الرئيسية / صوتي ومرئي متنوع / قضية المرأة بين الفكر الغربي والفكر الإسلامي

قضية المرأة بين الفكر الغربي والفكر الإسلامي

الباب الثالث:

المرأة القدوة بين الماضي والحاضر

الفصل الأول: نساء رساليات

الفصل الثاني: النموذج النسائيّ المعاصر

الفصل الأول:

نساء رساليات

النقاط المحوريّة

كيفية اتّخاذ القدوة.

السيدة مريم عليها السلام والسيدة آسيةعليها السلام: مثلان للذين آمنوا.

السيدة الزهراء عليها السلام: أسوة المرأة المسلمة.

بين يوم المرأة وولادة السيدة الزهراءعليها السلام.

زينبعليها السلام ودورها التاريخي في كربلاء.

زينبعليها السلام، قدوة الرجال والنساء.

السيدة زينب الكبرى عليها السلام وقوّة بيانها.

الفصل الأول: نساء رساليّات

كيفية اتّخاذ القدوة[1]

أُبيّن لكنّ[2] أولاً أنّ القدوة يجب أن لا يُعرّف ويُقدّم لنا كقدوة ويقال لنا هذا قدوتكم، فمثل هذا الاقتداء تعاقديّ ومفروض وخالٍ من الجاذبية. فنحن الذين يجب أن نختار قدوتنا بأنفسنا. أي أن ننظر في أُفق رؤانا ومعتقداتنا الحقّة ونلاحظ الصورة التي نرتضيها لأنفسها من بين تلك الصور. هكذا تصبح تلك الصورة وتلك الشخصية قدوة لنا. ولا أعتقد بوجود صعوبة في حصول الشابّ المسلم وخاصة الشابّ المطّلع على حياة الأئمّة وأهل البيت في صدر الإسلام، على قدوة له. الأشخاص القدوة ليسوا قليلين.

أنتِ سيدة تعيشين في عصر طغى عليه التطوّر العلميّ والصناعيّ والتقنيّ وعالمٍ رحب وحضارة مادية زاخرة بمختلف المظاهر الجديدة، فما هي الخصائص التي يتحقّق فيها معنى الاقتداء بشخصية سبقك عهدها بألف وأربعمائة سنة مثلاً؟ هل تتوقّعين في القدوة التي تتأسّين بها أن يكون لها وضع كوضعك تقتفين أثره في حياتك

الحالية وتفترضين على سبيل المثال كيف كانت تذهب إلى الجامعة، أو كيف كانت تفكر في القضايا العالمية، أو ما شابه ذلك؟

كلّا، ليس الأمر كذلك، والأمور المطلوبة التي يُقتدى بها ليست هذه. بل هناك في شخصية كلّ إنسان خصائص أصيلة يجب تحديدها أوّلاً، ثمّ ينظر إلى القدوة في ضوء تلك الخصائص والميزات. لنفرض على سبيل المثال كيفية التعامل مع وقائع الحياة اليومية المحيطة بالإنسان. فقد تكون هذه الوقائع متعلّقة تارة بعصر انتشار المترو والقطار والطائرة النفاثة والحاسوب، وقد تكون تارة أُخرى متعلّقة بعهد لا وجود لمثل هذه الأشياء فيه. إلّا أنّ الإنسان لا بدّ من أن يواجه وقائع وأحداث الحياة اليومية، وبإمكانه التعامل معها على نحوين متفاوتين ـ من دون فرق بين العصرين.ـ فهو إمّا أن يتعامل معها تعاملاً مسؤولاً، وإمّا أن يقف منها موقفاً غير مبالٍ.

ويتفرّع التعامل المسؤول بدوره إلى عدّة أنواع وأقسام، فبأية روحية وبأية نظرة مستقبلية يكون التعامل؟

فالإنسان يجب أن يبحث عن تلك الخطوط العريضة والأساسية في الشخصية التي يتّخذها قدوة له، من أجل اتّباعها والسير على خطاها.

السيدة مريم عليها السلام والسيدة آسية عليها السلام مثلان للذين آمنوا

لقد أجريت الكثير من الأبحاث حول الرؤية الإسلامية للمرأة. ونحن أيضاً تحدّثنا في المسألة مرّات عدّة. وذكرت أّنّ المرأة قد عُرضت في القرآن كنموذجٍ للإنسان المؤمن والمَرْضيّ عند الله، وكنموذج

للإنسان الكافر المطرود من جنب الله، وهذا أمرٌ ملفتٌ. فالقرآن عندما يريد أن يذكر نموذجاً للإنسان الصالح والإنسان السيئ فإنّه يختار لهما من النساء: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ﴾[3], فهاتان المرأتان هما بحسب القرآن مثل أيّ نموذج ومظهر للمرأة السيئة، زوجة نوح وزوجة لوط، وبالمقابل ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ﴾[4], كنموذج للمرأة الصالحة والسامية والمؤمنة، فيذكر الاثنين، إحداهما زوجة فرعون والأخرى مريم ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا﴾[5], والملفت أنّ كلاً من هؤلاء النساء الأربع صلاحهنّ وسوءهنّ مرتبط بالأسرة. ففي مورد المرأتين السيئتين امرأة نوح وامرأة لوط يقول تعالى: ﴿كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا﴾[6]. فالقضية هي قضية الأسرة. وموضوع المرأتين الأخريين يتعلّق بالأسرة، الأولى زوجة فرعون قيمتها وأهميتها أنّها قد ربّت في حضنها نبياً من أولي العزم، موسى كليم الله وآمنت به وساندته لهذا انتقم فرعون منها. القضية قضية داخل الأسرة مع هذا التأثير والشعاع العظيم للعمل الذي قامت به، حيث ربّت شخصاً كموسى. وبشأن مريم الأمر كذلك: التي أحصنت فرجها فحفظت شأنيّتها وعفّتها. وهذا يدلّ على وجود عوامل متعدّدة

في البيئة الاجتماعيّة لمريم عليها السلام كان من الممكن أن تهدّد عفّة وشرف امرأة عفيفة، وقد استطاعت أن تواجهها[7].

هذا هو الامتياز الذي أعطاه الله تعالى للمرأة. لهذا يضرب في القرآن مثلاً للإيمان ـ ليس نموذجاً لإيمان النساء، بل هو نموذج لإيمان كلّ الناس نساء ورجالاً ـ امرأتين: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ﴾، ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ﴾ فهاتان إشارتان ودلالتان على منطق الإسلام[8].

السيدة الزهراء عليها السلام أسوة المرأة المسلمة[9]

أذكر بضع كلمات حول الزهراء عليها السلام، ولعلّ هذه الكلمات يمكن تعميمها في شأن الأئمّة والأكابر، ويمكن لكم التأمل في هذا المعنى:

1- الزهراء عليها السلام: أمّ أبيها:

لاحظوا أنّ الزهراء عليها السلام كانت في السادسة أو في السابعة من عمرهاـ والتردّد لاختلاف الأخبار في تاريخ ولادتها ـ حينما وقع حصار شعب أبي طالب. وقد مرّت في الشعب على المسلمين فترة عصيبة من تاريخ صدر الإسلام. فبعدما أعلن الرسول دعوته في مكّة بدأ أهالي

مكّة يستجيبون له وخاصّة الشباب منهم والعبيد. أما أكابر الطواغيت من أمثال أبي لهب وأبي جهل فرأوا أنهم لا سبيل أمامهم سوى إخراج الرسول وأصحابه من مكّة. وهكذا أخرجوهم وكان عددهم قد بلغ عشرات العوائل.. وفيهم الرسول وأهل بيته وأبو طالب الذي كان من أكابر قريش ووجوهها.

كان لأبي طالب شِعب – والشِّعب هو الشقّ بين جبلين – على مقربة من مكّة يُسمّى بشعب أبي طالب، عزموا على الذهاب إليه مع ما يتّسم به جوّ تلك المنطقة من حرّ شديد في النهار وبرد قارس في الليل. أي إنّ الظروف كانت صعبة لا تُطاق، إلّا أنّهم مكثوا ثلاث سنين في ذلك الشعب القاحل وتحمّلوا الجوع وتجرّعوا الشدائد والمحن. وكانت تلك الفترة من الفترات العسيرة التي مرّت في حياة الرسول الذي لم تنحصر مسؤوليته حينذاك في قيادة تلك المجموعة وإدارة شؤونها، بل كان ينبغي له أيضاً الدفاع عن موقفه أمام أصحابه الذين وقعوا في تلك المحنة. فأنتم على بيّنة أنّ الجماعة الملتفّة حول القيادة، تبدي ارتياحها ورضاها في حال الرخاء، وتعبّر عن امتنانها. ولكن حينما يعرّضون للبلاء أو يقعون في محنة يبدأ الشك يتسرّب إلى نفوسهم ويلقون على تلك القيادة مسؤولية قيادتهم إلى ذلك المآل الذي لم يكونوا راغبين في الوقوع فيه أبداً.

من الطبيعيّ أنّ أصحاب الإيمان الراسخ يصمدون ويصبرون في مثل هذه الظروف، إلّا أنّ جميع الضغوط تصبّ في نهاية المطاف على كاهل الرسول. وفي تلك الظروف العصيبة والضغوط النفسية

الشديدة التي كان يواجهها رسول اللّه توفّي في أسبوع واحد كلّ من أبي طالب الذي كان أكبر عون وأمل له، وخديجة الكبرى التي كانت خير سند روحيّ ونفسيّ له، فكانت حادثة مريرة بقي الرسول على أثرها وحيداً فريداً.

لا أدري إن كان فيكم مَن تصدّى لرئاسة فريق عمل وعرف معنى المسؤولية. في مثل تلك الظروف يُغلب الإنسان على أمره. ولكن لاحظوا دور فاطمة الزهراءعليها السلام في مثل تلك الظروف، وموقفها الايجابيّ، حيث كانت فاطمة في تلك الظروف بمثابة الأمّ والمستشار والممرّضة بالنسبة للرسول. ومن هنا أُطلق عليها “أُم أبيها”. وهذه الصفة تتعلّق بتلك الفترة التي تكون فيها صبية عمرها ست أو سبع سنوات على هذا النحو. ومن الطبيعيّ أنّ الفتاة في الأجواء العربية والأجواء الحارّة تنمو بشكل أسرع روحاً وجسماً بما يعادل نموّ فتاة تبلغ العاشرة أو الثانية عشرة في وقتنا الحاضر. فتكون على هذه الدرجة من الشعور بالمسؤولية.

ألا يمكن لمثل هذه الفتاة أن تكون قدوة للفتيات ليصبح لديهنّ شعور مبكر بالمسؤولية إزاء القضايا المحيطة بهنّ، ويتفاعلن معها بنشاط؟ كان وجه فاطمة ينشرح بوجه أبيها وتنشط قواها وهي تزيل بمنديل العطف والحنان غبار الهمّ والحزن عن وجه أبيها الذي تجاوز حينذاك الخمسين من عمره الشريف ودخل في سنّ الشيخوخة تقريباً، قبل أن تزيله بيدها. ألا يمكن لهذه الفتاة أن تكون قدوة للشابات؟ هذه قضية ذات أهمّية بالغة طبعاً.

2- السيدة الزهراء عليها السلام: الزوجة والأمّ:

يتجسّد المثال الآخر في حياتها الزوجية. فقد يتصوّر بعض الناس أنّ الحياة الزوجية – في طرف المرأة – تعني الاهتمام بشؤون المنزل وإعداد الطعام وترتيب غرف البيت وتنظيفها وعندما يأتي الزوج من العمل تقدّم له الوسادة على غرار ما كان يفعله القدماء. الحياة الزوجية ليس معناها هذا فقط. أُنظروا كيف كانت الحياة الزوجية لفاطمة الزهراء.

على مدى السنوات العشرة التي قضاها الرسول في المدينة عاشت الزهراء مع أمير المؤمنين حياة زوجية استمرّت سنوات، وقعت في تلك الفترة معارك متعدّدة صغيرة وكبيرة ـ بلغت نحو ستين معركة ـ وشارك أمير المؤمنين في أغلبها.

أُنظروا إلى حياة هذه الزوجة التي كانت في بيت زوج كان يشارك في المعارك باستمرار، لأنّ نتائجها تتوقّف على مشاركته فيها، ولولاه لما كتب لها النصر ـ إضافة إلى أنّ حياتها المعيشية لم تكن على ما يرام من الرفاهية أو الغنى ولا تتعدّى ما سمعناه عنها في قوله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾[10] بمعنى أنّها كانت تعيش حياة فقر وعوز على الرغم من كونها ابنة الرسول وزعيم الأمّة، وذلك يعني أنّها كانت تحمل كامل الشعور بالمسؤولية.

لاحظوا كم تستلزم وضعية هذه المرأة من صلابة حتّى تفيض بها

على هذا الزوج ليكون متفرّغاً من هموم وهواجس الأهل والعيال ومصاعب الحياة، ولتبعث فيه السكينة والطمأنينة، وتربّي الأولاد بتلك التربية العالية التي ربّتهم عليها. فإذا قال قائل إنّ الحسن والحسين إمامان ومجبولان على العصمة، فزينب لم تكن إماماً، لكنّ فاطمة الزهراء ربّتها تربية صالحة خلال تلك السنوات القصيرة.. إذ لم تلبث فاطمة طويلاً من بعد وفاة الرسول.

وهكذا كان دأبها أيضاً في حياتها العائلية وفي إدارتها لشؤون البيت وفي حياتها الأُسرية. ألا يمكن أن يكون كلّ هذا مثالاً تحتذي به الفتاة أو ربّة البيت أو من تشرّفت توّاً وأصبحت ربّة بيت؟ هذه الجوانب مهمّة جداً.

3- السيّدة الزهراء عليها السلام وموقفها السياسيّ:

بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قصدت المسجد ذات يوم وألقت فيه خطبة عصماء. وهذا من مواقفها الداعية إلى العجب، ونحن أصحاب الخطابات والكلمات الارتجالية نعرف مدى عظمة مثل هذه الخطبة، وما معنى أن تقدم امرأة في الثامنة عشرة أو العشرين أو الرابعة والعشرين على أغلب الاحتمالات ـ والحقيقة أن عمرها الشريف غير معروف على وجه الدقّة بسبب عدم وجود تاريخ موحّد لولادتها ـ مع كلّ ما كانت تحمله من هموم ومصائب، وتدخل المسجد وتخطب أمام حشد غفير من المسلمين ويسجّل التاريخ كلّ كلمة من تلك الخطبة.

كان العرب مشهورين بقوّة الحفظ، فكان الرجل يأتي ويلقي

قصيدة من ثمانين بيتاً، ثم ترى عشرة رجالٍ ـ مثلاً ـ يسارعون إلى كتابتها عن ظهر قلب. وأغلب الأشعار المنقولة حفظت بهذه الطريقة. وعلى غرار حفظ القصائد كانت تحفظ الأحاديث والخطب. وعلى هذا المنوال دوّنت وحفظت هذه الخطب أيضاً وبقيت حتّى يومنا هذا. والكلمات لا يخلّدها التاريخ اعتباطاً.. وما كلّ كلام يُحفظ، فلطالما قيلت كلمات وأُلقيت خطب وأشعار، إلّا أنّ أحداً لم يأبه لها ولم تحفظ، ولكنّ الشيء الذي يحفظه التاريخ بين جوانحه وحينما ينظر إليه الإنسان بعد ألف وأربعمائة سنة يشعر إزاءه بالخشوع، لا شكّ أنّ فيه دلالة على العظمة.

وخلاصة القول إنّ هذه المرأة خليقة بأن تتّخذها الشابّات قدوة لهنّ[11].

بين يوم المرأة وولادة السيّدة الزهراء[12]

بمناسبة يوم المرأة، قال الإمام الخمينيّ قدس سره في إحدى كلماته مخاطباً النساء: “إنكنّ حين رضيتنّ بأن يكون يوم ولادة فاطمة الزهراء عليها السلام يوماً للمرأة، فهذا يرتّب على عواتقكنّ مسؤوليّات وتكاليف”. يومكم، يوم المرأة ويوم الأم، وهو يوم فاطمة الزهراء عليها السلام، فما معنى هذا؟ إنّها خطوة رمزيّة وعمل

رمزيّ (شعائريّ). ومعناه أنّ المرأة يجب أن تسير على هذا الصراط، والعظمة والجلالة، وعلوّ المقام والقدر يتحقّق للمرأة في هذا الدرب، الدرب الذي تتوفّر فيه التقوى والعفاف، والعلم والخطابة، والصمود في مختلف الميادين التي تحتاج إلى الصمود، وتربية الأبناء، والحياة العائلية، وفيه الفضائل والجواهر المعنوية كلّها. على النساء السير في هذا الاتّجاه[13].

زينب عليها السلام، قدوة الرجال والنساء

هذه المرأة التي تُعدّ قدوة لكلّ الرجال العظماء والنساء العظيمات في العالم. فهي تبيّن أسباب الثورة النبوية والثورة العلوية، وتقول إنّكم لم تتمكّنوا من معرفة الحقّ في الفتنة، ولم تستطيعوا أن تعملوا بتكليفكم، وكانت النتيجة أن يُرفع رأس فلذة كبد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على الرماح.. من هنا يمكن فَهم عظمة زينب[14] عليها السلام.

زينب عليها السلام ودورها التاريخيّ في كربلاء[15]

زينب الكبرى أحد نماذج التاريخ البارزة التي تُظهر عظمة حضور امرأة في إحدى أهمّ قضايا التاريخ. عندما يُقال إنّ الدم انتصر على السيف في عاشوراء وفي واقعة كربلاء، وهو كذلك، فإنّ عامل هذا الانتصار هو زينب عليها السلام، وإلّا فإنّ الدم في كربلاء قد انتهى.

واقعة عسكرية تنتهي بهزيمة ظاهرية لقوى الحقّ في ميدان عاشوراء، أمّا ذلك الشيء الذي أدّى إلى تبديل هذه الهزيمة العسكرية الظاهرية إلى انتصار قطعيٍّ دائم فهو زينب الكبرى عليها السلام بمفردها، الدور الذي قامت به زينب عليها السلام، أمرٌ في غاية الأهمّية. وقد دلّت هذه الواقعة على أنّ المرأة ليست موجودة على هامش التاريخ، بل هي في صلب الأحداث التاريخية الهامة.

القرآن أيضاً نطق بهذه المسألة في موارد متعدّدة، لكنّ هذا متعلّق بالتاريخ القريب وليس مرتبطاً بالأمم الماضية، فحادثة حيّة ومحسوسة يشاهد فيها الإنسان زينب الكبرى تظهر بهذه العظمة المحيّرة والساطعة في الميدان، تقوم بعملٍ يذلّ ويحقّر العدوّ الذي بحسب الظاهر قد انتصر في المعركة العسكرية واقتلع المعارضين وقمعهم وجلس على عرش النصر في مقرّ قدرته وفي قصر رئاسته، فتسِم جبينه بوصمة عارٍ أبدية وتبدّل انتصاره إلى هزيمة، هذا هو

عمل زينب الكبرى. أظهرت زينب عليها السلام أنّها يمكنها أن تحوّل الحجاب وعفاف المرأة إلى العزّة الجهادية وإلى جهاد كبير.

السيدة زينب الكبرىعليها السلام وقوّة بيانها[16]

ما بقيَ من خطب زينب الكبرى، ممّا هو في متناول الأيدي، يظهر عظمة حركتها. فخطبتها التي لا تُنسى في أسواق الكوفة لم تكن كلاماً عادياً، ولم تكن موقفاً عادياً لشخصية كبرى، بل بيّنت بتحليل عظيم أوضاع المجتمع الإسلاميّ في ذلك العصر بأجمل الكلمات وأعمق وأغنى المفاهيم في مثل تلك الظروف. لاحظوا قوة الشخصيّة، كم هي قوية هذه الشخصيّة. فقدت في تلك الصحراء أخاها وقائدها وإمامها مع كلّ هؤلاء الأعزّاء والشباب والأبناء، وهذا الجمع المؤلّف من بضع عشرات من النساء والأطفال قد أُسروا وأُحضروا على مرأى من أعين الناس وحُملوا على نياق الأسْر، وجاء الناس ينظرون إليهم، وكان بعضهم يهلل وبعضهم كان يبكي، ففي مثل هذه المحنة، تسطع فجأة شمس العظمة، فتستعمل نفس اللهجة التي كان يستعملها أبوها أمير المؤمنين وهو على منبر الخلافة مخاطباً أمّته، تنطق بنفس الطريقة وبنفس اللهجة والفصاحة والبلاغة وبذلك السموّ في المضمون والمعنى: “يا أهل الكوفة، يا أهل (الختر و) الغدر

والختل”[17]، أيّها المخادعون، أيّها المتظاهرون! لعلّكم صدّقتكم أنّكم أتباع الإسلام وأهل البيت، لقد سقطتم في الامتحان وصرتم في الفتنة عمياً، “هل فيكم إلّا الصَّلف والعُّجب والشَّنِف والكذب ومَلَقُ الإماء، وغمز الأعداء”[18]؟ إنّ تصرّفكم وكلامكم لا ينسجم مع قلوبكم. لقد غرّتكم أنفسكم، وظننتم أنّكم مؤمنون، وتصوّرتم أنّكم لا زلتم ثوريين، ظننتم أنّكم لا زلتم أتباع أمير المؤمنين، في حين أنّ واقع الأمر لم يكن كذلك. لم تتمكّنوا من الصمود والنجاح في الفتنة، ولم تتمكّنوا من النجاة بأنفسكم ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا﴾[19], فقد أصبحتم كالتي بدّلت الحرير أو القطن إلى خيوط، ثم أرجعت تلك الخيوط ونقضتها إلى قطن أو حرير، فبدون بصيرة ووعيٍ للظروف وبدون تمييز بين الحقّ والباطل أبطلتم أعمالكم وأحبطتم سوابقكم. الظاهر ظاهر الإيمان واللسان مليء بالادّعاءات الجهادية، أما الباطن فهو باطنٌ أجوف خالٍ من المقاومة مقابل العواصف المخالفة. فهذا ما يُعدّ تحديداً آفّات تصيب المجتمع.

بهذا البيان القويّ والكلمات البليغة، وفي تلك الظروف الصعبة، تحدّثت زينب الكبرى. فلم يكن الأمر بحيث نرى مجموعة من المستمعين يجلسون أمام زينب ويستمعون إليها وهي تتحدّث

معهم كخطيب عاديّ، كلّا، فالجماعة هم من الأعداء، وحملة الرماح يحيطون بهم، وكان هناك جماعة في ناحية أخرى كهؤلاء الذين سلّموا مسلم إلى ابن زياد، وأولئك الذين كتبوا الرسائل وبعثوا بها إلى الإمام الحسين عليه السلام وتخلّفوا، ومنهم من كان ينبغي أن يواجه ابن زياد وقد اختبأوا في بيوتهم ـ هؤلاء كانوا في سوق الكوفة ـ وجماعة ظهر منهم ضعف النفوس وهم الآن يشاهدون ابنة أمير المؤمنين ويبكون. لقد كانت زينب الكبرى عليها السلام في مواجهة هذه الجماعات المختلفة التي لا يمكن الثقة بها، ولكنها كانت تتحدّث ببيان مُحكم ورائع. فهي امرأة تاريخية، هذه المرأة لم تعد ضعيفة، ولا يصح عدّها امرأة ضعيفة. فهذا جوهر المرأة المؤمنة حيث تُظهر نفسها في مثل هذه الظروف الصعبة[20].

الفصل الثاني:النموذج النسائيّ المعاصر

النقاط المحوريّة

السيدة بنت الهدى.

المرأة الإيرانية.

السيّدة بنت الهدى

في عصرنا هذا استطاعت امرأة شجاعة عالمة مفكّرة بارعة في مقتبل العمر اسمها السيّدة بنت الهدى ـ أُخت الشهيد الصدر[21] ـ أن تترك بصماتها على التاريخ، وأن تؤدّي دوراً في العراق المظلوم إلى أن استشهدت. عظمة مثل هذه المرأة لا تقلّ عن عظمة أيّ من الرجال الشجعان والعظماء. لقد كان موقفها موقفاً نسوياً وموقف ذلك الرجل (أخيها الشهيد محمد باقر الصدر) موقفاً رجولياً، ولكن كلاهما

يَنِمّان عن حركة تكاملية ويعبّران عن عظمة وتألّق جوهر هذا الإنسان. وهكذا فلتربَّ النساء.

وفي مجتمعنا أيضاً كان لدينا الكثير من أمثال هذه النساء حتّى في عهود الكبت، وفي عهود المواجهة. ولدينا من بعد قيام النظام الإسلاميّ نساء عظيمات استطعن تربية أبناء مستعدين للبذل والتضحية، وقدّمن أبناءهن وأزواجهنّ للدفاع عن البلد وعن الثورة، وللدفاع عن كيان وكرامة الشعب، ومثل هذا العمل الكبير استطاعت أن تنجزه المرأة. وقد شاهدتُ أنا بنفسي حالات متعدّدة من هذا القبيل[22].

المرأة الإيرانية[23]

آلاف النسوة الشهيدات، اللواتي أدّين دوراً كبيراً في تغيير مسار التاريخ الإسلاميّ. هذا الجيش من الملائكة اللواتي ضحّين بأرواحهنّ المقدسة في سبيل الإسلام، لم يبالين وسرن في طريق العمل وظهرن كبانيات لصرح إيران الجديدة. هنّ نسوة عظيمات قدّمن للشرق والغرب تعريفاً جديداً لـ”المرأة”.

فغالباً ما تقدّم المرأة في النظم الشرقية كعنصر هامشيّ لا دور لها في صناعة التاريخ، وفي النظم الغربيّة باعتبارها موجوداً

يتفوّق جنسه على إنسانيته ووسيلة جنسية بيد الرجال، وفي خدمة الرأسمالية الجديدة. فالنسوة الإيرانيات الشجاعات في الثورة والدفاع المقدّس قدّمن نموذجاً ثالثاً جديداً.

لقد فتحت المرأة الإيرانيّة المسلمة تاريخاً جديداً أمام أعين النساء في العالم، وأثبتت أنّه يمكن للمرأة أن تكون امرأة وعفيفة ومحجبة وشريفة، وتمارس في الوقت ذاته دورها في مركز الأحداث. يمكنها أن تحافظ على طهارة خندق العائلة، وأن تبني خنادق جديدة في الميادين السياسية والاجتماعيّة وتحقق الكثير من الفتوحات والإنجازات الكبرى. هنّ نسوة مزجن بين ذروة المشاعر والرقّة والرحمة النسوية وبين روح الجهاد والشهادة والمقاومة، وخضن بشجاعة وإخلاص وتضحية أكثر السوح رجوليّة.

لقد ظهرت في الثورة الإسلاميّة والدفاع المقدّس نسوة يمكنهنّ أن يقدّمن للعالم تعريف المرأة وحضورها في ساحات الرشد والتهذيب وفي ساحة حفظ سلامة المنزل والعائلة المتوازنة، وفي ساحة الولاية الاجتماعيّة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد الاجتماعيّ، ويستطعن تحطيم واقتحام أكبر الطرق المسدودة.

لقد ظهرت حالة جديدة من الاقتدار والهيبة بفضل دماء هؤلاء النسوة المجاهدات في العصر الحديث، تركت تأثيراتها أولاً على المرأة في العالم الإسلاميّ، وسوف تترك تأثيراتها عاجلاً أم آجلاً على مصير مكانة المرأة في العالم.

طالما بقيت شمس سيّدتنا خديجة الكبرى المتألّقة، وسيّدتنا فاطمة الزهراء، وسيّدتنا زينب الكبرى ساطعة مشرقة، فإنّ المخطّطات القديمة والجديدة المعادية للمرأة سوف لن تنتج شيئاً.

وإنّ الآلاف من نسائنا الكربلائيات لم يحطّمن الخطوط السوداء للظلم الظاهريّ وحسب، بل وفضحن أيضاً حالات الظلم الحديث ضدّ المرأة، وأثبتن أنّ حقّ المرأة في الكرامة الإلهية هو أعلى حقوق المرأة، وهو حقّ غير معروف بالمرّة في العالم الذي يسمّى بالحديث، وقد آن الأوان اليوم لمعرفته.

وستكون المرأة المسلمة الإيرانية المجاهدة المعلّم الثاني لنساء العالم، بعد المعلّم الأول لهنّ وهو نساء صدر الإسلام.

سلام الله على سيّدة الإسلام العظيمة فاطمة الزهراء، وعلى كلّ نساء صدر الإسلام العظيمات وعلى النسوة المضحّيات في إيران الإسلاميّة[24].

[1] خطاب الإمام الخامنئي دام ظله بمناسبة أسبوع الشباب في الجمهورية الإسلامية, في طهران، بحضور جمع من الشباب من مختلف الشرائح الاجتماعيّة، بتاريخ 11/01/1419ه.ق.

[2] نص الإمام الخامنئي دام ظله إجابة عن سؤال إحدى الطالبات الجامعيات وهو:كيف يمكننا الاقتداء بحياة السيدة الزهراء عليها السلام؟

[3] سورة التحريم، الآية 10.

[4] سورة التحريم، الآية 11.

[5] سورة التحريم، الآية 12.

[6] سورة التحريم، الآية 10.

[7] خطاب الإمام الخامنئي دام ظله بمناسبة ولادة بضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة الزهراء عليها السلام، في طهران، بحضور جمع من السيدات، بتاريخ 22/05/2011م.

[8] خطاب الإمام الخامنئي دام ظله بمناسبة ذكرى ولادة السيدة زينب عليها السلام ويوم الممرضة، في طهران، بحضور جمع غفير من الممرضات النموذجيات، بتاريخ 21/04/2010م.

[9] الإمام الخامنئي دام ظله بمناسبة أسبوع الشباب في الجمهورية الإسلامية، في طهران، بحضور جمع من الشباب من مختلف الشرائح الاجتماعيّة، بتاريخ 11/01/1419ه.ق.

[10] سورة الإنسان، الآيتان 8 و9.

[11] خطاب الإمام الخامنئي دام ظله بمناسبة أسبوع الشباب في الجمهورية الإسلامية، في طهران، بحضور جمع من الشباب من مختلف الشرائح الاجتماعيّة، بتاريخ 11/01/1419ه.ق.

[12] م.ن.

[13] خطاب الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء مدّاحي أهل البيت عليهم السلام، بمناسبة ولادة السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، في طهران – حسينية الإمام الخميني قدس سره، بحضور جمعٌ من الشعراء والمدّاحين لأهل البيت عليهم السلام، بتاريخ 12/05/2012م.

[14] م.ن.

[15] خطاب الإمام الخامنئي دام ظله بمناسبة ذكرى ولادة السيدة زينب عليها السلام ويوم الممرضة، في طهران، بحضور جمع غفير من الممرضات النموذجيات، بتاريخ 21/04/2010م.

[16] خطاب الإمام الخامنئي دام ظله بمناسبة ذكرى ولادة السيدة زينب عليها السلام ويوم الممرضة، في طهران، بحضور جمع غفير من الممرضات النموذجيات، بتاريخ 21/04/2010م.

[17] ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب عليهم السلام، ج4، ص115.

[18] ابن شهرآشوب المازندراني، محمد بن علي‏، مناقب آل أبي طالب عليهم السلام، قم‏، نشر علامة، 1421ه‏، ط1، ج4، ص115.

[19] سورة النحل، الآية 92.

[20] خطاب الإمام الخامنئي دام ظله بمناسبة ذكرى ولادة السيدة زينب عليها السلام ويوم الممرضة، في طهران، بحضور جمع غفير من الممرضات النموذجيات، بتاريخ 21/04/2010م.

[21] ولدت الشهيدة الخالدة آمنة بنت آية الله السيد حيدر الصدر (بنت الهدى) عام 1356ه- 1937م في مدينة الكاظمية، في بيت عريق في العلم والجهاد والتقوى. وكانت أصغر شقيقيها وأختهما الوحيدة.

ولم يختلف حالها عن حال باقي أسرتها في مكابدة الفقر والحرمان، وتحمل الصعاب والمشاق، بروح غمرها الإيمان والقناعة بأدنى ضروريات الحياة.

لم تر بنت الهدى أباها ولا تتذكره وكأنها ولدت يتيمة، إلا أن الله عز وجل عوضها عن ذلك بأخويها المرحوم السيد إسماعيل الصدر والشهيد السيد محمد باقر الصدر – رضوان الله عليهم جميعاً – فقد أغدقا عليها حناناً ومحبة تفوق ما يتوقع اليتامى، وربّياها بما لم يربّ أب فلذة كبده.

تعلمت الشهيدة بنت الهدى القراءة والكتابة في البيت على يد والدتها – رحمها الله – فكانت الأم هي المعلم الأول، وكانت والدتها تثني على ابنتها وقدرتها على التعلم والاستيعاب والفهم، ثم استكملت مراحل تعليمها القراءة والكتابة على يد أخويها، وشمل ذلك علوم العربية في أكثر جوانبها، حتى تمكنت من كتابة الشعر في السنوات المبكرة من عمرها.

وكانت الشهيدة بنت الهدى – رحمها الله – حريصة على تثقيف نفسها ثقافة إسلامية رفيعة، سواء في مراحل حياتها الأولى أو فترة ما قبل الاستشهاد. فتمكنت من توسيع أفق ثقافتها توسعاً شاملاً متعدد الأبعاد، وكتاباتها في مجلة الأضواء في تلك الفترة (1966م) تعكس لنا جوانب من تلك الأبعاد، ذلك أن مجلة الأضواء التي كانت تصدرها جماعة العلماء في النجف الأشرف لم تكن منبراً إلا للنتاجات المتميزة فقط، وكانت بنت الهدى ــ رحمها الله ــ من أبرز من كتب فيها بل كانت الرائدة الأولى في الكتابة والتأليف.

[22] خطاب الإمام الخامنئي دام ظله بمناسبة ولادة الصديقة الطاهرة عليها السلام ويوم المرأة، في طهران – ملعب الحرية الرياضي، بحضور جموع غفيرة من النساء المؤمنات، بتاريخ 19/06/1418ه.ق.

[23] رسالة الإمام الخامنئي دام ظله إلى ملتقى 7000 شهيدة إيرانية، في طهران، بتاريخ 06/03/2013م.

[24] رسالة الإمام الخامنئي دام ظله إلى ملتقى 7000 شهيدة إيرانية، في طهران، بتاريخ 06/03/2013م.

0

 

المرأة والأسرة

في فكر الإمام الخامنئي دام ظله

شاهد أيضاً

آداب الأسرة في الإسلام

رابعاً : حقوق الأبناء : للأبناء حقوق علىٰ الوالدين ، وقد لخّصها الإمام علي بن ...