الرئيسية / القرآن الكريم / بيّنات في معرفة القرآن الكريم

بيّنات في معرفة القرآن الكريم

نظرة تفسيريّة موضوعيّة في خصائص القرآن الكريم

2- خصائص اللغة العربيّة اللفظيّة والمعنائيّة:

يرى علماء اللغة أنّ اللغة العربيّة تمتاز عن اللغات الأخرى بأنّها واسعة جدّاً، ولها قدرة عالية على حكاية المفاهيم المعنويّة العالية والسامية التي يطرحها القرآن، أكثر من غيرها من اللغات الأخرى. فعلى سبيل المثال: إنّ الأفعال في اللغة العربيّة لها أربع عشرة صيغة بدلاً من ستّ صيغ في لغات أخرى، ولكلّ الأسماء فيها مذكّر ومؤنّث، وتتطابق معها الأفعال والضمائر والصفات. وتتميّز اللغة العربيّة – أيضاً – بكثرة المفردات، واشتقاق الكلمات، ووفرة قواعدها، وفصاحتها، وبلاغتها، وإيجازها…

وقد اختار الله تعالى اللغة العربيّة لتكون لغة للقرآن الكريم، فقال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ[1], وقال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ[2].

وهاتان الآيتان تكشفان عن حقيقة أنّ إكساء القرآن باللغة العربيّة مُسنَد إلى

الله تعالى، وهو الذي أنزل معنى القرآن ومحتواه بقالب اللفظ العربيّ، ليكون قابلاً للتعقّل والتأمّل. وفي الآية الواردة في سورة الزخرف يقول تعالى – بعد بيان أنّ لغة القرآن هي العربيّة -: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾. وفي ذلك دلالة ما على أنّ لألفاظ الكتاب العزيز من جهة تعيّنها ونظمها على مستوى الحروف والألفاظ والجُمل والعبارات والآيات والسور، بالاستناد إلى الوحي، وكونها عربيّة، دخلاً في ضبط أسرار الآيات وحقائق المعارف ما لا يمكن إيصاله عبر لغة أخرى غير اللغة العربية، ولا يمكن تحقّقه عبر ناظم آخر لكلامه غير اللّه تعالى. ولو أنّه تعالى أوحى إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بمعناه، وكان اللفظ الحالي له هو لفظ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، كما في الأحاديث القدسية – مثلاً -، أو تُرجِم إلى لغة أخرى، لخفي بعض أسرار آياته البيّنات عن عقول الناس، ولم تنله عقولهم وأفهامهم[3].

3-ثبات اللغة العربيّة:

اللغة ظاهرة اجتماعيّة معرّضة كغيرها من الظواهر الاجتماعيّة للتغيّر والتبدّل، وإنْ كانت عمليّة التبدّل والتغيّر فيها تحتاج إلى عشرات السنين، بل مئات السنين، فما من لغة في التاريخ البشريّ إلا وقد أصابها التغيّير، إلى حدّ أنّها تبدّلت مع مرور السنين إلى لغة أخرى لا تشترك مع اللغة الأمّ إلا في الاسم. لكنّ اللغة العربيّة وحدها من اللغات البشريّة التي احتفظت بخصائصها ومميّزاتها مع مرور السنين والقرون، لأنّ القرآن الكريم حفظها فلم يطرأ عليها تغيير أو تبديل جوهريّ في بنيتها، إلا ما ندر من دخول ألفاظ بفعل احتكاك الشعوب العربيّة بحضارات وثقافات أخرى، أو ظهور معانٍ جديدة لم تكن متداولة للألفاظ سابقاً، وهذا الأمر تستوعبه اللغة العربيّة، بما تشتمل عليه من خاصّيّة التعبير المجازيّ عن معانٍ لها نحو علاقة بالمعنى الحقيقيّ، وخاصّيّات أخرى كالاشتقاق والترادُف والتعريب… وغيرها من الآليَّات التي تستخدمها اللغة العربيّة لتُجدِّد خَلاياها حتى تُناسِب العصر والمُحدَثات، مع احتفاظها بأُصُولها وألفاظها وقواعدها، حتى غدت لُغة الأدب والعلم والحضارة.

فلو ألقينا نظرة كلّيّة على أغلب مفردات اللغة العربيّة المتداولة قبل قرون من الزمن عند العرب القدماء، لوجدناها مفهومة لدى العرب المعاصرين، وليس ذلك إلا بفعل ثبات اللغة العربيّة ومتانتها، بحيث لا تنفعل بسهولة أمام لغات الثقافات والحضارات العريقة التي دخلت بموروثاتها وسماتها الحضاريّة في البيئة الإسلاميّة، كحضارات الفرس والروم وغيرهما. ولكن مع ذلك ظلَّت اللغة العربيّة محافِظة على هُويَّتها وخصائصها ومميّزاتها، فلم تنصهر في لغات هذه الثقافات، بل على العكس، جعلتها تنصهر فيها، كما نراه في اللغة الفارسيّة الحاليّة (نسبة كبيرة من مفردات اللغة الفارسيّة المعاصرة هي عربيّة الأصل).

وتجدر الإشارة إلى أنّ تميَّز اللغة العربيّة بالثبات، لا يَعنِي جمودها وعدم تطوُّرها، أو عدم انفعالها بمتغيّرات الزمان والمكان، والاحتكاك الثقافيّ والحضاريّ بلغات الشعوب الأخرى، بل إنّها متطوِّرة في إطارٍ ثابت مؤطّر بقواعد ثابتة، مع مواكبتها لكلّ زمان ومكان. لذلك لم يصبها ما أصاب اللغات الأخرى من تبدّل أو تغيير جذريّ في بنيتها، بما أدَّى إلى اندراسها، أو تبدّلها إلى لغات أخرى لا تشترك معها في الجوهر والبنية اللغويّة إلا في الاسم.

[1]– سورة يوسف، الآية 2.

[2]– سورة الزخرف، الآية 3.

[3]-الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج11، ص75. (بتصرّف)

شاهد أيضاً

الولايات المتحدة تعتزم إرسال جنرالات لوضع خطط للعملية المقترحة في رفح

تعتزم الولايات المتحدة الأمريكية إرسال جنرالات لوضع خطط للعملية المقترحة في مدينة رفح جنوبي قطاع ...