الرئيسية / صوتي ومرئي متنوع / شبهات و ردود – المحقق السيد محمد رضا الحسيني الجلالي

شبهات و ردود – المحقق السيد محمد رضا الحسيني الجلالي

الشريعة الاسلامية من معين السنة النبوية بين حماية العلماء و تزييف العلمانيين

القسم الثالث

الفصل الثاني

 

مع مؤدّى العنوان

 

1 ـ حيادٌ أو انحياز ؟

إنّ الكاتب ، و على الرغم من دعواه عرض البحث بكلّ حياد ، و تجرّد ، لم يكن حيادياً في عرضه ما يرتبط بمسألة « تدوين الحديث » بالذات . فمثلا ، نجد إنحيازه واضحاً عندما يعرض أدلّة الطرفين حول « تدوين السنّة » إثباتاً ونفياً ، فيذكر في ص42 بعض أدلّة إباحة التدوين ، ويحاول في الهامشين 14 و 15 إيراد تضعيفها أو إسقاط رواتها ، و لكنّه لمّا يذكر أدلّة المنع ـ وقد بادر بذكرها في الأسبق ـ في بداية الفصل الثاني الذي عقده للبحث عن « التدوين » فهو لا يشير إلى أيّة نقطة ضعف في أدلّة المنع ، و لا خدشة في رواتها ! و نفس عمله في عنوان الفصل الثاني ، المعقود لجمع أدلّة الطرفين ، لكنّه عنونه بـ« النهي عن تدوين السنّة » ينمّ عن روح الإنحياز والتطرّف إلى جهة المنع ، وكذلك عنوان الفصل الثالث الذي يليه و هو « إمساك الصحابة عن تدوين السنّة » و أمّا الفصل الرابع المعنون « إباحة تدوين السنّة » فهو يعنى بفترة ما بعد القرن الأوّل ، مع أنّه قد بدأه بقوله : « مضى القرن الأوّل للهجرة ولم يدوّن من السنّة شيء ، كما جمع القرآن ، ولم يُعرف عن أحد من الصحابة والتابعين أنّه دوّن صحيفة أو كتب كتاباً يحوي أحاديث النبي ( صلى الله عليه وآله )وسننه ، سوى ما روي عن بعضهم أنّهم كتبوا لأنفسهم أحاديث عن الرسول لكي يحفظوها ، ثمّ أتلفوها . . . » . إنّ هذه البداية تكشف بمنتهى الوضوح عن إنحياز الكاتب إلى ما يهواه من إثبات عدم التدوين .

 

2 ـ حديث النهي لا يُحتجّ به

إنّ عمدة ما استدلّ به القائلون بأنّ السنّة لم تدوّن في العصر الأوّل هو حديث أبي سعيد الخدري ، الذي ذكره مسلم في صحيحه ـ دون البخاري ـ و افتتح به المؤلّف الفصل الثاني ـ ص 37 ـ و ظلّت صورته عالقةً بقلمه إلى آخر البحث ، مستنداً موثوقاً ، بينما هو حديث « معلّل » حسب إصطلاح علماء الحديث ، لا يصحّ الاحتجاج به لإثبات شيء ، و هو ما يدور النصّ فيه بين أن يكون من كلام النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم )فيسمّى « المرفوع » ، و هو حينئذ حجّة ، و بين أن يكون من كلام أبي سعيد نفسه ، فيسمّى « الموقوف » فلا يكون حجّة ! لأنّه حينئذ يدخل كطرف في النزاع بين الصحابة المجوّزين والمانعين ، في أمر التدوين ،

 

فلا يشكّل حجّة على الطرف المعارض للمنع . وتعليل الحديث ـ المسقِط له عن الإحتجاج ـ بدورانه بين الوقف والرفع مذكور في مصطلح الحديث وفي الكتب الخاصة بـ« علل الحديث » . و المؤلّف إبراهيم فوزي نفسه ، واقف على الفرق بين مصطلحي « المرفوع » و « الموقوف » وقد أيّد معارضة القول بأنّ « الموقوف الذي لا مجال للرأي فيه له حكم المرفوع » وأنّ ذلك ليس كلاماً يوجب الاغترار به ، كما في ص 176 هامش 6 . إذن ، فلماذا يغترّ هو بهذا الحديث ، ويغرّ قرّاءه ، فيكرّر الاستناد إليه ، و لا يشير إلى هذه العلّة القادحة في حجّيته ، لا من قريب و لا من بعيد؟! ثمّ إنّ موقفه من رأي أهل البيت ( عليهم السلام ) وموقفهم من مسألة تدوين الحديث لا يخلو من تقصير ، إذ لا نجد في كتابه إيعازاً إلى ذلك ، سوى ما رواه من خطبة الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، أنّه خطب مرّة فقال : « أعزم على كلّ من كان عنده كتابة عن رسول الله ،

 

إلاّ رجع فمحاها ، فإنّما هلك الناس حيث اتّبعوا أحاديث علمائهم و تركوا كتاب ربّهم » ومصدره : سنن الدرامي ج 1 . ذكر ذلك في تدوين السنّة ، ص 53 ـ 54 ، و الهامش 16 . و قبل أن نناقش في سند الحديث و دلالته ، فإنّ ما نقله عن سنن الدارمي لم نعثر عليه ، وإنّما الموجود هو في مصنّف ابن أبي شيبة 9 / 52 ، ورواه القرطبي في جامع بيان العلم 1 / 63 و جاء بالنصّ الآتي : « أعزم على كلّ من كان عنده كتاب ، إلاّ رجع فمحاه ، . . . » إلى آخر الحديث ، فليس فيه « كتابة عن رسول الله » . فهل تعدّى الإنحياز عند الكاتب إلى الخيانة ؟! ولم ينحصر المنقول عن الإمام علي ( عليه السلام ) بهذا الحديث ، بل إنّ مجموعة كبيرة من الروايات الدالّة على تأكيده على الكتابة و حثّه عليها مشهورة ومنقولة في جميع المصادر ، و كلّها تدلّ على أنّه ( عليه السلام ) كان رائد المبيحين لتدوين الحديث ، ولم ينقل عنه خلاف ذلك سوى هذا الحديث ، فإهمال الكاتب لكلّ تلك المجموعة ، و ذكره هذا الحديث فقط ، يدلّ على ماذا ؟! أمّا هذا الحديث فقد ثبت بطلانه و فساده ، سنداً ودلالة من أوجه كثيرة أثبتناها في دراستنا عن الموضوع 2 .

 

3 ـ الإيحاءات المحرّفة

و يتبلور إنحياز المؤلّف إلى طرف المنع عن التدوين ، في تأكيده بشتّى العبارات على الإيحاء بأنّ النهي عن التدوين هي الحقيقة الثابتة ، وأنّ إباحة التدوين جاءت متأخّرةً ، فمثلا يفتتح الفصل الثالث المعنون « إمساك الصحابة عن تدوين السنّة » فيقول في ص49 : « تمسّك الصحابة بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه و آله ) بحديثه الذي نهى فيه عن كتابة السنّة ، فأمسكوا عن تدوينها ، وتشدّدوا ضدّ الذين كانوا يكتبونها ، وكانوا يتلفون ما كتب منها ، ولم يرد على لسان أحد من الصحابة أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) نسخ حديث النهي عن كتابتها » . . و المفارقات الواضحة في هذا الكلام نوجزها في ما يلي :

 
أوّلا : الذين كتبوا ما كتب من السنّة ، و كانوا يكتبونها ـ حسب تعبيره ـ لم يكونوا ـ قطعاً ـ إلاّ من الصحابة الذين اتّصلوا بالنبي مباشرةً ، ولم يكونوا غرباء خلقوا فجأةً في مجتمع الصحابة! ومع هذه الحقيقة الضمنيّة في كلامه ، فإنّ عنوان « إمساك الصحابة عن تدوين السنّة » متهافت لا يناسب هذه الحقيقة على الأقلّ ، لأنّ هؤلاء لم يمسكوا عن التدوين! وماذا كان يضرّ المؤلّف لو عنوان للفصل بـ« إمساك بعض الصحابة عن تدوين السنّة »؟! لكن ليس لهذا العنوان ، وقع قوي مثل ما للعنوان الأوّل ، على طريق ما بيّنه المؤلّف!!

 
وثانياً : قوله : « تمسّك الصحابة بالحديث الذي نهى فيه النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن تدوين السنّة » يوحي أنّ « حديث النهي » ثابت لا ريب فيه ، وقد عرفت ـ قريباً ـ أنّه لم يثبت لتردّده بين أن يكون موقوفاً على أبي سعيد ومن كلامه هو ، لا من كلام النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ، وبين أن يكون مرفوعاً إلى النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ، فكيف يوحي خلاف ذلك؟! مع أنّه لم يثبت مورد واحد جاء فيه « تمسّك الصحابة » بما نسب إلى النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) من حديث النهي ، و قد تتبّعنا جميع ما ورد في الباب ، فلم نقف على مثل ذلك ثابتاً في حديث صحيح لا علّة فيه ، و قد اعترف الباحثون عن مسألة التدوين بنفي استناد الصحابة إلى حديث في النهي ، حتّى اُولئك الذين تشدّدوا من الصحابة في أمر التدوين ، لم يجسروا على نسبة المنع إلى النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ، و لعلّهم لم يفعلوا ذلك لأنّهم لم يلتزموا منهجاً نقدياً يبتني على الجسارة والشجاعة المتوفّرة في كتابة عصرية ، كالتي في « تدوين السنّة » لإبراهيم فوزي . و أمّا نسبة التمسّك بحديث النهي إلى الصحابة ـ بلفظ العموم ـ فهو أمر ينافيه المنقول عن أكثرهم أنّهم كانوا يقولون بإباحة التدوين ، وقد أشاروا بذلك على عمر أيضاً ، لكنّ المؤلّف لم يُشر إلى ذلك ، بل يظهر من عبارته خلاف ذلك تماماً!

 
و ثالثاً : و كذلك قوله : « لم يرد على لسان أحد من الصحابة أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) نسخ حديث النهي » . يوهم أنّ حديث النهي ثابت عن النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) بصورة قطعيّة ، ولابدّ في رفعه من ناسخ يروى عنه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ، وبما أنّه لم يرد عن الصحابة نقل النسخ ، فالنهي مستمرّ ، مع وضوح أنّ النسخ فرع ثبوت النهي ، ومع الشكّ في ثبوت النهي فلا حاجة إلى إثبات الناسخ ، لأنّ الشكّ في ثبوت النهي كاف في نفي العلم بوجوده ما لم يقم عليه دليل قاطع ، و لا معنى لنسخ ما لم يثبت . ويمكن أن يستند إلى عمله ، إذ كانوا يكتبون السنّة ، في إعلان النسخ ـ لو ثبت النهي ـ فإنّ العمل أقوى دلالة من مجرّد النقل في مثل هذا ، لأنّه غير قابل للتأويل ولا ترد فيه الإحتمالات الآتية في الكلام المنقول .

 
ورابعاً : لو سلّم ـ جدلا ثبوت نهي عن التدوين ، فلا أثر لتمسّك الصحابة ـ الذين منعوا عن التدوين ـ بمثل ذلك ، إذ مع وجود النهي الصريح من رسول الشريعة ، فليس عمل بعض دليلا آخر مستقلا ، وإنّما هو تطبيق منهم له مستند إلى مقدار ما أدركوه من مدلول النهي ، وقد يكونون مخطئين في ذلك ـ لعدم عصمتهم ـ كما قد اعترف المؤلّف بأنّ عملهم كان أشدّ ممّا قام به النبي نفسه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) حيث قال في ص55 : « إنّ الصحف التي كتبت في عهد رسول الله تدلّ على أنّ التشدّد ضدّ كتابة السنّة كان في عهد رسول الله أخفّ بكثير ممّا آل إليه الحال في عهد الصحابة » . فأيّة قيمة تبقى لعمل بعض الصحابة بزعم « التمسّك بنهي النبي »؟! هذا ، مع أنّ المجموعة الأكبر من الصحابة ، لم يأبهوا بحديث النهي المزعوم ، بل كانوا مع إباحة التدوين قولا وعملا .

شاهد أيضاً

صلاة ليالة 10 من شهر رمضان المبارك