الرئيسية / صوتي ومرئي متنوع / روح العبادة الآداب المعنوية للعبادات

روح العبادة الآداب المعنوية للعبادات

  1. القهر لله:

والحقيقة الثالثة التي توجب عبادة الله سبحانه هي: أن الله تعالى هو القاهر وأن إرادته هي النافذة، ولا يستطيع أحدٌ أن يردّها أو يقاوم سلطانه ومشيئته، وليس أمام الإنسان إلاّ أن يخضع لإرادة خالقه ويلتزم بأوامره ونواهيه ويسلّم لحكمه: ﴿ وَهُوَ ٱلقَاهِرُ فَوقَ عِبَادِهِۦۚ وَهُوَ ٱلحَكِيمُ ٱلخَبِيرُ [1].

﴿يَٰصَٰحِبَيِ ٱلسِّجنِ ءَأَربَاب مُّتَفَرِّقُونَ خَيرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلوَٰحِدُ ٱلقَهَّارُ ٣٩ مَا تَعبُدُونَ مِن دُونِهِۦٓ إِلَّا أَسمَاء سَمَّيتُمُوهَا أَنتُم وَءَابَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلطَٰنٍ إِنِ ٱلحُكمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعبُدُاْ إِلَّا إِيَّاهُ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعلَمُونَ[2]. ﴿ قُل إِنَّمَا أَنَا مُنذِر وَمَا مِن إِلَٰهٍ إِلَّا ٱللَّهُ ٱلوَٰحِدُ ٱلقَهَّارُ[3].

على أن هذا الخضـوع لإرادة اللـه القاهـرة، قائـمٌ على الاعتقاد بعدل الله وحكمته ورحمته، ولا يشبه الخضوع الذي يقع من الإنسان الضعيـف للطاغيـة الظالـم، فهنـاك فـرقٌ في شعـور الإنسان النفسي بين الحالتين، حالة ٌيخضع فيها لإرادةٍ ظالمةٍ غاشمةٍ بسبب قهرها وتسلّطها عليه فيخضع لها خضوعاً مكرهاً ولو استطاع التمرّد والخلاص منها لفعل،

 

لأنه لا يؤمن بعدالة هذا الخضوع القاهر الغاشم، وحالةٌ أخرى يخضع فيها الإنسان لقوّةٍ قاهرةٍ بسبب إيمانه بالعلاقة الحقيقية بين وجوده الضعيف وبين وجود هذه القوّة الإلهية القاهرة وكونها علاقة عادلة، لأنها تعبّر عن حقيقة الذاتين: ذاته التي هي ضعفٌ مطلقٌ، وذات الخالق التي هي قدرةٌ مطلقة. وليس في هذه العلاقة ظلمٌ ولا حيف، وإنما هي علاقةٌ قائمةٌ على أساس العدل والودّ والرحمة. ﴿ وَٱستَغفِرُواْ رَبَّكُم ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيم وَدُود ﴾[4]. ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظلِمُ مِثقَالَ ذَرَّة وَإِن تَكُ حَسَنَة يُضَٰعِفهَا وَيُؤتِ مِن لَّدُنهُ أَجرًا عَظِيما ﴾[5].

 

  1. الأمر لله:

والحقيقة الرابعة التي تجعل من الإنسان عبداً لله هي: أن الإنسان لا يملك شيئاً من هذا الوجود، ولا يستطيع التصرّف فيه، ولا تسيير الأمور التي تجري عليه من الموت والحياة والأحداث الأخرى التي لا يملك إلاّ الرضا بها، فهي قضاءٌ محتومٌ عليه، وقدر لا يستطيع التصرّف فيه، أو الاعتراض عليه، فخضوعه لمثل هذه الأحداث إنما هو خضوعٌ تكوينيٌّ لأمر الله وإرادته: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذنِ ٱللَّهِ كِتَٰبا مُّؤَجَّلا وَمَن يُرِد ثَوَابَ ٱلدُّنيَا نُؤتِهِۦ مِنهَا وَمَن يُرِد ثَوَابَ ٱلأخِرَةِ نُؤتِهِۦ مِنهَا وَسَنَجزِي ٱلشَّٰكِرِينَ[6]. ﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذنِ ٱللَّهِ وَمَن يُؤمِن بِٱللَّهِ يَهدِ قَلبَهُۥۚ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيم[7].

فليس أمام الإنسان إلاّ أن يسلّم أمره إلى الله يتصرّف به كيف يشاء، فيرضى بقضاء الله وقدره. ﴿ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلأَمرِ مِن شَيء قُل إِنَّ ٱلأَمرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِ [8].

ولذا كان قول الإنسان المؤمن بالله الواثق بعدله وحكمته: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمرِي إِلَى ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ بَصِيرُ بِٱلعِبَادِ[9].

 

وهكذا تأتي العلاقة واضحة بين خروج الأمر والتصرّف من يد الإنسان، وانتظام الكون والحياة والحوادث والوقائع وفق إرادة الله ومشيئته من جهةٍ وبين عبودية الإنسان لله سبحانه وتعالى من جهةٍ أخرى، لأن الإنسان يمثّل في هذه العلاقة طرف الاستجابة والخضوع والعبودية لمشيئة الله وحكمته.

ولا يملك القدرة على الاستقلال في التصرّف وإيقاع الحوادث إلاّ بمشيئة الله وإذنه، قال تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيما [10].

وفي الحديث القدسي عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبقوتي أديت فرائضي، وبنعمتي قويت على معصيتي، جعلتك سميعاً بصيراً قوياً، ما أصابك من سيئة فمن نفسك، وذاك أني أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيئاتك مني، وذلك أنني لا أُسأل عمّا أفعل وهم يُسألون”[11].

ورجوع الأمر لله سبحانه، أي التصرّف في الخلق والكون من التقدير والقضاء والحدوث، هو نتيجة طبيعية لثبوت الملك والقهر لله سبحانه وتعالى. لأن المالك القاهر هو وحده القادرعلى التصرّف وتدبير الحوادث والوقائع وتنظيمها وفق إرادةٍ تكوينيةٍ قاهرةٍ نافذةٍ قادرةٍ على إمضاء المشيئة الخيّرة وجريان الحكم المنفّذ لهذه المشيئة والاختيار. وهكذا يجد الإنسان نفسه كائناً يدور في فلك العبودية التكوينية والخضوع الذي يشكّل أساساً ومنطلقاً لعبودية إرادية مختارة.

 

  1. الربوبية لله:

الربوبية تعني التدبير وهي الحقيقة الخامسة التي تجعل من الإنسان عبداً لله. فالله تعالى هو الربّ المنعم المتفضّل على الإنسان، وقد أنعم عليه ورزقه ومنحه كل ما يحتاج إليه في هذه الحياة، وأحاطهُ بعنايته وعطفه ولطفه مذ كان نطفةً في رحم أمّه وحتى آخر

 

لحظة من حياته. لذا فإن هذا الربّ المنعم يستحقّ الشكر ويستحقّ العبادة، وليس في الوجود منعمٌ ولا متفضّلٌ على الإنسان غير الله سبحانه.

ولهذا جاءت دعوة القرآن تذكرةً للإنسان ونداءً موقظاً له من غفلته: ﴿ قُل يَٰأَهلَ ٱلكِتَٰبِ تَعَالَواْ إِلَىٰ كَلِمَة سَوَاءِ بَينَنَا وَبَينَكُم أَلَّا نَعبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشرِكَ بِهِۦ شَي‍ٔا وَلَا يَتَّخِذَ بَعضُنَا بَعضًا أَربَابا مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَإِن تَوَلَّواْ فَقُولُواْ ٱشهَدُواْ بِأَنَّا مُسلِمُونَ[12]. ﴿ وَأَعتَزِلُكُم وَمَا تَدعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَأَدعُواْ رَبِّي عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّا[13]. ﴿بَلِ ٱللَّهَ فَٱعبُد وَكُن مِّنَ ٱلشَّٰكِرِينَ [14].

وهكذا ثبّت القرآن الكريم العلاقة الحتمية بين الشكر والعبودية وبين إفاضة النّعم والخيرات، فاعتبر الاعتراف بالفضل والنّعم وأداء الشكر والامتنان والعبادة واجباً كونياً يترتّب على الإنعام والتفضّل.

 

حقيقة الإنسان توجب عبادة الله تعالى

وفي المقابل نجد في الآيات الكريمة بعض خصائص الإنسان التي تبرز حقيقته وهو أنه مخلوقٌ ضعيفٌ، محتاجٌ وفقير فنقرأ: ﴿ يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلفُقَرَاءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلغَنِيُّ ٱلحَمِيدُ[15]. ومن المؤكّد أن الفقر المقصود هنا في الآية ليس الفقر المادي، بل المراد منه شيءٌ آخر يمسّ جوهر الإنسانية وحقيقتها. فهذه الآيات الآنفة الذكر تشير إلى أن الضعف والاحتياج هما حقيقة الإنسان: ﴿ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُم وَخُلِقَ ٱلإِنسَٰنُ ضَعِيفا[16].

فلو فكّر الإنسان ساعةً واحدة في نفسه وفي موجودات هذا العالم كلّه فسوف يكتشف أن أي موجودٍ ليس لديه شيءٌ من نفسه، وأن كل ما حصل عليه الإنسان ووصله هو ألطافٌ ومواهب مستعارة وهي ليست منه، سواء قبل أن يأتي إلى هذه الحياة أم خلال

 

حياته فيها، أم حتى بعد الممات. وإذا تأمّل الإنسان في كيفية خلقه منذ أن كان طفلاً إلى أن تحين لحظة وفاته وفكّر قليلاً في كل مرحلة وما أُعطي فيها من نِعمٍ وقوىً متنوعة من الفكر والعقل والخيال والقلب والأعضاء والجوارح المختلفة وغيرها من النعم والألطاف، لدهش وتحيّر لأنه في لحظةٍ من اللحظات لم يكن شيئاً مذكوراً ﴿ هَل أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَٰنِ حِين مِّنَ ٱلدَّهرِ لَم يَكُن شَي‍ٔا مَّذكُورًا [17] ثم أفيضت عليه الحياة والروح ووُهِب من ألوان النعم التي تبهر العقول وسخّر له كل هذا الوجود. فالإنسان إذاً في الأصل لا يملك شيئاً، فمن غيره تعالى يكون المالك الحقيقي والرازق والمعطي!؟

﴿قُل مَن يَرزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرضِ أَمَّن يَملِكُ ٱلسَّمعَ وَٱلأَبصَٰرَ وَمَن يُخرِجُ ٱلحَيَّ مِنَ ٱلمَيِّتِ وَيُخرِجُ ٱلمَيِّتَ مِنَ ٱلحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ ٱلأَمرَ فَسَيَقُولُونَ ٱللَّهُ فَقُل أَفَلَا تَتَّقُونَ[18].

فالأمور كلها بيد الله وليس للإنسان من حولٍ وقوة إلا به، وهذا عين الضعف والعجز: ﴿يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلأَمرِ مِن شَيء قُل إِنَّ ٱلأَمرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِ[19].

إذن كل هذه الحقائق الآنفة الذكر، من الخلق والملك والقهر والأمر المنحصرة بالله تعالى، والربوبية الإلهية من جهة، والفقر والاحتياج والعجز الإنساني من جهة أخرى، تلتقي لترسم لنا صورة العلاقة بين الإنسان وخالقه، وتوضح كيفية الرابطة بينهما، لتؤكّد دواعي عبودية الإنسان لله وحده، وخضوعه لمشيئته وإرادته خضوعاً يختاره الإنسان عن وعي وتدبّر. فنستنتج: بما أنّ الله هو الخالق وهو المالك الآمر، والقاهر المسيطر، وهو الرب المتفضّل بالنّعم والرعاية… إذن يجب أن يُعبد وحده وأن تُخلص له العبودية دون غيره.

وها هو القرآن الكريم يصف لنا سجود الكون، والعوالم، وخضوعها بقوله: ﴿أَوَ لَم يَرَواْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيء يَتَفَيَّؤُاْ ظِلَٰلُهُۥ عَنِ ٱليَمِينِ وَٱلشَّمَائِلِ سُجَّدا لِّلَّهِ وَهُم دَٰخِرُونَ ٤٨

 

وَلِلَّهِۤ يَسجُدُۤ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرضِ مِن دَابَّة وَٱلمَلَٰئِكَةُ وَهُم لَا يَستَكبِرُونَ[20]، وقوله ﴿ أَفَغَيرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبغُونَ وَلَهُۥٓ أَسلَمَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرضِ طَوعا وَكَرها وَإِلَيهِ يُرجَعُونَ[21].

فيرسم القرآن الكريم لنا صورة الخلق وهو ساجد، ويلفت أنظارنا إليه وهو عابد، ويزجر الغافلين منا، ويطالبنا بأن نفكّر فيما حولنا من عوالم وأكوان… لنرى كل شيء خاضعاً داخراً – أي مرغماً – ومتصاغراً، مستسلماً لعظمة الله وإرادته، فالأرض والسماء والحيوان والنبات وكل مخلوق تشرق عليه أنوار الوجود، لا يملك التمرّد، ولا التكبّر، ولا يستطيع الرفض لإرادة الله، ولا الخروج على حكمته وتدبيره. وهذا هو المقصود بالعبودية التكوينية. فهل يخرج الإنسان وحده من بين المخلوقات عن هذه العبودية؟ أم الأولى به وقد شرّفه الله بخاصّية الاختيار الحرّ وميّزه بها عن سائر المخلوقات أن ينسجم مع العبودية التكوينية ويختار عبادة الله عز وجلّ عن إيمانٍ ووعيٍ وتصميم؟

 

[1]  سورة الأنعام، الآية 18.

[2]  سورة يوسف، الآيتان 39-40.

[3]  سورة ص، الآية 65.

[4]  سورة هود، الآية 90.

[5]  سورة النساء، الآية 40.

[6]  سورة آل عمران، الآية 145.

[7]  سورة التغابن، الآية 11.

[8]  سورة آل عمران، الآية 154.

[9]  سورة غافر، الآية 44.

[10]  سورة الإنسان، الآية 30.

[11]  الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص152.

[12]  سورة آل عمران، الآية 64.

[13]  سورة مريم، الآية 48.

[14]  سورة الزمر، الآية 66.

[15]  سورة فاطر، الآية 15.

[16]  سورة النساء، الآية 28.

[17]  سورة الإنسان، الآية 1.

[18]  سورة يونس، الآية 31.

[19]  سورة آل عمران، الآية 154.

[20]  سورة النحل، الآيتان 48-49.

[21]  سورة آل عمران، الآية 83.

شاهد أيضاً

الحجاب النوراني والحجاب الظلماني

لكن أنواع ذلك الجلال هو اشراقاتي وهو لفرط العظمة والنورانية واللانهائية، يبعد عنها العاشق بعتاب ...