﷽ (
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) سورة الحج 27

نبذة عن تفسير الآية:

1 – الميزان في تفسير القرآن
التأذين: الإعلام برفع الصوت ولذا فسر بالنداء، والحج القصد سمي به العمل الخاص الذي شرعه أولا إبراهيم (عليه السلام) وجرت عليه شريعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لما فيه من قصد البيت الحرام، ورجال جمع راجل خلاف الراكب، والضامر المهزول الذي أضمره السير، والفج العميق – على ما قيل – الطريق البعيد.

وقوله: ﴿وأذن في الناس بالحج﴾ أي ناد الناس بقصد البيت أو بعمل الحج والجملة معطوفة على قوله: ﴿لا تشرك بي شيئا﴾ والمخاطب به إبراهيم وما قيل: إن المخاطب نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بعيد من السياق.

وقوله: ﴿يأتوك رجالا﴾ إلخ، جواب الأمر أي أذن فيهم وأن تؤذن فيهم يأتوك راجلين وعلى كل بعير مهزول يأتين من كل طريق بعيد، ولفظة ﴿كل﴾ تفيد في أمثال هذه الموارد معنى الكثرة دون الاستغراق.

2 – تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل:
الآية أمر من الله تعالى لإبراهيم (ع).
كلمة “أذّن” مشتقة من “الأذان” أي “الإعلان”.
و “
رجال” جمع “راجل” أي “ماشي”.
و “
ضامر” تعني الحيوان الضعيف.
و “
الفجّ” في الأصل تعني المسافة بين جبلين، ثمّ أطلقت على الطرق الواسعة و “العميق” تعني هنا “البعيد”.

جاء في حديث رواه علي بن إبراهيم في تفسيره:
عندما تسلّم إبراهيم (ع) هذا الأمر الربّاني قال: إنّ أذاني لا يصل إلى أسماع الناس، فأجابه سبحانه وتعالى (عليك الأذان وعليّ البلاغ)! فصعد إبراهيم (ع) موضع المقام ووضع إصبعيه في اُذنيه وقال: ياأيّها الناس كتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق فأجيبوا ربّكم.

وأبلغ الله عز ّو جلّ نداءه أسماع جميع الناس حتّى الذين في أصلاب آبائهم وأرحام اُمّهاتهم، فردّوا: لبّيك اللهمّ لبّيك! وإنّ جميع الذين يشاركون في مراسم الحجّ منذ ذلك اليوم وحتّى يوم القيامة، هم من الذين لبّوا دعوة إبراهيم (ع).

وقد ذكرت الآية هنا الحجّاج المشاة أوّلا، ثمّ الراكبين، لأنّهم أفضل منزلة عند الله، بسب ما يتحمّلون من صعاب السفر أكثر من غيرهم، ولهذا السبب قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): “للحاج الراكب بكلّ خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة، وللحاج الماشي بكلّ خطوة يخطوها سبعمائة حسنة“.

أو أنّ هذه المنزلة جاءت لتحديد أهميّة حجّ بيت الله الحرام، الذي يجب أن يتمّ بأي اُسلوب وبأيّة إمكانات. وأن لا ينتظر الحاج مركباً له.

أمّا عبارة “ضامر” فتعني الحيوان الضعيف، إشارةً إلى أنّ هذا الطريق يجعل الحيوان هزيلا، لأنّه يجتاز صحاري جافةً محرقة لا زرع فيها ولا ماء، وإستعداداً لتحمل الصعاب في هذا الطريق.

أو يكون المراد أنّ على الحاج إختيار جواد قوي سريع صابر، رشيق ضامر، متدرّب على السير في مثل هذه الطرق، ولا فائدة ترجى من الحيوان المنعم في هذا الطريق.

“مثلما لا يمكن للرجال المترفين إجتياز هذا الطريق”.

أمّا عبارة (من كلّ فج عميق) فهي إشارة إلى توجّه الحجاج إلى الكعبة، ليس فقط من الأماكن القريبة، بل يشمل ذلك الحجّاج من الأماكن البعيدة أيضاً.

كلمة “كلّ” لا تعني هنا الإستغراق والشمول، بل الكثرة.

ويذكر المفسّر المشهور أبو الفتوح الرازي في تفسيره لهذه الآية حياة مثيرة لرجل يدعى “أبو القاسم بشر بن محمّد” فيقول:
رأيت حين الطواف شيخاً هزيلا بدت عليه آثار السفر، ورسم التعب علائمه على جبينه.

تقدّمت إليه وسألته من أين أنت؟ أجاب: من فجّ عميق طال قطعه خمسة أعوام! فأصبحت شيخاً هزيلا من شدّة تعب السفر وآلامه، فقلت: والله لهي مشقّة، إلاّ أنّها طاعة خالصة وحبّ عميق لله تعالى.

فسّره ذلك ثمّ أنشد:
زر من هويت وإن شطّت بك الدار *** وحال من دونه حجب وأستار!
لا يـمـنـعـنّــك بُـعــدٌ مــن زيارتـــه *** إنّ المحبّ لمــن يهــواه زوّار!

حقّاً إنّ جاذبية بيت الله هي بدرجة تجعل القلوب الطافحة بالإيمان تهوى إليه من جميع الأنحاء، قربت أم بعدت، تجذب الشاب والشيخ والصغير والكبير، من كلّ اُمّة ومكان، بعيداً أم قريباً، الكل يلبّون الله يأتونه عشّاقاً ليروا مظاهر ذات الله الطاهرة في تلك الأرض المقدّسة بأعينهم، ويشعروا برحمته التي لا حدود لها من أعماق وجودهم.

المصدر: الميزان في تفسير القرآن، تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل.