الرئيسية / بحوث اسلامية / توحيد المفضل للمفضل بن عمر

توحيد المفضل للمفضل بن عمر

(أفعال الإنسان في الطعم والنوم والجماع وشرح ذلك)

 فكر يا مفضل في الأفعال جعلت في الإنسان من الطعم والنوم والجماع وما دبر فيها… فإنه جعل لكل واحد منها في الطباع نفسه محرك

(هامش)

(1) مصمت اسم مفعول الذي لا جوف له. (2) العتو: الاستكبار وتجاوز الحد. (3) الأشر – بفتحتين – من أشر أي بطر ومرح فهو أشر وأشران وجمعه آشرون وأشارى. (4) ترشح وتحلب بمعنى واحد وهو السيلان. (5) الخطل: المنطق الفاسد المضطرب. (*)

ص 36

يقتضيه ويستحث به، فالجوع يقتضي الطعم الذي فيه راحه البدن وقوامه والكرى (1) يقتضي النوم الذي فيه راحة البدن واجمام (2) قواه، والشبق (3) يقتضي الجماع الذي فيه دوام النسل وبقاؤه.. ولو كان الإنسان إنما يصير إلى أكل الطعام، لمعرفته بحاجة بدنه إليه، ولم يجد من طباعه شيئا يضطره إلى ذلك، كان خليقا أن يتوانى (4) عنه أحيانا بالثقل والكسل، حتى ينحل؟؟ بدنه فيهلك، كما يحتاج الواحد الدواء لشيء مما يصلح به بدنه فيدافع به حتى يؤديه ذلك إلى المرض والموت، وكذلك لو كان إنما يصير إلى النوم بالفكر في حاجته إلى راحه البدن واجمام قواه كان عسى أن يتثاقل عن ذلك، فيدفعه ينهك بدنه. ولو كان إنما يتحرك للجماع بالرغبة في الولد كان غير بعيد أن يفتر عنه، حتى يقل النسل أو ينقطع فإن من الناس من لا يرغب في الولد، ولا يحفل به. فانظر كيف جعل لكل واحد من هذه الأفعال التي بها قوام الإنسان وصلاحه، محركا من نفس الطبع يحركه لذلك، ويحدوه عليه. وأعلم أن في الإنسان قوى أربعا قوة جاذبة تقبل الغذاء وتورده على المعدة. وقوة ماسكة تحبس الطعام، حتى تفعل فيه الطبيعة فعلها، وقوة هاضمة، وهي التي تطبخه، وتستخرج صفوه، وتبثه في البدن، وقوة دافعة تدفعه وتحدر الثفل (5) الفاضل، بعد أخذ الهاضمة حاجتها.. ففكر في تقدير هذه القوى الأربع التي في البدن وأفعالها وتقديرها للحاجة إليها والأرب فيها، وما في ذلك من التدبير والحكمة، فلولا الجاذبة كيف كان يتحرك الإنسان لطلب الغذاء الذي به قوام البدن؟ ولولا الماسكة كيف

(هامش)

(1) الكرى: النعاس. (2) الاجمام من الجمام وهو الراحة يقال: جم الفرس إذا ذهب إعياؤه. (3) يتوانى: يقصر. (4) الشبق بفتحتين شدة الشهوة. (5) الثفل هو ما يستقر في أسفل الشيء من كدرة. (*)

ص 37

كان يلبث الطعام في الجوف تهضمه المعدة؟ ولولا الهاضمة كيف كان ينطبخ (1) حتى يخلص منه الصفو الذي يغذو البدن ويسد خلله (2) ولولا الدافعة كيف كان الثفل الذي تخلفه الهاضمة يندفع ويخرج أولا فأولا؟ أفلا ترى كيف وكل الله سبحانه – بلطف صنعه وحسن تقديره – هذه القوى بالبدن، والقيام بما فيه صلاحه… وسأمثل لك في ذلك مثالا: إن البدن بمنزلة دار الملك، له فيها حشم (3) وصبية وقوام (4) موكلون بالدار، فواحد لقضاء حوائج الحشم وإيرادها (5) عليهم، وآخر لقبض ما يرد وخزنه، إلى أن يعالج ويهيأ، وآخر لعلاج ذلك وتهيئته وتفريقه، وآخر لتنظيف ما في الدار من الأقذار وإخراجه منها، فالملك في هذا هو الخلاق الحكيم ملك العالمين، والدار هي البدن، والحشم هم (6) الأعضاء، والقوام هم (7) هذه القوى الأربع. ولعلك ترى ذكرنا هذه القوى الأربع وأفعالها – بعد الذي وصفت – فضلا وتزدادا (8) وليس ما ذكرته من هذه القوى على الجهة التي ذكرت في كتب الأطباء ولا قولنا فيه كقولهم، لأنهم ذكروها على ما يحتاج في صناعة الطب وتصحيح الأبدان، وذكرناها على ما يحتاج في صلاح الدين وشفاء النفوس من الغي (9) كالذي أوضحته بالوصف الشافي والمثل المضروب من التدبير والحكمة فيها.

(هامش)

(1) انطبخ مطاوع طبخ تقول طبخ اللحم أي أنضجه. (2) الخلل جمع خلة – بالفتح – وهي القبة. (3) الحشم: الخدم والعيال أو من يغضبون له أو يغضب لهم من أهل وعبيد وجيرة. (4) لعل القوام جمع قيم إذ القيم على الأمر هو المتولي عليه. (5) أورده إيرادا أي أحضره المورد ثم استعمل المطلق الأحضار. (6) (7) في بعض النسخ هي. (8) لعل الأصل في الكلمة مزيدا من الزيادة أو تزيدا من قولك تزيد الرجل في حديثه أي زخرفة وزاد فيه على الحقيقة، وتزيد في الشيء أي تكلف الزيادة فيه. (9) الغي: الضلال والهلاك والخيبة. (*)

ص 38

(قوى النفس وموقعها من الإنسان)

 تأمل يا مفضل هذه القوى في النفس، وموقعها من الإنسان، أعني الفكر والوهم والعقل والحفظ وغير ذلك، أفرأيت لو نقص الإنسان من هذه الخلال (1) الحفظ وحده، كيف كانت تكون حاله، وكم من خلل كان يدخل عليه في أموره ومعاشه وتجاربه، إذا لم يحفظ ما له وما عليه وما أخذه وما أعطى وما رأى وما سمع وما قال وما قيل له ولم يذكر من أحسن إليه ممن أساء به، وما نفعه مما ضره ثم كان لا يهتدي لطريق لو سلكه ما لا يحصى، ولا يحفظ علما ولو درسه عمره ولا يعتقد دينا، ولا ينتفع بتجربة، ولا يستطيع أن يعتبر شيئا على ما مضى بل كان حقيقا أن ينسلخ من الإنسانية. (النعمة على الإنسان في الحفظ والنسيان) فانظر إلى النعمة على الإنسان في هذه الخلال، وكيف موقع الواحدة منها دون الجميع، وأعظم من النعمة على الإنسان، في الحفظ النعمة في النسيان، فإنه لولا النسيان لما سلا (2) أحد عن مصيبة، ولا انقضت له حسرة، ولا مات له حقد، ولا استمتع بشيء من متاع الدنيا مع تذكر الآفات، ولا رجاء غفلة من سلطان، ولا فترة من حاسد. أفلا ترى كيف جعل في الإنسان الحفظ والنسيان وهما مختلفان متضادان، وجعل له في كل منهما ضربا من المصلحة. وما عسى أن يقول الذين قسموا الأشياء بين خالقين متضادين في هذه الأشياء المتضادة المتباينة، وقد تراها تجتمع

(هامش)

(1) الخلال: جمع خلة بالفتح – وهي الخصلة والصفة. (2) سلا الشيء وسلا عنه: نسيه وهجره وطابت نفسه عنه وذهل عن ذكره. (*)

ص 39

على ما فيه الصلاح والمنفعة (1). (اختصاص الإنسان بالحياء دون بقية الحيوانات) أنظر يا مفضل إلى ما خص به الإنسان دون جميع الحيوان من هذا الخلق، الجليل قدره العظيم غناؤه، أعني: الحياء. فلولاه لم يقر ضيف (2) ولم يوف بالعداة، ولم تقض الحوائج، ولم يتحر الجميل، ولم يتنكب (3) القبيح في شيء من الأشياء، حتى أن كثيرا من الأمور المفترضة أيضا إنما يفعل للحياء فإن من الناس من لولا الحياء لم يرع حق والديه ولم يصل ذا رحم، ولم يؤد أمانة، ولم يعف عن فاحشة.. أفلا ترى كيف وفي الإنسان جميع الخلال التي فيها صلاحه وتمام أمره. (اختصاص الإنسان بالمنطق والكتابة) تأمل يا مفضل ما أنعم الله – تقدست أسماؤه – على الإنسان، من هذا المنطق الذي يعبر به عما في ضميره، وما يخطر بقلبه، وينتجه فكره وبه يفهم عن غيره ما في نفسه، ولولا ذلك كان بمنزلة البهائم المهملة، التي لا تخبر عن نفسها بشيء، ولا تفهم عن مخبر شيئا، وكذلك الكتابة التي بها تقيد أخبار الماضين للباقين وأخبار الباقين للآتين، وبها تخلد الكتب في العلوم والآداب وغيرها، وبها يحفظ الإنسان ذكر ما يجري بينه وبين غيره من المعاملات والحساب ولولاه لانقطع أخبار بعض الأزمنة عن

(هامش)

(1) يقول علم النفس الحديث أن النسيان عمل من أعمال الذهن كالتذكر تماما، وليس في مقدورنا أن نتذكر شيئا إلا إذا نسينا أشياء حتى ليمكن القول بأن الذاكرة هي أداة النسيان، ونحن نفكر بفضل ما نسينا، كما نفكر بفضل ما تذكرنا. (2) قرى الضيف: إضافة. (3) يتنكب: يتجنب. (*)

ص 40

بعض، وأخبار الغائبين عن أوطانهم، ودرست العلوم، وضاعت الآداب وعظم ما يدخل على الناس من الخلل في أمورهم ومعاملاتهم، وما يحتاجون إلى النظر فيه من أمر دينهم، وما روي لهم، مما لا يسعهم جهله، ولعلك تظن أنها مما يخلص إليه بالحيلة والفطنة، وليست مما أعطيه الإنسان من خلقه وطباعه. وكذلك الكلام، إنما هو شيء يصطلح الناس، فيجري بينهم ولهذا صار يختلف في الأمم المختلفة، وكذلك لكتابة العربي والسرياني والعبراني والرومي، وغيرها من سائر الكتابة، التي هي متفرقة في الأمم إنما اصطلحوا عليها، كما اصطلحوا على الكلام، فيقال لمن ادعى ذلك: إن الإنسان وإن كان له في الأمرين جميعا فعل أو حيلة، فإن الشيء الذي يبلغ به ذلك الفعل والحيلة، عطية وهبة من الله عز وجل له في خلقه، فإنه لو لم يكن له لسان مهيأ للكلام، وذهن يهتدي به للأمور، لم يكن ليتكلم أبدا ولو لم تكن له كف مهيئة وأصابع للكتابة، لم يكن ليكتب أبدا. واعتبر ذلك من البهائم التي لا كلام لها ولا كتابة، فأصل ذلك فطرة الباري جل وعز، وما تفضل به على خلقه، فمن شكر أثيب، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين. (1) (إعطاء الإنسان ما يصلح دينه ودنياه ومنعه مما سوى ذلك) فكر يا مفضل فيما أعطي الإنسان علمه وما منع، فإنه أعطي جميع علم ما فيه صلاح دينه ودنياه فمما فيه صلاح دينه معرفة الخالق تبارك

(هامش)

(1) كلام الإمام في بحث اللغات وشأنها هنا يشعر بأن الإنسان هو الذي وضع اللغات، بما خطره الله من قابلية المنطق وتعلم الكلام. (*)

شاهد أيضاً

محاولات هدم قبور الصالحين في التاريخ

‏‪ *محاولة نبش قبر امنة بنت وهب (رضوان الله تعالى عليها)*  *قال الحافظ ابن عقيل ...