الرئيسية / صوتي ومرئي متنوع / تتمة رسائل الشهيد الثاني

تتمة رسائل الشهيد الثاني

أما المسائل الفروع ، فإنها لما كانت أموراً ظنية اجتهادية خفية ، لكثرة تعارض الاِمارات فيها ، وقع بينهم الخلاف فيها والمناظرة والتخطئة لبعضهم من بعض ، فلذا نقل .
واحتجوا أيضاً : بأن النظر مظنة الوقوع في الشبهات والتورط في الضلالات بخلاف التقليد فإنه أبعد عن ذلك وأقرب إلى السلامة فيكون أولى ، ولاَن الاَصول أغمض أدلة من الفروع وأخفى ، فإذا جاز التقليد في الاَسهل جاز في الاَصعب بطريق أولى، ولاَنهما سواء في التكليف بهما، فإذا جاز في الفروع فليجز في الاَصول.
وأجيب عن الاَول : بأن اعتقاد المعتقد إن كان عن تقليد ، لزم إما التسلسل ، أو الاِنتهاء إلى من يعتقد عن نظر لانتفاء الضرورة ، فيلزم ما ذكرتم من المحذور مع زيادة وهي احتمال كذب المخبر ، بخلاف الناظر مع نفسه ، فإنه لا يكابر نفسه فيما أدى إليه نظره .
على أنه لو اتفق الاِنتهاء إلى من اتفق له العلم بغير النظر كتصفية الباطن كما ذهب إليه بعضهم ، أو بالاِلهام ، أو بخلق العلم فيه ضرورة ، فهو إنما يكون لاَفراد نادرة ، لاَنه على خلاف العادة ، فلا يتيسر لكل أحد الوصول إليه مشافهة بل بالوسائط ، فيكثر احتمال الكذب ، بخلاف الناظر فإنه لايكابر نفسه، ولاَنه أقرب إلى الوقوع في الصواب .
إن قلت : ما ذكرت من الجواب إنما يدل على كون النظر أولى من التقليد ، ولا يدل على عدم جوازه ، فجواز التقليد باق لم يندفع ، على أن ما ذكرته من احتمال الكذب جار في الفروع ، فلو منع من التقليد فيها لمنع في الاَصول .
قلت : متى سلمت الاَولوية وجب العمل بها ، وإلا لزم العمل بالمرجوح مع تيسر العمل بالراجح ، وهو باطل بالاِجماع ، لا سيما في الاِعتقاديات .
وأما الجواب عن العلاوة ، فلاَنه لما كان الطريق إلى العمل بالفروع إنما هو النقل ساغ لنا التقليد فيها ، ولم يقدح احتمال كذب المخبر ، وإلا لانسد باب العمل فيها ،
( 188 )
بخلاف الاِعتقادات فإن الطريق إليها بالنظر ميسر ، فاعتبر قدح الاِحتمال في التقليد فيها .
وأما احتمال الخطأ في النظر ، فإنه وإن أمكن إلا أنه نادر جداً بالقياس إلى الخطأ في النقل ، فكان النظر أرجح ، وقد بينا أن العمل بالاَرجح واجب .
وأجيب عن الثاني : أولاً بالمنع من كونها أغمض أدلة ، بل الاَمر بالعكس لتوقف الشرعيات على العقليات عملاً وعلماً .
وثانياً بالمنع من الملازمة ، فإن كونها أغمض أدلة لا يستلزم جواز التقليد فيها فضلاً عن كونه أولى ، لاَن المطلوب فيها اليقين ، بخلاف الشرعيات فإن المطلوب فيها الظن اتفاقاً . ومن هذا ظهر الجواب عن الثالث .
واحتجوا أيضاً : بأن هذه العلوم إنما تحصل بعد الممارسة الكثيرة والبحث الطويل ، وأكثر الصحابة لم يمارسوا شيئاً منها ، فكان اعتقادهم عن تقليد .
وأجيب : بأنهم لمشاهدتهم المعجزات وقوة معارفهم بكثرة البينات من صاحب الوحي عليه السلام لم يحتاجوا في تيقن تلك المعارف إلى بحث كثير في طلب الاَدلة عليها .
أقول : ومما يبطل به مذهب القائلين بالتقليد أنه إما أن يفيد العلم أولاً ، فإن أفاده لزم اجتماع الضدين فيما لو قلد واحداً في قدم العالم وآخر في حدوثه ، وهو ظاهر . وإن لم يفده وجب ترجيح النظر عليه ، إذ من المعلوم ضرورة أن النظر الصحيح يفيد العلم ، فإذا ترجح النظر عليه وجب اعتباره وترك المرجوح اجماعاً .
وأقول : مما يدل على اعتبار اليقين في الاِيمان أن الاَمة فيه على قولين : قول باعتبار اليقين فيما يتحقق به الاِيمان . وقول بالاِكتفاء بالتقليد أو ما في حكمه فإذا انتفى الثاني بما ذكرناه من الاَدلة ثبت الاَول .
وأقول أيضاً مما يصلح شاهداً على ذلك قوله تعالى : قالت الاَعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الاِيمان في قلوبكم ، فنفى ما زعموه إيماناً ، وهو التصديق القولي ، بل ماسوى التصديق الجازم ، حيث لم يثبت لهم من الاِيمان
( 189 )
إلا ما دخل القلب . ولا ريب أن ما دخل القلب يحصل به الاِطمئنان ، ولا اطمئنان في الظن وشبهه لتجويز النقيض معه ، فيكون الثبات والجزم معتبراً في الاِيمان .
فإن قلت : قوله تعالى حكاية عن إبراهيم : أو لم تؤمن ؟ قال بلى ، ولكن ليطمئن قلبي ، يدل على أن الجزم والثبات غير معتبر في الاِيمان ، وإلا لما أخبر عليه السلام عن نفسه بالاِيمان ، بقوله بلى مع أن قوله ( ولكن ليطمئن قلبي ) يدل على أنه لم يكن مطمئناً فلم يكن جازماً .
قلت : يمكن الجواب بأنه عليه السلام طلب العلم بطريق المشاهدة ، ليكون العلم بإحياء الموتى حاصلاً له من طريق الاَبصار والمشاهدة ، ويكون المراد من اطمئنان قلبه عليه السلام استقراره وعدم طلبه لشيء آخر بعد المشاهدة ، مع كونه موقناً بإحياء الموتى قبل المشاهدة . أيضاً وليس المراد أنه لم يكن متيقناً قبل الاِرائة ، فلم يكن مطمئناً ليلزم تحقق الاِيمان مع الظن فقط .
وأيضاً إنما طلب عليه السلام كيفية الاِحياء ، فخوطب بالاِستفهام التقريري على الاِيمان بالكيف الذي هو نفس الاِحياء ، لاَن التصديق به مقدم على التصديق بالكيفية فأجاب عليه السلام بلى آمنت بقدرة الله تعالى على الاِحياء ، لكني أريد الاِطلاع على كيفية الاِحياء ، ليطمئن قلبي بمعرفة تلك الكيفية الغريبة ، البديعة ، ولا ريب أن الجهل بمعرفة تلك الكيفية لا يضر بالاِيمان ، ولا يتوقف على معرفتها . وأما سؤال الله سبحانه عن ذلك مع كونه عالماً بالسرائر ، فهو من قبيل خطاب المحب لحبيبه .
إن قلت : فما الجواب أيضاً عن قوله تعالى : وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ، فإنه يفهم من الآية الكريمة وصف الكافر المشرك بالاِيمان حال شركه ، إذ الجملة الاِسمية حالية ، فضلاً عن الاِكتفاء بالظن وما في حكمه في الاِيمان ، وهو ينافي اعتبار اليقين .
قلت : لا ، فإن الآية الكريمة إنما دلت على إخباره تعالى عنهم بالاِيمان بالصانع والتصديق بوجوده ، لكنهم لم يوحدوه في حالة تصديقهم به ، بل اعتقدوا له شريكاً
( 190 )
تعالى الله عما يشركون . وحينئذ فيجوز كونهم جازمين بوجود الصانع تعالى مع كونهم غير موحدين ، فإن التوحيد مطلب آخر ، فكفرهم كان كذلك ، فلم يتحقق لهم الاِيمان الشرعي بل الاِيمان جزء منه ، وهو غير كاف .
على أنه يجوز أن يكون المراد من الاِيمان المنسوب إليهم في الآية الكريمة التصديق اللغوي ، وقد بينا سابقاً أنه أعم من الشرعي ، وليس النزاع فيه بل في الشرعي . ويكون المعنى والله أعلم : وما يؤمن أكثرهم بلسانه إلا وهو مشرك بقلبه ، أي حال إشراكه بقلبه ، نعوذ بالله من الضلالة . ونسأله حسن الهداية . هذا ما تيسر لنا من المقال في هذا المقام .

ـ شرح المقاصد للتفتازاني ج 1 ص 266
. . . . الثالث : أنا لا نسلم أن المعرفة الكاملة لا تحصل إلا بالنظر ، بل قد تحصل بالتعليم على ما يراه الملاحدة .. أو بقول المعصوم على ما يراه الشيعة . . . .

 

18198636_435359836799574_4320675144995640987_n

شاهد أيضاً

الأمان الرقمي للأسرة: كيفية إنشاء خطة عائلية للتعامل مع حوادث أمن المعلومات

تكنولوجيا وأمن معلومات  27/03/2024 الأمان الرقمي للأسرة: كيفية إنشاء خطة عائلية للتعامل مع حوادث أمن ...