أو كل كرامة له ما لو يقدم عليه لو صحا وعقل ، وهو سكران لا يعقل ويعد ذلك فتوة وهو سفه وجنون .
فهذه العثرات وأمثالها مما لا حصن للأنسان يتحصن فيه منها غير التوحيد الذي ذكرناه ولذلك وضع الاسلام الأخلاق الكريمة التي جعلها جزءاً من طريقته الجارية على أساس التوحيد الذي من شؤونه القول بالمعاد ، ولازمه أن يلتزم الانسان بالاحسان ويجتنب الإساءة أينما كان ومتى ما كان سواء علم به أو لم يعلم ، وسواء حمده حامد أو لم يحمد ، وسواء كان معه


( 35 )

من يحمله عليه أو يردعه عنه أو لم يكن فإن معه الله العليم الحفيظ القائم على كل نفس ما كسبت ووراءه يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء ، وفيه تجزى كل نفس بما كسبت .

 

الولاية الاخبارية

 

https://t.me/wilayahinfo

 

[email protected]

شاهد أيضاً

قضايا المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم

ـ 9 ـ الحرية والمجتمع الاسلامي كلمة الحرية على ما يراد بها من المعنى لا ...