الرئيسية / بحوث اسلامية / البدعة مفهومها وحدودها

البدعة مفهومها وحدودها

استحباب السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم

يمكن الاستدلال على استحباب السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدّة وجوه، لكننا هنا نقتصر على ذكر مجموعة من آراء علماء السلف القائلة باستحباب السفر للزيارة، بل عدّها بعضهم واجبة، وليس لاَحد أن ينكر أنَّ السلف من علماء الاُمّة وعامتها سافروا لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أشار إلى هذا الواقع الامام السبكي، بقوله: «إنّ الناس لا يزالون في كلَّ عام إذا قضوا الحج يتوجهون إلى زيارته صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم من يفعل ذلك قبل الحج، هكذا شاهدناه وشاهده من قبلنا، وحكاه العلماء عن الاَعصار القديمة… وذلك أمر لا يُرتاب فيه، وكلّهم يقصدون ذلك ويعرجون إليه وإن لم يكن طريقهم، ويقطعون فيه مسافة بعيدة وينفقون فيه الاَموال، ويبذلون فيه المُهَج، معتقدين أنّ ذلك قربة وطاعة، وإطباق هذا الجمع العظيم من مشارق الاَرض ومغاربها على مرَّ السنين، وفيهم العلماء والصلحاء وغيرهم يستحيل أن يكون خطأ، وكلهم يفعلون ذلك على وجه التقرّب به إلى الله عزَّ وجل، ومن تأخر عنه من المسلمين فإنما يتأخر بعجزٍ أو تعويق المقادير، مع تأسفه عليه ووده لو تيسر له، ومن أدّعى أنّ هذا الجمع العظيم مجمعون على خطأ فهو المخطىء»(1).

____________

(1) شفاء السقام في زيارة خير الانام، للسبكي: 100.


الصفحة 109


وإلى جانب ما جاء به السبكي في معارضة القائلين بالتحريم، فقد شاركه عدد غفير من العلماء في ذلك، وإليك بعض النصوص.

1 ـ قال أبو الحسن الماوردي (ت | 450 هـ): «فإذا عاد ولي الحاج، سار به على طريق المدينة لزيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليجمع لهم بين حج بيت الله عزَّوجلَّ وزيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رعاية لحرمته وقياماً بحقوق طاعته، وذلك وإن لم يكن من فروض الحج، فهو من مندوبات الشرع المستحبة وعبادات الحجيج المستحبة»(1).

2 ـ قال ابن الحاج محمد بن محمد العبدري القيرواني المالكي (ت|737هـ): «وأما عظيم جناب الاَنبياء والرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ فيأتي إليهم الزائر ويتعين عليه قصدهم من الاَماكن البعيدة، فإذا جاء إليهم فليّتصف بالذل والانكسار والمسكنة والفقر والفاقة والحاجة والاضطرار والخضوع، ويحضر قلبه وخاطره إليهم وإلى مشاهدتهم بعين قلبه لا بعين بصره لاَنهم لا يبلون ولا يتغيرون…»(2).

وابن الحاج هنا ـ كما ترى ـ لا يقصر مشروعية الزيارة على نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل يعممها على الاَنبياء والرسل أيضاً.

3 ـ روي أنّه لما صالح عمر بن الخطاب أهل بيت المقدس، جاءه كعب الاَحبار فأسلم ففرح به، فقال عمر له: «هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبره وتتمتع بزيارته ؟ قال: نعم»(3).

____________

(1) الاحكام السلطانية، للماوردي: 105.

(2) المدخل، لابن الحاج 1: 257 فضل زيارة القبور.

(3) شرح المواهب، للزرقاني المالكي المصري 8: 299.


الصفحة 110


دراسة دليل القائلين بتحريم شدّ الرحال لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

اعتمد القائلون بتحريم شدّ الرحال لغير المساجد الثلاثة (مسجد الرسول ومكة وبيت المقدس) بشكل خاص على الرواية المتقدّمة، ولنا في دلالة الحديث أو الاَحاديث المارة مناقشة، تقوم على أساس تحديد المستثنى منه، وهو واحد من اثنين:

1 ـ لا تشدُّ الرحال إلى «مسجد» غير المساجد الثلاثة.

2 ـ لا تشدُّ الرحال إلى «مكان» غير المساجد الثلاثة.

فلو كان المقصود بالرواية المستثنى الاَول كما هو الظاهر، فإنّ معنى الحديث يكون: الاَمر بعدم شدّ الرحال إلى أي مسجد من المساجد ماعدا المساجد الثلاثة، ولا يعني عدم شدّ الرحال إلى أي مكان من الاَمكنة إذا لم يكن هذا «المكان» مسجداً، فالحديث إذن بهذا المعنى لايتعرض بحال لشدّ الرحال لزيارة قبور الاَنبياء والاَئمة الطاهرين والاَولياء والصالحين، لاَنّ قبورهم ليست مساجد، ولاَنّ الحديث يتعرض في نفيه وإثباته للمساجد خاصة، ولذلك فإنّ الاستدلال به على حرمة شدّ الرحال إلى غير المساجد باطل.

أما الحالة الثانية، وهي البناء على الاستثناء من عموم الاَمكنة، فلا يمكن الاَخذ بها، إذ تستتبع حرمة جميع الاسفار سواء كان السفر لزيارة مسجد أو غيره من الامكنة، ولا يقول بهذا أحدٌ من الفقهاء والعقلاء.

ومن جهة ثانية: فإنّ النهي عن شدِّ الرحال إلى أي مسجد غير المساجد الثلاثة ليس نهياً «تحريمياً» وإنّما هو إرشاد الى عدم الجدوى في سفر كهذا، وذلك لاَنّ المساجد الاُخرى لا تختلف من حيثُ الفضيلة،


الصفحة 111


فالمساجد الجامعة متساوية في الفضيلة وإنّ من العبث ترك الصلاة في جامع هذا البلد والسفر إلى جامع آخر في بلد آخر مع أنهما متماثلان.

يقول الغزالي بهذا الصدد: «القسم الثاني، وهو أن يسافر لاَجل العبادة إمّا لحجٍّ أو جهاد.. ويدخل في جملته: زيارة قبور الاَنبياء عليهم السلام وزيارة قبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والاَولياء، وكل من يتبرّك بمشاهدته في حياته يتبرّك بزيارته بعد وفاته، ويجوز شدّ الرحال لهذا الغرض، ولا يمنع من هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تشدُّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الاَقصى»، لاَنّ ذلك في المساجد، فإنّها متماثلة في الفضيلة، بعد هذه المساجد»(1).

ويقول الدكتور الشيخ عبدالملك السعدي: «إنَّ النهي عن شدّ الرحال إلى المساجد الاَُخرى لاَجل أنَّ فيه إتعاب النفس دون جدوى أو زيادة ثواب، لاَنّها في الثواب سواء، بخلاف الثلاثة لاَنّ العبادة في المسجد الحرام بمائة ألف، وفي المسجد النبوي بألف، وفي المسجد الاقصى بخمسمائة، فزيادة الثواب تحبّب السفر إليها وهي غير موجودة في بقيّة المساجد»(2).

ومن جهة ثالثة: فإنّ هناك دليلاً آخر على أنّ السفر لغير هذه المساجد الثلاثة ليس محرّماً، وهو ما نكتشفه من سيرة النبي الاَكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد روى أصحاب الصحاح والسنن: «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأتي مسجد قباء

____________

(1) احياء علوم الدين، للغزالي 2: 247 كتاب آداب السفر، طبعة دار احياء التراث العربي ـ بيروت.

(2) البدعة، للدكتور عبدالملك السعدي: 60.


الصفحة 112


راكباً وماشياً فيصلّي فيه ركعتين»(1).

مناقشة دليل ابن تيمية في التحريم:

لابن تيمية فتوى بالتحريم عمم فيها الحرمة بزيارة قبور الاَنبياء والاَولياء والصالحين، مع أنّ المستثنى هو المساجد فقال في الفتاوى، معتمداً في فتواه على القياس: «فاذا كان السفر إلى بيوت الله غير الثلاثة ليس بمشروع باتفاق الاَئمة الاَربعة بل قد نهى عنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فكيف بالسفر إلى بيوت المخلوقين الذين تتخذ قبورهم مساجد وأوثاناً وأعياداً ويشرك بها وتدعى من دون الله، حتى إنّ كثيراً من معظّميها يفضّل الحج إليها على الحج إلى بيت الله»(2).

ولو صحّ هذا النقل عن ابن تيمية ففي كلامه مؤاخذات شتى، فقد قال: «إذا كان السفر إلى بيوت الله غير الثلاث ليس بمشروع».

المؤاخذة عليه هي أنّه من أين وقف على أنّ السفر إلى غير المساجد الثلاثة محرّم، وقد تقدّم أنّ النهي ليس نهياً تحريمياً مولوياً، وإنما هو إرشاد إلى عدم الجدوى، ولذلك فإنّه لو ترتبت على السفر مصلحة لجاز ذلك السفر مثلما عرفت من سفر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مسجد قباء مراراً.

وقال أيضاً بأنّ عدم المشروعية اتفق عليه الاَئمة الاَربعة:

ويؤاخذ عليه: أننا لم نجد نصّاً منهم على التحريم، وإيرادهم للحديث في صحاحهم ليس دليلاً على أنّهم فسروا الحديث بمثل ما فسرّه هو.

____________

(1) الفتاوى، لابن تيمية. البدعة، للدكتور عبدالملك السعدي.

(2) الفتاوى، لابن تيمية. البدعة، للدكتور عبدالملك السعدي.


الصفحة 113


وأيضاً: فإنّ قياسه زيارة قبور الاَنبياء والصالحين على زيارة عامّة المساجد، قياس باطل خصوصاً بعد أن عرفنا عدم جدوى السفر إلى شيء من هذه المساجد العامة، لعدم تحقق أي فائدة سوى تحمّل العناء والتعب، وقد عرفت أنّ فضيلة أي جامع في بلد هي نفسها في بلدٍ آخر، وليس اكتساب الثواب متوقفاً على السفر، وهذا بخلاف المقام، فإنّ درك فضيلة قبر النبي يتوقف على السفر إليه.

وأما قوله: «إنَّ المسلمين يتخذون قبور الاَولياء أوثاناً وأعياداً، ويُشْرَك بها» فهذا افتراء كبير على المسلمين الموحّدين، فكيف يكون مشركاً من يشهد كل يوم بأن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً عبده ورسوله، وكيف يتخذ من يشهد بذلك قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وثناً ؟ أما ما يصدر من الجهلة المتوهمين للعبادة بما قد يعدّ من الشرك، فليس بموقوف على هذه الاَماكن، بل قد يصدر منهم أنفسهم في بيت الله الحرام والمسجد النبوي أيضاً ! فلا يصحّ اتخاذه ذريعة للتحريم، وإلاّ لوجب تحريم دخول المساجد كلّها لاَجل مايفعل أمثال هؤلاء، بل وتحريم الحج نفسه ! وهذا باطل لا يقول به عاقل.

تم ما أردنا إيراده عن البدعة مفهوماً وشروطاً ومصاديق.
والحمد لله ربِّ العالمين

شاهد أيضاً

سقوط مرتزقة الإعلام في معسكر العمى الإستراتيجي

سقوط مرتزقة الإعلام في معسكر العمى الإستراتيجي بين نمط د. هشام الهاشمي للقصف الإيراني لقاعدة ...