الرئيسية / الاسلام والحياة / ليالي بيشاور – 89 لسلطان الواعظين

ليالي بيشاور – 89 لسلطان الواعظين

تأسف ابن عباس

إنه مؤسف لكل غيور ، فإن كل مسلم إذا سمع الخبر يتأسف ويتألم كما كان عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله (ص) إذا تذكر ذلك اليوم يتأسف ويبكي .

ذكر ابن أبي الحديد في شرح النهج : ج2/ 54 و 55 / ط. دار إحياء الثراث العربي قال : و في الصحيحين ، خرجاه معا عن ابن عباس أنه كان يقول : يوم الخميس و ما يوم الخميس ثم بكى حتى بل دمعه الحصى . فقلنا : يا ابن عباس ، و ما يوم الخميس ؟

قال : اشتد برسول الله (ص) وجعه ، فقال : ائتوني بكتاب أكتبه لكم لا تضلوا بعدي أبدا . فتنازعوا ، فقال (ص) : إنه لا ينبغي عندي تنازع ، فقال قائل : ما شأنه ؟ أ هجر؟!(78).

الشيخ عبد السلام : هذه الرواية مبهمة ، لا تصرح بأن النزاع لأي شيء حدث ؟ ثم من هو القائل ؟ : ما شأنه ؟ أهجر ؟

قلت : لإن كانت هذه الرواية مبهمة فإن هناك روايات صريحة على أن القائل هو عمر بن الخطاب ، وأنه هو الذي منع بكلامه من أن يأتوا للنبي (ص) بالقرطاس والدواة ليوصي !

الشيخ عبدالسلام : هذا بهتان عظيم ! نعوذ بالله تعالى من هذا الكلام ، وأنا على يقين أن هذا البهتان على الخليفة عمر ما هو إلا من أقاويل الشيعة وأباطيلهم ، فأوصيك أن لا تعدها !

قلت : وأنا أوصيك يا شيخ : أن لا تفوه بكلمة من غير تفكر ، فإن لسان المؤمن خلف قلبه وقلب المنافق خلف لسانه ، يعني ينبغي للمؤمن أن يفكر قبل أن يتكلم ، فإن المنافق يتكلم قبل أن يفكر في مقاله ومعنى كلامه ، ثم ينكشف له بطلانه وزيفه ، وكم رميتم الشيعة المؤمنين ، في هذه المناقشات ، ونسبتم كلامنا للأباطيل والأقاويل ، ثم انكشف للحاضرين أنها ما كانت كذلك وإنما كان كلامنا من مصادر ومنابع أهل السنة وعلمائهم وأعلامهم !!

وسأثبت لكم أننا لسنا أهل افتراء وبهتان ولا أهل الأقاويل والبطلان ، وإنما ذاك غيرنا !!

ولكي يظهر لك الحق ويتضح الأمر ، بأن القائل : أهجر ؟ أو يهجر !

وأن المانعين من أن يكتب النبي (ص) وصيته ، هو عمر .

فراجع المصادر التي سأذكرها من علمائكم :

1ـ صحيح البخاري : ج2/ 118 .

2ـ صحيح مسلم في آخر كتاب الوصية .

3ـ الحميدي في الجمع بين الصحيحين .

4ـ أحمد بن حنبل في المسند : ج1 / 222 .

6ـ والنووي في شرح صحيح مسلم ، وغيرهم كابن حجر في صواعقه ، والقاضي أبو علي ، والقاضي روزبهان ، والقاضي عياض ، والغزالي ، وقطب الدين الشافعي ، والشهرستاني في الملل والنحل وابن الأثير ، والحافظ أبو نعيم ، وسبط ابن الجوزي . وجل علمائكم أو كل من كتب من أعلامكم عن وفاة النبي (ص) ذكر هذا الأمر العظيم والخطب الجسيم والخبر الأليم .

نقل ابن أبي الحديد في شرح النهج : ج2 / 55 / ط. دار إحياء التراث العربي بيروت قال : و في الصحيحين أيضا ، خرجاه معا عن ابن عباس رحمه الله تعالى قال : لما احتضر رسول الله (ص) و في البيت رجال منهم عمر بن الخطاب ، قال النبي (ص) : هلم أكتب لكم كتابا لا تضلون بعده ، فقال عمر : إن رسول الله (ص) قد غلب عليه الوجع ، و عندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله !

فاختلف القوم و اختصموا ، فمنهم من يقول قربوا إليه يكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ، و منهم من يقول : القول ما قاله عمر ، فلما أكثروا اللغو و الاختلاف عنده (ع) ، قال لهم : قوموا فقاموا .

فكان ابن عباس يقول : إن الرزية كل الرزية : ما حال بين رسول الله (ص) و بين أن يكتب لكم ذلك الكتاب .

ونقل سبط ابن الجوزي في كتابه تذكرة الخواص / 64 و65 / ط. مؤسسة أهل البيت بيروت ، قال : وذكر أبو حامد الغزالي في كتاب ” سر العالمين ” : ولما مات رسول الله (ص) قال قبل وفاته بيسير : إئتوني بدواة وبياض لأكتب لكم كتابا لا تختلفوا فيه بعدي ، فقال عمر :

دعوا الرجل فإنه يهجر !!

إن هذه المخالفة والمعارضة من عمر لرسول الله (ص) ما كانت أول مرة بل كانت مسبوقة بمثلها كما في صلح الحديبية وغيرها … ولكن هذه المرة سببت اختلاف المسلمين وتنازعهم في محضر رسول الله (ص) ، وكان أول نزاع وتخاصم وقع بين المسلمين في حياة النبي (ص) ودام ذلك حتى اليوم ، فعمر بن الخطاب هو مسبب هذه الاختلافات والضلالات التي أدت بالمسلمين إلى القتال والحروب ، وسفك الدماء وإزهاق النفوس ، لأنه منع النبي (ص) من كتابة ذلك الكتاب الذي كان يتضمن اتحاد المسلمين وعدم ضلالتهم إلى يوم الدين !!

الشيخ عبدالسلام : لا ننتظر من جنابكم هذا التجاسر على مقام الخليفة الفاروق ! وأنت صاحب الخلق البديع والأدب الرفيع فكيف لا تراعي الأخلاق والآداب ؟!

قلت : بالله عليكم ! اتركوا التعصب ! وتجردوا عن حب ذا وبغض ذاك ! وأنصفوا ! هل تجاسر الخليفة على سيد المرسلين وخاتم النبيين (ص) ومخالفته ومعارضته للنبي (ص) ونسبته رسول الله (ص) إلى الهجر والهذيان أعظم أم تجاسري على الخليفة كما تزعمون ؟! ولعمري ما كان تجاسري إلا كشف الواقع وبيان الحقيقة !

وليت شعري … أنا لا أراعي الأخلاق والآداب أم عمر بن الخطاب ؟ إذ سبب النزاع والصياح ، وتخاصم الأصحاب عند رسول الله (ص) حتى رفعوا أصواتهم وأزعجوا النبي (ص) بحيث أخرجهم وأبعدهم وغضب عليهم لأنهم خالفوا الله سبحانه إذ يقول :

( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون )(79).

الشيخ عبد السلام : لم يقصد الخليفة من كلمة الهجر معنى سيئا وإنما قصد أن النبي (ص) بشر مثلنا ، وكما نحن في مثل تلك الحالة نفقد مشاعرنا ، فرسول الله (ص) كان كذلك ! لأن الله تعالى يقول : ( قل إنما أنا بشر مثلكم )(80) … فهو (ص) إذا مثلنا في جميع النواحي : في الغرائز والعواطف ، ويعرض عليه من العوارض الجسمية كضعف القوى والأعضاء كما يعرض على غيره من البشر ، وحالة الهجر والهذيان في حال المرض أيضا من عوارض الجسد البشري ، فربما يعرض عليه كما يعرض على كل أفراد البشر !!

قلت : أولا : إني أتعجب من انقلابك واستغرب تبدل حالك ! إذ كنت قبل هذا تقول : لا ريب إن مخالفة كتاب الله كفر ومعاندة رسول الله (ص) إلحاد ، والآن طفقت توجه كلام معانديه وعمل مخالفيه ! فما عدا مما بدا ؟!

ثانيا : أتعجب أيضا أنك لا تتأثر من كلام عمر على رسول الله (ص) وهو سيد الأولين والآخرين . وتتغير هذا التغير الفظيع من كلامي على عمر ، وهو إنسان عادي غاية ما هنالك أن أحد صحابة رسول الله وكم له في الصحابة من نظير !!

والجدير بالذكر أنه بعد تلك الصحبة الطويلة ما عرف النبي (ص) حق معرفته وكان جاهلا بمقامه المنيع وشأنه الرفيع فنسب إليه الهجر ، وهذا رأي بعض أعلامكم مثل القاضي عياض الشافعي في كتاب الشفاء والكرماني في شرح صحيح البخاري والنووي في شرح صحيح مسلم فإنهم يعتقدون من ينسب الهجر والهذيان إلى رسول الله (ص) فقد جهل معنى النبوة والرسالة ، ولا يعرف قدر النبي وشأنه ، لأن الأنبياء العظام كلهم في زمان تبليغ رسالتهم وإرشادهم للناس يكونون معصومين عن الخطأ والزلل ، لأنهم يأخذون عن الله تعالى ومتصلون بعالم الغيب والملكوت ، سواء أكانوا في حال الصحة أم المرض .

فيجب على كل فرد من الناس أن يطيعهم ويمتثل لأوامرهم . فمن خالف النبي (ص) في طلبه البياض والدواة ليكتب وصيته (ص) وخاصة بمثل ذلك الكلام الشنيع :

” إن رسول الله يهجر ” ! ” إنما هو يهجر ” ! ” قد غلب عليه الوجع ” !

وما إلى ذلك من كلام فجيع وبيان فظيع ، إنما يدل على جهل قائله وعدم معرفته لمقام النبي وشخصيته العظيمة !

ثالثا : أطلب من جناب الشيخ أن يراجع كتب اللغة في تفسير كلمة ” يهجر ” حتى يعرف مدى تجاسر قائلها على رسول الله (ص) !!

فقد قال اللغويون : الهُجر بالضم = الفُحش ، وبالفتح = الخلط والهذيان ، وهو بعيد عن مقام النبوة وقد عصم الله سبحانه رسوله عن ذلك بقوله عز وجل : ( بسم الله الرحمن الرحيم والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى )(81) لذلك أمر المسلمين بالإطاعة المحضة له من غير ترديد وإشكال ، فقال سبحانه : ( ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا )(82).

وقال تعالى : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول )(83).

فمن استشكل في كلام رسول (ص) أو تردد في إطاعته وامتثال أمره ، فقد خالف الله تعالى وأصبح من الخاسرين .

الشيخ عبد السلام : ولو فرضنا بأن عمرا قد أخطأ ، فهو خليفة رسول الله (ص) وكان يقصد بذلك حفظ الدين والشريعة ولكنه اجتهد فأخطأ فيعفى عنه والله خير الغافرين .

قلت : أولا : حينما تكلم عمر بذلك الكلام الخاطئ لم يكن خليفة رسول الله ، بل شأنه شأن أحد الناس العاديين .

ثانيا : قد قلت : إنه اجتهد فأخطأ ! فلعمري هل الرأي أو الكم المخالف لنص القرآن ، اجتهاد ؟ أم ذنب لا يغفر !

ثالثا : وقلت : إنه كان يقصد حفظ الدين والشريعة .

فمن أين تقول هذا ؟ والله من وراء القصد .

ثم هل أن النبي (ص) كان أعرف بحفظ الشريعة أم عمر بن الخطاب ؟ فإن رسول الله (ص) كان موكلا من الله في ذلك وكان (ص) حريصا على الدين وحفظ الشريعة أكثر من غيره ، ولأجل ذلك أراد أن يوصي ويكتب كتابا لا يضل المسلمون بعده أبدا .

ولكن عمر منع من ذلك وصار سببا لضلالة من ضل إلى يوم القيامة ، فأي عفو وغفران يشمل هذا المجتهد الخاطئ !!

الشيخ عبد السلام : ربما الخليفة الفاروق رضي الله عنه كان يعرف الأوضاع الاجتماعية والظروف الراهنة ، وثبت عنده بأن الوصية وكتاب النبي (ص) يحدث فتنة عظيمة من بعده (ص) ، فكان بمنعه ورفضه الكتاب والوصية ، ناصحا للنبي و ناويا الخير للإسلام والمسلمين .

قلت : إن أستاذي المرحوم الشيخ محمد علي الفاضل القزويني وكان يحوي علم المعقول والمنقول ، كان ينصحني ويقول : توجيه الخطأ يولد أخطاء أخرى ، فلو اعترف العاقل بخطئه لكان أسلم له وأجمل ، وقالوا قديما : الاعتراف بالخطأ فضيلة . وأنا أراك هويت في مهوى توجيه خطأ من تهوى فنسيت كلام الله تعالى حيث يقول :

( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا )(84).

الشيخ عبد السلام : تظهر نية الفاروق الحسنة من آخر كلامه حيث قال :

حسبنا كتاب الله !!

قلت : هذه الجملة تدل على عدم معرفة الخليفة لمقام النبوة وعدم معرفته بحقيقة كتاب الله أيضا ، لأن القرآن كلام ذو وجوه وله بطون ، ولابد من مفسر(85) وموضح يعرف الناسخ والمنسوخ والعام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين والمتشابه والمحكم منه ، وهذا لا يكون إلا من أفاض الله عليه من الحكمة وفتح في قلبه ينابيع علومه ، فلذا قال سبحانه : ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم )(86) .

فإذا كان القرآن وحده يكفي لما قال سبحانه : ( وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا )(87) . ولما قال تعالى : ( ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم )(88).

ولقد عرف رسول الله (ص) لأمته الراسخين في العلم وأولي الأمر الذين يرجع إليهم في تفسير القرآن وتوضيحه ، في حديثه الذي كرره على مسامع أصحابه وقد وصل حد التواتر في النقل ، إذ قال حتى عند وفاته : إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، إن تمسكتم بهما نجوتم ـ لن تضلوا أبدا(89).

فرسول الله (ص) لا يقول لأمته : كفاكم كتاب الله وحسبكم . بل يضم إلى القرآن أهل بيته وعترته .

أيها الحاضرون ! فكروا وأنصفوا أي القولين أحق أن يؤخذ به قول عمر : حسبنا كتاب الله . أم قول النبي (ص) : كتاب الله وعترتي ؟

لا أظن أحدا يرجح قول عمر على قول رسول الله (ص) ، فإذا كان كذلك ، فلماذا أنتم تركتم قول النبي (ص) وأخذتم بقول عمر ؟! فإذا كان كتاب الله وحده يكفينا ، فلماذا يأمرنا الله تعالى ويقول : ( فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون )(90) والذكر سواء كان القرآن أو رسول الله (ص) فأهل الذكر هم عترة رسول الله وأهل بيته الطيبين .

وقد مر الكلام حول الموضوع في الليالي السالفة ، ونقلت لكم عن السيوطي وغيره من أعلامكم أنهم رووا بأن أهل الذكر هم عترة رسول الله (ص) الذين جعلهم النبي (ص) عدل القرآن ونظيره .

وأنقل لكم ـ الآن ـ مضمون كلام أحد أعلامكم وهو قطب الدين الشيرازي ، قال في كتابه كشف الغيوب : لابد للناس من دليل ومرشد يرشدهم إلى الحق ويهديهم إلى الصراط المستقيم ، ولذا أتعجب من كلام الخليفة عمر (رض) : حسبنا كتاب الله ! وبهذا الكلام رفض الهادي والمرشد فمَثَله كمن يقبل علم الطب وضرورته ولزومه للناس إلا أنه يرفض الطبيب ويقول حسبنا علم الطب وكتبه ولا نحتاج لطبيب !

من الواضح إن هذا الكلام مردود عند العقلاء ، لأن الطبيب وجوده لازم لتطبيق علم الطب كما يلزم علم الطب الناس ، والعلم من غير عالم وعارف بمصطلحاته ورموزه ، يبقى معطلا لا يمكن أن يستفاد منه ، فكما لا يمكن لآحاد البشر أن يعرفوا علم الطب ورموزه ، ولا بد من أطباء في كل مجتمع يعالجون المرضى بمعرفتهم لعلم الطب ورموز العلاج ، كذلك القرآن الكريم وعلومه لا يعقل بأن الناس كلهم يعرفون علومه ورموزه ومصطلحاته ، فلا بد أن يرجعوا إلى العالم لعلومه ورموزه والمتخصص بتفسيره وتأويله وقد قال سبحانه : ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم )(91).

وقال عز وجل : ( ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم )(92). فالكتاب المبين وحقيقته إنما يكون في قلوب أهل العلم ، كما قال سبحانه :

( بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم )(93) .

ولهذا كان علي كرم الله وجهه يقول : أنا كتاب الله الناطق والقرآن كتاب الله الصامت . انتهى مضمون مقال وخلاصة مقال قطب الدين .

أقول : كل عاقل منصف ، وكل صاحب وجدان وإيمان يعرف أن عمر بن الخطاب ارتكب ظلما كبيرا بمنعه النبي (ص) أن يكتب لأمته كتابا لن يضلوا بعده أبدا !!

وأما قولك أيها الشيخ : إن أبا بكر وعمرا أوصيا ولم يمنعهما أحد من الصحابة : فهو قول صحيح وهذا الأمر يثير تعجبي واستغرابي . كما يهيج حزني ويبعث الألم في قلبي ، فقد اتفق المؤرخون والمحدثون على إن أبا بكر أملا وصيته على عثمان ، وهو كتبها في محضر بعض أصحابه وعرف عمر بن الخطاب ذلك ولم يمنعه ، وما قال له : لا حاجة لنا بوصيتك وعهدك ، حسبنا كتاب الله !

ولكنه مع رسول الله (ص) عن الوصية وكتابة عهده لأمته ، قائلا : أنه يهجر .. كفانا أو حسبنا كتاب الله !! وقد كان ابن عباس وهو حبر الأمة كلما يتذكر ذلك اليوم يبكي ويقول : إن الرزية كل الرزية : ما حال بين رسول الله (ص) و بين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم / صحيح البخاري بحاشية السندي : ج4 / كتاب المرضى باب قول المريض قوموا عني وج 4 / 271 / باب كراهية الخلاف .

نعم كان ابن عباس يتأسف ويبكي ، ويحق لكل مسلم منصف أن يتأسف ويبكي ، وأن يتألم ويتأثر ويتغير ، ونحن على يقين أنهم لو تركوا رسول الله (ص) يكتب وصيته ، لبين أمر الخلافة من بعده وعين خليفته مؤكدا عليهم بأن يطيعوه ولا يخالفوه ، ولذكرهم كل ما قاله في هذا الشأن وفي شأن وصيه وخليفته ووارثه من قبل . والذين منعوا من ذلك ، كانوا يطمعون في خلافته كما كانوا يعلمون أنه يريد أن يسجل خلافة ابن عمه علي بن أبي طالب ، ويكتبه ويأخذ منهم العهد والبيعة له في آخر حياته ، كما أخذ عليهم ذلك في يوم الغدير ، لذلك خالفوه بكل وقاحة ومنعوه من ذلك بكل صلافة !

الشيخ عبد السلام : كيف تدعي هذا ومن أين تبين لك أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يوصي في أمر الخلافة ويعين علي بن أبي طالب لهذا الأمر من بعده ؟!

قلت : من الواضح أنه (ص) بين جميع أحكام الدين للمسلمين ، وما ترك صغيرة ولا كبيرة من الفرائض السنن إلا بينها ، حتى قال تعالى في كتابه : ( اليوم أكملت دينكم )(94)، فكان من هذه الجهة مرتاح البال ، ولكن الذي كان يشغل باله هو موضوع خلافته وولي الأمر بعده ، لأنه (ص) كان يعرف عداوة كثير من الناس لعلي بن أبي طالب ، وكان يعلم حقدهم وحسدهم له (ص) وكان يعرف طمع بعض الصحابة ، وحرصهم على خلافته في أمته ، لذلك كان يتخوف من مناوئي الإمام علي عليه السلام ومخالفيه ، أن لا يخضعوا لإمارته ولا يقبلوا خلافته ، فأراد أن يؤكدها عليهم في آخر ساعات حياته ، إضافة على ما بينه في هذا الأمر طول حياته كرارا ومرارا ، كما روى الغزالي في كتابه ” سر العالمين ” في المقالة الرابعة ، أنه (ص) قال : إيتوني بدوات وبياض لأزيل عنكم إشكال الأمر ، وأذكر لكم من المستحق لها بعدي .

ثم كلنا نعلم أن الأمر الذي آل اختلاف المسلمين بعد رسول الله (ص) وكان سبب سفك وإزهاق النفوس ، إنما هو أمر الخلافة لا غير ، فتبين أنه (ص) أراد أن يوضح أمر الخلافة لا غير ، فيتبين أنه (ص) أراد أمر الخلافة للمسلمين ويوصي بها لرجل منهم يستحقها ، حتى يبايعوه ويخضعوا لإمارته وخلافته ولكي لا يؤول أمرهم إلى التخاصم والتنازع ، ولا يقعوا من بعده في هوة الاختلاف ومزلة الانحراف .

ثم إن النبي (ص) في مواطن كثيرة عين وصيه وعرفه للناس ، وقد نقلنا لكم بعض الأخبار والأحاديث في هذا الشأن ولا حاجة لتكرارها .

ولا ينكر أحد من المسلمين المنصفين بأن النبي (ص) عين عليا وصيا لنفسه وأودعه الوصايا التي أراد أن يكتبها حتى لا يضلوا من بعده أبدا ، ولكنهم منعوه ورفضوها بقولهم : إنه ليهجر . كفانا أو حسبنا كتاب الله !!

الشيخ عبد السلام : خبر تعيين النبي (ص) عليا وصيا لنفسه غير متواتر فلا يصح الاستناد به .

قلت : هو خبر متواتر عن طريق العترة النبوية الطاهرة والأمر ثابت من غير شك ولا ترديد .

وأما عن طرقكم ، فربما لم يكن لفظه متواترا ولكن معناه قد تواتر عن طرقكم في ألفاظ متفاوتة وجمل متعددة .

ثم إذا كان التواتر عندكم مهما إلى هذا الحد بحيث لو كان الخبر واصلا عن طريق موثوق وبسند حسن وقد صححه العلماء المتخصصون ، ومع ذلك ترفضونه بحجة أنه غير متواتر ، فأسألكم هل كان حديث : ” لا نورث ما تركناه صدقة ” متواترا ؟! لا .. بل هو خبر واحد رواه أبو بكر(95) ، وصدّقه عصابة كانت لهم منفعة ومصلحة في تصديقهم إياه !

ولكن في كل عصر ينكره ملايين المسلمين ويرفضه آلاف العلماء الصالحين .

وقد أنكره الإمام علي (ع) وهو باب علم الرسول ، ورفضته فاطمة الزهراء (ع) بضعة رسول الله الطاهرة المطهرة التي عصمها الله من الزلل وطهرها من الرجس والدنس بالدلائل القاطعة والبراهين الساطعة المستندة على كتاب الله الحكيم والمنطق القويم والعقل السليم .

ولو لم يورث الأنبياء فكيف قال النبي (ص) : لكل نبي وصي ووارث ، وأن عليا وصيي ووارثي ؟(96)

وأثبتنا أن المقصود وراثة المال والمقام . وحتى إذا كان المقصود وراثة العلم فوارث علم النبي (ص) أحق بخلافته من فاقد علمه .

والجدير بالذكر أن أبا بكر وعمر في كثير من القضايا رجعا إلى الإمام علي (ع) وعملا برأيه وأخذا بقوله ، ولكن في هذه القضية بالذات خالفوه ، ولم يقبلوا حتى شهادته في فدك بأنها منحة رسول الله (ص) لفاطمة (ع) ، فرفضوا شهادته وشتموه بقولهم : إنما هو ثعالة شهيده ذنبه ، مرب لكل فتنة الخ .

الحافظ : إن أبا بكر وعمر كانا في غنى عن علي وعلمه ولم يرجعا إليه في بعض الأحكام لجهلهما بالحكم بل كانا يحترمانه ويشاورانه .

قلت : إن قولك هذا منبعث عن حبك للشيخين وقد قالوا : حب الشيء يعمي ويصم .

وإن قولك رأي شخصي لم يقل به قائل ، بل هو مخالف لصريح ما نقله أعلامكم عن نفس أبي بكر وعمر .

وإليكم نماذج منها :

الحكم في امرأة ولدت لستة أشهر

نقل المحدثون منهم أحمد بن حنبل في مسنده والمحب الطبري في ذخائر العقبى وابن أبي الحديد في شرح النهج والشيخ سليمان القندوزي في ينابيع المودة / الباب السادس والخمسون فصل : في ذكر كثرة علم علي ، قال : وروي أن عمر أراد رجم المرأة التي ولدت لستة أشهر! فقال علي (ع) في كتاب الله: ( وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً )(97) ثم قال:( وفصاله في عامين)(98) فالحمل ستة أشهر ، فتركها عمر ، وقال عمر : لو لا علي لهلك عمر . قال القندوزي : أخرجه أحمد والقلعي وابن السمان .

ونقل القندوزي في الباب قبل هذا الخبر بقليل فقال :

وأخرج أحمد [ ابن حنبل ] في المناقب : أن عمر بن الخطاب إذا أشكل عليه شيء اخذ من علي رضي الله عنه .

ولو تصفحنا كتب التاريخ والحديث لوجدنا كثيرا من هذه القضايا المشكلة التي كان يعجز عن حكمها الخلفاء فيرجعون فيها إلى علي (ع) ويأخذون بقوله ويعملون برأيه .

فيا أيها العلماء ! وأيها الجمع ! فكروا : لماذا رفضوا شهادة علي (ع) في أمر فدك ولم يقبلوا حكمه في قضية فاطمة (ع) وقالوا ما قالوا وافتروا عليه وشتموه !!

ثم إذا كان الحديث الذي رواه أبو بكر صحيحا وكان قد سمعه من رسول الله (ص) فلماذا لم يحكم في سائر ممتلكات النبي (ص) بحكم فدك ولم يضمها إلى بيت المال لعامة المسلمين ، أو يجعلها صدقات ينتفع بها المساكين .

بل ترك حجرة فاطمة (ع) لها ، وترك حجرات زوجات الرسول لكل واحدة منهن حجرتها ، من باب الإرث(99).

إضافة على هذا : إذا كان أبو بكر يؤمن بما يقول ويعتقد بالحديث الذي رواه : ” نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة ” وعلى هذا المبنى أخذوا فدك وأخرجوا عمال فاطمة منها . فلماذا رد فدك ـ بعد أيام ـ على فاطمة وكتب لها كتابا في ذلك إلا أن عمر أخذ منها الكتاب ومزقه ، ومنعها من التصرف في فدك ؟!

الحافظ : هذا كلام جديد لم نسمع به من قبل ! فمن أي مصدر وبأي دليل تقول : بأن أبا بكر (رض) رد فدك على فاطمة ثم منعها عمر في خلافة أبي بكر ومزق كتابه ؟!!

قلت : يبدو أن مشاغل الحافظ كثيرة بحيث لا يجد فرصة ليطالع كتب أعلام السنة من أهل مذهبه ونحلته ، وإلا لما كان هذا الخبر جديدا على مسامعه ، فقد روى هذا الخبر كثير من المؤرخين والمحدثين منهم علي بن برهان الدين الشافعي في السيرة الحلبية : ج3/391وابن أبي الحديد في شرح النهج : ج16 / 247/ ط دار إحياء التراث العربي / قال : روى إبراهيم بن سعيد الثقفي عن إبراهيم بن ميمون ، قال : حدثنا عيسى بن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب (ع) عن أبيه عن جده عن علي (ع) قال : جاءت فاطمة (ع) إلى أبي بكر و قالت : إن أبي أعطاني فدك ، و علي و أم أيمن يشهدان فقال : ما كنت لتقولي على أبيك إلا الحق قد أعطيتكها ، و دعا بصحيفة من أدم فكتب لها فيها ، فخرجت فلقيت عمر فقال : من أين جئت يا فاطمة ؟ قالت جئت من عند أبي بكر. أخبرته أن رسول الله (ص) أعطاني فدك و أن عليا و أم أيمن يشهدان لي بذلك فأعطانيها و كتب لي بها . فأخذ عمر منها الكتاب . ثم رجع إلى أبي بكر ، فقال : أعطيت فاطمة فدك و كتبت بها لها؟ قال : نعم فقال : إن عليا يجر إلى نفسه ، و أم أيمن امرأة ، و بصق في الكتاب فمحاه و خرقه !

والعجب إن عمر الذي كان بهذه الشدة في قضية فدك أيام خلافة أبي بكر ، لما وصلت أيامه وصارت الخلافة في يده رد فدك على أولاد فاطمة وكذلك بعض الخلفاء من بعده !

الحافظ : إن هذا الخبر من أعجب الأخبار لتناقضه ، وإني حائر في تصديقه ورده !

قلت : لا تتحير ولا ترد الخبر بل راجع كتاب وفاء الوفاء في تاريخ مدينة المصطفى للعلامة السمهودي وهو من أعلامكم ، ومعجم البلدان لياقوت الحموي .

رويا أن أبا بكر أخذ فدك من فاطمة ، ولكن عمر في خلافته رده على العباس وعلي بن أبي طالب ، فإذا كان فدك فيء المسلمين وقد أخذه أبو بكر حسب الحديث الذي سمعه من النبي (ص) ، فبأي سبب رده عمر وجعله في يد علي والعباس دون سائر المسلمين ؟!

الشيخ عبد السلام : لعله جعلهما من قبله حتى يأخذا حاصله ويصرفاه في مصالح المسلمين .

قلت : ولكن ظاهر بعض العبارات التاريخية أنهما ادعيا عند عمر ميراثهما فأعطاهما فدك وكانا يتصرفان فيها تصرف المالك في ملكه(100).

الشيخ عبد السلام : لعل مراد المؤرخين من عمر هو عمر بن عبدالعزيز !

رد عمر بن عبد عبدالعزيز فدك

فتبسمت ضاحكا من قوله وقلت : علي (ع) والعباس ما كانا في خلافة عمر بن عبدالعزيز ، وحكم عمر بن عبدالعزيز فدك على أولاد فاطمة (ع) خبر آخر وقد ذكره العلامة السمهودي أيضا ، وذكره ابن أبي الحديد في شرح النهج : ج16 / 216 قال : … فلما ولي عمر ابن عبد العزيز الخلافة الأموية كانت أول ظلامة ردها ، [ أنه ] دعا الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) و قيل بل دعا علي بن الحسين (ع) فردها عليه ، و كانت بيد أولاد فاطمة ع مدة ولاية عمر بن عبد العزيز .

فلما ولي يزيد بن عاتكة قبضها منهم ، فصارت في أيدي بني مروان كما كانت يتداولونها ، حتى انتقلت الخلافة عنهم فلما ولي أبو العباس السفاح ردها على عبد الله بن الحسن بن الحسن ، ثم قبضها أبو جعفر لما حدث من بني الحسن ما حدث ، ثم ردها المهدي ـ ابنه ـ على ولد فاطمة (ع) ثم قبضها موسى بن المهدي و هارون أخوه ، فلم تزل أيديهم حتى ولي المأمون .

المأمون ورده فدك

نقل ابن أبي الحديد في شرح النهج : ج16 في صفحة 217 : قال أبو بكر [ الجوهري ] حدثني محمد بن زكريا قال : حدثني مهدي بن سابق قال : جلس المأمون للمظالم فأول رقعة وقعت في يده نظر فيها و بكى ، و قال للذي على رأسه : ناد أين وكيل فاطمة ؟ فقام شيخ عليه دراعة و عمامة و خف تعزى ، فتقدم فجعل يناظره في فدك و المأمون يحتج عليه و هو يحتج على المأمون ، ثم أمر أن يسجل لهم بها ، فكتب السجل و قرئ عليه ، فأنفذه ، فقام دعبل إلى المأمون فأنشده الأبيات التي أولها :

أصبح وجه الزمان قد ضحكا برد مأمون هاشم فدكا

ونقل ياقوت الحموي في معجم البلدان في كتاب المأمون إلى واليه على المدينة في شأن فدك ، جاء فيه :

كان رسول الله (ص) أعطى ابنته فاطمة رضي الله عنها فدكا وتصدق عليها بها ، وأن ذلك كان أمرا ظاهرا معروفا عند آله عليهم الصلاة والسلام .

شاهد أيضاً

ليالي بيشاور – 19 حوارات اسلامية و بحوث هادفة

الغلاة ليسوا من الشيعة : لقد نسبت أشعار الغلاة الإيرانيين إلى الشيعة الموحدين المؤمنين، فخلطت ...