الرئيسية / القرآن الكريم / الميزان في تفسير القرآن سورة البقرة 163 – 167

الميزان في تفسير القرآن سورة البقرة 163 – 167

تابع
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)

بحث فلسفي آخر

مسألة انقطاع العذاب و الخلود مما اختلف فيه أنظار الباحثين من حيث النظر العقلي و من جهة الظواهر اللفظية.

و الذي يمكن أن يقال: أما من جهة الظواهر، فالكتاب نص في الخلود، قال تعالى: «و ما هم بخارجين من النار» الآية و السنة من طرق أئمة أهل البيت مستفيضة فيه، و قد ورد من غير طريقهم أخبار في الانقطاع و نفي الخلود، و هي مطروحة بمخالفة الكتاب.

و أما من جهة العقل فقد ذكرنا فيما تقدم من البحث في ذيل قوله تعالى: «و اتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا»: البقرة – 48، أن الاستدلال على خصوصيات ما جاء به الشرع في المعاد بالمقدمات الكلية العقلية غير مقدور لنا لأن العقل لا ينال الجزئيات، و السبيل فيه تصديق ما جاء به النبي الصادق من طريق الوحي للبرهان على صدقه.

و أما النعمة و العذاب العقليان الطارئان على النفس من جهة تجردها و تخلقها بأخلاق و ملكات فاضلة أو ردية أو اكتسائها و تلبسها بأحوال حسنة جميلة أو قبيحة فقد عرفت أن هذه الأحوال و الملكات تظهر للنفس بما لها من صورة القبح أو الحسن فتنعم بما هي حسنة منها إن كانت ذاتها سعيدة و تعذب بما هي قبيحة مشوهة منها، سواء كانت ذاتها سعيدة أو شقية.

و أن ما كانت من هذه الصور صورا غير راسخة للنفس و غير ملائمة لذاتها فإنها ستزول لأن القسر لا يكون دائميا و لا أكثريا، و هذه النفس هي النفس السعيدة ذاتا و عليها هيآت شقية ردية ممكنة الزوال عنها كالنفس المؤمنة المجرمة، و هذا كله ظاهر.

و أما الهيآت الردية التي رسخت في النفس حتى صارت صورا أو كالصور الجديدة تعطي للشيء نوعية جديدة كالإنسان البخيل الذي صار البخل صورة لإنسانيته كما صار النطق لحيوانيته الصائرة به نوعا جديدا تحت الحيوان فالإنسان البخيل أيضا نوع جديد تحت الإنسان، فمن المعلوم أن هذا النوع نوع مجرد في نفسه دائمي الوجود، و جميع ما كان يصدر عنه بالقسر حال عدم الرسوخ فيعذب به و يذوق وبال أمره فهي تصدر عن هذا النوع بإذن الله من غير قسر إلا أنها لما كانت صادرة عن نوعيته من غير قسر فهي دائمة من غير زوال بخلاف ما لو كانت حاصلة بالقسر، و مثل هذا الإنسان المعذب بلوازم ملكاته من وجه مثل من ابتلي بمرض الماليخوليا أو الكابوس المستمر فإنه لا يزال يصدر عن قوة تخيله صور هائلة أو مشوهة يعذب بها و هو نفسه هو الذي يوجدها من غير قسر قاسر و لو لم تكن ملائمة لطبعه المريض ما أوجدها فهو و إن لم تكن متألما من حيث انتهاء الصدور إليه نفسه لكنه معذب بها من حيث إن العذاب ما يفر منه الإنسان إذا لم يبتل به بعد و يحب التخلص عنه إذا ابتلي به و هذا الحد يصدق على الأمور المشوهة و الصور غير الجميلة التي تستقبل الإنسان الشقي في دار آخرته، فقد بان أن العذاب خالد غير منقطع عن الإنسان الشقي الذي لذاته شقوة لازمة.

و قد استشكل هاهنا بإشكالات واضحة السقوط بينة الفساد: مثل أن الله سبحانه ذو رحمة واسعة غير متناهية فكيف يسع رحمته أن يخلق من مصيره إلى عذاب خالد لا يقوم له شيء؟.

و مثل أن العذاب إنما يكون عذابا إذا لم يلائم الطبع فيكون قسرا و لا معنى للقسر الدائم فكيف يصح وجود عذاب دائم؟.

و مثل أن العبد لم يذنب إلا ذنبا منقطع الآخر فكيف يجازى بعذاب دائم؟.

و مثل أن أهل الشقاء لا يقصر خدمتهم لنظام التكوين عن خدمات أهل السعادة.

و لولاهم لم تتحقق سعادة لسعيد فما هو الموجب لوقوعهم في عذاب مخلد؟.

و مثل أن العذاب للمتخلف عن أوامر الله و نواهيه انتقام و لا يكون الانتقام إلا لجبر النقص الذي أورده العاصي الظالم على المنتقم المقتدر، و لا يجوز ذلك على الله تعالى فهو الغني المطلق فكيف يجوز منه العذاب و خاصة العذاب المخلد؟.

فهذه و أمثالها وجوه من الإشكال أوردوها على خلود العذاب و عدم انقطاعه.

و أنت بالإحاطة بما بيناه من معنى خلود العذاب تعرف أنها ساقطة من رأس، فإن العذاب الخالد أثر و خاصة لصورة الشقاء الذي لزمت الإنسان الشقي فتصور ذاته بها بعد تمامية الاستعداد الشديد الذي حصل في ذاته القابلة لها بواسطة الأحوال العارضة لها المنتهية إلى اختياره، و اشتداد الاستعداد التام هو الذي يوجب في جميع الحوادث إفاضة الصورة المناسبة لسنخ الاستعداد، فكما لا يجوز السؤال عن علة تحقق الأفعال الإنسانية بعد ورود الصورة الإنسانية على المادة لوجود العلة التي هي الصورة الإنسانية كذلك لا معنى للسؤال عن لمية ترتب آثار الشقاء اللازم، و منها العذاب المخلد بعد تحقق صورة الشقاء اللازم، المنتهية إلى الاختيار فإنها آثارها و خواصها فبطلت السؤالات جميعا، فهذا هو الجواب الإجمالي عنها.

و أما تفصيلا: فالجواب عن الأول: أن الرحمة فيه تعالى ليس بمعنى رقة القلب و الإشفاق و التأثر الباطني فإنها تستلزم المادة – تعالى عن ذلك -، بل معناها العطية و الإفاضة لما يناسب الاستعداد التام الحاصل في القابل، فإن المستعد بالاستعداد التام الشديد يحب ما يستعد له و يطلبه و يسأله بلسان استعداده فيفاض عليه ما يطلبه و يسأله، و الرحمة رحمتان: رحمة عامة، و هي إعطاء ما يستعد له الشيء و يشتاقه في صراط الوجود و الكينونة، و رحمة خاصة، و هي إعطاء ما يستعد الشيء في صراط الهداية إلى التوحيد و سعادة القرب و إعطاء صورة الشقاء اللازم الذي أثره العذاب الدائم للإنسان المستعد له باستعداده الشديد لا ينافي الرحمة العامة بل هو منها، و أما الرحمة الخاصة فلا معنى لشمولها لمن هو خارج عن صراطها، فقول القائل: إن العذاب الدائم ينافي الرحمة إن أراد به الرحمة العامة فليس كذلك بل هو من الرحمة العامة، و إن أراد به الرحمة الخاصة فليس كذلك لكونه ليس موردا لها، على أن الإشكال لو تم لجرى في العذاب المنقطع أيضا حتى أنواع العذاب الدنيوي، و هو ظاهر.

و الجواب عن الثاني: أنه ينبغي أن يحرر معنى عدم ملاءمة الطبع فإنه تارة بمعنى عدم السنخية بين الموضوع و الأثر الموجود عنده و هو الفعل القسري الذي يصدر عن قسر القاسر و يقابله الأثر الملائم الذي يصدر عن طبع الشيء إذا اقترن به آفات ثم رسخت فيه فصارت صورة في الشيء و عاد الشيء يطلبه بهذا الوجود و هو في عين الحال لا يحبه كما مثلنا فيه من مثال الماليخوليائي فهذه الآثار ملائمة لذاته من حيث صدورها عن طبعه الشقي الخبيث، و الآثار الصادرة عن الطباع ملائمة، و هي بعينها عذاب لصدق حد العذاب عليها لكون الشيء لا يرتضيها فهي غير مرضية من حيث الذوق و الوجدان في عين كونها مرضية من حيث الصدور.

و الجواب عن الثالث: أن العذاب في الحقيقة ترتب أثر غير مرضي على موضوعه الثابت حقيقة، و هو صورة الشقاء فهذا الأثر معلول الصورة الحاصلة بعد تحقق علل معدة، و هي المخالفات المحدودة، و ليس معلولا لتلك العلل المعدة المحدودة حتى يلزم تأثير المتناهي أثرا غير متناه و هو محال، و نظيره أن عللا معدة و مقربات معدودة محدودة أوجبت أن تتصور المادة بالصورة الإنسانية فيصير إنسانا يصدر عنه آثار الإنسانية المعلولة للصورة المذكورة، و لا معنى لأن يسأل و يقال: إن الآثار الإنسانية الصادرة عن الإنسان بعد الموت صدورا دائميا سرمديا لحصول معدات محدودة مقطوعة الأمر للمادة فكيف صارت مجموع منقطع الآخر من العلل سببا لصدور الآثار المذكورة و بقائها مع الإنسان دائما لأن علتها الفاعلة – و هي الصورة الإنسانية – موجودة معها دائما على الفرض، فكما لا معنى لهذا السؤال لا معنى لذلك أيضا.

و الجواب عن الرابع: أن الخدمة و العبودية أيضا مثل الرحمة على قسمين: عبودية عامة، و هو الخضوع و الانفعال الوجودي عن مبدإ الوجود، و عبودية خاصة و هو الخضوع و الانقياد في صراط الهداية إلى التوحيد، و لكل من القسمين جزاء يناسبه و أثر يترتب عليه و يخصه من الرحمة، فالعبودية العامة في نظام التكوين جزاؤه الرحمة العامة، و النعمة الدائمة و العذاب الدائم كلاهما من الرحمة العامة، و العبودية الخاصة جزاؤه الرحمة الخاصة، و هي النعمة و الجنة و هو ظاهر، على أن هذا الإشكال لو تم لورد في مورد العذاب المنقطع الأخروي بل الدنيوي أيضا.

و الجواب عن الخامس: أن العذاب الدائم مستند إلى صورة الشقاء الذي في الإنسان كما عرفت، و إلى الله سبحانه بالمعنى الذي يقال: في كل موجود: أنه مستند إليه تعالى لا بمعنى الانتقام و تشفي الصدر المستحيل عليه تعالى، نعم الانتقام بمعنى الجزاء الشاق و الأثر السيىء الذي يجزي به المولى عبده في مقابل تعديه عن طور العبودية، و خروجه عن ساحة الانقياد إلى عرصة التمرد و المخالفة مما يصدق فيه تعالى لكن لا يستلزم كون العذاب انتقاما بهذا المعنى إشكالا البتة.

على أن هذا الإشكال أيضا لو تم لورد في مورد العذاب الموقت المنقطع في الآخرة بل في الدنيا أيضا.

بحث قرآني و روائي متمم للبحث السابق

اعلم أن هذا الطريق من الاستدلال على رد الشبهة المذكورة مما استعمل في الكتاب و السنة أيضا، قال تعالى: «من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصليها مذموما مدحورا، و من أراد الآخرة و سعى لها سعيها و هو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا كلا نمد هؤلاء و هؤلاء من عطاء ربك و ما كان عطاء ربك محظورا»: إسراء – 20، فالآية كما ترى يجعل العذاب و الشكر كليهما من العطية و الرحمة و تجعل تحقق كل منهما مرتبطة بإرادة العبد و سعيه و هذا بعينه الطريق الذي سلكناه في أصل المسألة و دفع الإشكالات عنها و هناك آيات أخر في هذا المعنى سنتكلم فيها في مواردها، إن شاء الله تعالى.

شاهد أيضاً

آداب الأسرة في الإسلام

رابعاً : حقوق الأبناء : للأبناء حقوق علىٰ الوالدين ، وقد لخّصها الإمام علي بن ...