الرئيسية / بحوث اسلامية / توحيد المفضل للمفضل بن عمر

توحيد المفضل للمفضل بن عمر

(الحواس الخمس وأعمالها وما في ذلك من الأسرار)

 فلما لم يكن لها في شيء من هذه الأعضاء موضع، كان الرأس أسنى المواضع للحواس، وهو بمنزلة الصومعة لها. فجعل الحواس خمسا تلقى خمسا لكي لا يفوتها شيء من المحسوسات.. فخلق البصر ليدرك الألوان فلو كانت الألوان ولم يكن بصر يدركها. لم تكن فيها منفعة. وخلق السمع ليدرك الأصوات، فلو كانت الأصوات ولم يكن سمع يدركها، لم يكن فيها إرب، وكذلك سائر الحواس. ثم هذا يرجع متكافيا، فلو كان بصر ولم تكن الألوان، لما كان للبصر معنى، ولو كان سمع ولم تكن أصوات، لم يكن للسمع موضع. (تقدير الحواس بعضها يلقى بعضا) فانظر كيف قدر بعضها يلقى بعضا، فجعل لكل حاسة محسوسا (1) يعمل فيه. ولكل محسوس (2) حاسة تدركه، ومع هذا فقد جعلت أشياء متوسطة بين الحواس والمحسوسات، لا تتم الحواس إلا بها، كمثل الضياء والهواء، فإنه لو لم يكن ضياء يظهر اللون للبصر، لم يكن البصر يدرك اللون، ولم لم يكن هواء يؤدي الصوت إلى السمع، لم يكن السمع يدرك الصوت. فهل يخفى عليه من صح نظره وأعمل فكره، إن مثل هذا الذي وصفت من

(هامش)

(1 – 2) لعل الأصل في كلمة محسوس هنا هو (حس) ولا تأتي كلمة محسوس هنا، لأن حس بمعنى شعر وعلم فعل لازم، ومن البديهي عدم جواز صيغة اسم المفعول من الفعل اللازم، إلا إذا عدي بحرف الجر أو جاء مع المصدر أو الظرف، ويأتي فعل حسن متعديا بغير هذا المعنى، فيقال: حسه إذا قتله واستأصله. (*)

ص 23

تهيئه الحواس والمحسوسات بعضها يلقى بعضا، وتهيئة أشياء أخر بها تتم الحواس، لا يكون إلا بعمل وتقدير من لطيف خبير.

 (فيمن عدم البصر والسمع والعقل وما في ذلك من الموعظة)

 فكر مفضل فيمن عدم البصر من الناس. وما يناله من الخلل في أموره، فإنه لا يعرف موضع قدميه، ولا يبصر ما بين يديه، فلا يفرق بين الألوان، وبين المنظر الحسن والقبيح، ولا يرى حفرة إن هجم عليها ولا عدوا إن أهوى إليه بسيف، ولا يكون له سبيل إلى أن يعمل شيئا من هذه الصناعات مثل الكتابة والتجارة والصياغة. حتى إنه لولا نفاذ ذهنه لكان بمنزلة الحجر الملقى. وكذلك من عدم السمع، يختل في أمور كثيرة، فإنه يفقد روح المخاطبة والمحاورة، ويعدم لذة الأصوات واللحون المشجية والمطربة، وتعظم المؤنة على الناس في محاورته. حتى يتبرموا به، ولا يسمع شيئا من أخبار الناس وأحاديثهم، حتى يكون كالغائب وهو شاهد، أو كالميت وهو حي. فأما من عدم العقل، فإنه يلحق بمنزلة البهائم، بل يجهل كثيرا مما تهتدى إليه البهائم، أفلا ترى كيف صارت الجوارح والعقل، وسائر الخلال (1) التي بها صلاح الإنسان، والتي لو فقد منها شيئا لعظم ما يناله في ذلك من الخلل، يوافي (2) خلقه على التمام حتى لا يفقد شيئا منها، فلم كان كذلك؟ إلا أنه خلق بعلم وتقدير.

(هامش)

(1) الخلال: جمع خلة وهي الخصلة. (2) يوافي خبر إلى صارت المتقدمة قبل سطرين. (*)

ص 24

قال المفضل: فقلت فلم صار بعض الناس يفقد شيئا من هذه الجوارح فيناله من ذلك مثل ما وصفته يا مولاي؟ قال عليه السلام: ذلك للتأديب والموعظة لمن يحل ذلك به ولغيره بسببه كما يؤدب الملوك الناس للتنكيل والموعظة، فلا ينكر ذلك عليهم، بل يحمد من رأيهم، ويتصوب من تدبيرهم. ثم إن للذين تنزل بهم هذه البلايا من الثواب بعد الموت – إن شكروا وأنابوا – ما يستصغرون معه ما ينالهم منها، حتى أنهم لو خيروا بعد الموت لاختاروا أن يردوا إلى البلايا ليزدادوا من الثواب.

 (الأعضاء المخلوقة أفرادا وأزواجا وكيفية ذلك)

 فكر يا مفضل في الأعضاء التي خلقت أفرادا وأزواجا، وما في ذلك من الحكمة والتقدير، والصواب في التدبير. فالرأس مما خلق فردا، ولم يكن للإنسان صلاح في أن يكون له أكثر من واحد. ألا ترى أنه لو أضيف إلى رأس الإنسان رأس آخر لكان ثقلا عليه، من غير حاجة إليه، لأن الحواس التي يحتاج إليها مجتمعة في رأس واحد. ثم كان الإنسان ينقسم قسمين لو كان له رأسان، فإن تكلم من أحدهما كان الآخر معطلا لا أرب فيه ولا حاجة إليه، وإن تكلم منهما جميعا بكلام واحد كان أحدهما فضلا لا يحتاج إليه، وإن تكلم بأحدهما بغير الذي تكلم به من الآخر، لم يدر السامع بأي ذلك يأخذ وأشباه هذا من الأخلاط. واليدان مما خلق أزواجا، ولم يكن للإنسان خير في أن يكون له يد

ص 25

واحدة لأن ذلك كان يخل به (1) فيما يحتاج إلى معالجته من الأشياء ألا ترى أن النجار والبناء لو شلت إحدى يديه لا يستطيع أن يعالج صناعته، وإن تكلف ذلك لم يحكمه، ولم يبلغ منه ما يبلغه إذا كانت يداه تتعاونان على العمل.

 (الصوت والكلام وتهيئة آلاته في الإنسان وعمل كل منها)

 أطل الفكر يا مفضل في الصوت والكلام وتهيئة آلاته في الإنسان فالحنجرة كالأنبوبة لخروج الصوت، واللسان والشفتان والأسنان لصياغة الحروف والنغم. ألا ترى أن من سقطت أسنانه لم يقم السين، ومن سقطت شفته لم يصحح الفاء، ومن ثقل لسانه لم يفصح الراء، وأشبه (2) شيء بذلك المزمار (3) الأعظم، فالحنجرة تشبه قصبة المزمار، والرئة تشبه الزق (4) الذي ينفخ فيه لتدخل الريح، والعضلات التي تقبض على الرئة ليخرج الصوت كالأصابع التي تقبض على الزق حتى تجري الريح في المزامير والشفتان والأسنان التي تصوغ الصوت حروفا ونغما كالأصابع تختلف في فم المزمار فتصوغ صفيره ألحانا غير أنه وإن كان مخرج الصوت يشبه المزمار بالآلة والتعريف فإن المزمار – في الحقيقة – هو المشبه بمخرج الصوت.

(هامش)

(1) يقال: أخل بالشيء إذا قصر فيه. (2) يظهر أن الجملة ناقصة وتكملتها: (مخرج الصوت أشبه شيء). (3) المزمار: الآلة التي يزمر فيها – جمعها مزامير. (4) المراد بالزق هنا الجلد الذي يستعمل في المزمار. (*)

ص 26

(ما في الأعضاء من المآرب الأخرى)

 قد أنبأتك بما في الأعضاء من الغناء في صنعة الكلام وإقامة الحروف، وفيها مع الذي ذكرت لك مآرب أخرى. فالحنجرة ليسلك فيها هذا النسيم إلى الرئة، فتروح على الفؤاد بالنفس الدائم المتتابع الذي لو حبس شيئا يسيرا لهلك الإنسان، وباللسان تذاق الطعوم، فيميز بينها، ويعرف كل واحد منها حلوها من مرها وحامضها من مرها ومالحها من عذبها وطيبها من خبيثها، وفيه مع ذلك معونة على إساغة الطعام والشراب والأسنان لمضغ الطعام حتى يلين وتسهل إساغته، وهي مع ذلك كالسند للشفتين تمسكهما وتدعمهما من داخل الفم واعتبر ذلك فإنك ترى من سقطت أسنانه مسترخي الشفة ومضطربها، وبالشفتين يترشف (1) الشراب، حتى يكون الذي يصل إلى الجوف منه بقصد وقدر، لا يثج (2) ثجا، فيغص به الشارب، أو ينكأ (3) في الجوف، ثم همى (4) بعد ذلك كالباب المطبق على الفم يفتحها الإنسان إذا شاء ويطبقها إذا شاء. وفيما وصفنا من هذا بيان. إن كل واحد من هذه الأعضاء يتصرف، وينقسم إلى وجوه من المنافع كما تتصرف الأداة الواحدة في أعمال شتى، وكالفأس تستعمل في النجارة والحفر وغيرهما من الأعمال.

(هامش)

(1) ترشف الشراب أي بالغ في مصه. (2) ثج يثج تجا: أساله. (3) لعله أراد أنه يقع في غير ما حاجة. (4) همى الماء سال لا يثنيه شيء. (*)

ص 27

(الدماغ وأغشيته والجمجمة وفائدتها)

 ولو رأيت الدماغ إذا كشف عنه لرأيته قد لف بحجب بعضها فوق بعض لتصونه من الأعراض، وتمسكه فلا يضطرب. ولرأيت عليه الجمجمة بمنزلة البيضة، كيما تقيه (1) هد الصدمة، والصكة التي ربما وقعت في الرأس ثم قد جللت الجمجمة بالشعر، حتى صارت بمنزلة الفرو للرأس يستره من شدة الحر والبرد، فمن حصن الدماغ هذا التحصين، إلا الذي خلقه وجعله ينبوع الحس، والمستحق للحيطة والصيانة، بعلو منزلته من البدن وارتفاع درجته، وخطير مرتبته. (الجفن وأشفاره) تأمل يا مفضل: الجفن على العين كيف جعل كالغشاء والأشفار (2) كالأشراح (3) وأولجها (4) في هذا الغار، وأظلها بالحجاب. وما عليه من الشعر. (الفؤاد ومدرعته) يا مفضل من غيب الفؤاد جوف الصدر، وكساه المدرعة (5) التي

(هامش)

(1) في نسخة يفته بدلا عن تقيه، ويفته من الفت وهو الكسر. (2) الأشفار جمع شفر وهو أصل منبت الشعر في الجفن. (3) الأشراح: العرى. (4) أولجها: أدخلها. (5) كأن المراد بالمدرعة هنا ثوب الجديد فالمدرعة في الأصل جبة مشقوقة المقدم أو كما عند اليهود ثوب من كتان كان يلبسه عظيم أحبارهم ولكن الذي يريده الإمام من حد قولهم درع، إذا لبس درع الحديد. (*)

ص 28

غشاؤه، وحصنه بالجوانح وعليها من اللحم والعصب، لئلا يصل إليه ما ينأكه (1).

 (الحلق والمرئ)

 من جعل في الحلق منفذين أحدهما لمخرج الصوت وهو الحلقوم المتصل بالرئة، والآخر منفذا للغذاء، وهو المرئ (2) المتصل بالمعدة الموصل الغذاء إليها، وجعل على الحلقوم طبقا يمنع الطعام أن يصل إلى الرئة فيقتل، (الرئة وعملها.. أشراج منافذ البول والغائط) من جعل الرئة مروحة الفؤاد لا تفتر ولا تختل لكيلا تتحير (3) الحرارة في الفؤاد، فتؤدي إلى التلف؟. من جعل لمنافذ البول والغائط أشراجا (4). تضبطهما، لئلا يجريا جريانا دائما، فيفسد على الإنسان عيشه فكم عسى أن يحصى المحصى من هذا، بل الذي لا يحصى منه ولا يعلمه الناس أكثر. (المعدة عصبانية والكبد) من جعل المعدة عصبانية شديدة وقدرها لهضم الطعام الغليظ؟ ومن

(هامش)

(1) نكأه: جرحه وآذاه. (2) المري: هو العرق الذي يمتلئ ويدر باللبن جمعه مرايا، وقد أبان الإمام وظيفة المري وعمله بتعبير لطيف. (3) تحيرت الحرارة: ترددت كأنها لا تدري كيف تجري فتجمعت وفي نسخة تتحيز وليس لها معنى مستقيم. (4) الأشراج جمع شرج وهو في الأصل الشقاق في القوس، وقد استعار الإمام منها معنى لمنافذ البول والغائط. (*)

ص 29

جعل الكبد رقيقة ناعمة لقبول الصفو (1) اللطيف من الغذاء، ولتهضم وتعمل ما هو الطف من عمل المعدة إلا الله القادر؟ أترى الإهمال يأتي بشيء من ذلك؟ كلا! بل هو تدبير مدبر حكيم قادر، عليم بالأشياء قبل خلقه إياها، لا يعجزه وهو اللطيف الخبير.

 (المخ والدم والأظفار والأذن ولحم الأليتين والفخذين)

 فكر يا مفضل لم صار المخ الرقيق محصنا في أنابيب العظام؟ وهل ذلك إلا ليحفظه ويصونه؟. لم صار الدم السائل محصورا في العروق بمنزلة الماء في الظروف (2). إلا لتضبطه فلا يفيض؟. لم صارت الأظفار على أطراف الأصابع إلا وقاية لها ومعونة على العمل؟ لم صار داخل الأذن ملتويا كهيأة اللولب (3) إلا ليطرد فيه الصوت، حتى ينتهي إلى السمع، وليكسر حمة الريح، ينكأ في السمع؟ لم حمل الإنسان على فخذيه وأليتيه اللحم، إلا ليقيه من الأرض، فلا يتألم من الجلوس عليها، كما يألم من نحل جسمه وقل لحمه، إذا لم يكن بينه وبين الأرض حائل يقيه صلابتها. (الإنسان ذكر وأنثى وتناسله وآلات العمل وحاجته وحيلته وإلزامه بالحجة) من جعل الإنسان ذكر أو أنثى إلا من خلقه متناسلا؟ ومن خلقه متناسلا إلا من خلقه مؤملا؟ ومن أعطاه آلات العمل إلا خلقه عاملا؟ ومن خلقه

(هامش)

(1) الصفو من كل شيء: خالصه وخياره. (2) الظروف جمع ظرف وهو كل ما يستقر فيه غيره ويغلب استعماله للقربة والسقاء. (3) اللولب! آلة من خشب أو حديد ذات محور ذي دوائر ناتئة وهو الذكر أو داخله وهو الأنثى جمعه لوالب. (*)

ص 30

عاملا إلا من جعله محتاجا؟ ومن جعله محتاجا من ضربه بالحاجة؟ (1). ومن ضربه بالحاجة إلا من توكل بتقويمه؟ (2) ومن خصه بالفهم إلا من أوجب الجزاء؟ ومن وهب الحيلة إلا من ملكه الحول (3) ومن ملكه الحول إلا من ألزمه الحجة؟ ومن يكفيه ما لا تبلغه حيلته إلا من يبلغ مدى شكره. فكر وتدبر ما وصفته. هل تجد الإهمال يأتي مثل هذا النظام والترتيب تبارك الله تعالى عما يصفون.

 (الفؤاد وثقبه المتصلة بالرئة)

 أصف لك الآن يا مفضل الفؤاد… أعلم أن فيه ثقبا موجهة نحو الثقب التي في الرئة تروح عن الفؤاد، حتى لو اختلفت تلك الثقب وتزايل بعضها عن بعض، لما وصل الروح إلى الفؤاد، ولهلك الإنسان أفيستجيز ذو فكرة وروية أن يزعم مثل هذا يكون بالإهمال، ولا يجد شاهدا من نفسه يزعه (4) عن هذا القول؟ لو رأيت فردا من مصراعين فيه كلوب (5) أكنت تتوهم أنه جعل كذلك بلا معنى؟ بل كنت تعلم ضرورة أنه مصنوع يلقى فردا آخر، فيبرزه ليكون اجتماعهما ضرب من المصلحة. وهكذا تجد الذكر من الحيوان، كأنه فرد من زوج مهيأ من فرد أنثى، فيلتقيان فيه من دوام النسل وبقائه، فتبا (6) وخيبة وتعسا لمنتحلي الفلسفة كيف عميت قلوبهم عن هذه

(هامش)

(1) أي سبب له أسباب الاحتجاج أو خلقه بحيث يحتاج. (2) أي تكفل برفع حاجته وتقويم أوده. (3) الحول مصدر بمعنى القدرة والقوة على التصرف وجودة النظر والحذق. (4) يزعه: يكفه ويمنعه. (5) الكلوب – بفتح الأول – وتشديد الثاني – المهماز أو حديدة معطوفة الرأس يجر بها الجمر أو خشبة في رأسها عقافة منها أو من حديد والجمع كلاليب. (6) تبا لفلان تنصبه على المصدر بإضمار فعل أي ألزمه الله هلاكا وخسرانا. (*)

ص 31

الخلقة العجيبة حتى أنكروا التدبير والعمد فيها؟.

 (فرج الرجل والحكمة فيه)

 لو كان فرج الرجل مسترخيا، كيف يصل إلى قعر الرحم، حتى يفرغ النطفة فيه؟ ولو منعضا (1) أبدا كيف كان الرجل يتقلب في الفراش، أو يمشي بين الناس وشيء شاخص أمامه، ثم يكون في ذلك مع قبح المنظر تحريك الشهوة في كل وقت من الرجال والنساء جميعا، فقدر الله جل اسمه أن يكون أكثر ذلك لا يبدو للبصر في كل وقت، ولا يكون على الرجال مؤنة، بل جعل فيه قوة الانتصاب وقت الحاجة إلى ذلك، لما قدر أن يكون فيه من دوام النسل وبقائه.

 (منفذ الغائط ووصفه)

 اعتبر الآن يا مفضل بعظم النعمة الإنسان في مطعمه ومشربه وتسهيل خروج الأذى. أليس من حسن التقدير في بناء الدار أن يكون الخلاء في أستر موضع منها، فكذا جعل الله سبحانه المنفذ المهيأ للخلاء من الإنسان في أستر موضع منه، فلم يجعله بارزا خلفه، ولا ناشزا من بين يديه، بل هو منيب في موضع غامض من البدن، مستور محجوب، يلتقي عليه الفخذان، وتحجبه الأليتان بما عليهما من اللحم فتواريانه، فإذا احتاج الإنسان إلى الخلاء، وجلس تلك الجلسة الفى ذلك المنفذ منه منصبا، مهيأ لانحدار الثقل (3). فتبارك من تظاهرت آلاؤه ولا تحصى نعماؤه.

(هامش)

(1) المنعض كأنه مأخوذ من العض وهو القرن يريد أنه صلب شديد. (2) الفى. وجد. (3) الثفل – بالضم – ما يستقر في أسفل الشيء من كدرة. (*)

ص 32

(الطواحن من أسنان الإنسان)

 فكر يا مفضل في الطواحن (1)، التي جعلت للإنسان، فبعضها حداد (2) لقطع الطعام وقرضه، وبعضها عراض (3) لمضغه ورضه، فلم ينقص واحد الصفتين، إذ كان محتاجا إليهما جميعا. ( الشعر والأظفار وفائدة قصهما) تأمل واعتبر بحسن التدبير في خلق الشعر والأظفار، فإنهما لما كانا مما يطول ويكثر، حتى يحتاج إلى تخفيفه أولا فأولا، جعلا عديما الحس، لئلا يؤلم الإنسان الأخذ منهما. وكان قص الشعر وتقليم الأظفار مما يوجد له ألم، وقع من ذلك بين مكروهين، أما أن يدع كل واحد منهما حتى يطول فيثقل عليه، وأما أن يخففه بوجع وألم يتألم منه. قال المفضل فقلت: فلم لم يجعل خلقه لا تزيد فيحتاج الإنسان إلى النقصان منه، فقال عليه السلام: إن لله تبارك اسمه في ذلك على العبد نعما لا يعرفها، فيحمده عليها.. أعلم أن آلام البدن وأدواءه (4) تخرج بخروج الشعر في مسامه (5) وبخروج الأظفار من أناملها، ولذلك أمر الإنسان بالنورة،

(هامش)

(1) الطواحن جمع طاحن وهو الضرس. (2) حداد أي قاطعة. (3) عراض جمع عريض ضد طويل، وربما أريد بن المعارضة وهي السن التي في عرض الفم أو ما يبدو من الفم عند الضحك. (4) الأدواء جمع داء وهو المرض والعلة. (5) المسام من الجلد ثقبه ومنافذه كمنابت الشعر، ومنهم من يجعلها جمع سم أي الثقب مثل محاسن وحسن. (*)

ص 33

وحلق الرأس، وقص الأظفار، في كل أسبوع ليسرع الشعر والأظفار في النبات، فتخرج الآلام والأدواء بخروجهما (1)… وإذا طالا تحيرا، وقل خروجهما، فاحتبست الآلام والأدواء في البدن فأحدثت عللا وأوجاعا، ومنع – مع ذلك – الشعر من المواضع تضر بالإنسان، وتحدث عليه الفساد والضر لو نبت الشعر في العين، ألم يكن سيعمي البصر؟ ولو نبت في الفم، ألم يكن سينغص على الإنسان طعامه وشرابه؟ ولو نبت في باطن الكف، ألم يكن سيعوقه عن صحه اللمس وبعض الأعمال؟ ولو نبت في فرج المرأة وعلى ذكر الرجل، ألم يكن سيفسد عليهما لذة الجماع؟….. فانظر كيف تنكب (2) الشعر عن هذه المواضع، لما في ذلك من المصلحة، ثم ليس هذا في الإنسان فقط، بل تجده في البهائم والسباع وسائر المتناسلات، فإنك ترى أجسامها مجللة بالشعر وترى هذه المواضع خالية منه لهذا السبب بعينه.. فتأمل الخلقة كيف تتحرز (3) وجوه الخطأ والمضرة، وتأتي بالصواب والمنفعة.

 (شعر الركب والإبطين)

 إن المنانية (4) وأشباههم، حين أجهدوا في عيب الخلقة والعمد (5) عابوا. الشعر النابت على الركب والإبطين، ولم يعلموا ذلك من رطوبة تنصب إلى هذه المواضع، فينبت الشعر كما ينبت العشب في مستنقع المياه أفلا ترى إلى هذه المواضع أستر وأهيأ لقبول تلك الفضلة من غيرها؟؟… ثم إن هذه تعد

(هامش)

(1) يؤيد هذا الرأي علم الطب الحديث، وإن كانت نظرية التطور تقول بأن الشعر والأظافر من الزوائد الحيوانية الأولى التي لم يعد لها نفع ولا فائدة. (2) تنكب عليه: عدل عنه وتجنبه. (3) احترز منه وتحرز أي تحفظه وتوقاه كأنه جعل نفسه في حرز منه. (4) المنانية أو المانوية سبق الكلام عنها في أوائل الكتاب. (5) يقال فعله عمدا وعن عمد أي قصدا لا عن طريق الصدفة. (*)

ص 34

مما يحمل الإنسان من مؤنه هذا البدن وتكاليفه لما له في ذلك من المصلحة، فإن اهتمامه بتنظيف بدنه. وأخذ ما يعلوه من الشعر، مما يكسر به شرته (1) ويكف عاديته (2) ويشغله عن بعض ما يخرجه إليه الفراغ من الأشر (3) والبطالة.

 (الريق وما فيه من المنفعة)

 تأمل الريق وما فيه من المنفعة، فإنه جعل يجري جريانا دائما إلى الفم، ليبل الحلق واللهوات (4) فلا يجف، فإن هذه المواضع لو جعلت كذلك، كان فيه هلاك الأسنان ثم كان لا يستطيع أن يسيغ (5) طعاما، إذا لم يكن في الفم بلة تنفذه، تشهد بذلك المشاهدة، وأعلم أن الرطوبة مطية الغذاء وقد تجري من هذه البلة إلى مواضع أخر من المرة (6) فيكون في ذلك صلاح تام للإنسان، ولو يبست المرة لهلك الإنسان. ( محاذير كون بطن الإنسان كهيئة القباء) ولقد قال قوم من جهلة المتكلمين وضعفة المتفلسفين بقلة التمييز وقصور العلم: لو كان بطن الإنسان كهيئة القباء (7) يفتحه الطبيب إذا شاء فيعاين ما

(هامش)

(1) الشرة – بكسر فتشديد – الحدة والنشاط أو الشر. (2) العادية: الحدة والغضب أو الشغل أو الظلم والشر. (3) الأشر – بفتحتين – البطر وشدة الفرح والجمع أشرون وأشارى. (4) اللهوات جمع لهاة وهي اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى سقف الفم. (5) أساغ الطعام يسيغه سيغا: سهل مطعمه. (6) المرة – بالكسر – خلط من أخلاط البدن وهو الصفراء أو السوداء والجمع مرار. (7) القباء – بالفتح – ثوب يلبس فوق الثياب جمعه أقبية. (*)

ص 35

فيه، ويدخل يده فيعالج ما أراد علاجه ألم يكن أصلح من أن يكون مصمتا (1) محجوبا عن البصر واليد، لا يعرف ما فيه إلا بدلالات غامضة، كمطل النظر إلى البول، وجس العرق، وما أشبه ذلك مما يكثر فيه الغلط والشبهة، حتى ربما كان ذلك سببا للموت، فلو علم هؤلاء الجهلة أن هذا لو هكذا، كان أول ما فيه إن كان يسقط عن الإنسان الوجل من الأمراض والموت وكان يستشعر البقاء ويغتر بالسلامة فيخرجه ذلك إلى العتو (2) والأشر (3). ثم كانت الرطوبات في البطن تترشح وتتحلب (4) فيفسد على الإنسان مقعده ومرقده وثياب بدلته وزينته، بل كان يفسد عيشه، ثم إن المعدة والكبد والفؤاد إنما تفعل أفعالها بالحرارة الغريزية التي جعلها الله محتبسة في الجوف، فلو كان في البطن فرج ينفتح حتى يصل البصر إلى رؤيته، واليد إلى علاجه، لوصل برد الهواء إلى الجوف، فمازج الحرارة الغريزية، وبطل عمل الأحشاء، فكان في ذلك هلاك الإنسان، أفلا ترى أن كل ما تذهب إليه الأوهام – سوى ما جاءت به الخلقة – خطأ وخطل (5).

شاهد أيضاً

الحجاب النوراني والحجاب الظلماني

لكن أنواع ذلك الجلال هو اشراقاتي وهو لفرط العظمة والنورانية واللانهائية، يبعد عنها العاشق بعتاب ...