.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

حياة المؤلف

مولده ووفاته

نشأته العلمية وأساتذته

عصره

شخصية المترجم له وأخلاقه

مؤلفاته

في أصول الفقه

في الحكمة والكلام

في الأخلاق والمواعظ

جامع السعادات وعلم ا لأخلاق

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

حياة المؤلف

1128ـ 1209

هو الشيخ الجليل المولى (محمد مهدي بن أبي ذر النراقي) أحد أعلام المجتهدين في القرنين الثاني عشر والثالث عشر من الهجرة، ومن أصحاب التأليفات القيمة. ويكاد أن يعد في الدرجة الثانية أو الثالثة من مشاهير علماء القرنين.

وهو عصامى لا يُعرف عن والده (أبي ذر) إلا أنه كان موظفاً في الدولة الإيرانية بوظيفة صغيرة في قرية (نراق)، ولولا ابنه هذا لذهب ذكره في طيات التاريخ كملايين البشر من أمثاله، ولا يعلم ما إذا كان لشيخنا النراقي أخوه، ولكن له ولد نابه الذكر، هو المولى أحمد النراقي المتوفى 1244، صاحب (مستند الشيعة) المشهور في الفقه، وصاحب التأليفات الثمينة، أحد أقطاب العلماء في القرن الثالث عشر. وكفاه فخراً أنه أحد أساتذة الشيخ العظيم المولى مرتضى الأنصاري المتوفى 1281.

ولعل النراقي الصغير هذا هو من أهم أسباب شهرة والده وذيوع صيته، لما وطيء عقبه وناف عليه بدقة النظر وجودة التأليف. كما حذا حذوه في تأليفاته. فان الأب المكرم ألف في الفقه (معتمد الشيعة). والابن الجليل ألف مستندها. وذاك ألف في الأخلاق (جامع السعادات) ـ هذا الكتاب الذي نقدمه ـ وهذا ألف (معراج السعادة) في الفارسية. وذاك ألف (مشكلات العلوم) وهذا ألف (الخزائن)... وهكذا نسج على منواله وأحكم النسج.

مولده ووفاته

ولد الشيخ المترجم له ـ رحمه الله تعالى ـ في (نراق) كعراق[1]، وهي قرية من قرى كاشان بإيران، تبعد عنها عشرة فراسخ. وكذا كانت مسقط رأس ولده المتقدم الذكر. ولم يذكر التأريخ سنة ولادته، وعلى التقريب يمكن استخراجها من بعض المقارنات التاريخية، فانه تلمذ ـ في أول نشأته على ما يظهر ـ على الشيخ المحقق الحكيم المولى إسماعيل الخاجوئي ثلاثين سنة، مع العلم أن استاذه هذا توفي عام 1173، فتكون أول تلمذته عليه عام 1143 على أقل تقدير، إذا فرضنا أنه لازمه إلى حين وفاته: ولنفرض على أقرب تقدير أنه قد حضر عليه وهو في سن 15 عاماً، وعليه فتكون ولادته عام 1128، أو قبل ذلك.

أما وفاته فقد كانت عام 1209 في النجف الأشرف، ودفن فيها، فيكون قد بقي بعد وفاة استاذه الوحيد البهبهاني سنة واحدة، ويكون عمره 81 عاماً على الأقل.

وفي (رياض الجنة) المخطوط، تأليف السيد حسن الزنوزي المعاصر للمترجم له ـ حسب نقل الأستاذ حسن النراقي ـ: ان عمره كان 64 سنة، فتكون ولادته سنة 1146هـ. وهذا لا يتفق أبداً مع ما هو معروف في تأريخه: انه تلمذ على المولى إسماعيل الخاجوئي ثلاثين سنة، لأنه يكون عمره على حسب هذا التأريخ حين وفاة استاذه 27 سنة فقط.

نشأته العلمية وأساتذته

عاش شيخنا كما يعيش عشرات الآلاف من أمثاله من طلاب العلم: خامل الذكر، فقير الحال منزوياً في مدرسته، لا يعرف من حاله إلا أنه طالب مهاجر، ولا يتصل به إلا أقرانه في دروسه، الذين لا يهمهم من شأنه إلا أنه طالب كسائر الطلاب، يتردد في حياة رتيبة بين غرفته ومجالس دروسه، ثم بعد ذلك لا ينكشف لهم من حاله إلا بزته الرثة التي ألفوا منظرها في آلاف طلاب العلم، فلا تثير اهتمامهم ولا اهتمام الناس.

وبطبيعة الحال لا يسجل له التأريخ شيئاً في هذه النشأة، وكذلك كل طالب علم لا يسجل حتى اسمه ما لم يبلغ درجة يرجع إليه الطلاب في التدريس، أو الناس في تقليد، أو تكون له مؤلفات تشتهر. ومن هنا تبتدىء معرفة حياة الرجل العالم، وتظهر آثاره ويلمع اسمه.

ومع ذلك، فانا نعرف عن شيخنا: ان أسبق أساتذته وأكثرهم حضوراً عنده هو المولى إسماعيل الخاجوئي المتقدم الذكر؟ وهذا الأستاذ كان مقره في أصفهان، وفيها توفي ودفن، والظاهر أنه لم ينتقل عنها حتى في الكارثة التأريخية المفجعة التي أصابتها من الأفغانيين الذين انتهكوها بما لم يحدّث التأريخ عن مثلها، وذلك سنة 1134. فتكون نشأة شيخنا المترجم له العلمية في مبدأ تحصيله في أصفهان على هذا الشيخ الجليل. والظاهر أنه عليه قرأ الفلسفة، لأن هذا الشيخ من أساتذة الفلسفة المعروفين الذين تنتهي تلمذتهم في ذلك العصر إلى المولى صدر الدين الشيرازي صاحب الأسفار. وكفى ان من تلاميذه المولى محراب، الإلهي المعروف، الذي طورد لقوله بوحدة الوجود، ولما جاء إلى إحدى العتبات المقدسة متخفياً. وجد في الحرم شيخاً ناسكاً يسبح بلعن ملا صدرا وملا محراب، ولما سأله عن السبب في لعنهما قال: لأنهما يقولان (بوحدة واجب الوجود)، فقال له ساخراً: إنهما حقاً يستحقان منك اللعن!

ودرس أيضاً شيخنا المترجم له ـ والظاهر أن ذلك في أصفهان أيضاً ـ على العالمين الكبيرين: الشيخ محمد بن الحكيم العالم الحاج محمد زمان، والشيخ محمد مهدي الهرندي. وهما من أساتذة الفلسفة على ما يظهر.

ولاشك أنه انتقل إلى كربلا والنجف، فدرس على الأعلام الثلاثة: وحيد البهبهاني الآتي ذكره ـ وهو آخر أساتذته وأعظمهم، وتخريجه كان على يديه ـ والفقيه العالم صاحب الحدائق الشيخ يوسف البحراني المتوفى 1186، والمحقق الجليل الشيخ مهدي الفتوني المتوفى 1183.

فجملة أساتذته سبعة، سماهم ولده في بعض إجازاته على ما نقل عنه بـ (الكواكب السبعة). وهم خيرة علماء ذلك العصر، وعلى رأسهم الآقا الوحيد أستاذ الأساتذة.

ولما فرغ هذا الشيخ من التحصيل في كربلا، رجع إلى بلاده واستقام في كاشان. وهناك أسس له مركزاً علمياً تشد إليه الرحال، بعد أن كانت كاشان مقفرة من العلم والعلماء، واستمرت بعده على ذلك مركزاً من مراكز العلم في إيران، وليس لدينا ما يشير إلى تأريخ انتقاله إلى كاشان.

ورجع إلى العراق، وتوفى في النجف الأشرف ودفن فيها. والظاهر ان مجيئه هذا كان ـ وكان معه ولده ـ بعد استاذه الوحيد، جاء لزيارة المشاهد المقدسة فتوفى، أما ولده فقد بقي بعده ليدرس العلم على أعلامه يومئذ، كبحر العلوم، وكاشف الغطاء.

عصره

يمضي القرن الثاني عشر للهجرة على العتبات المقدسة في العراق، بل على أكثر المدن الشيعية في إيران التي فيها مركز الدراسة الدينية العالية ـ كاصفهان وشيراز وخراسان ـ وتطغى فيه ظاهرتان غريبتان على السلوك الديني: الأولى: النزعة الصوفية التي جرّت إلى مغالاة فرقة الكشفية. والثانية: النزعة الأخبارية.

وهذه الأخيرة خاصة ظهرت في ذلك القرن قوية مسيطرة على التفكير الدراسي، وتدعو إلى نفسها بصراحة لا هوادة فيها، حتى أن الطالب الديني في مدينة كربلا خاصة أصبح يجاهر بتطرفه ويغالي، فلا يحمل مؤلفات العلماء الاصوليين إلا بمنديل، خشية أن تنجس يده من ملامسة حتى جلدها الجاف، وكربلا يومئذ أكبر مركز علمي للبلاد الشيعية.

وفي الحقيقة ان هذا القرن يمر والروح العلمية فاترة إلى حد بعيد، حتى أنه بعد الشيخ المجلسي صاحب البحار المتوفى في أول هذا القرن عام 1110، لم تجد واحداً من الفقهاء الأصوليين من يلمع اسمه ويستحق أن يجعل في الطبقة الأولى، أو تكون له الرئاسة العامة، إلا من ظهر في أواخر القرن كالشيخ الفتوني الجليل في النجف المتوفي 1183، ثم الشيخ آقا الوحيد البهبهاني في كربلا المتوفى 1208، الذي تم على يديه تحول العلم إلى ناحية جديدة من التحقيق.

وهذا الفتور العلمي، وطغيان نزعة التصوف من جهة، ونزعة الأخبارية من جهة أخرى في هذا القرن بالخصوص، مما يدعو إلى التفكير والعجب، وليس بأيدينا من المصادر ما يكفى للجزم بأسباب ذلك. وأغلب الظن أن أهم الأسباب التي نستطيع الوثوق بها هو الوضع السياسي والاجتماعي اللذان آلت إليهما البلاد الإسلامية في ذلك القرن، من نحو التفكك واختلال الأمن في جميع أطراف البلاد، والحروب الطاحنة بين الامراء والدول لا سيما بين الحكومتين الايرانية والعثمانية، وبين الإيرانية والأفغانية، تلك الحروب التي اصطبغت على الأكثر بصبغة مذهبية. وهذا كله مما يسبب البلبلة في الأفكار والاتجاهات، وضعف الروح العامة المعنوية.

فأوجب ذلك من جهة ضعف ارتباط رجال الدين بالحياة الواقعية، والسلطات الزمنية. ويدعو ذلك عادة إلى الزهد المغالي في جميع شؤون الحياة، واليأس من الإصلاح. فتنشأ هنا نزعة التصوف، وتتخذ يومئذ صرحاً علمياً على انقاض الفلسفة الإشرافية الإسلامية المطاردة المكبوتة، التي سبق أن دعا لها أنصار أقوياء، كالمولى صدر الدين الشيرازي المتوفى عام 1050، واضرابه وأتباعه، مع المغالاة في أفكارها. وساند طريقة التصوف مبدئياً أن السلطة الزمنية في إيران ـ وهي (سلطة الصفويين) ـ قامت على أساس الدعوة إلى التصوف. وظلت تؤيدها وتمدها سراً.

ومن جهة أخرى يحدث رد فعل لهذا الغلو، فينكر على الناس أن يركنوا إلى العقل وتفكيره، ويلتجأ إلى تفسير التعبد بما جاء به الشارع المقدس بمعنى الاقتصار على الأخبار الواردة في الكتب الموثوق بها في كل شيء والجمود على ظواهرها. ثم يدعو الغلو بهؤلاء إلى ادعاء أن كل تلك الأخبار مقطوعة الصدور على ما فيها من اختلاف. ثم يشتد بهم الغلو. فيقولون بعدم جواز الأخذ بظواهر القرآن وحده، من دون الرجوع إلى الأخبار الواردة. ثم ضربوا بعد ذلك علم الأصول عرض الجدار، بادعاء أن مبانيه كلها عقلية لا تستند إلى الأخبار، والعقل أبداً لا يجوز الركون إليه في كل شيء، ثم ينكرون الاجتهاد وجواز التقليد.

وهكذا تنشأ فكرة الأخبارية الحديثة التي أول من دعا إليها أو غالى في الدعوة إليها المولى أمين الدين الاسترابادي المتوفى 1033. ثم يظهر آخر شخص لهذه النزعة له مكانته العلمية المحترمة في الفقه هو صاحب الحدائق المتقدم ذكره. وهذا الثاني ـ وإن كان أكثر اعتدالا من الأول واضرابه ـ كاد أن يتم على يديه تحول الاتجاه الفكري بين طلاب العلم في كربلا إلى اعتناق فكرة الاخبارية هذه.

وعندما وصلت هذه الفكرة الأخبارية إلى أوجها، ظهر في كربلاء علم الأعلام الشيخ الوحيد الآقا البهبهاني، الذي قيل عنه بحق: مجدد المذهب على رأس المائة الثالثة عشرة. فان هذا العالم الجليل كان لبقاًً مفوهاً ومجاهداً خبيراً، فقد شن على الأخبارية هجوماً عنيفاً بمؤلفاته، وبمحاججاته الشفوية الحادة مع علمائها. وقد نقل في بعض فوائده الحائرية ورسائله نماذج منها ـ وبدروسه القيمة التي يلقيها على تلامذته الكثيرين الذين التفوا حوله، وعلى يديه كان ابتداء تطور علم الأصول الحديث، وخروجه عن جموده الذي ألفه عدة قرون، واتجه التفكير العلمي إلى ناحية جديدة غير مألوفة.

فانكمشت في عصره النزعة الأخبارية على نفسها، ولم تستطع أن تثبت امام قوة حجته. وتخرّج على يديه جماعة كبيرة من أعلام الأمة، كبحر العلوم، وكاشف الغطاء، والمحقق القمي، والشيخ النراقي ـ المترجم له ـ وأشباههم.

فيبرز شيخنا المترجم له في عنفوان المعركة الأخبارية والأصولية، وساحتها كربلا، وفي عنفوان معركة الدعوة إلى التصوف، وساحتها أصفهان على الأكثر، فيكون أحد أبطال هاتين المعركتين، بل أحد القواد الذين رفعوا راية الجهاد بمؤلفاته وتدريسه، وساعده على ذلك انه ـ رحمه الله ـ كان متفنناً في دراسة العلوم، ولم يقتصر على الفقه والأصول ومقدماتهما، فقد شارك العلوم الرياضية، كالهندسة والحساب والهيئة، وله مؤلفات فيها سيأتي ذكرها. كما درس الفلسفة، ويظهر أثر تضلعه في الفلسفة في كتابه هذا (جامع السعادات)، لا سيما في الباب الأول، وفي تقسيمه لأبواب الكتاب وفصوله على أساس علمي متقن برّز فيه على كتب الأخلاق السابقة عليه من الناحية. سيأتي بيان ذلك.

كما أن تأليفه لهذا الكتاب يشعرنا بأمرين:

(الأول) طغيان التصوف من جهة، وطغيان التفكك الأخلاقي عند العامة من جهة أخرى، وأنهما هما اللذان ألجآه إلى أن يرشد الناس إلى الاعتدال في السلوك الأخلاقي المستقى من منابعه الشرعية، فانه في الوقت الذي يبني كتابه على مبادىء الفلسفة الاشراقية، حارب فيه من طرف خفي نزعة التصوف، وجعل آراءه ودعوته إلى الأخلاق على أساس الذوق الإسلامي الذي يتمثل في الأحاديث النبوية وما جاء عن آل البيت (ع) فهو في وقت واحد هادم وبان، وبهذا يختلف كتابه عن مثل (إحياء العلوم) الذي يعتمد بالدرجة الأولى على الروح الصوفية، وهي غايته المثلى.

و(الثاني) من الأمرين حسن اختيار صاحب الترجمة، فانه لم يسبقه أحد من علماء الإمامية ـ بعد خرّيت هذه الصناعة ابن مسكويه المتوفي 421، والشيخ المولى محسن الفيض المتوفى 1091 ـ إلى تأليف كتاب كامل في الأخلاق مبنى على أساس علمي فلسفي موجود بين أيدينا.

شخصية المترجم له وأخلاقه

إن أعاظم الناس ونوابغهم لا تأتيهم العظمة والنبوغ عفواً ومصادفة، من دون قوة كامنة في شخصيتهم أو ملكة راسخة في نفوسهم، هي سر عظمتهم وتفوقهم على سائر الناس. وما كلمة الحظ في هذا الباب إلا تعبير مبهم عن تلك القوة التي أودعها الله تعالى في شخص النابغة. وقد تكون تلك القوة مجهولة حتى لشخص صاحبها الذي يتحلى بها، بل على الأكثر هي كذلك فيندفع العبقري إلى تلك القمة التي خلقت له أو خلق لها بدافع تلك القوة الكامنة اندفاعاً لا شعورياً، وان أعماله الجزئية التي يقوم بها هي شعورية بمحض اختياره.

وتلاحظ قوة شخصية شيخنا المترجم له في صبره وقوة إرادته وتفانيه في طلب العلم، ثم عزة نفسه، وإن كانت هذه الفاظاً عامة قد يعبر بها عن كثير من الناس، ويصح التعبير بها بلا كذب ولا خداع، إلا أن للدرجة الخاصة من الصبر والإرادة والحب والعزة ونحوها التي بها يمتاز الشخص النابغ تضيق اللغة عن التعبير عنها بخوصها إلا بهذه الألفاظ العامة الدارجة وتظهر الدرجة الخاصة التي يختص بها صاحبنا من هذه الأمور في ثلاث حوادث منقولة عنه:

(الأولى) ـ فيما ينقل انه كان في أيام التحصيل في غاية الفقر والفاقة ـ والفقر دائماً شيمة العلماء، بل هو من أول شروط النبوغ في العلم، وهو الذي يصقل النفس فيظهر جوهرها الحقيقي ـ فكان صاحبنا قد تشتد به الفاقة فيعجز عن تدبير ثمن السراج الذي لا يتجاوز في عصره عن أن يكون من زيت أو شمع، فيدعوه حرصه على العلم إلى الدخول في بيوت في مراحيض المدرسة، ليطالع على سراجها، ولكنه تأبى عزته أن يدع غيره يشعر بما هو فيه، فيوهم الداخلين ـ بالتنحنح ـ انه جالس للحاجة الخاصة. وتتجلى في هذه الحادثة الصغيرة عزة نفسه وقوة إرادته وصبره على طلب العلم بدرجة غير اعتيادية إلا للنوابغ الأفذاذ.

(الحادثة الثانية) ـ أن أحد الكسبة الذي كان حانوته في طريق المدرسة بكاشان التي كان يسكنها هذا الطالب النراقي، ان هذا الكاسب المؤمن لا حظ على هذا الطالب انه رث الثياب. وكان معجباً به، إذ كان يشتري منه بعض الحاجيات كسائر الطلاب، فرأى أن يكسيه تقرباً إلى الله فهيأ له ملبوساً يليق بشأنه، وقدمه له عندما اجتاز عليه، فقبله بالحاح. ولكن هذا الطالب الأبي في اليوم الثاني رجع إلى رفيقه الكاسب وارجع له هذا الملبوس قائلاً: اني لما لبسته لاحظت على نفسي ضعة لا أطيقها، لا سيما حينما اجتاز عليك، فلم أجد نفسي تتحمل هذا الشعور المؤلم، والقاه عليه ومضى معتزاً بكرامته.

(الحادثة الثالثة) ـ فيما ينقل عنه أيضاً ـ وهي أهم من الأولى والثانية ـ انه كان لا يفض الكتب الواردة اليه، بل يطرحها تحت فراشه مختومة، لئلا يقرأ فيها ما يشغل باله عن طلب العلم. والصبر على هذا الأمر يتطلب قوة إرادة عظيمة ليست اعتيادية لسائر البشر. ويتفق أن يقتل والده (أبو ذر) المقيم في نراق وطنه الأصلي، وهو يومئذ في أصفهان، يحضر على استاذه الجليل المولى إسماعيل الخاجوئي، فكتبوا إليه من هناك بالنبأ ليحضر إلى نراق، لتصفية التركة وقسمة المواريث وشؤون اخرى، ولكنه على عادته لم يفض هذا الكتاب، ولم يعلم بكل ما جرى. ولما طالت المدة على من في نراق، كتبوا له مرة أخرى، ولكن لم يجبهم أيضاً. ولما يئسوا منه كتبوا بالواقعة إلى استاذه المذكور ليخبره بالنبأ ويحمله على المجيء. والأستاذ في دوره ـ على عادة الناس ـ خشى أن يفاجئه بالنبأ، وعندما حضر مجلس درسه أظهر له ـ تمهيداً لاخباره ـ الحزن والكآبة، ثم ذكر له: ان والده مجروح، ورجح له الذهاب إلى بلاده ولكن هذا الولد الصلب القوى الشكيمة لم تلن قناته، ولم يزد أن دعا بالعافية، طالباً من استاذه أن يعفيه من الذهاب. وعندئذ اضطر الأستاذ إلى أن يصرح له بالواقع، ولكن الولد أيضاً لم يعبأ بالأمر، وأصر على البقاء لتحصيل العلم. إلا أن الأستاذ هذه المرة لم يجد بداً من أن يفرض عليه السفر، فسافر امتثالا لأمره المطاع، ولم يمكث في نراق أكثر من ثلاثه أيام، على بعد الشقة وزيادة المشقة، ثم رجع إلى دار هجرته. وهذه الحادثة هو لها مغزاها العميق في فهم نفسية هذا العالم الإلهي، وتدل على استهانته بالمال وجميع شؤون الحياة في سبيل طلب العلم.

مؤلفاته

لشيخنا المترجم له عدة مؤلفات نافعة، تدلّ على قابلية في التأليف وصبر على البحث والتتبع، وعلى علم غزير. ونحن نعدّ منها ما وصل بحثنا إليه، وأكثر اعتمادنا في تعدادها وبعض أوصافها على كتاب (رياض الجنة) المذكور في مصادر هذه الطبعة:

(في الفقه):

(لوامع الأحكام في فقه شريعة الإسلام): وهو كتاب استدلالي مبسوط، وقد خرج منه كتاب الطهارة في مجلدين يقرب من (30) الف بيت.

(معتمد الشيعة في أحكام الشريعة): وهو أتم استدلالاً واخصر تعبيراً من كتاب اللوامع السالف الذكر، خرج منه كتاب الطهارة ونبذ من الصلاة والحج والتجارة والقضاء. قال في الروضات عن الكتابين: " ينقل عنهما ولده المحقق في المستند والعوائد كثيراً ".

(التحفة الرضوية في المسائل الدينية): في الطهارة والصلاة، فارسي، يقرب من (10) آلاف بيت.

(أنيس التجار): في المعاملات، فارسى، يقرب من (8) آلاف بيت.

(انيس الحجاج): في مسائل الحج والزيارات، فارسي، يقرب من (4) آلاف بيت.

(المناسك المكية): في مسائل الحج أيضاً، يقرب من ألف بيت.

(رسالة صلاة الجمعة): ذكرها وما قبلها حفيده (الاستاذ حسن النراقي) في رسالته لنا.

(في أصول الفقه):

8 ـ (تجريد الأصول): مشتمل على جميع مسائل الأصول مع اختصاره، يقرب من (3) آلاف بيت. قال عنه في الروضات: " شرحه ولده في مجلدات غفيرة جمة ".

(أنيس المجتهدين): توجد منه نسخة مخطوطة في مكتبة الإمام أمير المؤمنين (ع) العامة بالنجف الأشرف (برقم 408 ـ سجل المخطوطات)، تقع في 411 صفحة، بخط محمد حسين بن علي نقي البزاز فرغ منها بتأريخ 3صفر من سنة 1181. وفي تقدير رياض الجنة يقرب من (10) آلاف بيت.

10ـ (جامعة الأصول): يقرب من (5) آلاف بيت.

11ـ (رسالة في الاجماع): يقرب من (3) آلاف بيت.

(في الحكمة والكلام):

12ـ (جامع الأفكار): في الإلهيات، يقرب من (30) الف بيت قد فرغ من تأليفه سنة 1193، وعليه فليس هو من أوائل مؤلفاته، كما قال عنه صاحب (رياض الجنة)، وستجد راموزاً للصحفتين الأولى والأخيرة منه بخط المؤلف، منقولتين عن النسخة التي هي بحوزة أحد أحفاده (الأستاذ حسن النراقي). والذي يجلب الانتباه في الصفحة الأخيرة ماذكره من الحوادث المروعة في الوباء وغيره التي وقعت في تلك الفترة.

13ـ (قرة العيون): في أحكام الوجود والماهية، يقرب من (5) آلاف بيت،

14ـ (اللمعات العرشية): في حكمة الإشراق، يقرب من (25) الف بيت.

15ـ (اللمعة): وهو مختصر اللمعات، يقرب من الفي بيت.

16ـ (الكلمات الوجيزة): وهو مختصر اللمعة، يقرب من ثمانمائة بيت.

17ـ (أنيس الحكماء): في المعقول، وهو من أواخر تأليفاته، لم يتم. احتوى على نبذ من الأمور العامة والطبيعيات، يقرب من (4) آلاف بيت.

18ـ (أنيس الموحدين): في أصول الدين، فارسي، يقرب من (4) آلاف بيت.

19ـ (شرح الشفا): في الإلهيات، النسخة الأصلية بخط المؤلف موجودة عند أحد أحفاده (الاستاذ حسن النراقي).

20ـ (الشهاب الثاقب): في الإمامة، في رد رسالة الفاضل البخاري، يقرب من (5) آلاف بيت.

21ـ (المستقصى): في علوم الهيئة، خرج منه مجلدان إلى مبحث اسناد الحركات. يقرب من (40) ألف بيت، قال عنه في رياض الجنة: " لم يعمل أبسط وأدق منه في علم الهيئة، ولقد طبق فيه أكثر البراهين الهندسية بالدلائل العقلية، لم يتم ".

22ـ (المحصل): كتاب مختصر في علم الهيئة، يقرب من (5) آلاف بيت.

23ـ (توضيح الأشكال): في شرح تحرير اقليدس الصوري في الهندسة، وقد شرحه إلى المقالة السابعة، فارسي، يقرب من (16) ألف بيت.

24ـ (شرح تحرير اكرثاذوسنيوس): يقرب من (3) آلاف بيت.

25ـ (رسالة في علم عقود الأنامل): فارسية، تقرب من الف بيت.

26ـ (رسالة في الحساب): ذكرها في روضات الجنات.

(في الأخلاق والمواعظ):

27ـ (جامع السعادات): هذا المطبوع بثلاثة أجزاء ـ حسب تقسيمنا له ـ قال عنه في رياض الجنة: " يقرب من (25) الف بيت ". وقد طبع في إيران على الحجر سنة 1312 بجزءين، وسيأتي وصفه، وقد تقدم شيء من وصفه. وهذه الطبعة الثالثة له على الحروف بالنجف الأشرف.

28ـ (جامع المواعظ): في الوعظ، يقرب من (40) الف بيت لم يتم.

(في المتفرقات):

29ـ (محرق القلوب): في مصائب آل البيت، فارسي، يقرب من (18) الف بيت، قال عنه في روضات الجنات: " طريف الاسلوب ".

30ـ (مشكلات العلوم): في المسائل المشكلة من علوم شتى، مطبوع على الحجر بإيران، يشبه بعض الشيء كشكول البهائي. وقد نسج على منواله ولده المحقق في كتابه (الخزائن) المطبوع على الحجر بإيران.

31ـ (رسالة نخبة البيان): ذكرها حفيده (الأستاذ حسن النراقي).

32ـ (معراج السماء): ذكره أيضاً حفيده المذكور.

جامع السعادات وعلم الأخلاق

لا شك ان القدرة على التأليف موهبة من الله تعالى فوق موهبة العلم والفهم، وليس كل من كان عالماً استطاع التأليف.

والتأليف في حد ذاته من أبرز الخدمات التي يؤديها العالم للناس في حياته، ومن اعظم الحظوظ للإنسانية، وبسببه استطاعت ان تتقدم على مرور الأجيال. ومع ذلك ليس كل تأليف يعد خدمة للناس وحظاً للإنسانية.

وإذا أردنا أن نضع المؤلفات في رفوف حسب قيمتها، فانما في فترات منقطعة تظهر مؤلفات من النوابغ يصح أن نضعها في الرف الأعلى ويصدق عليها بحق انها مما ينفع الناس، فتمكث في الأرض، وتفرض نفسها للخلود والبقاء إذا سلمت من عوادي الدهر الغاشمة. ومن سوء الحظ ان الفراغ لا يزال كثيراً في هذا الرف الأعلى.

ومن بين الفترات لابد أن تبرز في كل علم من المؤلفات هي من حقها أن توضع في الرف الثاني أو ما دونه. وحظها ان تنسج على منوال غيرها لتحييها وتهيء انتهاء الفترة لظهور الأثر الخالد مما يوضع في الرف الأعلى. وهذه غير العثاء الذي يذهب جفاء، ومن حقه أن يلقى في سلة المهملات وما أكثر هذا النوع الرخيص، لا سيما في عصرنا الحاضر الذي سهلت له الطباعة الاسفاف.

ويجب ألا نغالي في مؤلفات شيخنا النراقي فنضعها في الرف الأعلى، ولكن (جامع السعادات) الذي نقدمه، هو بالخصوص من الآثار الخالدة، وإن لم يكن موضعه هذا الرف الأعلى كسائر الكتب الأخلاقية في الدورة الإسلامية. ولا ندري السر في ذلك، لأن الفترة بعد لم تنته لعلم الأخلاق بخصوصه كيما يظهر الأثر الخالد المنتظر الذي سيكون في الرف الأعلى، أم لأن هذا العلم ليس له تلك الفترات، بل كله في فترة مستديمة ليأس العلماء الأخلاقيين من التأثير على الناس بمجرد التأليف؟!

وهذا الثاني هو الأقرب إلى الواقع. والحق مع الأخلاقيين في يأسهم فان الأخلاق لا تكتسب بالعلم وقراءة الكتب، وإنما هي صفات وملكات لا تحصل للانسان إلا بالتمرينات القاسية والتربية الطويلة، لا سيما في أيام الطفولة وفي السن المبكرة قبل أن يفرض في الإنسان أن يكون أهلاً للقراءة، ولو كانت قراءة الكتب وحدها كافية لخلق الفضيلة في النفس أو تنميتها لكانت كتب الأخلاق من أثمن ما خلق الله، ولأغنى البشرية كتاب واحد يفي بذكر الأخلاق الفاضلة، بل لا كتفينا بالقرآن الكريم وحده، أو بنهج البلاغة بعده الذي تريد خطبه ومواعظه ان تصهر الناس في بوتقتها الملتهبة لتخرجهم ابريزاً صافياً كصاحبها، ولكن البشرية الظالمة لنفسها بدل أن تنصهر بهذا اللهب تخبو جذوتها وتزيد جموداً على مساوئها.

وليس هذا الرأي عن الكتب الأخلاقية فيه شيء من المغالاة على ما اعتقد، إلا إني مع ذلك لا اظلم بعض زمرة صالحة من أهل الفتوة وأرباب القلوب الحية، إذ نجدهم يتأثرون بالكلمة الأخلاقية الموجهة إليهم ممن يعول على قوله، ويتبعون باخلاص مجهودات المؤلفين في الأخلاق، ليترسموا خطاهم فيهذبوا أنفسهم.

ومن هنا نجد السبيل إلى انصاف الأخلاقيين وإعطاء مؤلفاتهم حقها من التقدير، لنعتقد انهم لم يعملوا عملاً باطلاً لا نفع فيه، بل الحق أن له قيمته العظيمة، وكفى أن يتأثر بدعوتهم بعض فتيان كرام بررة. وهذا التأثر على قلته له قيمة معنوية لا توازن بشيء في الدنيا، بل سير الحياة وتقدمها يتوقف مبدئياً على هذا التأثر، وإن كان محدوداً. وما التقدم الاجتماعي الذي يحصل في أمة في بعض الفترات من الزمن إلا تنيجة من نتائج هذا التأثر المحدود.

ومع ذلك، فان تأثير الدعوة الأخلاقية هذا التأثير المحدود لا يأتي من مجرد شحن الكتاب بالنظريات الأخلاقية المجردة. بل لروحية المؤلف أعظم الأثر في اجتذاب قلوب الفتيان الكرام إلى الخير. ومن هنا اشترطوا في الواعظ أن يكون متعظا.

وعلى هذا الأساس ينبغي أن توضع كتب الأخلاق في رفوفها، فليس للنظريات الفلسفية ورصانة التأليف وتركيزه على المباديء العلمية ـ في نظر أرباب القلوب ـ تلك الأهمية الأخلاقية التي تعلق عليها. ولا تقاس بالأثر الأخلاقي الذي يحصل من روحية المؤلف ومقدار تأثره هو بأقواله، وما كانت شهرة (مجموعة ورام)، وما كانت أهميتها إلا لأنها ناشئة من قلب صادق، ذلك قلب الأمير الزاهد الإلهي (الشيخ ورام ابن أبي فراس المالكي الأشتري)، وليس فيها صفة علمية أو فنية تقضي بهذا الاهتمام. ومن العجيب أن قلب الرجل الأخلاقي يبرز ظاهراً على قلمه في مؤلفاته، فتلمسه في ثنايا كلماته. وبالعكس ذلك الذي لا قلب له، فانك لا تقرأ منه إلا كلاماً جافاً لا روح فيه، مهما بلغت قيمته في حساب النظريات الفلسفية.

وفي نظري ان قيمة (جامع السعادات) في الروح المؤمنة التي تقرأها في ثناياه أكثر بكثير من قيمته العلمية. وإني لأتحدى قاريء هذا الكتاب إذا كان مستعداً للخير أن يخرج منه غير متأثر بدعوته، وهذا هو السر في إقبال الناس عليه وفي شهرته، على انه لا يزيد من ناحية علمية على بعض الكتب المتداولة التي لا نجد فيها هذا الذوق والروحانية. والكتاب نفسه يكشف لنا عن نفسية المؤلف، وما كان عليه من خلق عال وإيمان صادق.

وإني لأؤمن إيمانا لا يقبل الشك: ان انتشار هذا الكتاب بين الناس في هذا العصر سيكون له أثره المحسوس في توجيه أمتنا نحو الخير، بعد ان نفدت طبعته الأولى وعزت نسخته، ولاسيما ان خطباء المنابر ـ فيما اعتقد ـ ستكون لهم الحصة الوافرة في التأثر به ونقل تأثرهم إلى سواد الامة الذين هم المعول عليهم في نهضتنا الأخلاقية المقبلة.

وهذا ما دفعني ـ والله هو الشاهد علي ـ إلى السهر على تصحيح الكتاب وتدقيقه، ليخرج بهذه الحلة، وإن كانت ظروفي الخاصة كادت أن تحول دون التفرغ له، لولا اني توكلت على الله ووطنت نفسي على تجاهلها وإهمال كثير مما يجب العناية به، والحمد لله على توفيقه.

النواحي الفنية في الكتاب

من أهم ما يؤاخذ به كتابنا هذا، اعتماده على المراسيل في الأحاديث، وتسجيل كل ما يرى أمامه من المنقولات: غثها وسمينها، من دون اشارة إلى التمييز ولا إلى المصادر، حتى نقل كثير من احياء العلوم. وتعمد النقل عن مثل جامع الأخبار ومصباح الشريعة، اللذين يشهد اسلوبهما على وضع أكثر ما فيهما. وقد وجدنا صعوبة كبيرة في العثور على جملة من مصادر هذه المنقولات لتصحيحها، وقد يستغرق البحث للعثور على مصدر خبر واحد أياماً، كما قد يذهب البحث سدى. وما كان يهمنا من الرجوع إلى المصادر إلا تصحيح المنقولات لا إثبات مصادرها، فلذلك لا نشير في الحاشية إلى المصدر إلا إذا وجدنا اختلافاً في نصه في النسخ، فنقول: صححناه على كذا مصدر. وبهذه المناسبة لابد من الاعتراف بالجميل، فنذكر الأستاذ الفاضل السيد عبد الرزاق المقرم بالشكر لما أعاننا عليه من الفحص عن بعض الروايات.

والذي يهوّن الخطب في هذه المؤاخذة ـ على أن لها قيمتها الفنية ـ انها لا تختص بهذا الكتاب وحده من بين كتب الأخلاق الإسلامية، بل هذا ديدنها، وكأن همّ أصحابها من الاستشهاد بالمنقولات نفس أداء الفكرة فإذا كانت بحسب نظرهم صحيحة مقبولة في نفسها فلا يجب عندهم أن يكون الحديث الذي يتضمنها صحيحاً مقبولا في عرف أهل الحديث، فإذا قال المحدث: " قال النبي والإمام كذا "، يعني بذلك أن هذا القول ثابت بالنقل الصحيح الموثوق به وإلا فيقول " روى عنه كذا " أو ما يشبه ذلك أما الأخلاق فلا يعني بذلك القول إلا أنه مروي عنه بأي طريق كان.

ولعل لهذا التسامح عذراً مقبولاً في مذهبهم على ما قدمنا، لو لم تكن فيه إساءة إلى أمانة النقل في أهم تراث اسلامي ديني، في حين كان من الممكن تحاشيها بقليل من التحقيق والبحث، على أن في الثابت الصحيح عن آل البيت (ع) ما فيه الكفاية للالمام بنواحي الأخلاق المطلوبة، وما في (الكافي) كاف وحده في هذا الباب. وكنا نتمنى ـ أثناء التصحيح ـ على صاحب كتابنا هذا ألا يتبع هذه العادة عند الأخلاقيين، فيزيد على فائدته الأخلاقية فائدة أخرى في تحقيق الأحاديث الصحيحة.

اما اسلوب الكتاب الأدبي، فهو يمثل إلى حد ما عصره الذي ضعفت فيه اللغة إلى حد كبير، بالرغم على أن الفسلاسفة الاشراقيين اشتهروا في تلك العصور بحسن البيان وقوة الاسلوب، لا سيما في العصر السابق على عصر المؤلف، كالسيد الداماد العظيم المتوفى 1041، وتلميذه النابغة الجليل المولى صدرا المتقدم ذكره، حتى كان يسمى الأول: أمير البيان، ولعل الثاني أحق بهذا اللقب. غير ان صاحبنا لا يحسب في عداد الفلاسفة وإن ارتشف من منهلهم. على أنه كان يقتبس كثيراً نص عبارات غيره استراحة إليها. وهذه سنة مستساغة عند المؤلفين الأخلاقيين، وكأن كتبهم يجدونها مشاعة بين الجميع، أو لأن همهم أداء الفكرة كما كان عذرهم في مراسيل الأحاديث.

وبهذه المناسبة نقول: إنا وجدنا أثناء تصحيح الكتاب كثيراً من الألفاظ والعبارات مما لم نجد له مسوغاً من اللغة العربية، ككلمة (القادسة) و(الهلاكة، ففضلنا أن نبقيها على ما وجدناها، حرصاً على أمانة النقل، وأهملنا التنبيه عليها، ومثل كلمة (سيما) فضلنا أن نصححها ونضع كلمة (لا) بين قوسين إشارة إلى زيادتها منا.

وإذا كانت أمانة النقل هي العذر لنا في ذلك، فهي التي تقضي علينا ان نصرح أن عناوين الكتاب على الأكثر هي من وضعنا لا من وضع المؤلف.

وأما اسلوبه العلمي، فقد بناه مؤلفه من أوله إلى آخره على نظرية الوسط والأطراف في الأخلاق، تلك النظرية الموروثة من الفلسفة اليونانية وقد بحث عنها المؤلف في (الجزء الأوّل ص59). وليس من حقنا أن نناقشها، ولا يمتاز بها هذا الكتاب وحده، فان شأنه في الاعتماد على هذه النظرية الأساسية شأن ساير كتب الأخلاق الإسلامية العلمية.

ولكن الذي امتاز به كتابنا ـ بعد أن بحث مؤلفه بحثاً فلسفياً متوسطاً عن النفس وقواها، والخير والسعادة، والفضائل والرذائل، في البابين الأول والثاني، كم صنع أسلافه ـ أن جعل أساس تقسيمه للكتاب على القوى الثلاث: العاقلة والشهوية والغضبية، معللا ذلك بأن " جميع الفضائل والرذائل لا تخرج عن التعلق بالقوى الثلاث " (1/66). وذكر لكل قوة ما يتعلق بها من أجناس الفضائل والرذائل منفردة ومنضمة إلى الأخرى ثم ذكر أنواعها، واستقصى ذكر الأنواع، مطبقاً على كل نوع نظرية الوسط والأطراف، فجاء في استقصائه وإلحاقه كل فضيلة ورذيلة بالقوة التي تتعلق بها، بما لم يجيء به غيره ولم يسبقه إليه أحد فيما نعلم، وهو نفسه ادعى ذلك فقال: " ان إحصاء الفضائل والرذائل وضبطهما، وإدخال البعض في البعض، والإشارة إلى القوة الموجبة لها على ما فصلناه، مما لم يتعرض له علماء الأخلاق " (1/71).

وهذه أهم ناحية فنية في الكتاب، وفتح جديد في تحقيق منشأ حدوث خلق الفضيلة والرذيلة، لو اتفق لغيره أن يترسم خطاه، ويتم ما فتحه من هذا الباب من التحقيق، لتقدم على يديه علم الأخلاق كبيراً. وعلى أساس تحقيقه هذا أسقط فضيلة العدالة من حسابه، فلم يجعلها جنساً مقابلاً لأجناس الفضائل الثلاث الأخرى، وهي الحكمة والعفة والشجاعة، باعتبار ان العدالة جامعة لجميع الكمالات بأسرها، لا انها في مقابلها، وقد فصل هذا الرأي في الباب الثاني، ولا أظن أحداً يقره عليه، ولا يثبت أمام النقد. ولكن هذه المقدمة تضيق عن مثل هذه الأبحاث الدقيقة، كما تضيق عن مقارنة هذا التأليف بالمؤلفات الأخلاقية الأخرى. وقصدنا أن هذا التقسيم من المؤلف، وارجاع الفضائل والرذائل إلى أسبابها، وجعل مواضيع الأبحاث تلك القوى، وإحصاء أنواع الأخلاق بنوعيها ولوازمها، وكل ذلك مستجد وهي طريقة علمية امتاز بها الكتاب.

تصحيح الكتاب ومراجعه

وعدت الأخ الفاضل الألمعي السيد محمد كلانتر، ناشر الكتاب وملتزمه تصحيحاً وتعليقاً ـ جزاه الله خير ما يجزي العاملون ـ: على الاشتراك معه واعانته على تدقيق وتحقيق هذا السفر الجليل وتصحيحه أيضاً عند الطبع، إذا توفق لتهيئة ما يلزم لطبعه، وذلك قبل سنتين. وشاء التوفيق أن يحقق هذه الأمنية، فلم أجد للتخلي عن الوفاء بالوعد سبيلا مهما كلفني الأمر.

ويعجبني من هذا الرجل صبره وجلده على المشاق في سبيل نشره، باعتباره أحد الكتب التي يجب احياؤها في هذا العصر، وهذا منه أحد شواهدي على تأثر الفتيان الكرام الابرار بهذا السفر الأخلاقي، وقد شاهدت صبره لأول مرة في إيران في صيف العام الماضي، لما اشترك هو والعلامة الأخ بالروح الشيخ محمد شيخ الشريعة، في تصحيح قسم من الكتاب على النسخة المخطوطة الآتي ذكرها في المراجع رقم 2 إلى حد ص176 من الجزء الأول من هذا المطبوع، فأودعا في التعليقة آراءهما القيمة في تحقيقه وتصحيحه. ولئن عدنا في التصحيح من أوله لما استقبلت المطبعة النسخة للطبع، فانا اعتمدنا كثيراً على تلك التحقيقات القيمة الماضية.

ولا ننسى أن نذكر أن للنسخة المطبوعة في إيران على الحجر، فيها من التحريف والتصحيف ما يذهب بالاطمئنان إليها، ويشوه المقصود والمعنى. ومن الغريب أن يجد التحريف حتى في الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة. أما تذكير المؤنث وتأنيث المذكر، وتشويه الإملاء والتبويب، فهذه أمور حدث عنها ولا حرج. ويكفي أن تقارن صفحة واحدة منها بمطبوعنا، لتعرف أي مجهود بذل للتصحيح والإخراج، وتجد العناية على كل سطر منه، بل كل كلمة.

ومن سوء الحظ، أن النسخة المخطوطة المرجع رقم (2) لم تكن أكثر حظاً في الصحة من أختها المطبوعة. وهذا ما دعانا إلى أن نرجع إلى كتب أخرى تمت بالموضوع بصلة لتحقيق الكتاب، كالكتب الأخلاقية وكتب الحديث. وأكثر ما كان يعنينا تصحيح الأحاديث الشريفة بالرجوع إلى مصادرها الذي جشمنا بحثاً مضنياً كان يستغرق أكثر أوقاتنا، وقد نذكر أحياناُ في التعليقة المصدر المرجوع إليه، وعلى الأكثر لا نذكر المرجع إلا عند ما يكون مخالفاً لنسخ الكتاب. ويحسن الآن أن نذكر أهم المراجع التي اعتمدنا عليها لتصحيح الكتاب، وهي:



[1]  وفي أعيان الشيعة ـ ج10 ص250 ـ: انها بفتح النون.

 

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست