Home / *مقالات متنوعة / االدكتور عادل عبد المهدي يكشف أسرار حكومته والاسباب التي أدت لاستقالته

االدكتور عادل عبد المهدي يكشف أسرار حكومته والاسباب التي أدت لاستقالته

/حصل موقع عراقي نيوز، بالاشتراك مع قناة الأيام الفضائية، على نسخة من حوار لرئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي، كشف فيه عن ملابسات الاحداث التي جرت إبّان فترة حكومته التي استقالت نهاية العام 2019.

وحيث يشهد العالم برمته تقلبات هائلة على مستوى البنى السياسية والاقتصادية والمجتمعية وغيرها ، حتى وصلت هذه التقلبات الى التغير في شكل النظام العالمي الذي حكمته احادية صارمة تفردت فيها الولايات المتحدة الامريكية الى وقت قريب جداً قبل ان تزاحمها وتنافسها قوى دولية واقليمية اخرى على مناطق نفوذها وتمركز مصالحها. وعلى المستوى المجتمعي فقد شهدت دول عديدة من بروز وتنامي الهويات الفرعية والانتماءات. ما يمثل مساراً جديداً في طبيعة تشكل الهويات والمجتمعات وحتى الانظمة السياسية التي تنتجها تلك المجتمعات.

العراق كواحد من هذه الوحدات الدولية لم يكن بمنأى عن هذه التحولات و الاضطرابات التي تشهدها المنطقة بكافة اشكالها ومظاهرها، حيث لم يصل بعد الى مرحلة الاستقرار لاسيما في عملية البناء الداخلي للدولة بسبب عوامل عديدة، منها داخلية واخرى خارجية، فعدم نضوج العملية السياسية وعدم وجود رؤية واضحة لبناء الدولة وذلك بسبب التصادم ما بين المشاريع الحزبية المتباينة، يضاف اليها ما واجه العراق منذ تاريخ ما بعد 2003 والى عام 2014 ، كتهديد امني استطاع العراق ان يتجاوزه وينتصر عليه، ثم اعقب ذلك تحد اخر مثلته الاحتجاجات المطلبية التي تطورت فيما بعد الى صراع ارادات ومشاريع مختلفة أدت هذه التظاهرات إلى استقالة حكومة د. عادل عبد المهدي وتشكيل حكومة جديدة.

وفي اول حوار له بعد استقالته التقى فريق البحث الاستراتيجي في المعهد العراقي للحوار دولة السيد عادل عبد المهدي للحديث عن فترة حكومته وما رافقها من اسرار لم يطلع عليها الراي العام.. وقد اتبعنا في طريقة الحوار طريقة الحوار المتبادل ليكون اكثر فائدة.

واليكم نص الحوار

حوار الفكر

 كيف تنظرون إلى موضوع التدافع الدولي وعدم نضوج مشروع عراقي لاسيما عند توليكم الحكومة؟

دولة السيد عادل عبد المهدي

اعتقد ان ما جرى هو تجربة غنية جداً علينا ان نتعمق ونأخذ من دروسها الشيء الكثير، فالمتغيرات الداخلية والخارجية ليست متكاملة. هل يوجد علاقة متوازنة ما بين الداخل والخارج ؟  بحيث عندما نتكلم عن داخل وكإنما هو متكامل، وعن خارج كإنما هو حيادي، وكأن عندنا منظومة قيم وقواعد فاعلة وموحدة، ماعلينا سوى أن نستلهمها ونطبقها في بلداننا؟!

        من الصعب الخوض بقضايا الهوية وبناء الدولة والتأسيس والدستور والنظام السياسي، فالعراق تشكل بعد سايكس بيكو 1917م كعراق معاصر، أما العراق الذي نعرفه تاريخياً (عراق خلافة) له منظومة قيم وقواعد في الحكم وفي السلطة وفي مفاهيم (السكان)، يختلف في ذلك عن مفاهيم ما بعد الحرب العالمية الاولى وسايكس بيكو.

        بعد الحرب العالمية الاولى في الحقيقة حسب رأيي لم تحصل محاولات جادة للتأسيس. فدستور عام 1925م، الذي حدد شكل نظام الحكم بالنظام الملكي(الدستوري)، يجعل الملك مصاناً  غير مسؤول، وهو مستلهم من النموذج الغربي عموماً في تنظيم الدولة الحديثة. لكن هذا النظام لم تسنح  له الفرصة الكافية والشروط اللازمة ان يتأسس بحيث نستطيع ان نتحدث عن تأسيس الهوية العراقية بشكل متكامل، او النظام العراقي بشكل متكامل. السبب في رأيي ليس عدم المحاولة. فمركز القوة العالمي نفسه خلال فترة قصيرة اصابه الضعف. فتلك بريطانيا العظمى من العشرينيات الى حقبة الخمسينيات القرن الماضي ضعفت وتراجع دورها الدولي خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية.

        التأسيسات الأولى، منذ مطلع عقد عشرينيات القرن الماضي وحتى مطلع الثلاثينيات وتحديداً عام 1932 كانت مرحلة الانتداب. وعموماً العقل والتشريع البريطاني كان هو الحاكم في العراق في الخلفيات السياسية والمناهج عامة سواء تعليمية أم تنظيمية  أم إدارية …الخ. ثم بعدها بدأ تأثير بعض النفوذ الالماني في العراق لاسيما في حكومة بكر صدقي وحركة مايس، والتي هي انعكاس لصراع اوربي داخل العراق، ثم جاءت الحرب العالمية الثانية  وأثرها في تراجع دور بريطانيا وفرنسا والمانيا عالمياً، وما تبع ذلك من تصاعد دور وتاثير كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في النظام الدولي.

        اذا كان المؤسس والمركز العالمي اصابه الضعف  والتصدعات ، فهذا سينعكس قطعا على العقل و المشروع الداخلي، الذي استلهم كثيراً من مبادىء الحياة السياسية البريطانية، حتى ان مبنى البرلمان العراقي المفترض اكماله آنذاك (مبنى وزارة الدفاع حالياً)، استلهم التصاميم العمرانية البريطانية. فالوقت وتجذر التجربة واستمرار حالة الضعف والتفكك لم يسهما في تأسيس شيء متكامل لدينا، بحيث نستطيع ان نقول ان العراق امتلك خصائص تكوين هوية عراقية متكاملة وهذه حدودها، على عكس تركيا و إيران، فالعراق خصوصاً والدول العربية عموماً لم تنجح حقيقة في ان تكتسب كلياً مثل هذه الصفات.

        المحاولة التأسيسية الأولى لم تتشكل ولم تكتمل ملامحها، اذ جاءت ثورة 14تموز بمفاهيم جديدة، وهي الجمهورية والثورة، ومع الجمهورية بدأت تبرز الافكار القومية الحديثة، كالقومية العربية التي نظر لها القوميون العرب والبعث، والتي اصبحت السياسة الرسمية لمصر خصوصاً بقيادة الرئيس المصري الاسبق جمال عبد الناصر، وكذلك العراق وسوريا، وبدأت ايضاً افكار القومية الكُردية تأخذ ابعاداً اخرى تختلف عن الابعاد القديمة التي كانت تعيشها الشعوب ذات الالسن المتعددة في مراحل الخلافة العثمانية والعباسية والخلافات الاخرى وما قبلها.

        ان مرحلة الجمهورية ايضاً كانت قصيرة خلت تقريباً من محاولات تأسيس جدية. فالدستور بقي مؤقتاً. ونفس الشيء في المرحلة البعثية الاولى ثم المرحلة العارفية. نعم حصلت محاولات مع مجيء البعث مرة ثانية لتأسيس معالم نوع من الهوية، وان كان تحت حكم الاستبداد والقمع والحزب الواحد. لكن وقائع التاريخ كما تعرفون هي تداول وتداخل بين العدل والظلم. فتقيم الوقائع لنفسها ركائز وتصبح امراً مستقراً على الاقل على مدى معين من قرون وعقود معينة، بحيث يمكن تسميته نظام وهوية مستقر صاحب “شرعية” مقبولة، بالقسر والاخضاع او الممالئة او الرضا كما يقولون.. الولايات المتحدة بلد  مهاجرين تأسس بشكل ظالم على حساب السكان الاصليين، وقام على قمع وظلم وعبودية لكن بمرور الزمن والوقت اخذ “شرعيته” واخذت هذه المنظومة هويتها ودورها وتأسست دولة لها مرتكزات قوية وواضحة، بل اصبحت نموذجاً يقتدي به كثيرون عالمياً. والتاريخ سيحكم كم ستستمر كما هو شأن الحضارات والامم الاخرى، تقدماً او تراجعاً.

        ان محاولات البعث (1968-2003) للتأسيس ايضاً اصبحـت لها مرتكزات جدية، لكن ايضاً لم تستطيع ان تبلغ من القبول و النضج ما يلبي مطالب  الشعب العراقي او على الاقل السكان الذين يعيشون على ارض العراق. اعطاء الحكم الذاتي للأكراد محاولة لموضوعة المسألة الكردية ذات الطابع القومي في اطار العراق. في تعريف الدستور العراقي في فترة “البعث” فان الشعب العراقي يتكون من قوميتين، وهذه ايضاً محاولة لترسيخ توصيفات معينة للهوية العراقية ونظام الحكم. لكن الحقيقة ان النموذج العراقي، دخل في صراع مع مركبات ومكونات اخرى، فلا هو قادر على قهرها وتسييد نفسه عليها ولا على استيعابها واستبطانها، خصوصاً في البعد المذهبي والقومي والحقوقي الانساني، لذلك رفعت معارضة صدام حسين شعاراً ثلاثياً هو: ان النظام هو نظام دكتاتوري ،عنصري و طائفي.

دكتاتوري، يمس كل الشعب العراقي؛ عنصري، يشير إلى القضايا القومية؛ والطائفي، يشير إلى القضايا المذهبية. فلم يستطع النظام السابق ان يؤسس رغم ادواته ورغبته وحلمه بذلك، ثم جاءت مرحلة ما بعد 2003م. وعندما جاء الامريكي كان عنده مشروع متكامل، لبناء المجتمع والدولة كما يسميه هو، الا انه واجه مقاومة داخلية وخارجية. وكانت نظرته الاولى انه باق في العراق لفترة غير محددة، فاراد تأسيس نظام جديد يقوم على  المجمعات الانتخابية التي تعد الدستور للبلاد وعلى نموذج قائم على القيم الغربية بشكل عام، وخصوصاً القيم والمفاهيم الامريكية الجديدة.

كلكم تعرفون فتوى الامام السيستاني دامت افاضاته الرافضة لهذه الاجراءات وهذه الاساليب وعدم القبول بالاحتلال وباي دستور، الا بعودة السيادة وان يُعد الدستور من قبل جمعية منتخبة من الشعب العراقي. وهذا الذي كان والذي اخذ فترة صراع اكثر من سنتين. في هذه الظروف كُتب الدستور وقبله كُتب قانون إدارة الدولة الذي فيه الكثير من الافكار الحديثة التي لا تخلوا من بصمات الرؤية الأمريكية. وليس صحيحاً ما اشيع من ان كل شيء اعد في مكاتب في الخارج، خصوصاً فيما يتعلق بالدستور. قانون إدارة الدولة البصمة الأمريكية فيه واضحة وقوية. أما الدستور فقلل من ذلك رغم انه يناغم الكثير (وليس كل) المفاهيم المتداولة في منظمة الامم المتحدة. قام الدستور على مشاورات كثيرة وكبيرة بين المؤسسات العراقية، اذ وصلت اكثر من 600000 رسالة الى لجنة اعداد الدستور وجرت مشاورات ومناقشات واسعة حوله… الخ. وفي مرات عديدة كانت هناك اعتراضات أمريكية على اكثر من فقرة في الدستور وفي صياغات رئيسية. منها علاقة الدين بالدولة، علاقة المكونات بعضها بالبعض الاخر، هل النظام المركزي او لا مركزي، النظام برلماني ام رئاسي؟، وحقوق الانسان، خصوصاً الباب الاول والثاني، كذلك في الفصل بين السلطات، وحقوق المواطن والكثير من المبادىء الاساسية التي هي مفاهيم اساسية متقدمة تصلح للتأسيس، لكن لم تستكمل من ناحيتين.  من ناحية القوانين التي كان من المفترض ان تفعل المباديء الدستورية وبقي اكثر من 55 قانوناً دون تشريع لم تشرع نهائياً او شرعت بعجالة وتجاذبات خلافاً لمبادىء اساسية وردت في الدستور، ومن ناحية بقاء بعض المبادىء عاجزة عن تقديم حلول وسياقات عمل، لعدم وجود نهايات لها. فلم تكن هناك رؤية واضحة في كيفية وضع نهايات لهذه الامور، فكتبت اشياء بدون نهايات وتركت للقوانين التي لم تشرعن. ولأن العملية لم تستكمل لذلك بقينا نحكم عبر دستور، كُتب بايد عراقية عموماً لكنه لا يخلو من تأثيرات خارجية مباشرة وغير مباشرة، يفتح المجال لكل انسان ان يفسر المبدأ كما يشاء، وهذا ما اوجد منذ البداية خلافات كبيرة بين الفرقاء السياسيين في تفسير المواد الدستورية، كالمادة 140، وموضوع الكتلة الاكبر، واذا استقال رئيس الوزراء وحكومة تصريف الامور، وقضايا الهوية وانسجامها مع الواقع عملياً وليس نظرياً….الخ، من مبادىء معينة لم توضع لها نهايات فبقيت سائبة ، او ان تحال للمحكمة الاتحادية، والتي لعبت دوراً مرجعياً يعود اليها الفرقاء ونجحت مرات وفي مرات اخرى كان تفسيرها متأثراً بضغوطات اللحظة فتبقيها معلقة كتفسير يمسك العصى من الوسط، لا يعطي حلا بهذا الاتجاه ولا الاتجاه الآخر لذلك برزت كثير من الفراغات في التجربة السياسية العراقية.

 وصلنا اليوم الى هذه المرحلة واعتقد انجزنا اشياء كبيرة لا يُستهان بها. ان التجارب العالمية كلها أخذت قروناً وعقوداً إلى ان استقرت إلى مجتمعات معينة. فالعراق مشى بهذا الاتجاه، وسيصعب عليه ان يضع لنفسه معادلة داخلية متينة بدون ان تستقر الاوضاع المحيطة به على الاقل. اذ لا يمكن ان نتكلم وكانما نحن في فراغ. فهناك من الكرد من يقول اريد ان انفصل، ومن الشيعة من يريد الامتداد مع الهلال الشيعي، ومن السنة من يريد اقليماً، ومن التركمان من له خريطته الخاصة، لكن الجميع لا يجيب على اسئلة اساسية في الاقرار بالعيش المشترك عملياً وليس نظرياً، وفلسفة النظام العملية والمقبولة الاقتصادية والأمنية واللوجستيكية وفي العلاقة بالاخرين.

ان علاقاتنا بالمحيط، على الاقل بدول الجوار، علاقة عضوية، وليس مجرد علاقة بلد مجاور لبلد آخر، وإنما علاقة متداخلة؛ دينية، ثقافية، نسبية، اقتصادية، الخ. فالعراق لقرون طويلة جزء من الامبراطورية العثمانية، ودافع عنها ضد الغزو البريطاني، وصدرت فتاوي عراقية بهذا الخصوص. وكذلك التدافعات بين الصفويين والعثمانيين. فهل ان إيران والدول العربية وتركيا مثلاً مجرد علاقات، كالبرتغال مثلاً؟  هذه اسئلة مهمة.

لا يمكن نقاش الوضع الداخلي بدون الوضع الخارجي والعكس صحيح. خصوصاً ان العراق كان لقرون طويلة هو مركز للمنطقة وليس بلد في الاطراف وإنما في المركز والقلب. لذلك سميت بغداد بدار السلام ومدينة السلام والحكمة، الخ. العراق قبل الاسلام هو كرسي حكم لكثير من الامبراطوريات الكبرى، وفي الفترة الاسلامية، خصوصاً الخلافة العباسية كان مركز الخلافة وكان دائماً في قلب المشروع الموجود في المنطقة، وبالتالي ليس بـ”جرة قلم” نتكلم عن العراق كأنما هو أخذ هذا الشكل،  وعلينا مجرد ان نبحث من هذا الموقع.  اعتقد ان هذا سيرتد علينا، بمعنى عدم فهمه جيداً. وستبرز لنا المتطلبات والضغوطات من جديد بشكل او آخر. كما لو اردنا اهمال المسألة الكُردية والواقع الجيوبولتيكي الكُردي وارتباطاته المختلفة الداخلية وبالدول الاخرى، او الواقع المذهبي الموجود في العراق والمنطقة، او الواقع الثقافي والتيارات الحقيقية في المنطقة. فهذه كلها متشابكة ولها امتدادات تأثر في  الداخل العراقي. وان جزءً مما عشناه من مظاهرات او ما نعيشه من تداعيات وتدافعات ومواقف من مختلف الدول له حسابات اقليمية، والعراق له ايضاً حسابات اقليمية مع الآخرين. وسيبقى العراق ضعيفاً تتجاذبه النزعات، إن لم يكتشف عوامل قوته الداخلية ومع اقليمه ويستخدمها لتعزيز مكانته ولعب دوره الذي يتناسب مع طبائعه ومصالحه والذي لعبه تاريخياً.

حوار الفكر:

        السؤال الاستراتيجي المهم؛ الذي هو يتعلق بحركتكم الخارجية، و فيما يتعلق بالانفتاح على دول الجوار كانت حركة موفقة جداً. الحديث عن الصين، و عن القمة الثلاثية(مصر، الاردن، العراق) و عن العمق الاسلامي، و العمق العربي، لكنها ايضاً اصطدمت بإرادة عظمى، والتي هي الولايات المتحدة الأمريكية.

السيد عادل عبدالمهدي يعرف وليس بعيداً عن الصراعات الدولية في المنطقة، لكن الكل يتحدث عن المشروع العراقي- الصيني بمبادرة الحزام والطريق هي التي ابعدت السيد عبد المهدي عن محاولات بناء الدولة ومؤسسات القانون.

لديكم رؤية بإن شكل النظام الدولي الاحادي قد تم كسرها، إذ اليوم تزايدت ادوار فاعلين آخرين، كالاتحاد الأوربي وروسيا الاتحادية والصين، بالمقابل، ان الولايات المتحدة كان لها دور اساس في الوقوف امام مشاريع عراقية خالصة، منها الانفتاح على قوى يمكن اعتبارها قوى ليست مهيمنة وانما مؤثرة في النظام الدولي؛ كيف تقرؤون دور وتأثير الولايات المتحدة في شكل النظام، هل لاتزال هي القوة المهيمنة او السوبر ام ان شكل النظام قد كُسر وان المعادلات قد اختلفت؟.

دولة السيد عادل عبدالمهدي:

لم يكن مجيء حكومتنا بسبب امتلاكنا كتلة نيابية. انا تركت المجلس الاعلى في  2015م. وان الموجة التي شهدناها بالبحث عن مستقلين، قد مثلت -في رأيي- حلاً للآخرين وليس حلاً للازمة التي وقفت عندها البلاد في 2018. حاول الاخرون الوصول إلى نتيجة لتجاوز انغلاق مسارات تفسير الكتلة الأكبر، او الوصول لتوازنات مقبولة من قبل القوى السياسية. فكنا حلاً مؤقتاً لهم، حل لأزمة سياسية موجودة في البلد، رغم انني كُنت ممتنعاً وكتبت عدة مقالات تبين ان الشروط غير متوفرة. قالوا ان البلاد تقف على حافة الهاوية والفتنة الكبرى، فوافقنا. وبمجرد ان شكلت الحكومة تركت مكشوفة وبدون غطاء سياسي حقيقي، فالحكومة لم تكن لها قاعدة سياسية وبرلمانية بل لها فقط علاقات تاريخية مع هذا الشخصية او تلك القوة، اكثر مما هي التزامات لمشروع كبير كمشروع الحكم والدولة.

        ان التنافس الذي كان موجوداً قبل تشكيل الحكومة وجد لنفسه مظلة للاستمرار، خصوصاً ان الحكومة لم تكن  انتقامية او سلطوية. فبدأت من جديد ومنذ الايام الاولى عوامل العرقلة والمزايدات واصبحت هذه العوامل هي الحاكمة، اكثر من عوامل الدعم والتيسير في الاجراءات والمعادلات السياسية.

         انا اقول وهذا كتبته واكدته عدة مرات، خصوصاً في الرسائل الأخيرة بعد الاستقالة في نهاية تشرين الثاني 2019.. فعندما اثار السيد مقتدى الصدر عدة مرات مقترح الانتخابات المبكرة، قلنا بالعكس في رسائل مكتوبة: توصلوا إلى مرشح، وستستقيل الحكومة في اليوم التالي.. فلا توجد اية رغبة في التشبث بإي شكل كان. وبعد الاستقالة مرت خمسة اشهر وبذلنا جهوداً كبيرة لمساعدة المكلفين ولم نعرقل، سواء مع الاخ (محمد توفيق) علاوي او الاخ (عدنان) الزرفي وأخيراً الاخ  (مصطفى )الكاظمي.

        في ظروفنا، تشكيل الحكومة في العراق يعتمد في رأيي على عاملين اساسيين:

الأول: التوازن الداخلي، فالمرشح يجب ان يحضى بتإييد من الاغلبية الشيعية الفاعلة والسياسية. وليس بالضرورة الجميع، لكن صاحبة الكلمة في وسط الاغلبية. ومن ثم تأييد المركبات والمكونات الآخرى كالسنية والكُردية والتركمانية وغيرها. فتأييد المكونات الاخرى ضروري لكنه لاحق لاختيار الاغلبية لمرشحها. وهذه نقطة مهمة ارجو ان نقف عندها.

        بدون أي بعد طائفي او مذهبي، فان وجود اغلبية داخلية شيعية سكانية كان دائما موجوداً، لكنه كان بالامكان حكم البلاد بطرق آخرى، اما بالتراضي كما حصل في المرحلة الملكية، فالملك فيصل الاول، حاول ان يتراضى مع الآخرين. وكلنا نعرف ان الشيخ محمد رضا الشبيبي هو من ذهب لاستقدام فيصل الأول، وكلنا نعرف ان المرجعية باركت لفيصل الأول على الرغم من انه من غير مذهبها، رغم انها وقفت ضد الاحتلال والانتداب بشكل عام، وقادت ثورة العشرين التي قهرت، فكان ما كان.

         لم يطرح هذا الامر اية مشكلة بالنسبة لمن يختلف في المذهب او القومية او الدين مع الملك فيصل الاول. لذلك جاء الملك فيصل الاول بناءً على التراضي وبايعه كبار علماء الشيعة والسنة. الخلاف كان مع الاحتلال والانتداب والانكليز الذين ساهموا ايضاً بتنصيب الملك. لكن الامر لم يكن هو نفسه بالنسبة لكثيرين من النخبة الذين جاؤوا معه، والذين حملوا معهم انتماءات مذهبية محددة، فلم يميزوا بين مذهبيتهم وكونهم اصبحوا حكاماً عليهم احترام ثقافة وانتماءات الاغلبية، دون الكلام عن الاخرين ايضاً. وهناك امثلة وتطبيقات وتداعيات كثيرة لكننا نشير بسرعة لموضوع الجنسية.

        عند انفكاك العراق عن الخلافة العثمانية كان لابد من تحديد هوية العراقي. والجنسية هي ابرز عناوينها. فحدد دستور 1925 العراقي باعتباره (أ) من حملة الجنسية العثمانية، او (ب) ممن سكن العراق في تاريخ وفترة محددتين. لم يحدد دستور 1925 اي تمييز او امتياز بين (أ) و (ب) فالتراتبية هي للتعداد فقط وليس لاي غرض اخر. لكن اطراف النخبة بدأوا يتعاملون وكأن (أ) هو الاصيل و (ب) هو التابع او ما صار يعرف لاحقاً بـ”التبعية”. وقد جاءت تعليمات وزارة الداخلية في اوائل الاربعينات لتعزز مفاهيم منحرفة لموضوع الهوية والجنسية. فحصلت مشاكل عديدة، وحُرم ملايين من حقوقهم ومواطنتهم واملاكهم، واستمرت مضاعفات هذا التحريف في مقاطع عديدة من حياة هذا الشعب وتسببت بمعاناة عانى -وما زال يعاني منها الكثير- من العراقيين.

في اي بلد من العالم اذا لم تضمن مصالح الاغلبية لا يمكن للبلدان ان تستقر. وهذه حقيقة  في كل الدول(علمانية او دينية). اليوم يندر في فرنسا مثلاً توقع مجيء رئيس بروتستانتي، ولا في امريكا مجيء رئيس كاثوليكي ماعدا حالة كندي، و الرئيس المنتخب (بايدن)، رغم انها كلها بلدان قطعت شوطاً في تغيير هوياتها السابقة المكوناتية ان كانت مذهبية او دينية، وان حالة اوباما ذو البشرة (الملونة) ما زالت استثناء في تاريخ امريكا، بسبب الاغلبية البيضاء.

نعم قد تتغير الامور بمرور الوقت بشكل طبيعي وتدريجي، او قسري وعنيف ويتم قبولها او الخضوع والاستسلام لها نهائياً (كما في حالة السكان الاصليين في المستعمرات والمتسوطنات الجديدة) لكن هذه الامور لا تحصل في لحظة واحدة ولا بقرارات من النخبة، فلابد من عملية هضم او استسلام اجتماعي لتصبح مقبولة او سائدة.

ان اي بلد في العالم عندما لا تضمن مصالح الاغلبية فيه فهذه الأخيرة ضامنة لمصالحها  فهنا نقع في مشكلة. والعكس صحيح، فالاغلبية لن تستقر ان لم تضمن بدورها مصالح الاخرين. وهكذا يبقى الجميع -ومعهم المجتمع- متوتراً ومتنازعاً يستضعف بعضه بعضا.

تجدون اليوم عندما نأتي  الى اختيار شخصية رئيس الوزراء، الكُردي والسني وغيرهم يقولون ياشيعة اختاروا، هذا مثال بسيط، بعدما تغيرت المعادلة بعد 2003م.  الشيعة ليست مفردة مذهبية فقط، وليسوا مجرد اغلبية سكانية. الشيعة لهم ثقل كبير في الثقافة العامة، في التاريخ، وفي التقاليد ناهيك عن الامور الاخرى.  صدام حاول مثلاً ان ينسب نفسه للامام الحسين(ع) وهذه ليست مسألة عادية. هذه مسألة تشير لمحاولة الحاكم التماهي مع الأغلبية، كذلك الخليفة العباسي المأمون هو الآخر حاول التقرب من الامام الرضا(ع) . فاما التماهي او التصادم والقمع و الاستبداد. فإذا لم يعرف المكون الشيعي مصالحه، ولم يكن منصفاً وعادلاً  مع الآخرين فمن الصعب حكم العراق. اذا لم يفهم الشيعي الوضع الكُردي او الواقع السني او المسيحي او العلماني والثقافات المختلفة فسيضر بمصالحه ومصالح الاخرين والبلاد. لكن على الاخرين ايضاً ان يعرفوا مصالحهم لانه بدون ذلك لن تستقيم المعادلة. فهناك افاق وحدود لكل مكون ومركب فان لم تحدد افاق وحدود الجميع فان الالفة الاجتماعية لن تتحقق وسنؤسس لنظام متصادم وليس منسجماً ومتصالحاً. فعلى العقل الشيعي، والعقول الاخرى ايضاً، فعلاً ان تكون ناضجة اذ اردنا الوصول الى الحكم الراشد العادل والاستقرار ليترك لمفهوم المواطنة ان تنجج وتصبح حاكمة ومستدامة ما دامت مستبطنة لمصالح الجميع.

فاذا لم تعرف الاغلبية الشيعية وكذلك بقية المكونات مصالحها وحدودها وافاقها، وبقي كل طرف مغلق على نفسه ومنفصل في وعيه وسلوكه العميق عن الاخرين فمن الصعب تحديد الوطنية وتفعيل قوة الشعب والمجتمع والدولة ومرتكزات اساسية للحكم في العراق. وهو ما يتطلب الفهم العالي والصراحة والجدية وتقدير مصالح الاخر والانا في آن واحد والابتعاد عن الشعارات العامة والشعبوية. ولنا في التجربة الامريكية اليوم خير مثال. فالرئيس ترامب لعب على لغة التطرف لدى الاغلبية البيضاء، لكنه خسر شرائح مهمة من المكونات الاخرى، بل خسر احجاماً كبيرة من الاغلبية البيضاء التي تنافسه على الحكم (كلنتون في 2016 وبايدن الان). وان مجيء اوباما باصوله الافريقية وما يجري اليوم من صدامات وتجاذبات هو ان المجتمع الامريكي يعيد تركيب نفسه بعد التطورات الاجتماعية الكبرى التي حصلت فيه وفي العالم. وهذا مثال للاستفادة من تجربة كبيرة ومهيمنة، فكيف بنا في مخاضاتنا الحالية. علماً ان الامثلة تضرب ولا تقاس.

اعتقد ان هذه المعادلة واضحة جداً وعلمية جداً. في البداية (في فترة المعارضة) كان الكلام فقط عن اضطهاد الشعب العراقي. ورغم هول اضطهاد الشعب لكن الشعارات العامة لم تحرك الاحاسيس المباشرة والخاصة. فكان لابد من مخاطبة الحس الخاص لكشف الطبيعة الخاصة للنظام الذي كان نظاماً طائفياً وعنصرياً واستبدادياً. فتغير الخطاب في نهاية الثمانينات واخذت الشعارات تلامس بشكل اكثر مباشرة الحالات المشخصة. فصار الشيعي يشعر انه سيأخذ حقوقه لأنه يتعرض لاضطهاد طائفي، وصار الكردي يشعر انه سيأخذ حقوقه لأنه يتعرض لاضطهاد عنصري، وصار السني والجميع يشعرون انهم سيأخذون حقوقهم لانهم يتعرضون لاضطهاد استبدادي اضافة للاضطهاد المركب الاخر. بل فرض هذا الفهم الجديد نفسه على لقاءات قوى المعارضة ومؤتمراتها وبياناتها وقراراتها ونسب التمثيل فيها لتعكس وزن المكونات وحقوقهم ومطالبهم جميعاً بشكل بعيد عن المجاملات والشعارات المجردة.

الثاني:  اشكر د. خالد( عبد الاله). فلقد عبرنا دائماً عن الرؤية التي  نعبر عنها الآن وهي، بدون خارجنا سيكون داخلنا معطلاً، وبدون داخلنا سيكون خارجنا معطلاً. وحاولنا وضع هذه المعادلة موضع التطبيق.

ذهبنا إلى الاردن وحاولنا ان نحل المشاكل معها، قالوا كيف تبيعون النفط للأردن وقد يؤثر ذلك على انتاج بعض السلع عندنا. قلنا هذه علاقات استراتيجية يدخل فيها تبادل السلع والامن والسياسة وحركة الاستثمار مما سينمي القطاع الزراعي والصناعي وغيرهما بالكليات وليس بالجزئيات. فلقد احتسبنا كل ما سنتبادل به مع الاردن بحيث لا يؤثر على اي انتاج لدينا بل سينميه. هذه افاق كبيرة. ثم في نفس الاتجاه عقدنا قمة ثلاثية مع مصر والاردن، ولم تكن محوراً ضد احد ولكن لتفعيل المشتركات بين الثلاثة. ثم ذهبنا للسعودية بنفس الاتجاهات. ومع ايران والكويت وتركيا وغيرهم. بهدف علاقات ممتازة، ومبدؤها، نعم لدينا خلافات؛ مع الكويت، لكن عندنا مشتركات وثيقة، وعلى ضوئها نبني علاقات وثيقة وانجازات نكون اقدر واقوى بعدها على حل الخلافات. البقاء على الممارسات السابقة في الوقوف عند الخلافات معناه  تعطيل التاريخ، وتعطيل المصالح واستمرار حالة الضعف والتمزق الداخلي والخارجي. معناه التراجع، وخسارتنا جميعاً، ولن يكون اياً منا رابحاً ولن نحدث اي تراكم ايجابي، لذلك ذهبنا إلى هذه العلاقات.

بعد 2003 لعب العامل الخارجي دوراً مهماً في تشكيل الحكومات كلازمة مع الشرط الاول وهو العامل الداخلي. ولاسباب عديدة باتت امريكا وايران بلدين اساسيين مؤثرين في العراق (ولعبت دولاً اخرى ادواراً لكن اقل اهمية) وفي القرار السياسي العراقي، ولهما ثقلهما الكبير في السياسات الجارية. وهذا واقع وليس خياراً،  يجب ان نضعه بالحسبان. ومن يقفز على هذه الحقيقة ستختل حساباته، دون ان يعني ذلك ان هذه المعادلة لن تتغير، بل يجب ان تتغير. ومن يعرف بواطن السياسة العراقية بعد 2003 يعرف بالاسماء والتواريخ واللقاءات والمواقف مدى تداخل هذه الامور وضغطها على قراراتنا وسياساتنا.

نحن عشنا مراحل اخطر، ما قبل 2003م وبعده. ففي الصراع الأمريكي–الإيراني، كانت أمريكا تعرف الخطوط الحمراء الإيرانية في العراق فلا تمسها. فالشهيد قاسم سليماني(رحمه الله) كان دائما مكشوفاً وكان يمكن استهدافه بسهولة، لكن لم يكن هناك قرار بمستوى الذي حصل في مطار بغداد. بالمقابل الإيراني يعرف الخطوط الحمراء الأمريكية. الطرفان كانا يتصارعان ولهما مواقف مختلفة حول العراق ودورهما فيه ويقومان باعمال محدودة ومحسوبة لا تقترب من الخطوط الحمراء. لكن الذي حصل في حكومتي، ان الادارة الأمريكية غيرت قواعد السلوكيات والعلاقات. واذا عدتم إلى المنهاج الوزاري الذي قدمته إلى مجلس النواب،  قلنا نحن لسنا جزء من نظام العقوبات ولسنا جزء من  مقاتلة بلد عندنا معه علاقات دبلوماسية  ونشير بذلك إلى أمريكا. دولة العراق ليست جزء من محور المقاومة. والكلام هنا عن الدولة اما الجمهور او قسم من الجمهور فله نقاش اخر.

العراق يرغب ان تكون له علاقات جيدة بالجميع، وعمق العلاقات وتطورها لا يعتمد على العراق فقط بل على ما يعرضه الاخرون ايضاً وموقفهم من مجمل القضايا التي يكون العراق طرفاً فيها. الحكومة تشكلت بتاريخ 24/10/2018 لكن العقوبات بدأت تأخذ جانبها التنفيذي في 5/11، اي بعد 10 ايام من تشكيل الحكومة. بدأ الأمريكان بالقول ليس لدينا ابيض واسود. اما ان تكون معي او ضدي. قلنا لهم: “يمعودين يا جماعة احنا ما نكدر نصير معك لو ضدك”. العراق (كحكومة ودولة) دائماً موقعه  متوازن بين الطرفين، و مبدأ (معي أو ضدي)، يجعلني أما أن اذهب بالضد من جيراني وهذا لا يمكن، او  اذهب  بالضد  منكم وهذا ايضاً لا يمكن، فالعراق دولة ولها التزامات داخلية وخارجية، قالوا لنا ليس عندكم خيار الا ان تكونوا معنا او ضدنا.

على أثرها بدأت سياسة الرئيس ترامب التي لا تحتاج إلى براهين بالضغط والمضايقة، فهي مكشوفة للغاية ويصرح بها دائماً وعلناً، اما معي او ضدي.

كنت على اتصال دائم بكبار المسؤولين خصوصاً وزير الخارجية السيد بومبيو، وكنت اقول له انتم بلد صديق وانا عندي بلد جار، كيف اقف معك  ضد جاري او كيف اقف مع جاري ضدك، او اقول له انت تبعد عني 5000 ميل، ولي تاريخ 5000 سنة مع ايران فكيف اقف ضد ايران… الخ. هذا غير منطقي،  عليكم ان تراعوا الوضع العراقي كون الانحياز الى جانب طرف على حساب آخر غير ممكن. وتصوري ان الامريكان بعملهم هذا يدفعون الكثير من القوى الى صف خصومهم.

هنا بدأت العلاقات بيننا تتوتر، فقد كان اما ان اتراجع عن هذا المبدأ واعرض البلد الى شيء خطر جداً وهذا غير ممكن، او ان ابقى اوازن  قدر الامكان، وهذه المسألة  دفعنا ثمنها.

بخصوص الحشد الشعبي، عند مجيئنا فان اول الاعمال  التي قمنا بها هي المساواة بين مرتبات الحشد الشعبي والقوات المسلحة، فمن غير المعقول ان قوة مقاتلة تقف و تقاتل وتستشهد، لكنها تاخذ نصف الراتب مما تأخذه بقية القوات المسلحة.

ان للحشد الشعبي دوراً مهماً و كبيراً في العراق، وعندما نغيب الحشد الشعبي نرجع إلى نفس قصة  عام 2014م. في عام 2014م كان عندنا ثلاث فرق عسكرية في الموصل. بالمقابل مئات الدواعش احتلوا الموصل. فالروح القتالية وليس العدد هي الاهم، فاذا لم تتوفر كما توفرت لاحقاً عندما التحم الحشد ببقية القوات المسلحة فلن يتحقق النصر في معاركنا. فمسألة الحشد وشيطنته معناها خيانة لمصالح ليس فقط الشيعة وأنما عموم الشعب العراقي. كم قدمت المناطق السنية من تضحيات وكم قدم الحشد الذي يضم شيعة وسنة وغيرهم لتحريرها. نعم بعد أي حرب وخلال الحرب تحصل اخطاء. الجيوش بما فيها الامريكية والاوروبية وغيرها ترتكب اخطاء وجرائم ايضاً. ففي كل الحروب وبعدها هناك اخطاء. لكن جوهر الحرب هو الانتصار، وجوهر الانتصار هو عدالته وادامته بتصحيح الاخطاء لا بشيطنة القوى التي حققت النصر. هذا هو الاساس.

لو اخذ “داعش” بغداد، لصارت لدينا تداعيات ما يسمى بلعبة “الدومينو” ولانهار البلد كله ولسقطت اربيل وغيرها، كما سقطت الانبار ونينوى ومناطق اخرى. ماذا كان سيحصل بعد ذلك، لذلك يجب طرح اسئلة جدية، وعدم الشيطنة والبقاء في الشعارات والتهريج والتجييش ضد الاخرين الذين صنعوا النصر.

فالمشكلة مع الخارج هو ان السياسة الأمريكية تغيرت بشكل جذري مع مجيء ترامب، فنحن لم نتغير. السياسة الامريكية اصبحت تطلب منا السير على قدم واحدة. والسير على قدم واحدة من السهل ان يضرب احدهم القدم الباقية فنقع كلياً. وهذا ما حصل. فما كان بالامكان ان نقبل سياسة معاداة ايران. لم نقبلها مع الديمقراطيين ولم يكن بالامكان قبولها مع الجمهوريين. لذلك في الترشيحات للبدائل من بعدي، وهو ما كتبته ايضاً في بيانات علنية؛  كنت احبذ ان يأتي شخص مرضي عنه غربياً وموافق عليه شرقياً حتى نعيد بعض التوازنات. على الامريكي ان يراجع مواقفه. ففي هذه الاوضاع الخطرة وجدنا ولا زلنا نجد انه يجب توفير مستلزمات الشرطين الداخلي والخارجي، وفي هذا تفسير لمن لامنا على بعض مواقفنا.

حوار الفكر

        العراق لا يُنظر إليه من الارض، ينبغي ان يُنظر إليه من السماء كون موقعه جيوبولتيكي و تجري فيه عملية التأثر والتأثير كما وصفتم. اما نحن فنرتبط بعلاقات عضوية وليس بعلاقات جغرافية، والاولى هي علاقة اعتماد متبادلة تأثير وتأثر، سواء على المستوى الديني الأجتماعي، الثقافي، القومي والعرقي..الخ. منذ تأسيس الدولة العراقية المعاصرة إلى الآن فقدنا هذه الميزة بسبب اغلب صُناع القرار.

          كما اشار جنابكم ، احد اسباب سقوط الملكية هو قصر النظر في عملية قراءة البيئة الخارجية وهذا ادى فيما ادى إليه من تداعيات. والأمر الآخر؛ الذي يتعلق بالهوية، في الحقيقة يوجد مشكلة في الهوية العراقية والملك فيصل  اشار إلى هذا الموضوع وذكر  حنا بطاطو  في كتابه (الطبقات) بأننا لا نتعامل مع شعب واحد بل مع مجموعة(سنية، شيعية، كُردية) وبقية الأنتماءات الفرعية الآخرى. يُريد ان يُبين انه لايوجد هناك امة كما يعرف جنابكم، عندنا في طريقة تكوين الهوية طريقتان: واحدة منها ان الهوية او الأمة تكون دولة وهذا ما اتبعته كل من فرنسا واسبانيا وغيرها من الدول الأوربية كذلك طريقة الولايات المتحدة الأمريكية، والآخيرة تُعد من افضل النماذج للأندماج الأجتماعي. القصور الى اننا و منذ انشاء الدولة العراقية إلى الوقت الحاضر عند بناء الهوية يُتبع اسلوبين، الخشن والناعم في هذا البناء، وفي العراق فان السلطة الحاكمة دائما كانت تتبع الأسلوب الخشن، لاسيما نظام صدام حسين، اذ اعتمد الأخير الاسلوب الخشن لاعتقاده انه سيكوّن هوية، لكن كانت مآلاته عكسية على الدولة العراقية وبناء الهوية العراقية.

الأمر الآخر، ان النظرية البنائية في العلاقات الدولية، تركز على البنى الأجتماعية المتمثلة في اللغة والهوية والثقافة والحضارة … الخ، في العلاقة البينية سواء بين الافراد داخل المجتمعات ام بين شعوب الدول. المشكلة اغلب الحكام بعد 1958م إلى الوقت الحاضر لم يأت حاكم يؤمن بالجغرافية العراقية وحدوها، وكيف يوظف علاقته العضوية في خدمة هذه الهوية. دائما ماتكون ارتباطاتنا عابرة للحدود مما ادى إلى استنزاف مواردنا والدخول في حروب كما فعل النظام السابق  وخاض ثلاثة حروب دامية استنزفت مواردنا المادية، ولم يستطع الحاكم العراقي ان يوظف هذه الافكار العابرة للحدود؛ مرة نوصل للمحيط الاطلسي ومرة نوصل للبحر الابيض المتوسط  ومرة نذهب إلى الجبال. القصد من الكلام، في بعض الاحيان الحاكم يؤثر كثيراً في بناء الهوية، اذ لم يؤمن بالهوية.

سيادتكم ذو خبرة كبيرة وتعامل مع اغلب القيادات السياسية والتيارات الحزبية، هل التيارات السياسية العراقية اليوم فقدت جاذبيتها؟ وهل فعلاً اليوم بحاجة انا لا نؤمن بالشخص وانما بالمؤسسة وما يكون بعد هذه المؤسسة، هل نحن بحاجة إلى تيارات مختلفة ام تطور هذه التيارات، حسب تجربتكم الشخصية؟

و كيف يرى سيادتكم المستقبل القريب في ظل هذه الظروف والاوضاع المعقدة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وحتى صحياً؟

دولة السيد عادل عبدالمهدي:

        نحن أمة معلقة وفيها انقسامات وشعبنا ودولتنا تنقصهما الكثير من المستلزمات ليكونا فاعلين حقيقة، ليس لعدم وجود المشتركات الكثيرة والتي كانت فاعلة تاريخياً، لكن لانغلاقنا على انفسنا لعوامل داخلية وخارجية. لهذا هذه الدولة لم ولا تمتلك قابلية توظيف المواطنة والامة بشكل فاعل ووظيفي، كما ذكرت في اول الكلام. لم نستكمل مرحلة التأسيس الحقيقية (بعد سقوط الخلافة) لتؤسس للمواطن والمواطنة المفاهيم اللازمة. المواطن الشيعي مثلاً عندما يقف امام تاريخه الممتد تتشكل لديه ذاكرة متقطعة. فلا يتسنى له دراسة التجربة العباسية لاننا نخلط بين العقيدة والحضارة. فنتعامل مع التاريخ بالعقيدة فنرفض المرحلة العباسية بمجملها ونحكم عليها سلباً ولا نعتبر انجازاتها جزءاً منا، لان حكامها اضطهدوا ال البيت عليهم السلام. وهذا ما يطرح اشكالية تكون الذاكرة الموحدة المتواصلة والممتدة.

        بينما الإيراني ذاكرته متواصلة مع قبل الاسلام وبعده، مع مراحل التسنن والتشيع فيه، الخ، لانه يضع الانجازات في جانب وسلوكيات الحكام في جانب اخر. فللعقيدة مساحتها وللحضارة مساحتها المتداخلة لكن المتمايزة ايضاً. كيف نتعامل مع الخلافة العثمانية بما لها وما عليها فلا ارفضها كليا او اقبلها كلياً. فكيف سيتعامل الشيعة مع السنة او بالعكس ان لم نميز بين العقيدة من جهة والحضارة والحياة والسياسة والاقتصاد والعلم وعالم الروايات والاساطير (الميثولوجيا) من جهة اخرى؟ كلها مختلطة لدينا بدفعة واحدة، فلذلك ابقى تائهاً لا اعرف طريقي من والى اين انا ذاهب. وهذه مشكلة في المناهج بما في ذلك في الجامعات، فنستعير تجارب اخرى يسهل تقديمها وفهمها رغم صعوبة تطبيقاتها، ولا نقايسها على واقعنا وتاريخنا ووقائعنا الذي نمزقه بايدينا فيصعب توظيفه وتفعيله لنؤسس لنموذجنا الحضاري. هذه مشكلة حقيقية وكبيرة.

ما قاله الدكتور(عادل) البديوي صحيح في السؤال عن ان العراق يجب النظر اليه من السماء ايضاً وليس من الارض فقط. خذ سويسرا مثلاً في طبيعة تكوينها بتاريخها وجوارها. ماذا سيبقى من الثقافة والهوية في سويسرا  اذا ازلت اللغة والثقافة الفرنسية والألمانية والأيطالية التي تشكل اكثر من 99% من لغة وثقافة السكان. اما اللغة الرابعة، اي “الرومانشية” فهي لا تمثل سوى نصف بالمئة من السكان واقل منهم عدد السكان الاصليين الناطقين بالرومانية. فسويسرا دولة قوية ومتماسكة بتنوعها وانفتاحها على جوارها، اما نحن فيريدون اضعافنا ويحولون تنوعنا الذي هو نعمة الى نقمة فنضعف انفسنا لنتصادم فيما بيننا ومع جوارنا. هذا كله يجب ان نضعه على الطاولة الآن، وان نتعامل مع التاريخ والمحيط كجزء من داخلنا، كما نتعامل مع داخلنا كجزء من خارجنا. وان لا نقص الاثنين بمقص فندمر مقوماتنا الاساسية لتعريف ذواتنا ولتفعيل امكانياتنا. هذا غير ممكن، بهذا الوضع لن نصل إلى نتائج ولو بعد الف سنة.

        بدون هذه المقدمات لا نستطيع صياغة تعايش للعراقيين بمختلف تكويناتهم وانتماءاتهم.

بسبب فترة المعارضة الطويلة بقت احزابها تحمل عقلية المعارضة حتى وان اصبحت في السلطة. كونها اعتادت اسلوب المعارضة. فالمعارضة سهلة. وانت تبقى متوحداً بشكل ما حتى وان كان لكل عمله المختلف. فمنا من كان يعمل في مجال حقوق الأنسان والآخر يعمل في الكفاح المسلح، الخ. فلا توجد مشاكل معطلة بيننا، فكل واحد يؤدي دوره، ونلتقي عند اسقاط النظام، لا فرق بين معارض من هذا المذهب او تلك القومية او علماني او اسلامي او مسيحي، الخ. بينما قيادة الدولة تريد عقلية اخرى توحد بما يسمح بالعمل والانجاز والتقدم، والاتفاق على منهاج سياسي وأمني واقتصادي واجتماعي وعلاقات خارجية. وعليه بقينا كأحزاب معارضة وليس كاحزاب دولة تعمل موالاتها ومعارضتها باساليب تختلف عن اساليب مراحل اسقاط النظام. في احدى اجتماعات الائتلاف الوطني العراقي (2006) بعد فوزه في الانتخابات وحصوله على 128 مقعداً وكان الكتلة الاكبر. كان علينا اختيار رئيس الوزراء وجرت داخل الائتلاف انتخابات. حصل الدكتور ابراهيم الجعفري 64 صوتاً، وانا حصلت على 63 صوتاً. وفي كلمتي امام أعضاء الائتلاف قلت: يا اخوان انتم انتخبتم على اساس هذا من “حزب الدعوة” وهذا من “المجلس الاعلى”. هل سألتم المرشحين حول مناهجهم الأمنية، الاقتصادية، السياسية..الخ؟، لم تسألوا كيف تكون ادارة الدولة وانتم اليوم الطرف الحاكم. فلا انتم عبدالكريم قاسم ولا انتم صدام حسين، انتم اليوم كتلة الاغلبية النيابية، فكيف سندير امور وشؤون الدولة؟.

        النظام الذي قبلكم كانت احدى ديناميكيات حكمه للمجتمع والدولة هي القوة او العصى والقمع، وهذا امر مضحك مبكي. فعند تشييد جسر معين مثلاً، فاي تلكأ في العمل قد يعرض مهندسين لعقوبة الاعدام. أذ كان القمع احدى ادوات تحرك النظام. نحن الآن لا نريد استخدام القمع. فكيف سيتحرك النظام. النظم تتحرك بالدوافع والحقوق. فهل عرّفنا الدوافع والحقوق ووضعنا اصحابها في مواقعهم الصحيحة لتتحرك عندنا المركبات الأجتماعية، ان كانوا مواطنين او نقابات او عشائر وغرف تجارة وصناعة وإعلام والاموال والعمالة، الخ. فعندما يندفع كل من هؤلاء للدفاع عن حقوقه ومصالحه ومن مواقعهم المناسبة، وترعاهم الدولة وتحميهم فان المجتمع سيتحرك معهم حسب الدوافع والحقوق التي نظمها الدستور. وهذا ما لم نقم به نحن.

        فالقوى السياسية لم تراجع نفسها، واصبح همها الفوز بالموقع وتعتبره هو النجاح، ولم يكن همها بناء الدولة والمجتمع، وإعادة تركيب الحياة السياسية في البلد في ظروف جديدة. فمعيار النجاح اصبح وجود احدهم في الموقع وليس مقدار ما يحققه في مشروعه الوظيفي من بناءات، فالقوى السياسية دفعت الثمن وانفصلت عن جمهورها. فلم تصمم القوانين الانتخابية على اولوية انعكاس ارادة الشعب في الانتخابات، فكل الهم، هو: كم ساحصل وما هي نسبتي من هذا النظام، وعلى ضوئه اقيّم موقفي من القائمة المغلقة او الدوائر الصغيرة او غيرهما. فالمعيار كم ساكسب من الاصوات وهذا لا يصح.

        ان المقارنة بين الاحزاب في العراق والأحزاب في دول اخرى، ان الأحزاب هناك استطاعت التماشي مع جمهورها، والاخير اصبح يؤثر في برامجها وقياداتها، بينما عندنا انفصال و هوة بين الحزب والجمهور. فالجمهور لدى الاحزاب اداة وليس هدفاً. يُنظر اليه كشاهد على حفلة زواج، اكثر مما هو شريك في صناعة قراراتنا. والجمهور في نظر الاحزاب مجرد اداة للوصول الى الحكم واضفاء الشرعية، وهو ليس شريك نتعلم منه ويساهم في صناعة سياساتنا وقيادتنا وتنظيماتنا ومواقفنا. صحيح ان القيادات تبادر وتقترح وتنضج وتطرح، لكن الجمهور له دوره في ذلك كله، ولا يمكن اقامة علاقة صحيحة مستدامة ومتفاعلة ما لم يتحقق الامران وليس امراً واحداً فقط. 

        اليوم في معظم احزاب العالم، الجمهور -بشكل مباشر او غير مباشر- يساهم في صياغة منهاج الحزب وفي اختيار قياداته. بينما عندنا بقيت الاحزاب مغلقة وذات قيادات تجدد لنفسها وغير ديمقراطية داخلها بينما تقول انها تريد بناء ديمقراطية البلاد. لهذا كان انفصالها عن الجمهور هو الامر الطبيعي، وهذا ما حصل لدينا. وهذا انعكس كاحدى الاسباب لتظاهرات تشرين التي استغلت هذا الموضوع بحسن او سوء نية.

معظم الحكومات في الخارج حكومات حزبية تفوز بالانتخابات وتحكم بمفرده او مع ائتلافات. فهذا حزب العدالة والتنمية في تركيا الذي بدأ من القاعدة وفاز بالانتخابات ويحكم بالتواصل مع جماهيره.  وكذلك الاصلاحيون والمحافظون واندكاكهم مع جمهورهم في ايران. كذلك الديمقراطيون والجمهوريون بأمريكا، وكيف تكون هناك انتخابات اولية يساهم بها الجمهور في صناعة السياسات وقيادات الحزب والمرشحين.

        لم نؤسس لهذه الممارسات. قمنا بمحاولتين، قام بالاولى “التيار الصدري” والثانية “المجلس الأعلى” في 2010. فقام “المجلس الاعلى” بانتخابات تمهيدية، وقام “التيار الصدري” بانتخابات شعبية. الحقيقة هي ان الكثير من القيادات لا تريد فقدان مراكزها ولا ان تحاسب وتراقب من جماهير لانهم يعتبرونها اقل فهماً وعلماً وخبرة منها. ويخطىء من يعتقد ان هذه العملية يجب ان تتم بالفوضى، ولهذا يجب على القوى السياسية تطوير تجاربها والتشريعات المعمول بها خصوصاً في قانون الاحزاب لتأسيس مثل هذه العلاقة الفاعلة والمستدامة والتي تربط بين الجمهور والحزب او القاعدة والقيادة، والتي يمكن ان تأخذ عشرات الاشكال وليس بالضرورة بتقليد نموذج معين بالذات.

        فالتيارات السياسية عليها ان تراجع نفسها، واذا لم تراجع نفسها وتبقى تبحث عن السلطة فقط، فستكون احدى اهم المعوقات لتقدم النظام السياسي في العراق. واعتقد ان الضغوطات الحالية على القوى السياسية في هذا الاتجاه قد تقود البعض إلى مراجعة نفسه، لكن هذا يحتاج إلى بعض الوقت.

انني متفائل، ليس لشحن المعنويات بل من خلال مجمل المعطيات. فهناك تقدم سواء ادركنا ذلك ام لم ندركه. ضربت مثلاً لبعض الأخوة وقلت لو ان رسام “كاريكاتير” يرسم صورة لنا بالشكل التالي: قنينة كبيرة مغلقة فيها نصف ماء، وفيها زورق تجلس فيه القوى السياسية، وهذا يجذف للامام وذاك للخلف. فيدور الزورق على نفسه واحيانا يتضاربون بالمجاذيف، الخ. لكن القنينة في مجرى النهر، وهذا المجرى يقود القنينة للامام. وهذه  حقيقة تاريخية. فهناك زخم تولد بعد التغيير. وهناك قوى داخلية وخارجية تحررت من قمقمها تدفع الزخم للامام رغم ان الصورة الظاهرة على السطح فيها الكثير من السلبيات والتشوهات. بلدان اوربا، لم تنهض كلها نهضة واحدة. ثلاث او اربع قوى نهضت اساساً لاسباب داخلية وخارجية وسحبت معها بقية القارة ودولها.

        الدولة وصلت إلى حدود يصعب عليها تجاوزها. النقاش حول النفط وكيف يعيش البلد، لم يعد نقاشاً نظريا. الكلام عن ان النفط سينفذ او لا ينفذ سابقاً، او لا بديل له او له بديل حالياً لم يعد هو جوهر الموضوع. النفط اصبح بابه او طريقه مسدوداً. هنا نحن امام تغير بنيوي وليس ظرفي. أمريكا كانت قبل عدة سنوات تنتج حوالي خمسة مليون برميل في اليوم، اليوم تنتج 12 مليون برميل يومياً، وذلك دون الكلام عن الدول الاخرى. والطاقة البديلة تتقدم، وسوق النفط تغير إلى سوق مشترين وليس بائعين، ونفوس العراق تزداد اكثر من مليون نسمة سنوياً، وبالتالي الدولة اصبحت محدودة الأمكانيات في رعاية الشعب واطعامه ونهضته وتقدمه. وسيندفع الشعب اكثر فاكثر الى قطاعات خارج الدولة. فليس لديه سوى 3 خيارات. اما الهجرة وهذه اصبحت محدودة، او مد اليد لاموال وحقوق الغير وهذه لا يمكن ان تشمل الجميع، او العمل والاجتهاد والتوجه نحو القطاعات الحقيقية المنتجة. وعند المتابعة سنجد الكثير من الحراك الاقتصادي خارج الدولة. فالخدمات والزراعة والصناعة والنشاطات باتت تشكل اهتماماً رئيسياً لدى الكثيرين. وعلى الدولة رعاية ذلك وخدمته وتسهيله لا وضع العراقيل بوجهه كما فعلت سابقاً وتفعل حالياً. وهذه ليس احدى الحلول للدولة الحالية بل قد يشكل حلاً تاريخياً للعراق اذا ما تزاوج مع سياسات كلية داخلية وخارجية مدروسة. 

        انا متفائل بخصوص الاتجاهات الواقعية التي سوف تفرض نفسها بالتدريج. فالاحتكار الاقتصادي جاء بالتدريج ورتب احتكاراً سياسياً. اذ كانت موارد النفط تذهب إلى مجلس الاعمار في منتصف الخمسينات، ثم اصبحت جزءً من الموازنة الحكومية في نهايات المرحلة الملكية، ثم المرتكز الرئيس للموازنة الحكومية في المرحلة الجمهورية. فاصبح النفط ملك الدولة وليس الشعب، وهو ما حاولنا ان نثبته في الدستور بعد نقاشات طويلة ومفصلة، ساهم بها المرحوم الدكتور الجلبي وانا واخرون.

        في عام 1964م امَمنا الصناعات البسيطة والتي كان حجمها 25 مليون دينار عراقي آنذاك، والذي لا يعادل 75 مليون دولار في وقته. صناعات بسيطة ناشئة، وقبلها امَمنا الارض ثم امَمنا النقابات والغرف، والتجارة الخارجية وجزء رئيساً من الداخلية. الاحتكار الاقتصادي قاد بالضروة الى احتكار سياسي، وان مجيء صدام حسين كان نتيجة طبيعية لهذه البناءات سواء في الاقتصاد او النفط. ولعل التعددية الاقتصادية اليوم ستساعد في بناء وعي سياسي جديد يقبل التنافس ويبحث عن النوع مما سيؤثر ايجاباً ان حصل على العقل السياسي بالضرورة.

اما حول احتدام الصراعات. اقول ان صراع المدن صعب في العراق. هذا ما كان يعول عليه البعض في تشرين 2019 باثارة صراع شيعي شيعي. لكن الاحداث برهنت ان مثل هذا الصراع ليس سهلاً لعوامل عديدة. نعم قد يحصل صراع حارات لكن صراع مدن صعب جداً ان يحصل الآن.

يجب لا ننسى ان الاخ الكاظمي هو سادس رئيس مجلس وزراء يأتي اليوم عبر التداول السلمي للسلطة. وهذه ليست عملية سهلة. وهي لم يؤسس لها في عدد من دول المنطقة وغيرها. فمهما كان او يكون من عقبات وصعوبات وصراع لكن نظامنا ما زال يسمح بحراك ايجابي رغم امكانية حصول الخروقات والتعطلات وغيرها. لست متشائماً حتى اقتصادياً. نعم متشائم من النظر للاقتصاد عبر الموازنة فقط وليس النظر للموازنة عبر الاقتصاد. لهذا قد نعاني من مسألة القروض التي ستكون قيداً علينا سياسياً واقتصادياً. فالعراق ليس بلدا  مفلسا, ففي امريكا تجاوزت ديونها الناتج الوطني الاجمالي، لكنها قوة عالمية وتمتلك الدولار الذي تطبعه فتصدر ازمتها الى الخارج. وكلي يقين بان الوعي ان لم يدرك هذه الحقائق ويصحح المسارات فان انسداد مسارات اقتصاد الدولة سيفتح المجال للاقتصاد خارجها ولتفكيك الدولة الريعية لتحل محلها دولة راشدة حامية للنشاطات الاقتصادية الحقيقية سواء في القطاع العام او الخاص.

بذلت حكومتنا جهداً غير قليل للنهوض بالواقع الزراعي كما ورد في منهاجنا الوزاري. جوهره دعم المخرجات بدل دعم المدخلات، والسداد سريعاً للمزارعين ليتشكل لديهم الدافع الرئيس لاعادة الانتاج ليس البسيط فقط بل الموسع اساساً. اليوم الجميع يعترف بالتقدم الزراعي، بحيث اقتربنا من الاكتفاء الذاتي في انتاج الحبوب، وهو امر لم يكن يتوقعه اغلب الدارسين والخبراء بما في ذلك الدوليين وكانوا يحكمون بالموت والتراجع المطلق للزراعة وهو من الامور المعقدة التي يصعب التعامل معها. هذا الانجاز الكبير استخفت به في وقتها الاغلبية خصوصاً من القوى السياسية. قالوا انها الامطار ولا شيء اخر وركزوا على الحرائق الطبيعية او التي كانت تفتعلها داعش. اما منهجنا فكان مدروساً فاقترضنا الاموال من خارج الموازنة على ان نسددها من فوارق الاستيراد، ووعدنا المزارعين بالتسديد السريع حتى لمن هو خارج الخطة، وغيرنا من رؤيتنا للخطة المائية، ووفرنا المخازن للخزن من الصبات الكونكريتية التي رفعناها من الشوارع، فتضاعف الانتاج في 2019 عما كان عليه في 2018، وارتفع في 2020 الى حوالي 5.5 مليون طن من الحنطة وهذا يقترب من الاكتفاء الذاتي، رغم ان عام 2020 لم يكن عاماً رطباً، مما يبرهن ان توفير الدافع والايفاء بالحقوق والوعود هو الاساس وليس الامطار على اهميتها. وما حصل للزراعة يمكن ان يحصل للقطاعات الاخرى دون ان تصرف الدولة مليارات الدولارات على الاستيرادات وسياسات الدعم غير الكفوءة التي يكتنف معظمها الفساد والهدر. فصاحب المصلحة يبذل من ماله وجهده ويبيع مخرجاته باسعار تشجعه على الاستمرار والتقدم. وهذا ما على الدولة تشجيعه ورعايته لا ان ينحصر تفكيرها بالموازنة فقط. مما  يبين كيف ان المشكلة الاساسية ليست مالية بل تحفيز الدوافع وحماية الحقوق وهو ما تقمعه بشده طبيعة النظام الريعي واحتكار الدولة والاعتماد على القطع الاجنبي والتفكير بالموازنة فقط. هذا ما سيشجع على حماية حقوق المواطنين في القطاع العام التي ستعتمد بالتدريج على الجبايات قبل ان تعتمد على النفط، وهو ما يصحح علاقة الموظف بالمواطن الذي بيده رزقه ومعاشه، وليس العكس، مما يجعله اكثر انفتاحاً وتعاوناً واحتراماً للمواطن سيد رزقه، لا الاهتمام فقط بالسفر والصفقات وحماية المصالح الاجنبية بدل الوطنية. دون الاضرار بالطبع بالقطاع النفطي ذاته بل تطويره ايضاً، فيكون خيراً على خير لا شرٌ على شر.

حوار الفكر

ما يُلاحظ في طبيعة التفاعلات الأجتماعية، ضعف عنصر الانتماء لدى الجيل الجديد( الحالي) جيل ما بعد 2003م، هذا الجيل كثير منه في ساحة التظاهرات بغض النظر عن مستوياتهم وطبقاتهم، هذا الجيل يشعر بعدم الرضى على اداء الكتل السياسية، او الحكومة او مجلس النواب… الخ. بعد 2003 هو بشكل او بآخر لم يتأثر بنظام صدام اذ لم ير ظلماً، ومهما يتخيل فلن يتخيل حجم الظلم الذي تعرض له الناس التي عاشرت نظام صدام. هذا الجيل لا يستطيع تحمل مسؤولية لا يعرف ان هناك تطوراً ، بل يشعر ان هذا النظام سبب له مشكلة، فكيف لي ان اطالبه بهوية وانتماء ، فلا يوجد عنصر قبول ولا عنصر رضى .

          معظم مراكز الابحاث الأوربية والسعودية، تدرس حركة الاجيال و يحاولون ان يركزوا على كل جيل ماذا يريد. آخر دراسة لأحدى المراكز السعودية، يتحدث عن جيل الثورة الاسلامية في إيران وجيل مابعد الثورة، وكيف يتحرك كل جيل. نحن لحد الأن كتلنا السياسية وتوجهات الحكومة ومجلس النواب لم تعِ هذه المسألة، بدليل نحن لازلنا نؤمن بالعائلة وليس بالفرد؛ بمعنى انني عندما اريد ان اعمل اي اصلاح افكر بالبطاقة التموينية واعطاء المال للعائلة.

          العراق دولة لا تستطيع ان تكون حيادية ولا تستطيع ان تكون دولة تؤدي ادوار الوسط، بسبب؛ اولاً: العراق ليس دولة عملاقة تمتلك المؤهلات وما يكفيها من قوة لحماية نفسها ولا القوى المحيطة بالعراق تقبل ان يكون العراق دولة حيادية مثلما قبلت اوربا  بان تكون سويسرا دولة الحياد. ان الحياد اصبح عنصراً صعباً.

          كلما تفرض الولايات المتحدة عقوبات على إيران يكون العراق هو تنفيس لها، وكلما تحاول أمريكا تحتوي وتضيق الخناق على إيران يكون العراق هو المنفذ للآخيرة.

          كباحث ومتابع فان توجه حكومتكم ، نحو المعسكر الشرقي اكثر من الغربي. علاقتكم قوية جداً مع الصين ، اذ اسستم مذكرة تفاهم كذلك علاقتكم مع إيران نفس الحالة، أمريكا فسرت هذا التوجه عدم انضباط من العراق في علاقاته الخارجية.

          الاهتمام الأمريكي بتقوية علاقة العراق مع كل من مصر والاردن هل هي مدخل باتجاه التطبيع؟ اذ من المعروف ان مصر والاردن الدول العربية العرابة للاتفاقيات العربية – (الإسرائيلية) .

دولة السيد عادل عبدالمهدي:

        اولاً: انا اتفق معك في موضوع الحيادية؛ ليس كل بلد يستطيع ان يكون حيادياً. وانا لم استخدم كلمة حيادية. مرة سُئلت في احدى المؤتمرات، قلت لا العراق ليس حيادياً، فعنده سياسة وفي طبيعتها لا تطبق نصف لهذا ونصف لذاك. فقالوا انت ماسك العصى من الوسط قلت انا ليس كذلك. فعندما اقول ان العراق مصالحه ان يكون جيداً مع دول الجوار، ويكون جيداً مع المجتمع الدولي، فهذه ليست سياسة أمريكية او ايرانية، بل اولويتها الانطلاق من المصلحة والرؤية العراقية. فانا لست حيادياً بين الاثنين. فالانطلاقة محورها وضعنا انياً ومستقبلاً ومن تعريف موقعنا ومصلحتنا الوطنية، فنقيم العلاقة كما نراها لمصلحتنا وليس كما يراها بالضرورة الاخر، فهذه ليست حيادية. فاذا كانت لدينا مصلحة اقتصادية مع امريكا فسنتجه لذلك، ما دمنا لا نضر باشياء اخرى الان والمستقبل. والأمر نفسه مع ايران او غيرهما. واذا كان لدينا مصالح اقتصادية او سياسية مع ايران دون الاضرار بمصالح سياسية واقتصادية مع اصدقاء اخرين فسنتجه لذلك. لذلك عندما نرفض الوقوف مع العقوبات الامريكية على ايران فلان مبدأ العقوبات خاطىء، اضر ودمر العراق في الماضي،  ولانه يضر بمصالح العراق حالياً وتاريخياً ويدفعنا الى موقف عدائي، وهذا اخطر من عدم الخضوع لسياسة امريكية خاطئة ستتغير يقيناً كما يعلمنا التاريخ. علماً ان المرء قد يتخذ احياناً بعض القرارات التي يقدر انها قد تضره مؤقتاً لكنها تنفعه مستقبلاً، والعكس صحيح. فالقضية تقدير موقف وهذه ليست حيادية.

        مررنا منذ 2003 بخلافات كبيرة مع عدد من صناع القرار الأمريكيين، وكنا نجلس مع الرئيس الطلباني والجنرال سليماني رحمهما الله. الأمريكان كانوا يحملونا رسائل، لكن ادارة ترامب تختلف تماماً. هنا المشكلة ولسنا نحن. عندما جئنا إلى انسحاب القوات الامريكية فاساسه ان هناك قرارا من الحكومة العراقية بمجيء القوات، وقيل لي في اجتماع مجلس الامن الوطني الذي سبق جلسة مجلس النواب بخصوص الانسحاب بيوم، ان طلباً بالانسحاب من هذا المجلس كافي لتغطية قرار الحكومة بطلب الانسحاب. قلت لا، كون حكومتي تصريف امور يومية فسيكون قراراً هشاً وضعيفا. لذا يجب ان نذهب إلى السلطة التشريعية. عملت أمريكا المستحيل لمنع انعقاد جلسة مجلس النواب. لكن انعقدت الجلسة والقينا خطابنا، وقلنا فيه ما يجب ان يُقال بكل امانة وصدق وصراحة، فبلغنا الامريكان بقرارنا، قالوا وبرسالة رسمية سنرسل وفدنا في حزيران، والوفد سوف يناقش في أمرين، اقتصاد واعادة انتشار القوات خارج العراق. اكدوا لي ان إعادة الأنتشار ليس داخل العراق وانما خارجه، ليس بالكلام فقط بل برسالة رسمية ايضاً.

        تشكلت الحكومة الجديدة (حكومة السيد الكاظمي) وساد نوع من الغموض في قضية الانسحاب والتوقيتات فبدأ الامريكان بالمماطلة في موضوع الانسحاب وجدولته. بات طرحهم من جانب واحد فقط، ولم يتفقوا على اية توقيتات. الرئيس ترامب يقول نسحب كذا قوات خلال ثلاث سنوات من دون آخذ رأي الجانب العراقي، رغم ان العراق هو الطرف المعني.

كنا نقول للأمريكان عندما كانوا يتعرضون لاعمال القصف بالكاتيوشا، من 2011 لغاية 2019م لم يستهدف السفارة صاروخ واحد. كان عدد القوات 170 الف جندي وكنتم تخسرون باليوم الواحد من 3 – 4 ضحايا وعدد من الجرحى. فاذا لم يستطع 170 الف جندي حمايتكم، فكيف سيحميكم 5000 عسكري الان؟ بينما المفترض ان وجود القوات هو لحماية العراق والعراقيين وليس لحماية القوات والسفارة فقط. فاذا تم التركيز على ايران وجعلتم محاربة “داعش” امراً ثانوياً، فمعنى ذلك ادخال العراق في مشكلة او مشاكل. الآن تريدون جلب “باتريوت” للحماية، هنا الإيراني سيفكر بصاروخ اقوى لتجاوز “باتريوت”، هنا ادخلنا العراق في صراع او حتى حرب، والعراق يقول كفى حروباً وان البلاد غير مستعدة لخوضها.

        رفضت ادارة ترامب هذا المنطق، و كنت اردد على كبار المسؤولين الامريكان ان امن السفارة والبعثات الاخرى هي معادلة سياسية وليس عسكرية. لذلك وجدنا السفير الامريكي والقائم بالاعمال وسفراء الدول المختلفة يرتادون في 2018-2019  المطاعم العراقية والمقاهي بدون حمايات لان المعادلة السياسية سمحت بذلك. لكن تغير سياسة الرئيس ترامب والتصعيد الذي حصل مع الحشد والعقوبات ثم عملية قصف القائم واغتيال الشهيدين المهندس وسليماني ورفاقهما غيّر المعطيات ولم يعد من مجال للخروج من هذا المأزق سوى الانسحاب وجدولته.

        عندما يكون للأمريكي مهام في سوريا ومعه حلف الناتو وكذلك دول الخليج، فهذا يعنينا تماماً فنحن لسنا اصحاب قرار في هذا الموضوع رغم اننا المعنيون اساساً بهذه الاوضاع. وعليه لا يمكن ان يكون العراق مجرد منصة عسكرية لاعمال لا قرار لنا فيها مع جيراننا سواء في سوريا او ايران او الخليج او تركيا وغيرهم. ما يجري في المنطقة وبين دولها يهمنا جداً، ونحن صريحون مع ايران وتركيا وغيرهما. فنحن لسنا طرفاً في خطط احد ما لم نشاور على ذلك، ودستورنا يمنع علينا ان نكون ممراً او منطلقاً لاعمال لا نوافق عليها. بالطبع قد تحصل اعمال دون علمنا او دون قدرتنا على ردها، لكن هذا شيء ومشروعية المواقف شيء اخر.

ان القمة الثلاثية (العراق، مصر، الأردن) لها عدة ابعاد. فهي توفر من ناحيتنا الاطمئنان باننا لسنا مع محور واحد وانما منفتحين على الجميع ايجابياً. فمصر بلد كبير والاردن بلد مهم. الطرفان لديهما علاقات جيدة مع الغرب. وهذا قد يخفف كثيراً من المخاوف التي تثار بسبب العقوبات الامريكية على ايران وموقفنا منها.

        قد تكون للطرفين الاردني والمصري اهداف أخرى. قد يفكرون بالتركي وبالمتوسط ويفكرون باليونان وقبرص. الطرفان يرغبان بالاستفادة من ثقل العراق، ويرغبان في الاتفاق مع العراق على رؤية فيها مصالح مشتركة. وبالتأكيد لديهما مصالح، لكن لدينا نحن ايضاً مصالح، فهو يفكر ويدافع عن مصالحه ونحن كذلك.

        العراق في قمة الرياض رفض سياسة المحاور في المنطقة ضد إيران. فطبعاً الأمريكان لن تريحهم هذه المواقف. و عندما جاء الرئيس ترامب الى قاعدة “عين الأسد”، لم يكن من الممكن، لرئيس وزراء العراق، وهو في بلده، ان يستقبل الرئيس الامريكي في معسكر امريكي. وعندما اذيع خبر مجيء الرئيس تسارعت بعض القوى لانتقادنا واصدروا بيانات بذلك، لكن عندما عرفوا التفاصيل تراجعوا واشادوا بالموقف. لقد سعينا الالتزام بما تعهدنا به في المنهاج الوزاري وهو العقد مع ممثلي الشعب. وانا تعهدت بما ورد في المنهاج الوزاري، وانا مُحاسب عليه. فالغاية من المنهاج الوزاري ليس مجرد كلمات. بالنسبة لنا هو عقد وهو الذي نلتزم به وهذا ايضاً متضمن لمسألة أمريكا والعقوبات. انتم صوتم علينا فاصبح ملزما لكم كما هو ملزم لنا. واصبح المنهاج سياسة الدولة التي يمكن لمن يختلف معها ان يغيرها بالانتخابات او تغيير الحكومة ومنهاجها ولكن وفق السياقات الدستورية. ويؤسفني القول ان هذا الموضوع بعيد عن تطبيقات الرئاسات وكثير من القوى السياسية والكتل النيابية. فحالما تتشكل الحكومة يأخذ كل طرف وكل مؤسسة تشرعن باجتهاداتها بعيداً عن التزامات العقد او العهد الذي صوت عليه ممثلو الشعب والذي يمثل السياسة الرسمية للدولة. ان واقع الكثير من القوى السياسية في الحقيقة بعيد عن هذا الشيء

        امر اخر مهم في رسم سياساتنا وهو تقديراتنا للتطورات العالمية. فالعالم في طور التغيرات الكبرى والعراق جزء من هذه التطورات. وهذه لها علاقة بمسألة التطبيع مع “اسرائيل” ومحاولات احتواء العراق وجره لهذه السياسة او تلك. فالكل يرتب اوضاعه لما بعد التغيير. والعراق ايضاً في طور التغيير، وهذا جزء من تغيرات عالمية. فالمعسكر الغربي لم يعد يمتلك النفوذية العالمية القديمة رغم مكانته وتأثيراته، وكذلك الولايات المتحدة التي قد لا تفقد مكانتها في العالم كدولة كبرى لكنها تفقد دورها كدولة عظمى. فعلى العراق ان يفكر ايضاً بمستقبله في واقع عالمي قد يتطور من عالم احادي القطبية الى عالم متعدد الاقطاب ويعرّف دوره ومكانته. لهذا حاولنا الابقاء على علاقات طيبة مع الولايات المتحدة ولكن ايضاً فكرنا بعلاقات استراتيجية مع اوروبا والصين واسيا، و مع ايران وتركيا ودول الجوار العربية وغير العربية، و رفضنا سياسات التطبيع وصفقة القرن لانها تمثل النظرة القديمة المتراجعة واحادية القطبية العالمية التي لم تنجح سابقاً ولن تنجح مستقبلاً وستتفكك لانها تقوم على قبول الاحتلال والهيمنة وفرض الامر الواقع الاحادي الجانب.

        لهذا رأينا في سياسة التطبيع من قبل الاخرين استباق لما يحصل في المنطقة والعالم. ورأينا ان الغاية من هذا التسارع هو استباق التطورات اكثر منه حل مشكلة الارض والسلام وفلسطين والاستقرار والامن في المنطقة. فهم يعلمون انه سواء افاز ترامب او بايدن فان هناك ثوابت اكيدة في العلاقات الاقليمية والدولية لابد من مراعاتها. بايدن يؤكد في منهاجه انه سيعود إلى الأتفاق النووي، وكذلك يصرح ترامب بانه سيفاوض ايران بعد فوزه باسبوع. فلم يعد الشعار اسقاط النظام الايراني بل احترام المعادلات الاقليمية والدولية وهذا يعني التفاوض اساساً وليس الحرب. إيران اصبحت اليوم قوة كبيرة كما هي تركيا، وهذا الواقع يفرض نفسه بكل نتائجه التي يجب اخذها بنظر الاعتبار. فالتطبيع قد يجر بالكارثة على السودان او دول الخليج المطبعة. أما تطبيع مصر والاردن فكان مقابل الانسحاب من سيناء ووادي عربة.

حوار الفكر

        بدأ حديثكم بإن التجربة في العراق لاسيما تجربة عادل عبدالمهدي هي تجربة غنية ويجب ان نتعمق بها.

          على ضوء المحاكاة اذا تكررت المتغيرات يمكن ان تكرر نفس التجربة؟، بمعنى اذا ذهبنا في المسارات التي انتهجها عادل عبدالمهدي في الحكم والتي يجب ان نذهب بها والآخذ بها كونها مسارات صحيحة؟، هل التجربة ستعاد من جديد؟ اعتقد ان عادل عبدالمهدي مجبر على هذا المسار في ضوء المتغيرات. الذي اريد قوله، بعد مغادرتك للحكومة ما هي الاشياء التي اتضحت فيما بعد انها من الممكن ان تحدث وكان من الممكن ان تعملها و ما عملتها؟، وهذا ضروري ان نستمع له حقيقياً.

          القضية الثانية: دكتور انت عشت المعادلة لعقود وعشت مع السياسيين، تعتقد ان الوضع الداخلي في العراق بعد 17 سنة اصبح اكثر تعقيداً من قبل؟ ، نحن نعتقد كلما تتقدم السنين كلما من الممكن يكون الوضع اقل تعقيداً نحن الآن نكتشف ان الوضع بعد 17 سنة في العراق اصبح اكثر تعقيداً خصوصاً في النقطة التي ذكرتها حضرتك، الأغلبية الفاعلة وهي شرط من شروط الحكم يكون متوازن وقوي يجب ان تكون الأغلبية فاعلة. اليوم احنا عدنا الاغلبية اصبحت اقل فاعلية وبدأت هذه الاغلبية تنقسم ليس على اساس طائفي، فكيف يمكن اعادة هذه الفاعلية؟، هل هذا ممكن في ضوء التدخلات الخارجية؟.

دولة السيد عادل عبدالمهدي:  

        نحن مستمرون بعملنا وفق الظروف الموجودة، وكان لي شرف ان اخدم كنائب رئيس جمهورية ووزير مالية ووزير نفط ثم رئيس وزراء. لذلك يصعب ان اتخلى عن الساحة، لكن الساحة ليست مناصب ومسؤوليات سياسية فقط، بل هي مملوءة بنشاطات ومهام يمكن القيام بها. اما ثانياً، فانني عندما توليت مسؤولية رئاسة الوزراء وكانت احدى الشروط التي وضعها علي السيد مقتدى الصدر هو (ان لا استقيل)، وقال لي 100 يوم وادخل الخضراء. قلت له في اللقاء الذي جرى بيننا في النجف الاشرف قبل التكليف الرسمي، سيدنا ان شاء الله تدخل الخضراء بـ”الكيات”. ولن نحتاج لرفع “الصبات” والحواجز لانني سافتح الخضراء. فعلاً فتحنا الخضراء واتخذنا من بناية الجمعية الوطنية في العلاوي المكتب الرئيس لرئيس مجلس الوزراء. ابدت السفارة الامريكية مخاوفها ابتداءً رغم ان نائب الرئيس السيد “بنس” عبر في محادثة جرت لاحقاً بيننا عن تهانيه للخطوة. وقال جناب السيد مقتدى الصدر في هذا اللقاء بان المدة بيننا هي سنة (ان كانت ذاكرتي جيدة) لاتخاذ موقف من الحكومة. قلت له ان سنة كافية لي، فالاوضاع صعبة للغاية ولم اضع ان بمقدور الحكومة في هذه الظروف تقديم حلول كاملة لها، لكن بالامكان بناء بدايات واساسات الحلول المستدامة لاصلاح الاوضاع وتقليل الاعتماد على النفط وازمات الموازنة. وكنت اقول هذا الكلام للمحيطين بي. وكنت اقول لهم اننا نتحرك اسرع من اللازم رغم اتهامنا بالتباطؤ تقديراً منا ان الوقت قصير امامنا بسبب اوضاع البلاد والقوى السياسية. لهذا توجهنا لتحويل المنهاج الوزاري بسرعة الى برنامج حكومي يمثل سياسة الدولة ووسيلة لمراقبتها، وتنظيم مجلس الوزراء واليات العمل فيه عبر ادخال تعديلات على نظامه الداخلي ومنح الصلاحيات للوزراء ليتحملوا مسؤوليتهم، واعداد مدونة لم تفعل لتنظيم العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وتقنين حالة الحشد الشعبي وتطوير القوات الامنية والقيام بحملات وعمليات لمواجهة تصاعد نشاطات “داعش”، والانفتاح داخلياً ليس برفع الحواجز وتسهيل الحركة والاتصالات فقط بل الانفتاح ايضاً على القطاع الخاص ومع دول الجوار والدول الاخرى اساساً، وسياسة زراعية جديدة تعتمد على المخرجات اكثر من المدخلات، والعودة لاستكمال ميناء الفاو والاتفاق مع الدول الاخرى وابرزها الصين والمانيا وذلك تحت شعار النفط مقابل الاعمار ولحل ازمة الكهرباء المزمنة، وتشكيل فرق متابعة ميدانية في كافة المجالات مرتبطة برئيس الوزراء مباشرة خصوصاً الكهرباء والمياه والخدمات لمتابعة تنفيذ الاعمال.

        قلت مراراً انني لن اعبر السنة، ويشهد لي بذلك المحيطين بي، فانا اعرف مسبقاً ان الظروف صعبة. عندما كلفوني رأوا بـ”عادل عبدالمهدي” حل لأزمتهم، لكن بمجرد ان قبلت وبدأنا بالعمل فان معظمهم تخلى وعاد الى ممارساته القديمة. كنت اعتقد ان المرحلة لن تسمح بالبقاء لفترة طويلة. لن يقول باطلاً من يعتبر ان الحكومة لم تنجح في امور كثيرة، لكن المنصفين سيقولون الحق بذكرهم ان الحكومة ارست مقدمات لاسس اصلاحية عميقة ومستدامة في شؤون شتى سيصعب التخلي عنها. لهذا قسمنا منهاجنا الوزاري وبرنامجنا الحكومي على 3 مراحل سريعة ومتوسطة وطويلة. فالسريعة وبعض المتوسطة عمرها ستة اشهر وعام. والباقي يتطلب وقتاً اطول للتنفيذ. وفي خضم الاحداث التي اندلعت في تشرين 2019 وانسداد الوضع تماماً سارعت استجابة لطلب المرجعية الدينية العليا لتقديم حلول بتقديم استقالتي لفسح المجال لغيري لمواصلة المسيرة مستهلاً قرار الاستقالة بالآية الكريمة “يا ابت افعل ما تؤمر ستجدني ان شاء الله من الصابرين”. امانة كنا نشعر باننا تركنا بمفردنا، الا من القليل الذي عبر عن مواقف متفهمة ومساندة. فالاحزاب في معظمها تراعي مصالحها، ولكل منها وضعه وخطابه. هم يستطيعون في آن واحد المشاركة والاستفادة من جهة والنقد والتنصل من جهة اخرى. لكنك في موقع التنفيذ لا تستطيع ذلك. عليك ان تتخذ يومياً قرارات، وهذه القرارات بحاجة لاجهزة تساندها وتنفذها. فالغطاء يجب ان تتلقاه من القوى السياسية الساندة والجمهور، والتنفيذ يجب ان تتلقاه من جهاز الدولة. واقول بصراحة ان هناك اشكالية معطِلة بالنسبة للاثنين. وهذه ليست مشكلة “عادل عبد المهدي” فقط بل هي مشكلة الحكومات السابقة واللاحقة.

        وتصوري ان المنهاج الوزاري عندما يُقر يصبح ملزماً للقوى التي اقرته، كما يصبح ملزماً للدولة كسياسة واجبة الاتباع وهذا يشمل الرئاسات بما في ذلك رئاسة الجمهورية ومجلس النواب. فاذا وجدت رئاسة الجمهورية او النواب نفسها في تقاطع مع المنهاج الحكومي او البرنامج الحكومي فقد خولهما الدستور امكانية نزع الثقة عن رئيس مجلس الوزراء. عندها سيفصل مجلس النواب الأمر فينزع الثقة عن رئيس مجلس الوزراء، فيتغير العهد والمنهاج، او أن يؤكد ثقته بالعهد القائم، فتنصاع الرئاسات للسياقات الدستورية التي تمنح رئيس الوزراء ومجلس الوزراء صلاحيات تخطيط وتنفيذ السياسة العامة للدولة، فلا تنخرط في سياسات ذهبت احياناً خارج السياقات الرسمية المرسومة للدولة بشكل دستوري، مما اثار ويثير الكثير من الارتباك والتشويش والتعطيل الذي يشكو منه الجميع. والا لا معنى للمنهاج الوزاري الذي على ضوئه تمنح الحكومة الثقة والعهد. لهذا اشارت التطبيقات الفعلية ان الدولة من الرئاسات الى اجهزة الدولة تتبع مناهج وسياسات لا تقررها سوى الاجتهادات الموقعية او الشخصية او الحزبية. كذلك بالنسبة للقوى السياسية التي دعمت الحكومة، فانها دعمت وفق المنهاج الذي صوتت له وليس وفق اجتهادات ومطالبات متغيرة وسريعة وغير مقرة. لذلك اذا كنا دولة فعلى القوى المصوتة للحكومة ان تلتزم بالمنهاج ومن ثم البرنامج الحكومي وتراقبه وتحاسبه وتعاقبه ان اقتضى الامر بموجب ذلك. وعملنا يجب ان لا يستبطن اساليب الثورة (اسقاط الحكم عبر الجمهور او الشارع) لان ذلك سينسف منطق الدولة. وقلت هذا في المنهاج الوزاري فاما ان نذهب كلنا الى اساليب الدولة ويكون البرلمان والاجراءات القانونية والمطالبات والمظاهرات في اطار القوانين، او نذهب جميعاً الى اساليب الثورة التي قانونها داخلي وخاص، اي تصنعه هي حسبما تراه يحقق مصالحها. فاما نخوض كلنا معركة الدولة والديمقراطية ووسائلها او ان نخوض كلنا معركة الشارع والجمهور والثورة ووسائلها. فلا بديل للاصلاح الا بالتمسك بالقواعد الدستورية، فان كانت ناقصة او معطلة فالدستور نفسه وضع اليات للتعديلات اللازمة، والا سنصبح دولة اجتهادات متصادمة، وخطط فردية بعيداً تماماً عن اية مأسسة حقيقية يلتزم بها الجميع. هذه النظرة اضافة الى اهمية الخروج من اسس الدولة الريعية الفاسدة والمعطلة والمحتكرة، والذهاب الى دولة المواطنة والخدمة العامة، تمثل جوهر نظراتنا التي لا تغيير فيها. نعم قد نغير في الاشخاص والمواقع او التوقيتات، وهذا شيء اخر.

        فمثلاً لا شيء يمكن تغييره في اعداد مدونة مع مجلس النواب او تعريف مهام رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء او استقلالية القضاء والفصل بين السلطات واحترام الحكومات المحلية، ولا في علاقاتنا بدول الجوار او دول العالم، كذلك في الزراعة باعتماد المخرجات او تسديد مستحقات المقاولين واعادة العمل للكثير من المشاريع المعطلة، ولا في السعي لايجاد الضمانات الحقوقية لمن هم خارج القطاع العام وخصوصاً قضايا العقود والشراكة بين القطاعين الخاص والعام، ولا في اهمية متابعة الاعمال واهمية تطوير هذا الجانب في العمل التنفيذي للدولة العراقية، او في الاتفاق مع سيمنز وجي اي وايران لحل اشكالات الكهرباء وهي الازمة المزمنة، ولا الانفتاح مع بقية الشركات لانجاز ميناء الفاو او غيرها من مشاريع اساسية للبلاد. ولا في الاتفاقات مع بقية الدول خصوصاً دول الجوار او بقية دول العالم وخصوصاً الولايات المتحدة والغرب واليابان وروسيا وكوريا او مع الصين والتي كلفنا الاتفاق معها كثيراً.

ان تأكيد اهمية العلاقة مع الصين (او مع غيرها) هي جهد مشترك ومتواصل للحكومات المتعاقبة ويجب ان يستمر كذلك، رغم انه اخذ زخماً تنفيذياً مهماً وحقيقياً بعد زياراتنا للصين في ايلول 2019. ودليل كلامي ان العلاقة الاقتصادية بالصين طُرحت في البيان الختامي عند زيارة الرئيس طالباني للصين عام 2007 وتابعتها الحكومات اللاحقة، وطور عندما توليت انا وزارة النفط في 2015، وقبل زياراتنا للصين في وفد الدكتور العبادي الى الصين في ذلك العام. وقد اطلعت السيدين رئيس لجنة الطاقة يومذاك بهاء الاعرجي وعضو اللجنة الدكتور حسين الشهرستاني رؤيتنا لاستثمار صادراتنا للصين كوسيلة للنفط مقابل الاعمار. وكان الاثنان متحمسين للفكرة. قامت وزارة النفط باعداد المذكرة التي طُرحت اثناء زيارة الدكتور العبادي، ولم اغادر مع الوفد عند مغادرته الصين بل بقيت هناك ايام اخرى مع اخوة من وزارة النفط للتباحث في تفاصيل تلك العملية. تابعت السفارة الصينية في العراق الاتفاق، ثم جاء وفد صيني كبير الى العراق بعد استقالتي من وزارة النفط، وقدموا ورقة سلمتها الى مدير مكتب السيد العبادي الدكتور نوفل ابو الجون. اهتمت حكومة د. العبادي بالامر ووقعت مذكرة بين المالية العراقية والجانب الصيني. وعند تحملنا المسؤولية في تشرين الاول 2018 اولينا الموضوع اهمية خاصة، وتابعنا تفاصيله وادخلنا العديد من التعديلات بناء على توصيات مؤسسات الدولة المختلفة. وبالفعل تم التوقيع واستكمال كافة التفاصيل اثناء زيارتنا للصين في ايلول 2019، وبدأنا منذ تشرين الاول 2019 بايداع المبالغ المعادلة لـ 100 الف برميل يومياً، في حسابات خاصة تخصص لتنفيذ المشاريع المقترحة، وان تفتح الصين ائتمانات باضعاف هذا المبلغ حسب رغبة العراق. واعلمنا البنك المركزي العراقي بكتابه في 30/12/2019 بايداع مبالغ شحنات تشرين الاول وتشرين الثاني للعام ذاته والبالغة اكثر بقليل من 418 مليون دولار في الفيدرالي الامريكي، وواصلنا العملية لحين تسليمنا المسؤولية لحكومة الاستاذ الكاظمي. وكان من المفترض ان تحول الايداعات الى فرع احد البنوك الصينية في نيويورك، واعلمنا البنك المركزي ايضاً بانه قام بفتح اربعة حسابات وغرضها تحريك كافة اليات الاتفاق ومنح العراق المرونة حسب اوضاعه المالية والعملية، وكذلك الصين لتنفيذ الاتفاق في شتى المجالات. اما في بغداد فاستمرت الاجتماعات بين المختصين لاختيار شركة استشارية دولية لمراقبة الحسابات، وكذلك اجتماعات دؤوبة لاقتراح اول حزمة من المشاريع، وبالفعل قدمت وزارة التخطيط والمحافظات وبقية المؤسسات عشرات المشاريع الهامة، ويقيناً ستواصل الحكومة الحالية الجهود التي بذلت في هذه الاتجاهات الصحيحة والتي اصبحت مطلباً شعبياً كبيراً. صحيح انه كان لي ولاخواني دور بارز في الاتفاق، لكن من الغبن والظلم اغفال دور الحكومات السابقة، لهذا نأمل من الحكومة الحالية استكمال ما بدأنا به جميعاً. ومثال الصين كان مقدمة لايجاد شركاء بمصالح متبادلة. وكنا نفكر بالهند واليابان (بالفعل قدمنا مذكرة لليابان بهذا الشأن) وكوريا الجنوبية وغيرهم باعتبارهم مستوردين اساسيين للنفط العراقي، ناهيك عن دول غربية قد تبدي اهتماماً بهذا الاسلوب الذي اطلقنا عليه النفط مقابل الاعمار، والذي يتضمن فكرة ما يشبه “الادخار الاستثماري” الضروري للتنمية. وبالفعل جاءني سعادة السفير المصري في العراق قبل فترة قصيرة من انتهاء مهامي وطلب دراسة مشروع مشابه بين العراق ومصر. وذكرت له اننا سبق ان تكلمنا مع الاخوة في مصر باستغلال طاقاتهم في المصافي والمشتقات النفطية، حيث لديهم طاقة معطلة يمكن استثمارها لصالح الطرفين، فنقلل المبالغ المصروفة باستيراد المشتقات، فنحقق الفوائد معاً. وبمثل هذه الاليات نكون قد حللنا الكثير من اشكالات التخطيط  والبيروقراطية العراقية والرقابة والمشاريع الاستثمارية التي تمر بازمات مع كل موازنة سنوية ومسألة السيولة، وحسابات الكلف وسرعة وتكنولوجيا وتقنيات التنفيذ وانجاز المشاريع.

سيسمح مثل هذا الاتفاق مع الصين وغيرها لامكانية بناء بنية تحتة متكاملة والتي العراق بامس الحاجة لها، والتي لا يمكن التفكير بالاعمار والتنمية المستدامة دون انجاز ذلك. مشاريع طُرحت ايضاً في حكومة الاستاذ المالكي كالموانىء والسكك الحديدية والطرق والمواصلات والاتصالات والمجاري والسدود والمياه والمدن الصناعية  والمجاري والمدارس والمستشفيات وغيرها من منشآت اساسية يحتاجها اي اقتصاد ومجتمع.

انني سعيد ان ارى ان كثيرين يطرحون اليوم المشاريع التي طرحتها حكومتنا كمشاريع اساسية للاصلاح كالزراعة وميناء الفاو واتفاق الصين واهمية القطاع الخاص لان بذلك فقط يمكن مواجهة العقل الاقتصادي المتكلس داخل اجهزة الدولة بل لدى قطاعات مهمة من الجمهور والذي تربى على فلسفة خاطئة تقول بان الاقتصاد والتنمية هي مجرد الخزينة والموازنة وليس الاقتصاد والمجتمع. فالدولة يجب ان ترتكز عليهما لا ان يرتكز الاقتصاد والمجتمع على الدولة والموازنة. لذلك في توصية لاحد الخلفاء لعامله يقول له “ابق لهم لحوماً تنمو عليها شحوماً”، اي ان خزينة السلطان تعتمد على نشاطات المجتمع لذلك خذ الشحوم (الجباية) واترك ما يجددها (اللحوم) فلا تقترب من الاصول التي تدمر دورتهم الانتاجية الحياتية.

        تتركز النقاشات على ان الدولة مفلسة، والسبب هو ما تواجهه الخزينة من صعوبات. وصعوبات الخزينة والموازنات موجودة في كل دول العالم، بما في ذلك في الدول الكبرى التي هي الاكثر استدانة. لكنهم يبحثون عن الحلول في اقتصادياتهم، اما نحن فنبحث عن الحلول في الاستدانة لسد العجز ومواجهة النفقات او في تعطيل القطاع الخاص او انتظار ارتفاع اسعار النفط، ونبتعد اكثر فاكثر عن اي حل اقتصادي حقيقي يمكن ان يصحح الاوضاع ويحل المشكلة المزمنة للخزينة والموازنة والرواتب، الخ. فالقروض حلول ان كانت مرتبطة بالانتاجية التي يمكن ان تجلب موارد جديدة للبلاد، لا بمجرد تمويل النفقات الجارية.

 يقول جنابك انك تختلف معي في التفاؤل. نعم هناك صورتان ظاهرية سلبية وباطنية ايجابية. عندما نتكلم بالارقام والوقائع وانتم مركز “مرايا” الاحصائي فما الذي تراجع؟ عدد الجامعات؟، صحيح ان كفاءاتها ليست كلها عظيمة، لكن هناك جامعات تتقدم. وهل تراجعت الحريات العامة؟ نعم هناك اراء هشة، لكن هناك اراء عميقة تتشكل وقناعات ممتازة تفرض نفسها. هل تراجع مستوى الدخل عما كان قبل 5 او10 سنوات، حتى بالاسعار الثابتة. نعم قد تكون هناك ازمة بسبب الجائحة او الرواتب لكن يجب عدم القياس على هذه اللحظة فقط، فالعالم كله يعاني.

في كل العالم هناك ازمات شبابية واقتصادية ومجتمعية. هذه امريكا وفرنسا والمانيا. في كل العالم توجد ازمات. فالعالم يتكاثر بشكل واسع، ووسائل التواصل تعبوية وتساهم احياناً في جعل اللاحقيقة حقيقة. وهناك تطورات جديدة بحاجة لان تهضم من جديد، لبناء منظومات جديدة تستطيع مواكبة التطورات. حتى الجائحة علينا ان نتعلم كيف نعيش معها. وامامنا الكثير من الامور الواجب تصحيحها، وهي امور لم نكن نفكر بها. فكلامكم صحيح اذا اخذنا جانب من السطح. فالشكاوى والتذمر واسعين، واحساس الشباب حول مستقبلهم مجهول. هذا كله صحيح؛ لكن تحت هذا السطح هناك اشياء ايجابية تتحرك.

لا نعرف بالضبط كيف ستتطور الامور. لكن الحاضر يصنع المستقبل والضرورات ستدفع لايجاد الحلول المناسبة، وقوانين المجتمعات كقوانين الطبيعة تصحح نفسها، ويجب ان نرى كيف ستتصرف لنساعدها في ترتيب اوضاع جديدة تلائم الظروف الجديدة. هذه ليست المرة الاولى ولن تكون الاخيرة. رغم اجواء الاحباط لكن لنراقب في النشاطات الاقتصادية والمبادرات والاعمال التي تحاول ان تؤسس لنفسها واقع جديد.  اليوم كم شركة سجلت في 2019 مقارنة بما كان يشكل في فترة صدام حسين. الاحصاءات تقول انه كانت تؤسس 400 شركة في السنة واحصاءات 2019 كانت تؤسس اكثر من 8000 شركة. هل كلها جيدة وكفوءة؟ بالطبع لا. لكن هناك مبادرات ومشاريع عظيمة ايضاً. وهذا حراك له مداليله. وعليه انا متفائل لانني احاول ان لا ارى ظاهرة واحدة سلبية بل اسعى لرؤية بقية الظواهر ودراسة الاثار المترتبة.

ازدادت التوترات، صحيح. وهذا امر طبيعي في كل الازمات والمنعطفات. لكنني اعتقد ان حرب المدن مستبعدة، فقد تحصل اشتباكات عشائرية او حتى سياسية لكن محدودة في الوقت والمكان. مظاهرات تشرين 2019 كانت عنيفة وسقط فيها الكثير من الضحايا من المدنيين والعسكريين. مظاهرات تشرين 2020 كانت اقل عنفاً وسقط عدد اقل بكثير من الضحايا. لا اقول هذا عظيم، لكننا اجتماعياً وسياسياً يجب ان نأخذ هذه التطورات بنظر الاعتبار. فالقناعات تغيرت كثيراً، وهناك فهم افضل لكثير من القضايا. ففي تشرين 2019 كان الكلام عن حرب شيعية شيعية، وعن اسقاط النظام. هذا لم يحصل. فرغم الانقسامات السياسية التي لم تدخر مكوناً او ساحة فاننا نشهد الكثير من الاجتماعات وآفاق التحالفات، ليس بين الشيعة فقط بل بين ساحات وتشكيلات مختلفة. والكل يفكر بالمستقبل والانتخابات والحلول المطلوبة لاصلاح الاوضاع. الظروف ليست مثالية. لكن لدينا تجربة غنية فيجب ان لا ندمرها بجلد الذات وعدم الثقة بانفسنا والدروس المستخلصة من كل هذه الاوضاع والوقوف عند السلبيات فقط دون الارتكاز لكثير من الايجابيات. فقوانا كبيرة ومعبئة تعبئة غير بسيطة ويجب استثمار ذلك. كثيرون يراجعون انفسهم . فلقد تلقينا دروساً قاسية، وتحطمت مفاهيم كنا نراها مقدسة، وزالت الكثير من الهيبة عن الكثيرين منا، وهذه قد تكون معوقاتنا السابقة مما قد يدفعنا للتفكير ببدائلها للانطلاق نحو المستقبل. فالتصعيد داخل المكونات وبينها يجب ان يدفع للبحث عن حلول اجدى، فالصيغ القديمة ادت واجبها وقد يكون جزءاً منها قد انتهى، ويجب ان نبحث عن البدائل الصحيحة اللازمة. فليس كل تصعيد يؤدي الى الحرب او القتال، فقد يقود الى حوارات وحلول جدية وهذا ما نأمله.

 

https://chat.whatsapp.com/Fava5Ifru8330dDMfhs0gn

 

t.me/wilayahh

Check Also

العودة الی احضان دمشق…اجباریة ام تأسفیة؟

شهدت الآونة الأخيرة تراكض عربي في سبيل إعادة العلاقات السياسية والدبلوماسية مع سوريا، في ظل ...