الرئيسية / صوتي ومرئي متنوع / روح العبادة الآداب المعنوية للعبادات

روح العبادة الآداب المعنوية للعبادات

الدرس العاشر

 

                                     الآداب المعنوية للطهارة

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

  1. يعدّد مراتب الطهارة.

  2. يبيّن الآداب المعنوية للتوجّه إلى الماء والتراب.

  3. يذكر الآداب المعنوية للوضوء.

 

 

الطهارة في القرآن الكريم

إنّ الارتباط بالله عزّ وجلّ والتقرّب إليه لا بدّ له من مراحل متدرّجة. فعندما يريد إنسانٌ ما أن يزور أميراً أو ملكاً – وهو شخصيّة من شخصيّات هذه الدنيا الفانية – فإن اللقاء به لا يتحقّق مباشرةً بل هناك وسائط مختلفة يتدرّج الإنسان من خلالها للقائه، فكيف بلقاء ملك الملوك؟!.. فمن يأتي إلى مصلّاه وهو في أدنى درجات التهيؤ النفسي للصلاة – التي هي موعد لقاء المؤمن مع الله – من الطبيعي أن لا يأتي بالصلاة كما يحب الله سبحانه وتعالى ويرضى.

إنّ جوهر الصلاة عملية قلبية وهي معراج المؤمن ووسيلته في التقرّب إلى الله. وجميع الآثار الدنيوية والأخروية متوقّفةً على كون الصلاة ومقدماتها صحيحةً. وقد جعلت طهارة البدن والثياب شرطاً في صحّة الصلاة، وأولى خطوات التقرّب إليه تعالى، ومن مقدماتها الأساسية، فما هو سرّ ذلك؟

إنّ ما يقرّبنا إلى الله تعالى في الواقع هو التجافي عن دار الدنيا، والإنسان لا يمكنه الوصول إلى الله عز وجل ما دام متعلقاً بالدنيا. فدنيا الإنسان من منصبٍ ومالٍ وحبٍّ للنفس تحجبه عن الوصول إلى الله عزّ وجلّ، وما لم يتطهّر الإنسان من هذه التعلّقات لن يستطيع أن يصل إلى لقاء الله عز وجل.

فالاستفادة من القرآن الكريم ذلك الفيض الإلهي الذي أنزله تعالى وكما يشير القرآن الكريم نفسه لا يشمل إلا المطهّرين: ﴿ إِنَّهُۥ لَقُرءَان كَرِيم ٧٧ فِي كِتَٰب مَّكنُون ٧٨ لَّا يَمَسُّهُۥٓ

 

إِلَّا ٱلمُطَهَّرُونَ[1]. فالمطهّرون هم فقط الذين ينهلون من معارف القرآن، والمطهرون الواقعيون هم الأئمة عليهم السلام: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجسَ أَهلَ ٱلبَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيرا[2]. فلا يصل إلى أسرار القرآن وأعماقه إلا المطهّرون، والأئمة عليهم السلام هم الذين يعرفون عمق وحقيقة القرآن، وتلامذتهم ينهلون من معارف القرآن أيضاً، كلٌّ حسب طهارته.

 

القرآن الكريم يعتبر الطهارة سرّ العبادات، وما هذه التعاليم والإرشادات القرآنية إلا لتطهير الإنسان، وليس المقصود من الطهارة، الطهارة الظاهرية فحسب. وإذا كان الإنسان يتصوّر أن الوضوء بالماء وغسل ظاهر بدنه يطهّره طهارة ظاهرية فقط، فهذا غير صحيح لأن الطهارة تحصل بالتيمّم بالتراب أيضاً، لأن ضرب اليدين على الأرض ومسح الوجه بهما يطهّر الإنسان طهارةً معنوية، ففي سورة المائدة آيةٌ تبيّن هذا المعنى للطهارة: ﴿ وَإِن كُنتُم مَّرضَىٰ أَو عَلَىٰ سَفَرٍ أَو جَاءَ أَحَد مِّنكُم مِّنَ ٱلغَائِطِ أَو لَٰمَستُمُ ٱلنِّسَاءَ فَلَم تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدا طَيِّبا فَٱمسَحُواْ بِوُجُوهِكُم وَأَيدِيكُم مِّنهُ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجعَلَ عَلَيكُم مِّن حَرَج وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُم وَلِيُتِمَّ نِعمَتَهُۥ عَلَيكُم لَعَلَّكُم تَشكُرُون[3].

ومن هنا يتبيّن أن المقصود من الطهارة التي يريدها الله عز وجل هي الطهارة الداخلية، أي الطهارة من الأنانية وحب الذات. ذلك أنه ليس للإنسان عدوٌّ أكبر من العدو الداخلي، أي النفس، وليس هناك خبثٌ أكبر من خبث النفس، ولهذا جاءت العبادات لإنقاذ الإنسان من الأمراض النفسية، وكل تعاليم الدين الحنيف جاءت لتطهير الإنسان، فالإنسان يصلّي ويصوم ويجاهد من أجل أن يتطهّر، ويستشهد من أجل أن يطهر، ويتحمّل الصعوبات وويلات الحرب من أجل أن يكون نقياًّ وخالصاً من الغرور.

إذاً، ما دامت حقيقة الصلاة هي العروج إلى مقام القرب وبلوغ مقام الحضور بين يديّ الحق جلّ وعلا، فإن تحقيق هذا الهدف يستلزم طهارةً أسمى من الطهارة الشكلية

 

الظاهرية. ولا يمكن للإنسان السالك الارتقاء بهذا العروج ما لم يزل الموانع والقذارات أولاً ليتسنّى له الاتّصاف بالطهارة وتحصيل الطهور.

 

مراتب الطهارة

يقول الإمام الخميني قدس سره في مراتب الطهارة المعنوية في كتابه الآداب المعنوية للصلاة:

“فأوّل مرتبة للطهارة هي الاستنان بالسنن الإلهية وإطاعة أوامر الحق. والمرتبة الثانية هي التحلي بفضائل الأخلاق وفواضل الملكات. والمرتبة الثالثة هي الطهور القلبي الذي هو عبارة عن تسليم القلب للحق. وبعد هذا التسليم يصبح القلب نورانياً، بل يكون بذاته من عالم النور ودرجات النور الإلهي. وتسري نورانية القلب إلى سائر الأعضاء والجوارح والقوى الباطنة وتصبح كل المملكة نور، ونور على نور حتى يصل الأمر إلى حيث يصبح القلب إلهياً لاهوتياً وتتجلى حضرة اللاهوت في جميع مراتب الباطن والظاهر. وفي هذه الحالة، تفنى العبودية كلياً وتختفي وتظهر الربوبية وتتجلى. فيعرض على قلب السالك في هذه الحالة الطمأنينة والأنس، ويصبح العالم كله محبوبه وتأخذه الجذبات الإلهية وتغفر خطاياه وزلاته، وتستتر في ظل التجليات الحبية، وتحصل له بدايات الولاية ولياقة الورود إلى محضر الأنس. ومن بعدها منازل لا يتناسب ذكرها وهذه الأوراق[4].

إذاً، فللطهارة مراتب يتمّ في كل مرتبةٍ منها إزالة موانع وأخباث وقذارات معيّنة، وهي على الشكل التالي:

المرتبة الأولى: تطهير الظاهر من الأحداث والأخباث والنجاسات الظاهرية، وهذا يتمّ عبر مراعاة الأحكام الشرعية الواردة في الكتب الفقهية المعتبرة. وهذه هي الطهارة الظاهرية.

 

المرتبة الثانية: تطهير الجوارح من الذنوب والمعاصي. فما دام الإنسان مبتلىً بالمعاصي فلا يمكن أن يقترب إلى الله تعالى، ويترقّى إلى المراتب الأخرى من مراتب الطهارة. لذلك يقول تعالى: ﴿ كَلَّا بَل رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكسِبُونَ[5] [6]. والمعاصي إنما تطهّر بماء التوبة النصوح حيث يتوب العبد إلى بارئه ويعزم على ترك الذنوب وعدم الإتيان مطلقاً بما ينافي إرادة الله عز وجل.

المرتبة الثالثة: تخلية الباطن من أرجاس الأخلاق الفاسدة. ورجس هذه الأخلاق أشدّ من رجس قذارات المرتبتين السابقتين، وإزالته أصعب. والتطهير في هذه المرتبة يكون بإزالة الملكات الأخلاقية السيئة وتبديلها بالملكات الأخلاقية الحسنة. وحصول هذا التطهير يتمّ بالعلم النافع والارتياض الشرعي الصالح.

المرتبة الرابعة: وفيها يتم تطهير القلب، وبصلاحه يصلح الإنسان وبفساده يفسد. وقذارة القلب ونجاسته عبارة عن تعلّقه بغير الله تعالى وتوجّهه إلى نفسه وإلى العالم، ومنشأ هذه القذارة حب الدنيا الذي هو رأس كلّ خطيئة وحبّ النفس الذي هو أمّ الأمراض. وتطهيره يكمن في طرد الأغيار منه وتسليمه إلى صاحبه وهو الله تعالى كما ورد في الحديث: “قلب المؤمن عرش الرحمن”[7].

وما دامت جذور حب الدنيا وحب النفس متغلغلة ومتجذّرة في قلب الإنسان، فلن يحصل فيه أثرٌ لحب الله تعالى. أما إن اقتلع هذان الحبّان من قلب الإنسان وسلِّم القلب إلى صاحبه فحينها يصبح قلباً نورانياً وتحصل فيه آثار العبادة.

وهناك مراتب ومقامات أخرى للطهارة ليس هنا محلّ بحثها، ولكن لا ينبغي إنكارها، فإن أعظم النجاسات المعنوية إنكار مقامات أهل الله، وما دام الإنسان مبتلى بهذه الآفة إي إنكار مقامات العارفين لا يتقدّم في طريقه إلى الله تعالى. لذا علينا ألا نقنع

 

بالحدّ الذي نحن فيه فإن الوقوف على الحدود والقناعة في المعارف من العقبات المانعة من التقدّم. كما ينبغي الالتفات إلى أن الوصول إلى المراتب العالية من الطهارة مرهون بتخطي المراتب الأدنى منها.

 

الآداب المعنوية للتوجّه إلى الماء

ورد في الآداب المعنوية للتوجّه إلى الماء رواية عن الإمام الصادق عليه السلام يبيّن فيها هذه الآداب بشيءٍ من التفصيل فيقول: “إذا أردت الطهارة والوضوء فتقدّم إلى الماء تقدمك إلى رحمة الله فإن الله قد جعل الماء مفتاح قربته ومناجاته ودليلاً على بساط خدمته، وكما أن رحمة الله تطهّر ذنوب العباد كذلك النجاسات الظاهرة يطهرها الماء لا غير. قال الله تعالى: ﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي أَرسَلَ ٱلرِّيَٰحَ بُشرَا بَينَ يَدَي رَحمَتِهِۦۚ وَأَنزَلنَا مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَاء طَهُورا[8]. وقال الله تعالى: ﴿وَجَعَلنَا مِنَ ٱلمَاءِ كُـلَّ شَيءٍ  أَفَلَا يُؤمِنُونَ [9].

“فكما يحيي به كل شيء من نعيم الدنيا كذلك برحمته وفضله جعل حياة القلوب الطاعات. وتفكّر في صفاء الماء ورقّته وطهارته وبركته ولطيف امتزاجه بكل شيء واستعمله في تطهير الأعضاء التي أمرك الله بتطهيرها، وأت بآدابها في فرائضه وسننه فإن تحت كل واحدة منها فوائد كثيرة، فإذا استعملتها بالحرمة انفجرت لك عيون فوائده عن قريب ثم عاشر خلق الله كامتزاج الماء بالأشياء يؤدّي كل شيء حقّه ولا يتغير معناه، معتبراً لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل المؤمن المخلص الخالص كمثل الماء، ولتكن صفوتك مع الله تعالى في جميع طاعتك كصفوة الماء حين أنزله من السماء وسمّاه طهوراً وطهّر قلبك بالتقوى واليقين عند طهارة جوارحك بالماء[10]. في هذا الحديث يبيّن الإمام عليه السلام عدّة آدابٍ عند التوجّه إلى الماء للتطهر، ينبغي للسالك إلى الله أن يراعيها، ويلتزم بأحكامها إذا ما أراد أن يتلمس نورانية الطهارة والدخول في سلك المتأدبين بآدابها المعنوية والروحية. ويمكن أن نلخّصها في ما يلي: على المتوضئ:

 

  1. 1. استحضار رحمة الله:

أن يستحضر حين التوجّه إلى الطهارة والوضوء رحمة الله تعالى، ويتفكّر في التشابه بين تطهير رحمة الله لذنوب العباد وبين تطهير الماء للنجاسات الظاهرة. وأن يتفكّر أيضاً في السبب الذي من أجله جُعل الماء مطهّراً للنجاسات الظاهرية حيث إن ظهور الرحمة الواسعة الإلهية فيه أكثر من سائر الموجودات. لأن الماء هو أحد المظاهر العظيمة لرحمة الحق وقد جعله الله عزّ وجلّ سبباً لحياة الموجودات ﴿ وَجَعَلنَا مِنَ ٱلمَاءِ كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤمِنُونَ[11].

 

  1. تطهير الجوارح من الآثام:

أن يعمل على تصفية الأعضاء والجوارح من الآثام والشوائب، من خلال تفكّره في صفاء الماء ورقّته، أثناء أدائه للفرائض والسّنن الإلهية. فينتقل من صفاء الماء إلى تصفية الأعضاء، فيصفّيها بأداء الفرائض والسنن الإلهية، ويرقّق الأعضاء برقة الفرائض والسنن، ويخرجها من غلظة المعصية، لتسري الطهارة والبركة في جميع الأعضاء كما يقول الإمام الخميني قدس سره[12]. فتبدأ الآثار الباطنية بالظهور تدريجيّاً وتتفجّر ينابيع الأسرار الإلهية وتنكشف للإنسان لمحةٌ من أسرار العبادة.

 

  1. الإخلاص لله:

أن يجعل تعامله مع الله تعالى خالصاً صافياً كصفاء الماء من جميع الشّرك، وأن يتأمّل في كون قلبه – في بداية خلقه مثل الماء في وقت نزوله من السماء- طاهراً لولا تصرّف الشيطان والأهواء فيه، فيبتعد عن تلويثه بالشرك وبالمعاصي. يقول الإمام الخميني قدس سره: “يلزم للسالك إلى الله أن يكون خالصاً من تصرّف الطبيعة، ولا يكون لكدورتها وظلمتها طريقٌ إلى قلبه. وتكون جميع عباداته خالية من جميع أنواع الشرك الظاهري والباطني[13].

 

وكما أن الماء في وقت نزوله من السماء طاهرٌ وطهورٌ لم تمتدّ إليه يد تصرّف القذارات، كذلك السالك بالنسبة لقلبه الذي نزل من سماء عالم غيب الملكوت طاهراً ومنزّهاً، فلا يتركه يقع تحت تصرّف الشيطان والطبيعة ويتلوّث بالقذارات[14]“.

 

  1. الشرك على نحوين، ظاهري وعلني كأن يجاهر إنسان به بوجود شريك للباري عزّ وجل، وآخر خفي وغير ظاهر، كالرياء والكبر وغيرها من الأمراض القلبية التي ترجع إلى ضعف الإيمان بالتوحيد وأحياناً فساده في النفس.

أن يجعل طريقة امتزاج الماء بالأشياء مثالاً له في معاشرة خلق الله، معتبراً بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “مثل المخلص كمثل الماء”[15]. فإن الماء حين يسكب في إناءٍ مثلاً يأخذ شكله دون أن تتبدّل حقيقته. وعلى الإنسان المؤمن أن يبقى على صفائه وفطرته رغم معاشرته للناس، وعليه أن يحرص على أن لا يتأثّر بعاداتهم السيّئة. يقول الإمام الخميني قدس سره بهذا الشأن: “السالك إلى الله في نفس الوقت الذي يعاشر كل طائفةٍ من الناس بالمعروف ويرد الحقوق الخلقية، ويتعامل مع كل واحد ويعامله بما يناسب حاله. فهو في الوقت نفسه لا يتجاوز الحقوق الإلهية، ولا يهمل معناها وهو العبادة والعبودية والتوجّه إلى الحق[16].

 

  1. التقوى واليقين:

وفي النهاية على المتوضئ أن يلتفت إلى مسألة في غاية الأهمية وتعتبر من أعمدة وأسس الطهارة الباطنية، وهي تطهير القلب بالتقوى واليقين عند تطهير جوارحه بالماء، كما يقول الإمام الصادقعليه السلام في الحديث.

 

الآداب المعنوية للوضوء[17]

الآداب المعنوية للوضوء عديدة ومتنوعة:

 

الأول: ينبغي أن يكون وقوفه للوضوء وقوف في مقام الحمد والشكر لله حيث أذن له ربّ العزة والسلطان بالحضور وهو الآن في مقام تحصيل مقدمات التشرّف لينال هذا الشرف.

 

الثاني: إذا أخذ غرفة من الماء ليتوضأ فليتفطّن أنه كما يغسل ظاهره بالماء الظاهر الذي هو سبب الحياة لكل حي، كذلك ليغسل باطنه بالعلم وهو الموجب لحياة القلوب والأرواح فينوّر به قلبه وروحه كما في الحديث: “العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء[18]. وليغسل[19] يديه من العيوب ومن حوله وقوته، وليعلم أنه لا حول له ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم. كما ويرمز غسل اليد إلى غسل يده عما نهى عنه الشارع وبالخصوص المنهيات التي تتحقق باليد كالسرقة والتعدّي والغصب وأمثالها. ويعني صبّ الماء باليمنى على اليسرى أنه لا بد له من بسط اليد في البذل والعطاء والإيثار في سبيل رضا الله تعالى، ولا يمسك يده. قال تعالى: ﴿ لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَۚ[20].

الثالث: إذا تمضمض فليقل: “اللهم لقّني حجّتي يوم ألقاك وأطلق لساني بذكرك”. ومعنى تلك المضمضة التي يطهّر بها فمه من فضول الطعام أنه يطهّر فمه ولسانه من الذكر القبيح ومن فضول الكلام “وفضول الكلام يميت القلب“. ومما يجري على لسانه ويخرج من فمه ممّا يمقته الله ويدخله النار كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: “وهل يَكُبُّ النّاس على مناخِرهم في النّار إلّا حَصائِدُ ألسنتهم”[21]. فليزيّن لسانه بذكر الله وتلاوة القرآن.

 

الرابع: ثم يستنشق، وحقيقته إخراج الكبر والتعالي من دماغه كما يخرج بالاستنشاق فضولات الدماغ من طريق أنفه وينقي مجراه.

الخامس: ثم يغسل وجهه ويتوجّه إلى أن ذلك يرمز إلى بياض الوجه وتحصيل ماء الوجه عند الله سبحانه فيتذكّر قصوره وتقصيره وخجلته وسواد وجهه ويستجير بالله من أن يلقاه سبحانه بهذه الحالة، كما يحكيها تعالى: ﴿ وَيَومَ ٱلقِيَٰمَةِ تَرَى ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى ٱللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسوَدَّةٌ[22]. وقال تعالى: ﴿ وَوُجُوه يَومَئِذٍ عَلَيهَا غَبَرَة ٤٠ تَرهَقُهَا قَتَرَةٌ[23]. وليستح من الله تعالى لمّا رآه حيث نهاه ولمّا توجّه إلى غير مولاه، وقد ورد في الحديث أنه يقول عند غسل وجهه: “اللهم بيّض وجهي يوم تسودّ الوجوه ولا تسوّد وجهي يوم تبيضّ الوجوه”.

السادس: ليتذكّر عندما يغسل اليدين أن باطنه غسل الأيدي من رؤية الأسباب، وأيضاً هو غسل اليد عن الخلق وتفويض الأمر إلى الله والاستعداد للتمسّك بذيل المحبوب الله تعالى وقرع بابه كما قال الإمام علي عليه السلام: “لكل باب رغبة إلى الله منهم يد قارعة”[24] في وصفه لأهل الذكر وعباد الله. وليتذكر أيضاً موقف القيامة وتطاير الكتب وأحوال الناس في ذاك الوقت كما قال تعالى: ﴿ فَمَن أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ[25] ﴿ وَأَمَّا مَن أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِشِمَالِهِۦ[26] فيقول عند غسله اليمنى: “اللهم أعطني كتابي بيميني والخلد في الجنان بيساري وحاسبني حساباً يسيراً“. ويقول عند غسله اليسرى: “اللهم لا تعطني كتابي بشمالي ولا من وراء ظهري ولا تجعلها مغلولة إلى عنقي وأعوذ بك من مقطعات النيران“.

السابع: ليمسح رأسه من الخضوع لغير الله ومن الكبرياء العارضة له إذ عدّ نفسه شيئاً، وليقل: “اللهم غشّني برحمتك وبركاتك وعفوك ومغفرتك”.

 

الثامن: ويمسح رجليه من المشي إلى دار الغربة وأرض المذلّة الدني، ويطهّرها أيضاً عن المشي بالكبر، قال تعالى: ﴿وَلَا تَمشِ فِي ٱلأَرضِ مَرَحًا[27]. ويمشي بقدم العبودية والهوان ليصدق عبوديته للرب الرحمن. قال تعالى: ﴿ وَعِبَادُ ٱلرَّحمَٰنِ ٱلَّذِينَ يَمشُونَ عَلَى ٱلأَرضِ هَونا[28].

وعليه التصميم على الثبات في طريق الجهاد وميدان الجهاد الأصغر والأكبر والمشي على الصراط المستقيم، ويقول بلسانه: “اللهم ثبّت قدمي على الصراط يوم تزلّ فيه الأقدام واجعل سعيي فيما يرضيك عني[29].

 

التمارين

ضع إشارة û أو ü في المكان المناسب:

 

1 – جوهر الصلاة عملية قلبية وهي معراج المؤمن ووسيلته في التقرّب إلى الله 

2 – جعلت طهارة البدن والثياب شرطاً أساسياً ووحيداً في صحة الصلاة وقبولها 

3 – إنّ الإنسان يمكنه الوصول إلى الله عزّ وجلّ ما دام قلبه متعلّقاً بالدنيا بشرط عدم الإخلال بعباداته 

4 – شُرّعت العبادات بشكل أساس من أجل إنقاذ الإنسان من الأمراض النفسية وتطهيره روحيّاً 

5 – تطهير الظاهر من النجاسات الظاهرية عبر مراعاة الأحكام الشرعية هو نهاية مراتب الطهارة 

6 – منشأ الأخلاق الفاسدة والذنوب والمعاصي هو حبّ الدنيا وحبّ النفس 

7 – من الآداب المعنوية للطهارة البدنية أن يتفكّر في التشابه بين تطهير رحمة الله لذنوب العباد وبين تطهير الماء للنجاسات الظاهرة 

8 – يعتبر القرآن الكريم الطهارة سرّ العبادات، وما هذه التعاليم والإرشادات القرآنية إلّا من أجل تطهير ظاهر الإنسان 

9 – الطهارة الظاهرية هي تطهير النفس والجوارح من المعاصي والذنوب 

10 – لكل حركة من حركات الوضوء آداب معنوية، ينبغي أن يستحضرها المتوضئ في حينها 

 

المفاهيم الرئيسة

  1. إنّ جوهر الصلاة عملية قلبية وهي معراج المؤمن ووسيلته في التقرّب إلى الله، وقد جعلت طهارة البدن والثياب شرطاً في صحّة الصلاة، وأولى خطوات التقرّب إليه تعالى.

  2. إنّ ما يقرّبنا إلى الله تعالى في الواقع هو التجافي عن دار الدنيا، لأن الإنسان لا يمكنه الوصول إلى الله عز وجل مادام متعلقاً بالدنيا.

  3. الطهارة التي يريدها الله عز وجل هي الطهارة الداخلية، أي الطهارة من الأنانية وحب الذات. ذلك أنه ليس للإنسان عدوٌّ أكبر من العدو الداخلي.

  4. جاءت العبادات لإنقاذ الإنسان من الأمراض النفسية، وكل تعاليم الدين الحنيف جاءت لتطهير الإنسان.

  5. للطهارة مراتب يتمّ في كل مرتبةٍ منها إزالة موانع وقذارات معيّنة، وهي على الشكل التالي: الأولى: تطهير الظاهر من النجاسات الظاهرية عبر مراعاة الأحكام الشرعية، الثانية: تطهير الجوارح من الذنوب والمعاصي بماء التوبة النصوح، الثالثة: تخلية الباطن من أرجاس الأخلاق الفاسدة ويتم بالعلم النافع والارتياض الشرعي. الرابعة: تطهير القلب من تعلّقه بغير الله تعالى.

  6. الآداب المعنوية للتوجه إلى الماء: أن يستحضر المتوضئ حين التوجّه إلى الطهارة والوضوء رحمة الله تعالى، ويتفكّر في التشابه بين تطهير رحمة الله لذنوب العباد وبين تطهير الماء للنجاسات الظاهرة، أن يعمل على تصفية الأعضاء والجوارح من الآثام والشوائب، أن يجعل تعامله مع الله تعالى خالصاً صافياً كصفاء الماء من جميع الشّرك، أن يجعل طريقة امتزاج الماء بالأشياء مثالاً له في معاشرة خلق الله، وأن يطهّر القلب بالتقوى واليقين عند تطهير جوارحه بالماء.

  7. لكل حركة من حركات الوضوء آداب معنوية، وينبغي أن يستحضرها المتوضئ في حينها.

 

للمطالعة

في الإشارة إلى بعض أمانات الحق

ولا بد من معرفة أنّ الحق تبارك وتعالى، قد وهبنا كافّة القوى والأعضاء الظاهرية والباطنية، وبسط لنا بساط الرحمة والنعمة في مملكتنا الظاهرية والباطنية، ووضعها كلّها تحت قدرتنا لتسخيرها، وائتمننا عليها بلطفه ورحمته، وهي – هذه العطايا- طاهرة ونظيفة من كل القذارات الصورية والمعنوية وكذلك ما أنزل علينا من عالم الغيب كان بعيداً عن الشوائب والعناصر الغريبة، فإذا أرجعنا هذه الأمانات لدى لقائنا بالذات المقدس، من دون أن تصير ممزوجة مع عالم المادة، وقذارات المُلك والدنيا، كُنَّا أُمناء على الأمانة التي أودعت عندنا، وإن لم نحافظ على طهارة هذه الأمانات، غدونا من الخائنين والخارجين عن الإسلام الحقيقي، وملّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وفي الحديث المشهور إنّ قَلْبَ المُؤمن عَرْشُ الرحْمن، وفي الحديث القدسي المعروف “لا يَسُعُنِي أَرْضِي وَلا سَمَائِي وَلكِنْ يَسَعُنِي قَلْبُ عَبْديَ المُؤْمِنِ”[30]. فإنّ قلب المؤمن عرش الحق المتعالي، وسرير سلطنته وسكنى ذاته المقدّس، وإنّه سبحانه صاحب هذا البيت، فالالتفات إلى غير الحق خيانة للحق، والحب لغير ذاته الأقدس ولغير أوليائه الذين يُعتبر حبّهم حبّه سبحانه، خيانة لدى العرفاء.

وإنّ ولاية أهل بيت العصمة والطهارة، ومودّتهم، ومعرفة مرتبتهم المقدّسة، أمانة من الحق سبحانه. كما ورد في الأحاديث الشريفة في تفسير الأمانة في الآية ﴿ إِنَّا عَرَضنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرضِ[31] بولاية أمير المؤمنينعليه السلام. كما أن غصب خلافته وولايته، خيانةٌ لتلك الأمانة وأن رفض المتابعة للإمام علي عليه السلام مرتبة من مراتب الخيانة. وفي الأحاديث الشريفة.

إنّ الشيعي هو الذي يتّبع أمير المؤمنين عليه السلام اتّباعاً كاملاً وإلاّ فإن مجرد دعوى التشيَّع من دون الاتباع لا يكون تشيّعاً[32].

[1]  سورة الواقعة، الآيات 77 – 79.

[2]  سورة الأحزاب، الآية 33.

[3]  سورة المائدة، الآية 6.

[4]  الإمام الخميني، الآداب المعنوية للصلاة، ص 71. الفصل الثاني، في الإشارة إلى مراتب الطهور، ترجمة السيد عباس نور الدين، الطبعة الأولى، بيروت،2009.

[5]  سورة المطفّفين، الآية 14.

[6]  الرين: الرَّيْنُ الطَّبَعُ والدَّنَسُ والرَّيْن الصَّدأُ الذي يعلو السيفَ والمِرآة ورَانَ الثوبُ رَيْناً تَطَبَّعَ والرَّيْنُ كالصَّدَإ يَغْشى القلب ورَانَ الذَّنْبُ على قلبه يَرِينُ رَيْناً ورُيُوناً غلب عليه وغطاه، وفي التنزيل العزيز ﴿ كَلَّاۖ بَلۡۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ ﴾ أَي غَلَبَ وطَبَعَ وخَتَم.

[7]  العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج55، ص39.

[8]  سورة الفرقان، الآية 48.

[9]  سورة الأنبياء، الآية 30.

[10]  العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج77، ص339.

[11]  سورة الأنبياء، الآية 30.

[12]  راجع الإمام الخميني، الآداب المعنوية للصلاة، ص 74.

[13]  الشرك على نحوين، ظاهري وعلني كأن يجاهر إنسان به بوجود شريك للباري عزّ وجل، وآخر خفي وغير ظاهر، كالرياء والكبر وغيرها من الأمراض القلبية التي ترجع إلى ضعف الإيمان بالتوحيد وأحياناً فساده في النفس.

[14]  الإمام الخميني، الآداب المعنوية للصلاة، ص 75.

[15]  راجع: العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج77، ص339.

[16]  الإمام الخميني، الآداب المعنوية للصلاة، ص 75.

[17]  للمزيد من التفاصيل مراجعة الإمام الخميني، الآداب المعنوية للصلاة، ص 143 – 145، ترجمة السيد احمد الفهري، الطبعة الثانية، سنة 1986، مراجع وحواشي الفصل الخامس من المقالة الثانية: في نبذة من آداب الوضوء الباطنية والقلبية.

[18]  منسوب إلى الإمام الصادق عليه السلام، مصباح الشريعة، ص 16.

[19]  الغسل المقصود هنا هو غسل اليدين قبل مباشرة الوضوء.

[20]  سورة آل عمران، الآية 92.

[21]  الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص115.

[22]  سورة الزمر، الآية 60.

[23]  سورة عبس، الآيتان 40-41.

[24]  نهج البلاغة، ص343.

[25]  سورة الاسراء، الآية 71.

[26]  سورة الحاقة، الآية 25.

[27]  سورة الإسراء، الآية 37.

[28]  سورة الفرقان، الآية 63.

[29]  بتصرف، راجع الإمام الخميني، الآداب المعنوية للصلاة، ص 143 – 145. ترجمة السيد احمد الفهري، الطبعة الثانية، سنة 1986، مراجع وحواشي الفصل الخامس من المقالة الثانية: في نبذة من آداب الوضوء الباطنية والقلبية.

[30]  الزبيدي، إتحاف السادة المتقين، ج 7، ص 234.

[31]  سورة الأحزاب، الآية 72.

[32]  الإمام الخميني، الأربعون حديثاً، الحديث التاسِع والعشرون: وصيّة النبي لعليّ بخصال، فصل: في الإشارة إلى بعض أمانات الحق.

شاهد أيضاً

الأمان الرقمي للأسرة: كيفية إنشاء خطة عائلية للتعامل مع حوادث أمن المعلومات

تكنولوجيا وأمن معلومات  27/03/2024 الأمان الرقمي للأسرة: كيفية إنشاء خطة عائلية للتعامل مع حوادث أمن ...