الرئيسية / الشهداء صناع الحياة / إنّي آنست نارًا الشهيد محمد علي رباعي

إنّي آنست نارًا الشهيد محمد علي رباعي

القسم الثاني

الوصيّة

على الهامش الأيمن “الناس عبيد الدنيا، والدين لعقٌ على ألسنتهم …. فإذا محصوا بالبلاء، قلّ الديّانون”.

بسم الله الرحمن الرحيم

السبت 9 شوّال 1433ه
﴿يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمرِ مِنكُم﴾

أخواني أخواتي إنّ الحالة التي يعيشها الإسلام في واقعنا الحاضر، تستدعي كلّ إنسانٍ ملمٍّ مؤمنٍ أن يجهّز نفسه بكلّ الطرق والوسائل التي تدعم الإسلام وتجعله يقف صامداً أمام الهجمات عليه من كلّ جانب.

أخواني وأخواتي اعملوا على حفظ الإسلام باتّباع النهج المحافظ على ولاية أهل البيت عليهم السلام وهو خطّ ولاية الفقيه، إنّه الجوهرة الباقية لنا. فلنلجأ إليها وندعمها لنكون بذلك من الممهّدين الأوائل لصاحب العصر والزمان عجل الله فرجه الشريف.

إخواني الأعزّاء أدعوكم للعمل الجادّ في خطّ ولاية الفقيه لا سيّما في خطّ المقاومة الإسلامية، وإطاعة التكليف مهما كان، لأنّ فيه مصلحة الإسلام والمسلمين وكما قال إمامنا الخميني (المضمون): “علينا إطاعة التكليف وعدم السؤال عن النتائج”.

إخواني وأخواتي، أدعوكم ونفسي إلى العمل بجهد جادّ في تحصيل

العلوم والمسائل الدينية ولا سيّما الفقهية منها والسياسية وذلك لفهم واقع الإسلام وهدفه الأساسي. فكما قال الإمام الصادق عليه السلام (المضمون): “ليت السياط على رؤوس أمّتي حتّى يتفقّهوا في الدين”. وأدعو الجميع إلى عدم الاستهانة بأيّ شيء يخصّ مصلحة الإسلام والمسلمين.

إخواني وأخواتي، إنّ ما نشهده من صراعٍ حادّ بين الإسلام الخيّر الذي يحمل كافّة المفاهيم الإلهية والإنسانية، والاستكبار العالمي المتمثل بأمريكا وإسرائيل وأذنابهما من الجماعات التكفيرية، ما هو إلا دافع لنا على تحمّل المسؤولية تجاه الإسلام والعمل بما كان يهدف له أهل البيت عليهم السلام، من أهداف إلهية سامية.

إخواني وأخواتي، إعملوا على نشر الإسلام وإفهامه للآخرين بكافّة الوسائل الممكنة، ولا تغرقوا في ملذّات هذه الدنيا الفانية، فالإنسان العاقل إذا قيل له نعطيك ثمرةً اليوم أو قصراً غداً، حتمًا سوف يختار القصر وهكذا حالنا فنحن بسبب الغشاوة التي تغطّي أعيننا نغفل عن العمل للفوز “بالفوز الأكبر” ونشقى في هذه الدنيا التي ستتركنا ولا تسأل عنّا في قبرنا.

إخواني وأخواتي، تمسّكوا بولاية أهل البيت عليه السلام وادرسوا علومهم قدر المستطاع، لتستطيعوا أن تواجهوا الأفكار الاستكبارية التي تحاول أن تُدخلها أمريكا وإسرائيل إلى مجتمعنا المسلم الحضاري. فهم يريدون أن يُلقوا هذه الحضارة الإسلامية الراقية بتخلّفهم وجهلهم الدنيوي.

إخواني وأخواتي، اعملوا على تربية نفسكم، والعمل للانتصار في الجهاد الأكبر ضد الشهوة والشيطان، وكونوا أعلى درجة من الملائكة

ولا تُسرعوا إلى كسب ملذّات الدنيا على حساب آخرتكم فتكونوا أدنى درجةً من البهائم لا سمح الله.

أخواتي العزيزات، احرصن على اتّخاذ السيدة الزهراء عليها السلام والسيدة زينب عليها السلام قدوة لكنّ، واحرصن على الالتزام بالأحكام الشرعية لا سيّما الحجاب الشرعي وخاصّةً لبس العباءة والنقاب فهذا هو الرمز الذي كانت تتمثل به الزهراء عليها السلام وزينب عليها السلام واعلمن أنّه بحجابكنّ الراقي تكونون قد كسرتنّ محاولات الاستكبار الفاشلة في سلبكن حقوقكن الإنسانيّة، فهم يريدون تحويل المرأة إلى سلعة تُباع وتُشرى تحت غطاء الحرّية والديمقراطيّة.

وكما قال السيد محمد باقر الصدر (المضمون): “إنّ خروج المرأة متزيّنة، أصعب من جلوس الشمر على صدر الحسين عليه السلام”.

إخواني وأخواتي اعملوا على نشر الدين الإسلامي داخليّا وحتّى خارجيّا من خلال تصرّفاتكم وحتّى لبسكم فذلك يقوّي الحالة الإيمانية والالتزاميّة بين المؤمنين ويشدّ صفوفكم في وجه العدو.

أسألكم المسامحة والدعاء، والملتقى إن شاء الله
مع أهل البيت عليهم السلام في الجنّة…

العبد الفقير إلى الله، الشهيد بإذن الله
محمد علي رباعي(أبو ذر)


2

05
• إلّا بعد بناء مقام أئمة البقيع عليهم السلام

إلّا بعد بناء مقام أئمة البقيع عليهم السلام

“أوصي بدفن جسدي في روضة الشهيدين وعدم وضع بلاطة على قبري إلّا بعد بناء مقام أئمّة البقيع”

أصبح من المعروف في لبنان وخاصّة عند أهل جبل عامل أنّ الشهيد محمد رباعي طلب في وصيّته الثانية، التي لم يتم التطرق إليها في هذا الكتاب، إلى عدم وضع بلاطة على الضريح الشريف تأسّيا بأئمّة البقيع عليهم السلامالمعروفة حال قبورهم.

اللافت في موضوع ضريح الشهيد هو أسئلة الكثير من الناس عن سبب اختياره لهذا المشروع النابع عنه، والإنجاز الأكبر هو التحاق أكثر من شهيد استشهد بعده بهذا المشروع، فهو كان أوّل من أطلقه في روضة الحوراء زينب عليها السلام، ثمّ لحقه ركب من الشهداء الذين لم يقبلوا أن يضعوا بلاطة أو رخامة على الضريح تأسّيا بأئمة البقيع عليهم السلام.

بعد البحث المتواصل تبيّن أنّ الشهيد أراد ذلك لسببين، أمّا الأوّل فهو علمه بالظلم الحاصل لأئمة البقيع عليهم السلام في تلك البقعة من الأرض، فكيف لا يحرّك ساكناً؟ أراد أن يرفض الظلم هناك بهذه الطريقة نظراً لعدم وجود تكليف بالحراك في هذا المجال، فوجد أنّ أفضل طريقة رافضة

للظلم الحاصل هي بعدم وضع الرخام والزينة على قبره واستبدالها بصور للإمام الخميني قدس سره أو أحاديث أهل البيت عليهم السلام.

أما السبب الثاني هو لفت نظر الناس أنّ هناك في بقعة مباركة من بقاع الأرض أضرحة مُهملة لأولياء في زمننا هذا أطاح نجم نهجهم بمستكبري العالم، بدل أن يُكرّموا وتُرفع قبابهم يكتفون بأن يكون التراب والبحص والحجارة والرمال شاهد وقبة وعَلَم ومقام شامخ يرقى إليه المتواضعون من شيعة أبي تراب عليه السلام.

إنّ كل من يقرأ وصيّة الشهيد سيذكر حتمًا أئمّة البقيع عليهم السلام ويستذكر مظلوميّتهم ويقرأ سيرتهم، فمعظم الناس التفتت إلى الزيارة غير المباشرة لهم تأثّرًا بوصيّة الشهيد.

لذلك فإنّ عدم وضع بلاطة على ضريح الشهيد فَتَح آفاقًا فكريّة جديدة لجيل الشباب، بحيث أصبحوا يلتفتون لأمرين أساسيّين، أمّا الأوّل فهو رفض الظلم والخضوع والخنوع بشتّى أشكاله وخاصّة إذا كان ظلمًا للأئمّة الأطهار عليهم السلام، فهم يستحقّون أن تُرفع قبابهم عاليًا ويصبحوا مزارات خالدة تتعلّم الناس منهم وتنهل من صفاتهم.

والأمر الثاني، سنّه سُنّة حسنة بين الناس، وهي سُنّة عدم وضع الرخام على الضريح تأسّياً بالأئمّة الأطهار عليهم السلام، الأمر الذي يحثّ الشباب على ربط المسيرة الجهادية بالقادة الأطهار حمَلة الفكر والحكمة وأصالة الدين، فالشهيد قد جمع بين رفع الرخامة عن ضريحه تأسّيا بالأئمة الأطهار عليهم السلامووَضْع صور المؤسّس نائب المهدي عجل الله فرجه الشريف، ليبيّن للناس أنّ هذا

الإنسان العظيم قد أنار له الطريق للوصول إلى فكر العزّة والقوّة وتبديد الظلم ولو بالفكر والسلوك.
ولعلّ أيضا من الأسباب التي دفعت الشهيد إلى هذه الفكرة، تعلّقه بأمّ الأئمّة الزهراء عليها السلام بنت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأن هؤلاء الشهداء دلالة جديدة على نهجها.

فضريحها أيضاً خالٍ من الزائرين والمُحبّين، وضريحها حتمًا مستوٍ مع الأرض ولا زينة ولا زخارف عليه، فكيف يضع من كان عشقه صحيحًا ويقينيّاً واقتدائيّاً بلاطة على قبره، والتي أكّدها ووثّقها بالدلائل الدامغة لكي تكون حجّة له على نفسه يوم القيامة؟

فإنّ نفس عدم وضع الرخام والزينة بعنوان التأسّي هو ترجمة فعليّة وقوليّة أمام الملأ والناس جميعًا بأنّه شخص يوالي هذه الفئة من الناس ويتصرّف كتصرّفهم وينتهج نهجهم ويحفظ علومهم.

واللافت أيضًا في الشهيد أنّه احتفظ بفكرة عدم وضع البلاطة لنفسه طيلة أيّام حياته، ولم يتحدّث مع أحد عن هذا الأمر بل تركه كجسر عبور له إلى الله فكان الأمر سرّا بثَّهُ لمحبوبه عزّ وجلّ وهو أقرب إليه من حبل الوريد.

وبذلك يكون قد وثّق علاقة شخصيّة مع الله تعالى وارتبط به ارتباطاً أوثق وأعمق، فيعزّز بذلك الحصن المنيع والجيش القوي في الجهاد الأكبر ضد الشهوة والشيطان من خلال علاقة سرّية ملكوتيّة خفيّة مِحوَرها العمل وعمادها اليقين.


3

• أحداث من الذاكرة
• الشهيد محمد في وسائل التواصل الإجتماعي

أحداث من الذاكرة

التعقيب…
يروي أحد أصدقاء الشهيد -وهو من الأشخاص الذين كان يلتقي بهم في المسجد بشكل مستمر- أنّه في أحد أيّام الأسبوع، وعلى الأغلب في يومٍ من أيّام نهاية الأسبوع، كنتُ جالسًا بجانب الشهيد محمد رباعي، كما أذكر على وجه التأكيد في الصف الثاني لجهة اليمين. أنهينا صلاة العشاء وهممتُ بالرحيل، ولكنّي رأيته يسجد ويتمتم ببعض الكلمات وهو مُغمض العينين، رأيتُ أصابعه تتحرّك بشكل لافت فيضغط عليها الواحدة تلو الأخرى.

يقول رفيق الشهيد، فسجدتُ لأسمع ماذا يقول، سمعته يسبّح تسبيحة السيّدة الزهراء عليها السلام من سجود فيضغط على كل إصبع ثلاث ضغطات لتعداد عقد الأصبع الواحد.

وعندما انتهى من التسبيحة رفع رأسه ومسح يده على موضع السجود ثمّ على جبهته ووجهه. بدأ قارئ الدعاء بتلاوة تعقيب العشاء فهممتُ بالرحيل مرّة أخرى، لكنّه لم يلحقني بل هوى ساجداً وأتمّ سماع الدعاء

حتّى نهايته، وبعد الانتهاء من الدعاء نظرتُ إليه، لقد غمرني الحياء منه عندما غادرت ولم يتبعني للـ المرّة الثانية.

وجّهت بصري إليه لأستعلم منه إذا ما فرَغ، فوجدته متوجهاً كلياً إلى دعاء الحجّة، لقد قرأه بطريقة أدمعت عيني، ثمّ توجّه إلى الشرق وزار سيّد الشهداء، وكان أجمل ما في أسلوبه بالزيارة آخرها، فإنّه يتوجّه ناحية الحسين عليه السلامويطلب الإذن منه باللحاق والاستشهاد، ثمّ يسلّم على الإمام الحسين ويتمّ صلاته.

عندما أنهينا صلاة الجماعة مشيتُ معه من الصف الثاني وحتّى باب الخروج وكان لا ينفكّ يسلّم على هذا وذاك.

خرجنا من المسجد. كما أذكر جيّدًا أنّي قلتُ له يومها، “أغلب الناس تخرج من المسجد ولا تسمع تعقيب العشاء”، فقال، “لو أنّ هؤلاء الناس خالفوا ما أمرتهم به أنفسهم من عدم سماع التعقيب لكان خيراً لهم”. فقلتُ له، “إنّ التعقيب أمرٌ مستحب وكثير من الناس لا تعتني بالمستحبّات”. فقال لي: “إذا رأيتَ في آخر الزقاق رجلًا ثريّا يوزّع المال والأملاك والعقارات والثروات على المارّة ماذا تفعل؟”، فقلت له، “بالطبع أسرعُ إليه لعلّه يعطيني شيئا من ذلك”، فقال الشهيد، “ماذا لو كنت تملك مالاً ولست بحاجة؟”، قلت، “أزيده” فأضاف الشهيد محمد، “وهكذا التعقيب” ثمّ سكت عن الكلام.

دُهشت من حديثه وكان ثالث أو رابع لقاء لي معه، أعجبني ذلك الشاب -ويقصد بذلك الشهيد- ولا أستطيع نسيان مواقفه الجريئة.

عشق الصلاة…
في أحد أيّام كانون الثاني الماطرة كنت عند الشهيد محمد في منزله وكانت الساعة الحادية عشرة صباحًا. كان يوم أحد والشوارع فارغة من الناس.أظنّ أنّ المؤسسات الرسمية والخاصّة كانت في عطلة من الجمعة إلى الأحد يومها.
كنا ندرس لامتحان يوم الإثنين بجهد وجدّ ونشاط وإذا بالشهيد محمد يقول، “إنتهى الدرس، سوف يُتلى القرآن بعد قليل في المسجد”. فابتسمت وقلت له، “كل الناس تنتظر الصلاة عند الأذان وأغلبهم ينتظر أن ينتهي الأذان ليلتفتوا للوضوء أصلاً”.

يروي الشاب قائلًا، التفت إليّ الشهيد ووجّه إليّ نظرة عتب وسألني، “هل تحب والدتك؟”، فاستعجبت من سؤاله كثيرًا وقلت له “وما دخل هذا بذاك؟”، فقال، “أجبني”، قلت، “أحبّها كلّ الحب”، فقال لي: “إن كنت تدرس في غرفتك ونادتك ماذا تفعل؟”، قال، “أركض إليها لأستعلم منها الأمر وألبّي نداءها”، فسكت الشهيد ولم يبادرني الكلام بعدها.

سمعنا تلاوة القرآن الكريم في المسجد، تهيّأ الشهيد للصلاة وفرش سجادته وجلس عليها، فإذا بالمؤذّن يبدأ أذانه إلى حين وصوله لجملة “حيّ على الصلاة” التفت إليّ قائلًا، “عزيزك يناديك إليه”، فسكنت قليلًا ثمّ دمعت عيني، فهمت الحكاية وربطت الموضوع، كيف ألبّي نداء والدتي وعزيزتي بحيث إنّي لم أبالي بإكمال دراستي دون تلبية ندائها،

وعندما يطلب منّي خالق والدتي تلبية ندائه هل أصمّ أذنيّ عنه!!

توضّأت وفرشت السجادة خلف الشهيد محمد لأصلّي خلفه جماعة ومنذ ذلك اليوم وتأثير الشهيد محمد في داخلي وكياني، ونظرته المنزعجة من عدم القيام لتهيئة نفسي للصلاة لا تزال تذبحني في كلّ يوم أغفل فيه عن ذلك.

إنّه فعلًا لشخصٌ عجيب.

أسرار الحبيب ومحبوبه…
يروي أحد رواة قصص الشهيد محمد الذين عاشروه طوال سنوات: كنّا في طريقنا إلى مسجد الرضا عليه السلام الذي كان يحبّه الشهيد محمد كثير الحب لارتباط هذا المسجد ببداية انطلاقة الحركة الجهاديّة الإسلامية في لبنان عمومًا وفي جوار منطقة المسجد خصوصًا.

وصلنا إلى باب المسجد، دخلتُ مسرعًا ولكنّ الشهيد وقف عند الباب وتمتم بكلمات دامت دقيقة على ما أذكر. دخلنا صلّينا صلاة الظهر وقرأنا التعقيب وسمعنا محاضرة إمام الجماعة، وأثناء خروجنا من المسجد وقف الشهيد عند الباب وتمتم بكلمات دامت نفس الوقت السابق.

كلّ الطريق العودة وأنا أحاول جاهداً معرفة الكلمات تلك، لماذا وقف عند باب المسجد؟ ما هو الدافع لذلك؟ فاستنطقت الشهيد: “ماذا قلتَ عند الباب حين دخلنا وخرجنا؟”، فقال “هي كلماتٌ بيني وبين الله”. زاد شوقي لمعرفة ماذا قال هناك، فعاودت السؤال، “ألا تريد

أن تقول لي ماذا كنت تقول عند باب مسجد الرضا عليه السلام؟”، أذكر أنه قال لي، “لا تحرجني بذلك، إنّما هو كلامٌ خاص بيني وبين ربّي”، سرعان ما رنّ هاتفي الخليوي فرفعته وأخذت جانبًا من الطريق وتحدّثت مع المتّصل، وكان المتّصل ذاك حبيبتي التي قد عقدت قراني عليها منذ أشهر، حينها، نظر إليّ الشهيد مبتسمًا ثم قال لي، “من المتّصل؟”، فقلتُ له “زوجتي وحبيبة قلبي”، قال “وعمّ كنتما تتحدّثان؟” قلتُ “وما دخل الغريب بأسرار الحبيب ومحبوبه؟!”، فسكت الشهيد بعدها حتى وصلنا إلى منزله.

وعند مدخل المنزل كم كنتُ أتلهّف لأعرف بماذا تمتم عند باب المسجد علّه دعاءٌ أو ذكرٌ أغسل به ذنوبي المتراكمة، حاولتُ محاولةً أخيرة فألحيّتُ عليه قائلاً: “أخي محمّد بالله عليك قل لي ماذا قلت عند المسجد، فلعلّي بذلك أرفع مقامي عند الله العليّ الأعلى”.

وأذكر جيّدًا أنّه قال لي، “تمتمتي عند المسجد هي كاتّصالك بعزيزتك في الطريق”، وابتسم لي بسمة جميلة أكاد لا أنساها، ثمّ سلّم عليّ وقبّلني وصعد إلى منزله.

رجعت إلى داري وبدأت الأفكار تأسرني تارة وتطلقني تارة أخرى إلى أن لمع ذلك الشهاب في قلبي، علاقتي مع حبيبتي كعلاقة الشهيد بربّه؟!، عشق، حب، لهفة وشوق!.

وعند سماعي نبأ استشهاد الشهيد محمد علي رباعي كانت بعد أشهر عدّة من هذه الحادثة، ثم سماعي وصيّته التي تتحدّث عن الرخامة،

حينها أيقنت أنّ للشهيد علاقة خاصّة مع الله جلّ وعلا، لم يكن يظهرها أمام الناس.

انهمرت الدموع من عينيّ يوم تشييعه المبارك وقلت في نفسي، “إنّي أحتاجك الآن يا محمّد”.

ثلاثينيّ…
يروي أحد الأشخاص، وهو أكبر من الشهيد محمد بعشرين سنة، وقد أفاد بأنّ عمره كان آنذاك خمسة وثلاثين عامًا.

جئتُ إلى المسجد حديثًا بعد أن توفّت والدتي، تأثّرت بموتها كثيرًا وقد أخذتُ عهدًا على نفسي بتنفيذ كل وصاياها لي، وكانت قد أوصتني قُبَيل موتها بعدم التهاون بالصلاة وأدائها بشكل يومي عند دخول وقتها وخصوصًا الإهتمام بصلاة الجماعة. كلّ الناس الذين عرفوها يشهدون لها بإيمانها الراسخ وعدم تهاونها بالمعاصي مهما صَغُرت، فعزمتُ على أن لا ألزم المسجد وأن أحقّق كل ما يرضي الله سبحانه وتعالى بعد كل المعاصي التي قد ارتكبتُها سابقاً سواء من ترك الصلاة والصوم والحقوق الشرعيّة.

جلستُ في المسجد وكنتُ أنتظر أحد المارّة أو الجالسين من العلماء والأفاضل لأسأله ماذا بإمكاني أن أفعل حيال مسألة الخشوع في الصلاة لأنّي كنت قد عزمتُ أن أؤدّي صلاةً لا شائبة فيها.

حضرت إلى المسجد أوّل مرّة بوقت لا صلاة جماعة فيه، نظرتُ حولي،

وجدتُ ذلك الشاب، وظننته شابّاً عشرينيّاً لهيبته ومظهره الإسلامي، حتّى أنني ظننتُ أنّه طالب حوزة.

كان جالساً في زاوية مسجد السيّدة زينب عليها السلام، فأتيته وقلت له بعد التسليم والرّد، “أنا أعاني من مسألة لو تخلّصتُ منها بلغتُ نصف طريقي، سكت الشهيد ونظر إلى السجدة الحسينيّة التي أمامه، قلتُ له، “كلّما هممتُ بالصلاة بدأ تفكيري يأخذني يمنة ويسرة، طلبات زوجتي وأوامر رئيسي في العمل وأمور كثيرة لا يتّسع الوقت للحديث عنها كلّها”.

نظر إليّ الشهيد محمد وقال لي: “إمامنا الغائب المهدي المنتظر عجل الله فرجه الشريف هو مفتاح حلّك”، فتعجبت، المهدي عجل الله فرجه الشريف!! وما دخله بما يجري عليّ؟

فقال لي، “إن كنت تصلّي خلفه كيف تكون صلاتك؟”، ثمّ أكمل الشهيد محمد وأجاب عن سؤاله قائلاً، “صلاةً يعجز اللسان عن وصفها، صلاة يخفق لها القلب أيّما خفقان”، فقلتُ صدقتَ وأحسنتَ الحديث، أضاف، “لماذا لا تتخيّل نفسك خلف الإمام عجل الله فرجه الشريف وفي حضرته، تكون بهذه الخطوة قد أخذت بطائر خيالك ووضعته في قفص العشق المهدويّ، فإذا أتممتها أطلقت سراحه وعنانه”.

تعجّبت لقوله وسلّمت عليه بحرارة وبكلتا يديّ وقلت له بارك الله بك وحفظك.

وكل هذا ظنًّا منّي أنه طالب حوزة أو شخص عشريني، ولكن عند شهادته علمتُ أنّه كان يبلغ من العمر ثمانية عشر عامًا، وأنا كنت قد استوضحت منه ما استوضحت قبل عامٍ مضى، أي كان عمره سبعة عشر

عامًا، زاد ذهولي بذلك الشاب، يضيف الراوي في نهاية قصّته، “ليته بيننا الآن لنأخذ منه المزيد”.

فلتشهد بقاع الأرض…
كنت والشهيد محمد في مسجد القائم عجل الله فرجه الشريف وكان يومها نيّر الوجه وعليه علامات خشوع ظاهرة وواضحة وضوح الشمس. جلستُ إلى جانب الشهيد، صلّينا المغرب جماعة ثمّ وقف وأدّى صلاة ركعتين وصلاة الغفيلة وأسند ظهره إلى عمود المسجد.

عندما همّ إمام الجماعة بصلاة العشاء جلستُ في مكاني المعتاد وإذا بالشهيد محمّد يذهب إلى الجهة الأخرى من المسجد، لحقته وصلّيت بجانبه، ولكنّي عندما أنهيت صلاتي سألتُ الشهيد عن هذا الفعل الذي قام به فقلتُ له، “لماذا قمت بهذا الأمر؟”، أجاب “أيّ أمر؟!”، قلتُ، “نحن معتادون على الصلاة في تلك الجهة من المسجد، وأشرتُ إليها، فأجابني الشهيد يومها، “أريد أن تشهد بقاع المسجد كلّها يوم القيامة أنّي قد سجدتُ وركعتُ وتلوتُ وسبّحتُ ودعوت الله في كلّ بقعة من هذا المسجد المبارك، علّ الله يشملني برحمته عندما تشير إليّ تلك البقاع من الأرض في ذلك اليوم الموحش، يوم الحشر والنشر، أنّي قد عبدتُ الله عليها”.

أعجبني كلامه ولفت انتباهي وصرتُ أصلّي صلاتي في الأماكن التي تنقّل فيها الشهيد علّي ألتمس شيئًا من ذكره.

حيّ على الصلاة…
يروي أحد رفاق الشهيد…

كان يومًا متعبًا، غدًا امتحان الرياضيات والجغرافيا، ذهبنا إلى المكتبة وجلسنا ساعات العصر كلّها هناك حتّى أنهكنا التعب من حل الأعمال الرياضيّة.

مرّ الوقت بسرعة والشهيد ينظر باستمرار إلى ساعته. كنّا ننجز عملاً رياضيّاً صعبًا ونتناقش به ونحن في أوج النقاش سكت الشهيد ونظر إلى ساعته وإذا به يضع القلم ويغلق الدفتر ويمضي. قلتُ له هل بدر منّي شيء ضايقتك به حتّى قمتَ فجأة؟ قال لي سوف يحين وقت الصلاة بعد عشر دقائق الأفضل أن نصعد إلى المسجد ثمّ نكمل. أذكر جيّدا أنّي ضحكت حينها وقلت له نكمل العمليّة الرياضيّة ثم نصلّي، لم يكترث لـ كلامي بل سار وصعد إلى المسجد، وكان المسجد يبعد عن المكتبة ثلاث دقائق مشيًا على الأقدام، رافقته، صلّينا جماعة وبعد التعقيب ونحن في طريق العودة قلت له، “الله عزّ وجل وسّع وقت صلاة المغرب والعشاء، فلمَ هذه العجلة؟ لو أنّ الله يريد منّا الصلاة في أوّلها كان فرَض علينا الصلاة في أوّل ربع ساعة من وقتها مثلًا.

نظر إليّ الشهيد نظرةَ انزعاج ولم يجبني. نزلنا إلى المكتبة وأكملنا العمل القديم الذي كنّا قد بدأناه.

أتعبنا الدرس كثيرًا فقد أتممنا ثلاث ساعات متواصلة، قرّرنا أن نتحدّث بشؤوننا الاجتماعيّة وأن نفتح موضوعًا لتداوله.

سألني الشهيد، “كم تظن ستكون علامتك غدًا في الامتحان بعد كل هذا الدرس؟”، قلتُ، “على الأقل ثمانية عشر من أصل عشرين”، فابتسم الشهيد وقال: “وثقت من نفسك أمام امتحانٍ كتبه أستاذ الرياضيّات لأنّك درستَ بجدّ وحضّرت له بجهد!، فكيف تثق بصلاةٍ لم تحضّر نفسك لها ولم تنتظرها وتسعى بذات الجهد الذي سعيته للامتحان لتأديتها عندما أمرك الله عزّ وجلّ بذلك في قول المؤذّن حيّ على الصلاة!؟”.

لقد أقنعني بحديثه ووافقته الكلام، ومنذ شهادته وأنا أصلّي في أول الوقت وأحضّر نفسي للصلاة وأهديه ثواب الفاتحة في كل مرّة أسمع فيها صوت الأذان.

لذّة الطعام…
كنا في شهر رمضان المبارك في صيف حار ونهار طويل، جلس الشهيد محمد على الشرفة كما كان يحب، وقرأ بعضاً من الآيات البيّنات، فقد عزم على ختم القرآن في تلك الليلة.

أنهى قراءته وقرّر النزول إلى المسجد للمكوث هناك إلى حين وقت الصلاة فقد بقي ساعة واحدة للإفطار والشهيد محمد رباعي كان يصلّي صلاته الرمضانيّة جماعة.

نزل إلى المسجد مع رفيقه وتحدّثا بأمور الدراسة والتحصيل الحوزوي وتباحثا حول إمكانيّة الجمع بين التحصيل الأكاديمي والحوزوي وكيف بالإمكان تنظيم الوقت لعدم التقصير في أيّ منهما.

إلى أن بدأ الأذان وتجمّعت الناس وصلّوا جماعة، أسرع المصلّون لصلاة العشاء بينما إمام الجماعة يصلّي نافلة المغرب، أخذ الشهيد زاوية من المسجد وصلّى النافلة وانتظر الإمام ليؤدي العشاء ليلتحق به في صلاته.

صلى رفيق الشهيد صلاة العشاء صلاة فرديّة وهمّ بالخروج من المسجد ولكنّه انتظر الشهيد محمد كي يذهبا معاً فلم يجده خلفه بل وجده على جهة اليمين ومعه عشرة من المصلّين الذين قرّروا أن يؤدوا صلاة العشاء مع إمام الجماعة. يقول راوي القصّة جلستُ في زاوية المسجد أنظر إلى المصلّين حتّى أنهوا صلاتهم فتقدّمت نحو الشهيد محمد للفت نظره للمغادرة فأشار إليّ بالبقاء مع بسمة لطيفة ملائكيّة.

مكثتُ قليلاً فرأيته يجلس ويسند ظهره إلى عمود المسجد ويحمل بيده بطاقة صغيرة قد احتفظ بها في جيبه خُط فيها دعاء الافتتاح. عندها قرّر رفيق الشهيد أن يبقى ويستمع الدعاء حتّى نهايته، لم يُبطئ ولم يُسرع في قراءة الدعاء بل كان أمراً بين أمرين حتّى قال راوي القصّة أنّه أوّل مرّة يسمع دعاءً يشعر فيه بصدق القائل والداعي.

أنهينا الدعاء وتوجّهنا إلى طاولة في المسجد عليها تمر وماء، أطعمني الشهيد تمراً وأطعمته، ثمّ أشربني وأشربته واتّجهنا بعدها إلى منزله فقد كنا معتادَين أن يوصل أحدنا الآخر حتّى لا يضجر الواحد منا لوحدة أثناء الطريق. عندما وصلنا دعاني الشهيد على مائدة الإفطار فقبلت بعد أن أكّد عزيمته ونيّته على استقبالي.

صعدنا إلى المنزل وجلسنا ننتظر الطعام، وبعد دقائق قليلة أدخل الشهيد

ما لذّ وطاب من الأطعمة والمشروبات التي كنتُ أتوق لها، فقد مضى يوم حارّ وعصيب. يضيف الراوي، كنتُ كلّما شممت رائحة طعام أغيّر موضعي وأتلهّف له. وضعتُ أمامي من الطعام الكثير وبدأت بالأكل والشرب، وأنا في خضمّ طعامي نظرتُ بطرف عيني إلى الشهيد محمد، رأيته يضع بِنصرِه في صحن الملح ويأكل قليلاً منه، أطلتُ النظر إليه فرأيت طبقه الذي وضع فيه أرُزّاً بمقدار ملعقتين أو ثلاث وقد أنهى صحنه ثمّ أكل بنفس المقدار سلطة الخضار والتي تُسمّى في لبنان “فتّوش” وبعدها شوربة العدس.

لم أنهِ طعامي البتّة حتّى سمعت الشهيد محمد يقول الحمد لله على نعمه. بدايةً ضحكت وقلت له يا محمد لم تأكل شيئاً هل صحبتي تسدّ النفس عن الطعام؟ ابتسم وقال لي لو لم تكن هنا ما أكلت كما أكلت اليوم، لقد شبعت والحمد لله.
جلسنا بعد الإفطار نتناقش بأمور شتّى حتّى سألته عن سبب قلّة طعامه فالصائم إن لم يُتخم نفسه لن يستطيع أن يُكمل يومه الثاني.

أذكر جيّداً أنّه أجابني بهذه الكلمات:
“إنّ من نعم الله علينا شهر رمضان فإنّه تدريب بسيط على مشقّة الحشر والنشر حيث لا ماء ولا طعام ولا مأوى من الله إلّا هو، فإذا أتخمتُ نفسي لم أحقّق هدف الله عزّ وجل ولم أدرّب نفسي على ذلك، إذاً ما فائدة صيامي إن كان لا يلجم نفسي الشهوانيّة التي تريد المأكل والمشرب، إن كنتُ اليوم هنا بين أهلي وأصحابي لا أطيق فراق المأكل، فكيف هناك في تلك الدار الموحشة؟”.

يا بقيّة الله…
كنا جالسين في أحد المقاهي وكان الشهيد محمد رباعي يومها غائباً عن تلك الجلسة. كنّا نحدّث بعضنا البعض عن موضوع الذنوب وكيف يمكن للشخص أن لا يرتكب ذنباً وهو الموضوع الذي قد طرحه هو في الجلسة السابقة ولم ننتهِ من النقاش حوله.

لم تمر نصف ساعة حتّى اشتدّ النقاش وأصبحت الأفكار مبعثرة كلّ شخص له فكرة مختلفة عن الآخر فقرّرنا أن نتّصل بالشهيد محمد صاحب الموضوع الأساسي للحديث معه في هذا المجال علّه يجد لنا جواباً شافياً يطمئن إليه المتسائلون.

“محمد هل ستأتي إلى الجلسة اليوم في المقهى؟”، أجابهم بالرفض في بادئ الأمر، “لِمَ لا، لقد أشعلتَ نقاشاً عن الذنوب وها نحن ندور حوله، تعال وأنهِ ما قد بدأته” فطلب محمد من جميع الحاضرين أن ينتظروا منه شيئاً إذا حملوه تهاوت عنهم الذنوب وما عادت تقترب نحوهم، وإذا ما اقتربت منهم كان معهم السيف القاطع والسلطان الباهر لمواجهتها فتؤول إلى زوال.

استغرب المتّصل وروى ما ذكره الشهيد على الحاضرين، فتعالت التمتمات إلى الكلمات عن ماهيّة ذلك الشيء. أغلبهم قال إنّه أمر معنوي كسلوك مثلاً أو نوع من أنواع الانضباطيّة بوجه الذنب، والبعض الآخر قال من الممكن أن يكون شيئاً مادّياً كحرز أو طلسم يُلبَس في الزند أو ما شاكل.

وأثناء خوضهم هذا وصل الشهيد محمد إلى المقهى والبسمة ترتسِمُ على محيّاه.

جلسوا جميعاً ينظرون إليه كي يُفصح عن ذلك الشيء المجهول الذي يحطّ الذنوب ويمنع النفس الأمّارة من التمادي وعدم الانصياع. قال الشهيد محمد يومها “لا أبوح بما أتيت لأجله إلّا أن نبدأ حديثنا بكأس من عصير الأفوكا فإنّي سمعت أن هذا المقهى يشتهر به”، وتبسّم، فطلب الرفاق يومها عصيراً لكل الحاضرين فشربوه هنيئاً.

ثمّ سأل سائل منهم، “والآن ماذا أنت قائل بشأن الذنوب؟” قال “والآن وقد عزمتم على معرفة الجواب فها هو، أمّا بما يتعلّق بالنفس فإنّها كالولد الصغير الذي يلتهي بما يؤذيه ويصرف النظر عمّا يعنيه. فتراه يركض نحو حافّة الدرج أو يضع يده على إبريقٍ ساخن فيكون الحلّ في بادئ الأمر التنبيه، ثم صرفه عن ذلك بشيء آخر كالطعام أو الحلوى وما شاكل”. أشار إلى يده وقال “هذا الخاتم هو لعبتي وحلواي لنفسي لأصرف السوء عنها وهو الشيء الذي أتيت به اليوم إليكم”.

فقالوا وما نفع الخاتم بدفع الذنوب؟!، قال ما هو مكتوبٌ عليه. وكان الخاتم عقيقاً يمانيّاً محفور عليه عبارة “يا بقيّة الله”، فقال “كلّما سوّلت لي نفسي الأمّارة بالسوء اقتراف الذنب وجّهت نظري إلى خاتم العقيق الذي في يدي، فتذكّرت إمامي محمّد بن الحسن المهديّ عجل الله فرجه الشريف وتخيلته يبكي من فعلتي ويؤنّبني عليها ويصرف نظره عنّي فامتنعت عن ذلك واستغفرت ربّي”.

وكان ما قاله مؤثّراً جدّاً بالحاضرين فمنهم من اشترى خاتماً عليه تلك العبارة ومنهم من ارتدى قلادةً محفور عليها عبارات أخرى بما يتلاءم مع مشاعرهم. يقول الراوي إنّه قد وضع عبارة “شهيد”-وقصد بذلك صديقه الشهيد محمد-تأسّياً به بعد استشهاده، فكان كلّما سوّلت نفسه فعل الذنوب نظر إلى القلادة وقال كيف أعصي الله في ذلك؟

حاج في عمر الرابعة عشرة
يروي أحد أصدقاء الشهيد المقرّبين حادثة حصلت معهم قُبَيل ذهاب الحجاج إلى الحج.

يقول: نظرت إلى الشهيد فرأيت الهم يغلب عليه، سألته عن حاله فلم يجبني. أحببت أن أمازحه علّه يبدّل همّه ببعضٍ من بسماته لكنّه لم يبدّل حزنه، انتظرت قليلاً ثمّ أشرت عليه بالذهاب إلى منزلي فيأكل عندي وأبارك بيتي بوجوده.
مرّت الساعات والدقائق وهو على نفس حالته تلك فقلت له، “إن لم تخبرني عن سبب الحزن الذي أنت عليه لن أرافقك بعدها، ولن أدخل بيتك حتّى أعلم منك سبب هذا الهم الكبير الذي تحمله على ظهرك”.

نظر الشهيد إليه وقال هل سمعت بالحج؟ قال طبعاً أعلم ما هو الحج، وكان الشهيد في الرابعة عشرة من العمر حينها، فقال له الشهيد، “وهل المحرومٌ من الحج يكون ضاحكاً لاعباً متبسّماً ولا يصيبه شيءٌ من همّ أو حزن؟!”. قال رفيقه، “الحج لمن استطاع إليه سبيلاً”.

فأجاب، “وأنا مُستطيعٌ وبكامل قوّتي وصلابة بدني وإنّي أدّخر من مصروفي للحج وسأطلب من والدايّ أن يمدّاني ببقيّة المبلغ لأذهب، ولكن تعسّر عليّ الموضوع عندما علمت أنّ الدولة المتعيّن عليها الموافقة على طلبات الحج تُهمّش من هم في سنّي”. وعلا صوت الشهيد، “ومع ذلك إنّي لشخص بالغٌ راشد أعرف مناسك الحج فقد قرأتها وتعمّقت فيها وأدّيتها في ذهني مرّات ومرّات، فكيف لا يسمحون لي بالذهاب وإنّي إن متُّ الآن وسألني ربّي عن سبب عدم تأديتها، فماذا أجيبه حينها؟ ودمعت عيناه وقال، والله إنّي في هذا الموقف لمذلولٌ صغيرٌ تافهٌ لا يحمل علّته وحجّته أمام جبّار السماء والأرض”.

وقفت مندهشاً لذلك اليقين الذي كان يحمله، ويضيف الراوي، إنّي ما نظرتُ إلى الحج بمثل هذه النظرة طيلة حياتي، وكنت أنسى فريضة الحج ولا أعتبرها واجباً إلّا على كبار السن، وعلمتُ وقتها مدى صلابة يقين هذا الشاب ومدى هشاشة عقولنا تجاه الفرائض الواجبة ناهيك عن الفرائض المستحبّة…

مرّت الأيّام والليالي وبدأ الناس بالسفر إلى الحج، فالتقيت بالشهيد محمد رباعي في الدكّان، وكان صاحب الدكّان يتابع قناةً تبثّ مراسم الحج، فتحادث مع صاحب المحل وقال له، “انظر إلى كثرة عدد المسلمين هذه السنة”، فردّ عليه صاحب الدكّان بأنّه د قدّم طلب الذهاب إلى الحج ولكن لم يأتِ اسمه، ثمّ نظر الشهيد لرفيقه وقال له، “تصوّر أنّ كل هذا الحشد بين يدي الإمام الحجّة عجل الله فرجه الشريف يبايعونه بأرواحهم ويفدونه بأكبادهم،

إنّه لمشهد مهيب”. ثمّ أضاف لافتاً، “ليتهم يهتفون في استراحتهم لبّيك يا قائم آل محمد”.

وضع صاحب الدكّان يده على رأس الشهيد وسأله عن مسكنه وبلدته، فأجابه. ثمّ سأله عن عمره فأجابه، فقال له ليت لديّ أولادٌ مثلك عَلِموا أنّ بالمهدي عجل الله فرجه الشريف تحيا الأمم.

التربية المدنية والتنشئة الوطنيّة…
يروي أحد رفاق الشهيد في المدرسة هذه الذكرى حيث يقول…
كنّا في الصف وكان الشهيد يجلس في المنتصف، أذكر أنّها كانت حصّة رياضيّات، وكان الشهيد مستمتعاً بتلك الحصّة لأنّه كان يحبّ هذه المادّة ويحبّ أستاذها، إلى أن بدأت حصّة التربية المدنيّة، قطّب حاجبيه وانزعج انزعاجاً بارزاً وواضحاً عليه كوضوح الشمس.

أتى الأستاذ إلى الحصّة وطلب من التلامذة فتح الصفحة الفلانيّة التي فيها درس أنظمة الحكم ومن بينها النظام الرأسمالي والديمقراطي وإلى ما هنالك. أشاد الأستاذ بالنظام الديمقراطي على أنّه النظام الذي يجب أن يسود العالم المتحضّر، وكل الأنظمة التي لا تتوافق مع هذا النظام لن تصل إلى المبتغى المنشود لدى الشعوب، وكل نظام يخالف الديمقراطية قد أصبح على شفير الهاوية حيث الانتهاء والانقراض.

وهو في صلب حديثه رفع الشهيد محمّد يده مستأذناً طالباً الكلام، فأشار إليه الأستاذ ليسأل، ليقول له الشهيد، “كل هذه الأنظمة إلى هلاك

ومن بينها هذا النظام الذي تُشيد به”، نظر كل طلاب الصف إلى الشهيد محمد، فقال الأستاذ، “إنّ الديمقراطيّة هي الحكم بالمساواة وإعطاء كل ذي حقّ حقّه، وهي حكم الشعب، وهذا ما ذُكِر في الكتاب وهذا ما عليك حِفظه”.

يقول رفيق الشهيد، وقف محمد وقال له، “أمّا بالنسبة للكتاب فلا أرى فيه حجّة على أحد، وأمّا بالنسبة للحفظ فأنا لا أحفظ شيئاً لا يتوافق مع الإسلام”.

يرد الأستاذ قائلاً، “وهل الإسلام لا يعطي سلطة للشعب أو لا يريد المساواة وإعطاء كل ذي حق حقّه؟!”

تبسّم الشهيد وقال، “لبنان بلد ديمقراطي ولم أرَ يوماً ما تتحدّث عنه، أما في البلاد التي يسودها ذلك النظام الديمقراطي لم ولن أرى نظاماً مرتاحاً أو حتى شعباً مرتاحا، أذْكر لي بلداً واحداً يحكمه النظام الديمقراطي حيث يكون فيه حكّامه مع شعبه في رفاهٍ ونعيم مقيم أو حتّى 90% منهم وبناء عليه بدوري لن أقاطع محاضرتك وعليّ إما أن أقبل بهذا النظام حاكماً أو أقبل به كدرس يُدرّس لنا في المناهج التعليميّة”!!

ارتبك الأستاذ واستشاط غضباً وصرخ في وجه الشهيد طالباً منه الخروج من الصف، فقام من مجلسه ووصل إلى الباب وقال له، “ليس لديّ حقد تجاهك شخصياً أو تجاه المادّة يا أستاذ، وأرجو أن لا يسبب موقفي سوء تفاهم، ولكن ماذا لو فكّرت شعوب العالم بالنظام الإسلامي

في الحكم سيجدون أنّ كل ما تم إنجازه الآن في مادّة التربية المدنيّة والتنشئة الوطنيّة هو خسارة للوقت، ولكم أتمنّى يا أستاذ أن تنظر في هذه المسألة، وأتمنّى أن نصل إلى اليوم الذي يُدرَّس فيه النظام الإسلامي في المدارس بدل هذه الأنظمة التافهة التي عانى ويعاني منها جميع شعوب العالم”، ثم خرج من الصف.

يقول رفيق الشهيد، بدأت التمتمات في الصف بأحقّية موقف الشهيد على موقف الأستاذ، فأغلب تلامذة الصف وافقوا موقف الشهيد محمد وطلبوا من الأستاذ الإذن بالخروج من الصف، فإذن لهم وخرجوا منه.

خرجتُ معهم، وصعدنا إلى المصلّى الكائن في المدرسة فوجدنا الشهيد هناك، جلسنا وصرنا نناقش هذه المسألة التي حصلت، وما هي إلا لحظات حتّى صعد الناظر إلينا وبدأ بزجرنا وتوبيخنا ظنّاً منه أننا قد هربنا من الحصّة.

أذكر جيّداً أنّ الشهيد وقف وأخبره بالحادثة، ابتسم الناظر وربّت على كتِف الشهيد وأشاد بموقفه وطلب منه عدم الدخول إلى الحصّة في ذلك اليوم حتّى يهدأ أستاذ المادة.

أما في يوم تشييع الشهيد إلى مثواه الأخير، وقع نظري على أستاذ التربية والناظر سويّاً فذهبت إليهما وسلّمت عليهما وذكرتهما بتلك الحادثة فأجهش أستاذ المادّة بالبكاء وضمّني وقال كيف أنسى ولم أرى مثله.

شاهد أيضاً

    إقرأ المزيد .. الإمام الخامنئي: الشعوب المسلمة تتوقع من حكوماتها قطع العلاقات مع ...