الرئيسية  اتصل بنا  خارطة الموقع   
 
 
  إرسل لنا كتاب | أخبرنا عن خطأ  
أ ب ت  ...




مسكن الفؤاد- الشهيد الثاني

مسكن الفؤاد

الشهيد الثاني


[ 1 ]

سلسة مصادر بحار الأنوار - 2 مسكن الفؤاد عند فقد الأحبة والأولاد تأليف الشهيد الثاني الشيخ زين الدين علي بن أحمد الجبعي العاملي (119 - 965 ه‍) تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث

[ 2 ]

الكتاب: مسكن الفؤاد عند فقد الأحبة والأولاد المؤلف: الشهيد الثاني الشيخ زين الدين علي بن أحمد الجبعى العاملي (911 - 965 ه‍) تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لاحياء التراث - قم. الطبعة: الاولى - ذو الحجة 1407 ه‍ ق. المطبعة: مهر - قم الكمية: 2000 نسخة السعر: 600 ريال

[ 3 ]

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم إن الله تعالى بمقتضى غناه وجوده وكرمه، شاء أن ينعم على ابن آدم من نعمه الجزيلة، فأنعم عليه بأول نعمه نعمة الوجود وإخراجه من حيز العدم. ثم سخر له ما في الأرض جميعا وجعله سيد هذه الكرة، يتصرف في ترابها ومائها وجوها، ويذل له كل ما عليها من حيوان، ويخضع له نباتها ومعدنها وجميع كنوزها. ثم أنعم عليه بالهداية إليه بإرسال الرسل وإنزال الكتب التي تضمن له رضى ربه وسعادة معاشه ومعاده إن أطاع الله. وكان بعد هذا الإنعام الجزيل والهداية الواضحة الإختبار والإمتحان وهما لا يكونان إلا بالإبتلاء بنقص النعمة أو البلاء في نفس الإنسان وماله. وهنا يعرف الصابر المحتسب من الضجر الجازع. وقد وعد سبحانه الصابرين بالأجر الجزيل، ووعدهم بأن يوفيهم أجرهم بغير حساب، وأعلمهم أنه هو تعالى معهم إن صبروا. قال: الامام الباقر عليه السلام: إنما يبتلى المؤمن في الدنيا على قدر، دينه - أوقال - على حسب دينه (1). وقال الإمام الصادق عليه السلام: إن الله إذا أحب عبدا غته بالبلاء غتا (2).


1 - الكافي 2: 197 / 9، مشكاة الأنوار: 298. 2 - الكافي 2: 197 / 6

[ 4 ]

وقال عليه السلام: إن عظيم الأجر مع عظيم البلاء (1). ولذا كان أشد الناس بلاء - كما في الحديث - الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل (2). قال النبي صلى الله عليه وآله: نحن - معاشر الأنبياء - أشد بلاء والمؤمن الأمثل فالأمثل، ومن ذاق طعم البلاء تحت ستر حفظ الله له، تلذذ به أكثر من تلذذه بالنعمة (3). وجعل رأس طاعة الله الصبر وعدله بنصف الإيمان وعدة من مفاتيح الأجر وقرر أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ولا جسد لمن لا رأس له ولا إيمان لمن لا صبر له، ومن صبر كان له أجر ألف شهيد. ولذا قال الإمام على عليه السلام: إن صبرت جرى عليك القضاء وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القضاء وأنت مأزور (4). قال الإمام الكاظم عليه السلام: ضرب الرجل على فخذه عند المصيبة إحباط أجره (5). وتختلف المصائب الواحدة عن الاخرى فمن مرض مزمن إلى اسارة محقرة إلى فقد المال و... ومن الامور الهامة فقد الأحبة والأولاد - وقد وردت روايات كثيرة في هذا الباب منها: من قدم من ولده ثلاثا صابرا محتسبا كان محجوبا من النار بإذن الله (8) وان ذلك له جنة حصينة. وفي جواب الله لداود عليه السلام عند ما قال: ما يعدل هذا الولد عندك ؟


1 - الكافي 2: 196 / 3 2 - رواه الكليني في الكافي 2: 691 / 1، وابن ماجة في سننه 2: 1334 / 4023، والترمذي في سننه 4: 28 / 2509، وأحمد في مسنده 1: 172، 180، 185، والدارمي في سننه 2: 320، والحاكم النيشابوري في مستدركه 1: 41 باختلاف يسير. 3 - مصباح الشريعة: 487. 4 - نهج البلاغه 3: 224 / 291. 5 - الكافي 3: 225 / 9. 6 - الجامع الكبير 1: 817.

[ 5 ]

قال: يا رب كان يعدل هذا عندي ملء الأرض ذهبا، قال فلك عندي يوم القيامة ملء الأرض ثوابا (1). لقد ذهب الرسول الأعظم إلى أكثر من ذلك بقوله:... إني مكاثر بكم الامم حتى أن السقط ليظل محبنطئا على باب الجنة، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أنا وأبواي ؟ فيقال: أنت وأبواك (2). وقد وردت الروايات الكثيرة بتقديم التعازي لصاحب المصيبة ليخفف عنه هول المصاب، فعن ابن مسعود عن النبي، قال صلى الله عليه وآله: من عزى مصابا فله مثل أجره (3). وعن أبي برزة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من عزى ثكلى كسي بردا في الجنة (4). هذا، وإن البكاء على الميت لا يقل من الأجر ولا يضر بالثواب، فإن أول من بكى آدم على ولده هابيل ورثاه بأبيات مشهورة وحزن عليه حزنا كثيرا، وحال يعقوب أشهر من أن يذكر فقد ابيضت عيناه من الحزن على يوسف وبكى عليه كثيرا. وأما سيدنا ومولانا علي بن الحسين عليه السلام فقد بكى على أبيه أربعين سنة صائما نهاره قائما ليله، فإذا حضر الإفطار جاء غلامه بطعامه وشرابه فيضعه بين يديه، ويقول: كل يا مولاي، فيقول: قتل ابن رسول الله جائعا، قتل ابن رسول الله عطشانا، فلا يزال يكرر ذلك ويبكي حتى يبل طعامه من دموعه فلم يزل كذلك حتى لحق بالله عز وجل (5). ولذا قال رسول الله (ص): تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب (6). ومن الذين أبلوا بلاء حسنا في الصبر عند فقد الأحبة والأولاد أبو ذر الغفاري


1 - رواه الشيخ ورام في تنبيه الخواطر 1: 287، والسيوطي في الدر المنثور 5: 306 باختلاف في الفاظه. 2 - رواه السيوطي في الجامع الصغير 2: 55 / 4724. والمتقي الهندي في منتخب كنز العمال 6: 390 عن ابن عباس. 3 - الجامع الكبير 1: 801. 4 - سنن الترمذي 2: 269 / 1082. 5 - اللهوف في قتلى الطفوف: 87. 6 - سنن ابن ماجة 1: 506 / 1589، ومنتخب كنز العمال 6: 265.

[ 6 ]

رضي الله عنه الذي لم يعش له ولد، وقوله: الحمد لله الذي يأخذهم من دار الفناء ويدخرهم في دار البقاء (1). فلنا بهم أحسن العبر وأجلها، وهو لنا اسوة حسنة وما أكثر الصابرين المحتسبين في سبيل الله. ومن اولئك الذين اصيبوا بهذا المصاب وفقدوا الأحبة والأولاد شيخنا الشهيد الثاني قدس الله روحه الزاكية. وقد ذكر صاحب روضات الجنات (2) فقده لأولاده ومصيبته بهم حيث يتوفون صغارا. وقال السيد الأمين: (وكان لا يعيش له أولاد، فمات له أولاد ذكور كثيرون قبل الشيخ حسن الذي كان لا يثق بحياته أيضا) (3). وقال الشيخ عباس القمي في معرض حديثه عن الشيخ حسن بن الشهيد: (ولم يكن مرجو البقاء بعد ما قد اصيب والده بمصائب أولاد كثيرين من قبله) (4). سبب تأليف الكتاب: لم يكن تأليف (مسكن الفؤاد) وليد حالة علمية بحتة يقررها واقع الدرس والتدريس، أو تمليها حاجة المناظرات الحوزوية، بقدر ما كان إفرازا لحالة وجدانية وعاطفية عاشها الشهيد الثاني بكل جوارحه وأحاسيسه، وتفاعل معها تفاعلا إيجابيا طيلة حياته الشريفة، فقد ذكرت أغلب المصادر التي ترجمت للشهيد أنه ابتلي بموت أولاده في مقتبل أعمارهم، حتى أصبح لا يثق ببقاء أحد منهم، ولم يسلم منهم إلا ولده الشيخ حسن، الذي كان يشك الشهيد في بقائه، وقد استشهد وعمر ولده أربع أو سبع سنين. لقد واجه الشهيد الثاني - قدس سره) حالة الحرمان العائلي بأسمى آيات الصبر


(1) رواه المتقي الهندي في منتخب كنز العمال 1 / 212، وأخرجه المجلسي في البحار 82: 142. 2 - روضات الجنات 3: 379. 3 - أعيان الشيعة 7: 144. 4 - الكنى والألقاب 2: 349.

[ 7 ]

والجلد، فألف كتابه (مسكن الفؤاد) وقلبه يقطر ألما وحسرة وهو يرى أولاده أزهارا يا نعة تقطف أمام عينيه. يقول رضوان الله عليه في مقدمة كتابه المذكور: (فلما كان الموت هو الحادث العظيم، والأمر الذي هو على تفريق الأحبة مقيم، وكان فراق المحبوب يعد من أعظم المصائب، حتى يكاد يزيغ له قلب ذي العقل، والموسوم بالحدس الصائب، خصوصا ومن أعظم الأحباب الولد، الذي هو مهجد الألباب، ولهذا رتب على فراقه جزيل الثواب، ووعد أبواه شفاعته فيهما يوم المآب. فلذلك جمعت في هذه الرسالة جملة من الآثار النبوية، وأحوال أهل الكمالات العلية، ونبذة من التنبيهات الجلية، ما ينجلي به - إن شاء الله تعالى الصدأ عن قلوب المحزونين، وتنكشف به الغمة عن المكروبين، بل تبتهج به نفوس العارفين، ويستيقظ من اعتبره من سنة الغافلين، وسميتها (مسكن الفؤاد عند فقد الأحبة والأولاد) ورتبتها على مقدمة، وأبواب، وخاتمة) (1). ويمتاز كتاب (مسكن الفؤاد) - على صغر حجمه - بخصوصية موضوعه، مما جعله مرجعا يعتمد عليه في بابه، فقد ركن إليه جمع من أصحاب الموسوعات الروائية كالعلامة المجلسي في بحار الأنوار، والشيخ الحر في الجواهر السنية والشيخ النوري في مستدرك الوسائل، وغيرهم. يقول العلامة المجلسي في بحار الأنوار، في بيان الاصول والكتب المأخوزة منها: (... وكتاب مسكن الفؤاد... للشهيد الثاني رفع الله درجته) (2). وقال الشيخ الحر في مقدمة كتابه الجواهر السنية: (ونقلت الأحاديث المودعة فيه من كتب صحيحة معتبرة، واصول معتمدة محررة) (3) وكتابنا أحد هذه الكتب الصحيحة المعتبرة... وقال السيد الخونساري في معرض حديثه عن كتاب مسكن الفؤاد: (وإن لكتابه هذا فوائد جمة، وأحاديث نادرة، ولطائف عرفانية قل ما يوجد نظيرها في


1 - مسكن الفؤاد: 17. 2 - بحار الأنوار: 1: 19. 3 - الجواهر السنية: 6.

[ 8 ]

كتاب) (1). وقال السيد محسن الأمين في ترجمة الشهيد الثاني: (وتفرد بالتأليف في مواضيع لم يطرقها غيره، أو طرقها ولم يستوف الكلام فيها، مثل:... والصبر على فقد الأحبة والأولاد) (2). وقال في تعداد مصنفاته: (مسكن الفؤاد عند فقد الأحبة والأولاد لم يسبق إلى مثله) (3). وذكره الشيخ الطهراني في الذريعة قائلا: (مسكن الفؤاد عند فقد الأحبة والأولاد، للشيخ السعيد زين الدين بن أحمد العاملي الشهيد مرتبا على مقدمة وابواب وخاتمة، أول الأبواب في الأعواض عن فوت الولد، وثانيها في الصبر، وثالثها في الرضا، ورابعها في البكاء) (4). وقال إسماعيل باشا في إيضاح المكنون: (مسكن الفؤاد عند فقد الأحبة والأولاد، لزين الدين بن علي بن أحمد العاملي الشيعي) (5). وقال ابن العودي في بغية المريد في الكشف عن أحوال الشيخ زين الدين الشهيد، في ذكر مصنفاته: (... ومنها كتاب مسكن الفؤاد عند فقد الأحبة والأولاد) (6). وفي أمل الآمل: له مؤلفات منها: (... وكتاب مسكن الفؤاد عند فقد الأحبة والأولاد) (7). وقال الشيخ يوسف البحراني في لؤلؤة البحرين: (وله - قدس سره - من الكتب والمصنفات.. وكتاب مسكن الفؤاد عند فقد الأحبة والأولاد) (8).


روضات الجنات 3: 379. 2 - أعيان الشيعة 7: 145. 3 - أعيان الشيعة 7: 156. الذريعة 21: 20 / 3747. 5 - إيضاح المكنون 4: 479. 6 - بغية المريد: الواردة ضمن كتاب الدر المنثور 2: 187. 7 - أمل الآمل 1: 87. 8 - لؤلؤة البحرين: 35.

[ 9 ]

ومن دلائل اهتمام المصنف قدس سره بكتابه هذا، أنه اختصره بكتاب آخر وسماه (مبرد الأكباد مختصر مسكن الفؤاد)، ذكره الشيخ علي حفيد الشهيد الثاني (1)، والشيخ الحر العاملي (2)، والشيخ يوسف البحراني (3)، والسيد الخونساري (4)، والسيد محسن الأمين (5)، والشيخ آقا بزرگ الطهراني (6). وترجمة إسماعيل خان إلى اللغة الفارسية وسماه (تسلية العباد)، قال الشيخ الطهراني في الذريعة: (تسلية العباد في ترجمة مسكن الفؤاد، تأليف الشيخ الشهيد ترجمة إلى الفارسية إسماعيل خان دبير السلطنة الملقب بمجد الادباء المعاصر المجاور للمشهد الرضوي، المتوفي بعد طبع الترجمة سنة 1321) (7). المؤلف: هو الشيخ زين الدين نور الدين علي بن أحمد بن علي بن جمال الدين بن تقي بن صالح بن مشرف، العاملي الشامي الطلوسي الجبعي، الشهير بالشهيد الثاني. ولد في 13 / شوال / سند 911، وكان أبوه من أكابر علماء عصره وكذلك كان آباؤه إلى (صالح) وبنو عمومته وأخوه عبد النبي وابن أخيه، وقد تسلسل العلم في بيته زمنا طويلا حتى سميت سلسلته بسلسلة الذهب، وابنه الشيخ حسن من العلماء المحققين، وكان الشهيد قدس سره واسطة عقدهم. درس رحمه الله العلوم المعروفة في زمنه، وأخذ عن علماء الشيعة وأهل السنة، وبرع رحمه الله وفاق أقرانه على شدة الفقر وشظف العيش، فقد كان يحرس


(1) الدر المنثور 2: 189. 2 - أمل الآمل 1: 87. 3 - لؤلؤة البحرين: 35. 4 - روضات الجنات 3: 379. 5 - أعيان الشيعة 7: 145. 6 - الذريعة 20: 209 / 2613 7 - الذريعة 4: 179 / 882.

[ 10 ]

مزرعته - من العنب - ليلا، ويحتطب لعياله، ويشتغل بالتجارة أحيانا ويقوم بحاجات عياله. سافر إلى إستانبول - وكانت عاصمة الدولة العثمانية يومذاك - وألف خلال 18 يوما رسالة في حل عشر مسائل من مشكلات العلوم، فاسند إليه تدريس المدرسة النورية في بعلبك، وهي مكن كبار المدارس، فأقام فيها خمس سنين يدرس على المذاهب الخمسة، وهذا اقتدار عظيم له وعلم واسع ما عليه من مزيد. ألف نحو ثمانين كتابا أشهرها (الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية) الذي هو من عمد كتب الدراسة الفقهية في الحوزات الشيعية. ولكن التعصبات المذهبية - الداء الذي أودى بالمسلمين - لم تترك هذا العالم الفذ ينفع الناس بعلمه وخلقه، فقد اضطرمت نار الحسد في صدور الذين أوصلوا الأمة الإسلامية إلى ما هي عليه الآن من ضعف وتأخر.. فحاكوا له الدسائس وأوغروا عليه صدور الامراء، حتى آل الأمر إلى إلقاء القبض عليه في حرم الله مكة المكرمة في موسم الحج، واخذ مخفورا إلى إستانبول. وخشي الجلاوزة الذين ألقوا القبض عليه أن يصل إلى إستانبول فتبرأ ساحته مما رموه به - وهي البريئة الطاهرة - فاستعجلهم الشيطان فقتلوه في الطريق وحملوا رأسه إلى العاصمة. وكانت شهادته قدس سره سنة 965، وعمره (55) سنة. وقد كتب في ترجمته تلميذه ابن العودي رسالة مستقلة سماها (بغية المريد في الكشف عن أحوال الشيخ زين الدين الشهيد). انظر في ترجمته: الدر المنثور 2: 149 - بغية المريد في الكشف عن أحوال الشهيد -، أمل الآمل 1: 85، رياض العلماء 2: 365، لؤلؤة البحرين: 28، نقد الرجال: 145، منتهي المقال: 141، بهجة الأمال 4: 254، روضات الجنات 3: 352، تنقيح المقال 1: 472 / 4517، سفينة البحار 1: 723، الكنى والألقاب 2: 344، هدية الأحباب: 167، الفوائد الرضوية: 186، أعيان الشيعة 7: 143، الأعلام للزركلي 3: 64، معجم رجال الحديث 7: 372، معجم المؤلفين 4: 193

[ 11 ]

منهجية التحقيق: اعتمدنا في تحقيق الكتاب على ثلاث نسخ: الاولى: النسخة المحفوظة في مكتبة آية الله المرعشي العامة، الكتاب الثالث ضمن المجموعة المرقمة (444)، من ص 186 إلى ص 249، كتبها صفر كرماني بخط النسخ الواضع يوم الإثنين 27 ذي القعدة سنة 1087 ه‍، على نسخة اخذت من الشيخ محمد العاملي في الشام، وفي آخر الكتاب توجد عبارة (بلغ مقابلة بعون الله تعالى وحسن توفيقه)، كما كتب الشيخ يوسف النجفي تلميذ تلميذ الشهيد الثاني في آخر صفحة من المجموعة أنه قابل النسخة، وأنهى مقابلتها يوم الأربعاء 9 ربيع الاول سنة 1088 ه‍. تقع المجموعة في 320 ورقة، وكتابنا في 63 ورقة، في كل ورقة 16 سطرا، بحجم 5 / 20 ب 5 / 10 سم، وقد رمزنا لهذه النسخة في هامش الكتاب ب‍ (ش). الثانية: النسخة المحفوظة في مكتبة جامعة طهران تحت رقم 1017، كتبها بخط النسخ حسين بن مسلم بن حسين بن محمد الشهير بابن شعير العاملي، تلميذ الشهيد الثاني نحو سنة 954 ه‍، تحتوي النسخة على مقدمة الكتاب وبعض من الباب الثاني والثالث والرابع، توجد في ورقة 73 ب عبارة (تمت 954) بخط آخر، وفي ورقة 69 ألف توجد عبارة (ثم بلغ قراءة وفقه الله تعالى) بخط الشهيد الثاني. تملك النسخة كل من علي بن محمد حسين الموسوي الشتوشتري في 15 ج 2 سنة 1268 ه‍، وعلي بن حسين بن محمد علي بن زين الدين الموسوي وعلي محمد الموسوي. ورق النسخة من النوع السمرقندي بحجم 14 ب 5 / 18 و 5 / 8 ب 13 س 17. وقد رمزنا لهذه النسخة ب‍ (د). انظر فهرس مكتبة جامعة طهران، الجزء الثالث، القسم الأول، ص 679. الثالثة: النسخة المطبوعة على الحجر في إيران، كتبها ابن علي أكبر الجيلاني في يوم الإثنين 26 صفر سنة. 1310 ه‍ في طهران، وقد رمزنا لها في هامش الكتاب ب‍ (ح).

[ 12 ]

واستنادا للمنهجية المتبعة في مؤسسه آل البيت - عليهم السلام - لإحياء التراث، مر تحقيق الكتاب بعدة مراحل، هي كالآتي: 1 - لجنة المقابلة: ومهمتها مقابلة النسخ المخطوطة وإثبات اختلافاتها. 2 - لجنة استخراج الأحاديث: ومهمتها استخراج النصوص الواردة في الكتاب وإسنادها إلى مصادرها. 3 - لجنة ضبط الإختلافات الرجالية: ومهمتها ضبط ما ينتج من مقابلة النسخ من اختلافات في الأعلام، وإسناد ذلك إلى المصادر الرجالية. 4 - لجنة تقويم النص: ومهمتها إظهار نص مضبوط وصحيح للكتاب أقرب ما يكون لما تركه المؤلف، وقد اتبعت طريقة التلفيق بين النسخ بحيث يثبت النص الصحيح في المتن ويشار لما عداه في الهامش. 5 - كتابة الهامش: وذلك بالاستفادة من كل ما تقدم لترتيب وتنسيق الهوامش. 6 - الملاحظة النهائية: ويتم فيها مراجعة الكتاب متنا وهامشا، لعل فيه ما زاغ عن البصر، لإصلاحه. وختاما... نتقدم بجزيل الشكر وعظيم التقدير للإخوة الأفاضل الذين ساهموا في اخراج هذا الكتاب بهذه الحلة الجيدة. مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء الترات قم - 21 شوال 1407 ه‍

[ 13 ]

صورة الورقة الاولى من مخطوطة مكتبة آية الله المرعشي العامة - قم

[ 14 ]

صورة الورقة الاخيرة من مخطوط مكتبة آية الله المرعشي العامة - قم

[ 15 ]

صورة الورقة الاولى من مخطوط جامعة طهران

[ 16 ]

صورة الورقة الاخيرة من مخطوط جامعة طهران

[ 17 ]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي قضى بالفناء والزوال على جميع عباده، وأنفذ أمره فيهم على وفق حكمته ومراده، ووعد الصابرين على قضائه جميل ثوابه وإسعاده، وأوعد الساخطين جزيل نكاله وشديد وباله في معاده، ولذذ قلوب العارفين بتدبيره، فبهجة نفوسه في تسليمها لقياده، هذا مع عجز كل منهم عن دفاع ما أمضاه وإن تمادى الجاهل في عناده. فإياه - سبحانه - أحمد على كل حال، وأسأله الإمداد بتوفيقه وإرشاده. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أستدفع بها الأهوال في ضيق المحشر ووهاده (1)، وأشهد أن محمد صلى الله عليه وآله عبده ورسوله، أفضل من بشر وحذر، وأعظم من رضي بالقضاء وصبر، وخدم به سلطان معاده، صلى الله عليه وعلى آله الأخيار، أعظم الخلق بلاء، وأشدهم عناء، وأسدهم تسليما ورضاء، صلاة دائمة واصلة إلى كل واحد بانفراده. وبعد: فلما كان الموت هو الحادث العظيم، والأمر الذي هو على تفريق الأحبة مقيم، وكان فراق المحبوب يعد من أعظم المصائب، حتى يكاد يزيغ له قلب ذي العقل (2)، والموسوم بالحدس (3) الصائب، خصوصا ومن أعظم الأحباب الولد، الذي هو


(1) الوهاد: جمع وهدة وفي الحفرة، انظر (القاموس المحيط - وهد - 1: 347). (2) في نسخة (د) و (ش): الغفلة. (3) في نسخة (ش): بالخدش.

[ 18 ]

مهجة الألباب، ولهذا رتب على فراقه جزيل الثواب، ووعد أبواه شفاعته فيهما يوم المآب. فلذلك جمعت في هذه الرسالة جملة من الآثار النبوية، وأحوال أهل الكمالات العلية، ونبذة من التنبيهات الجلية، ما ينجلي به - إن شاء الله تعالى - الصدأ عن قلوب المحزونين، وتنكشف به الغمة عن المكروبين، بل تبهج به نفوس العارفين، ويستيقظ من اعتبره من سنة الغافلين، وسميتها (مسكن الفؤاد عند فقد الأحبة والأولاد) ورتبتها على مقدمة، وأبواب، وخاتمة. أما المقدمة: فاعلم أنه ثبت أن العقل هو الالة التي بها عرف الله (1) سبحانه، وحصل به تصديق الرسل والتزام الشرائع، وأنه المحرض على طلب الفضائل، والمخوف من الإتصاف بالرذائل، فهو مدبر أمر الدارين، وسبب لحصول الرئاستين، ومثله كالنور في الظلمة، فقد يقل عند قوم، فيكون كعين الأعشى (2)، ويزيد عند آخرين، فيكون كالنهار في وقت الضحى. فينبغي لمن رزق العقل أن لا يخالفه فيما يراه، ولا يخلد (3) إلى متابعة غفلته وهواه، بل يجعله حاكما له وعليه، ويراجعه فيما ير شده إليه، فيكشف له حينئذ ما يوجب الرضا بقضاء الله سبحانه وتعالى، سيما فيما نزل به من هذا الفراق، من وجوه كثيرة، نذكر بعضها: الأول: إنك إذا نظرت إلى عدل الله وحكمته، وتمام فضله ورحمته، وكمال عنايته ببريته، إذ أخرجهم إلى الوجود من العدم (4)، وأسبغ عليهم جلائل النعم، وأيدهم بالألطاف، وأمدهم بجزيل المعونة والإسعاف، كل ذلك ليأخذوا حظهم من السعادة الأبدية والكرامة السرمدية، لا لحاجة منه إليهم، ولا لاعتماد في شئ من أمره عليهم، لأنه الغني المطلق، والجواد المحقق. وكلفهم بالتكاليف الشاقة، والأعمال الثقيلة، ليأخذوا منه حظا وأملا وليبلوهم أيهم أحسن عملا، وما فعل ذلك إلا لغاية منفعتهم، وتمام مصلحتهم، وأرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، وأنزل عليهم الكتب، وأودعها ما فيه بلاغ للعالمين.


(1) في نسخة (د): الأله. (2) الأعشى: الذي لا يبصر بالليل، ويبصر في النهار فقط (الصحاح - عشا - 6: 2427). (3) في نسخة (ش): يخلل. (4) في (ح): من العدم إلى الوجود.

[ 19 ]

وتحقيق هذا المرام مستوفى في باب العدل من علم الكلام. وإذا كانت أفعاله - تعالى وتقدس - كلها لمصلحتهم، وما فيه تمام شرفهم، والموت من جملة ذلك كما نطق به الوحي الإلهي في عدة آيات، كقوله تعالى: (وما كان لنفس إن تموت إلا باذن الله كتابا موجلا) (1) (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم) (2)، (أين ما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) (3)، (الله يتوفي الانفس حين موتها) (4)، إلى غير ذلك من الآيات. فلولا أن في ذلك غاية المصلحة، ونهاية الفائدة للعبد الضعيف الغافل عن مصلحته، التائه في حيرته وغفلته، لما فعله الله تعالى به، لما قد عرفت من أنه أرحم الراحمين، وأجود الأجودين، فإن حدثتك نفسك بخلاف ذلك فاعلم أنه الشرك الخفي، وإن أيقنته ولم تطمئن نفسك وتسكن روعتك فهو الحمق الجلي. وإنما نشأ ذلك من الغفلة عن حكمة (الله تعالى) (5) في بريته، وحسن قضائه في خليقته، حتى أن العبد ليبتهل ويدعو الله تعالى أن يرحمه، ويجيب دعائه في أمثال ذلك، فيقول الله تعالى لملائكته: كيف أرحمه من شئ به أرحمه ! فتدبر - رحمك الله تعالى - في هذه الكلمة الإلهية، تكفيك في هذا الباب إن شاء الله تعالى. الثاني: أنه إذا نظرت إلى أحوال الرسل عليهم السلام، وصدقتهم فيما أخبروا به من الامور الدنيوية والاخروية، ووعدوا به من السعادة الأبدية، وعلمت أنهم إنما أتوا بما أتوا به عن الله جل جلاله، (واعتقدت أن قولهم) (6) معصوم عن الخطأ محفوظ من الغلط والهوى، وسمعت (7) ما وعدوا به من الثواب على أي نوع من أنواع المصاب (8) كما ستراه وتسمعه، سهل عليك موقعه، وعلمت أن لك في ذلك غاية الفائدة، وتمام السعادة الدائمة، وأنك قد أعددت لنفسك كنزا من الكنوز مذخورا (9)، بل حرزا ومعقلا وجنة


(1) آل عمران 3: 145. (2) آل عمران 3: 154. (3) النساء 4: 78. (4) الزمر 39: 42. (5) في نسخة (د) و (ش): أيضا. (6) في نسخة (د) و (ش): وقولهم. (7) في نسخة (د) (ش): وسمع. (8) في نسخة (د) و (ح): المصائب. (9) ليس في نسخة (ش) و (د).

[ 20 ]

(من العذاب الأليم والعقاب العظيم) (1)، الذي لا يطيقه بشر، ولا يقوى به أحد، مع أن ولدك مشاركك في هذه السعادة، فقد فزت أنت وهو، فلا ينبغي أن تجزع. ومثل لنفسك: أنه لو دهمك أمر عظيم، أو وثب عليك سبع أو حية، أو هجمت عليك نار مضرمة، وكان عندك أعز أولادك، وحبهم إلى نفسك، وبحضرتك نبي من الأنبياء، لا ترتاب في صدقه، وأخبرك: أنك إن افتديت بولدك سلمت أنت وولدك، وإن لم تفعل عطبت، و (الحال أنك) (2) لا تعلم هل يعطب ولدك، أو يسلم ؟ أيشك عاقل أن الإفتداء بالولد الذي يتحقق معه سلامة الولد، ويرجى معه - أيضا - سلامة الوالد، هو عين المصلحة، وأن عدم ذلك، والتعرض لعطب الأب والولد هو عين المفسدة ! بل ربما قدم كثير من الناس نفسه على ولده، وافتدى به وإن تيقن عطب الولد، كما اتفق ذلك في المفاوز (3) والمخمصة (4). هذا كله في نار وعطب ينقضي ألمه في ساعة واحدة، وربما ينتقل بعده إلى الراحة والجنة، فما ظنك بألم يبقى أبد الآباد، ويمكث سنين ! ؟ وإن يوما عند ربك منها كألف سنة مما تعدون، ولو رآها أحدنا، وأشرف عليها، لود أن يفتدي ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه كلا إنها لظى نزاعة للشوى تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى (5). ومن هنا جاء ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله، أنه قال لعثمان بن مظعون رضي الله عنه، وقد مات ولده، فاشتد حزنه عليه: (يا ابن مظعون، إن للجنة ثمانية أبواب، وللنار سبعة أبواب، أفما يسرك أن لا تأتي بابا منها إلا وجدت ابنك الى جنبه (6)، آخذا بحجزتك يستشفع لك إلى ربك (7)، حتى يشفعه الله تعالى ؟). وسيأتي له نظائر كثيرة إن شاء الله. الثالث: إنك إنما تحب بقاء ولدك لينفعك في دنياك، أو في آخرتك، ولا تريد


(1) في نسخة (ش) و (د): من العذاب العظيم. (2) ما بين القوسين ليس في (ش) و (د). (3) المفاوز: البوادي (مجمع البحرين - فوز - 4: 30). (4) المخمصة: المجاعة (مجمع البحرين - خمص - 4: 169). (5) إقتباس من سورة المعارج 70: 11 - 18. (6) في نسخة (ح) وأمالي الصدوق: جنبك. (7) رواه الصدوق في الأمالي: 63 / 1. (*)

[ 21 ]

في الأغلب بقاءه لنفسه، فإن هذا هو المجبول عليه طبع الخلق، ومنفعته لك على تقدير بقائه غير معلومة، بل كثيرا ما يكون المظنون عدمها، فإن الزمان قد صار في آخره، والشقوة والغفلة قد شملت أكثر الخلائق، وقد عز السعيد، وقل الصالح الحميد، فنفعه لك - بل لنفسه - على تقدير بقائه غير معلوم، وانتفاعه الآن وسلامته من الخطر ونفعه لك قد صار معلوما، فلا ينبغي أن تترك الأمر المعلوم لأجل الأمر المظنون بل الموهوم، وتأمل أكثر الخلف لأكثر السلف، هل تجد منهم نافعا لأبويه إلا أقلهم، أو مستيقظا إلا أوحديهم حتى إذا رأيت واحدا كذلك، فعد ألوفا بخلافه. وإلحاقك ولدك الواحد بالفرد النادر الفذ (1) دون الأغلب الكثير، عين الغفلة والغباوة، فإن الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم. كما ذكره سيد الوصيين، وترجمان رب العالمين، صلوات الله وسلامه عليه. مع ان ذلك الفرد الذي تريد مثله، إنما هو صالح نافع بحسب الظاهر، وما الذي يدريك بباطنه وفساد نيته وظلمه لنفسه ؟ ! فلعلك لو كشف عن باطنه، ظهر لك أنه منطو على معاصي وفضائح، لا ترضاها لنفسك ولا لولدك، وتتمنى أن ولدك لو كان على مثل حالته يموت فإنه خير له. هذا كله إذا كنت تريد أن تجعل ولدك واحدا في العالمين، ووليا من الصالحين، فكيف وأنت لا تريده إلا ليرث بيتك، أو بستانك، أو دوابك، وأمثال ذلك من الأمور الخسيسة الزائلة عما قريب ! وتتركه يرث الفردوس الأعلى في جوار أولاد النبيين والمرسلين، مبعوثا مع الآمنين الفرحين، مربى إن كان صغيرا في حجر سارة ام النبيين، كما وردت به الأخبار عن سيد المرسلين، (2)، ما هذا إلا معدود من السفه لو عقلت !. ولو كان مرادك أن تجعله من العلماء الراسخين والصلحاء المتقين، وتورثه علمك وكتبك وغيرها من أسباب الخير، فاذكر أيضا أن ذلك كله لو تم معك، فما وعد الله تعالى من العوض على فقده أعظم من مقصدك، كما ستسمعه إن شاء الله تعالى. مثل ما رواه الصدوق، عن الصادق عليه السلام: (ولد واحد يقدمه الرجل،


(1) ليس في نسخة (د) و (ش). (2) روى الصدوق في الفقيه 3: 316 / 2، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله تبارك وتعالى كفل ابراهيم وسارة أطفال المؤمنين يغذونهم بشجرة في الجنة لها أخلاف كأخلاف البقر في قصر من درة فإذا كان يوم القيامة البسوا وطيبوا واهدوا إلى آبائهم فهم ملوك في الجنة مع آبائهم وهو قول الله عز وجل: (والذين آمنوا وتبعتهم ذريتهم بايمان ألحقنا بهم ذريتهم).

[ 22 ]

أفضل من سبعين ولدا يبقون بعده، يدركون القائم عليه السلام) (1). واعتبر أنه لو قيل: إن رجلا فقيرا معه ولد عليه خلقان (2) الثياب، قد أسكنه في خربة مقفرة ذات آفات كثيرة، وفيها بيوت حيات وعقارب وسباع ضارية، وهو معه على خطر عظيم، فاطلع عليه رجل حكيم جليل، ذو ثروة وحشمة (3) وخدم وقصور عالية ورتب سامية، فرق لهذا الرجل ولولده، فأرسل إليه بعض غلمانه: إن سيدي يقول لك: إني قد رحمتك مما بك في هذه الخربة، وهو خائف عليك وعلى ولدك (من العاهات) (4)، وقد تفضلت عليك بهذا القصر، ينزل به ولدك، ويوكل به جارية عظيمة من كرائم جواريه تقوم بخدمته إلى أن تقضي أنت أعراضك التي في نفسك، ثم إذا قدمت، وأرئت الإقامة أنزلتك معه في القصر، بل في قصر أحسن من قصره. فقال الرجل الفقير: أنا لا أرضى بذلك، ولا يفارقني ولدي في هذه الخربة، لا لعدم وثوقي بالرجل الباذل، ولا زهدا مني في داره وقصره، ولا لأماني على ولدي في هذه الهربة، بل طبعي اقتضى ذلك، وما أريد أن أخالف طبعي. أفما كنت - أيها السامع لو صف هذا الرجل - تعده من أدنيا السفها وأخساء الأغبياء ؟ ! فلا تقع (5) في خلق لا ترضاه لغيرك، فإن نفسك أعز عليك من غيرك. واعلم أن لسع الأفاعي، وأكل السباع، وغيرهما من آفات الدنيا لانسبة لها إلى أقل محنة من محن الآخرة المكتسبة في الدنيا، بل لا نسبة لها إلى إعراض الحق (6) سبحانه، وتوبيخه ساعة واحدة في عرصة القيامة، أو عرضة واحدة على النار مع الخروج منها بسرعة. فما ظنك بتوبيخ يكون ألف عام، أو أضعافه، وبنفحة من عذاب جهنم يبقى ألمها ألف عام، ولسعة من حياتها وعقاربها يبقى ألمها أربعين خريفا ! وأي نسبة لأعلى قصر في دار الدنيا، إلى أدنى مسكن في الجنة ! وأي مناسبة بين خلقان الثياب في الدنيا


(1) ثواب الأعمال: 233 / 4. (2) خلق الثوب بالضم: إذا بلي (مجمع البحرين - خلق - 5: 158). (3) في هامش: (ح): وحشم. (4) ليس في نسخة (ش) و (د). (5) في هامش (ح): فاياك أن تقع. (6) في (ح): الخالق.

[ 23 ]

إلى فاخرها إلى أعلى ما في الدنيا، بالإضافة إلى سندس الجنة وإستبرقها، وهلم جرا إلى ما فيها من النعيم المقيم ؟ ! بل لو تأملت بعين بصيرتك في هذا المثل، وأجلت فيه رؤيتك، علمت أن ذلك الكريم الكبير، بل جميع العقلاء لا يرضون من ذلك الفقير بمجرد تسليم ولده ورضاه بأخذه، بل لابد في الحكمة من حمده عليه وشكره، وإظهار الثناء عليه بما هو أهله، لأن ذلك هو مقتضى حق النعمة. الرابع: إن في الجزع بذلك والسخط انحطاطا عظيما عن مرتبة الرضى بقضاء الله تعالى، وفي فوات ذلك خطر وخيم، وفوات نيل عظيم، فقد ذم الله تعالى من سخط بقضائه، وقال: (من لم يرض بقضائي، ولم يصبر على بلائي، فليعبد ربا سواي) (1). وفي كلامه تعالى لموسى عليه السلام حين قال له: دلني على أمر فيه رضاك، قال: (إن رضاي في رضاك بقضائي) (2). وفي القرآن الكريم: (رضى الله عنهم ورضوا عنه) (3). وأوحى الله تعالى إلى داود: (يا داود، تريد وأريد، وإنما يكون ما أريد، فإن سلمت لما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم ما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد) (4). وقال تعالى: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم) (5). واعلم أن الرضى بقضاء الله - تعالى - ثمرة المحبة لله، إذ من أحب شيئا رضي بفعله، ورضى العبد عن الله دليل على رضى الله تعالى عن العبد، رضي الله عنهم ورضوا عنه، وصاحب هذه المرتبة مع رضي الله تعالى عنه - الذي هو أكمل السعادات، وأجل الكمالات - لا يزال مستريحا، لأنه لم يوجد منه أريد ولا أريد، كلاهما عنده واحد، ورضوان الله أكبر، إن ذلك لمن عزم الامور. وسيأتي لذلك بحث آخر إن شاء الله تعالى في باب الرضى (6).


(1) جامع الأخبار: 133، دعوات الراوندي: 169 / 471، الجامع الصغير 2: 235 / 6010. (2) رواه الراوندي في دعواته: 164 / 453، باختلاف يسير. (3) المائدة 5: 119. (4) رواه الصدوق في التوحيد: 337 / 4. (5) الحديد 57: 23. (6) يأتي في ص 79

[ 24 ]

واعلم أن البكاء لا ينا في الرضى، ولا يوجب السخط، وإنما مرجع ذلك إلى القلب، كما ستعرفه - إن شاء الله تعالى - ومن ثم بكاء الأنبياء والأئمة عليهم السلام على أبنائهم وأحبائهم، فإن ذلك أمر طبيعي للإنسان، لا حرج فيه إذا لم يقترن بالسخط، وسيأتي. الخامس: أن ينظر صاحب المصيبة إلى أنه في دار قد طبعت على الكدر والعناء، وجبلت على المصائب والبلاء، فما يقع فيها من ذلك هو مقتضى جبلتها وموجب طبيعتها، وإن وقع خلاف ذلك فهو على خلاف العادة لأمر آخر، خصوصا على الأكابر والنبلاء من الأنبياء والأوصياء والأولياء، فقد نزل بهم من الشدائد والأهوال ما يعجز عن حمله الجبال، كما هو معلوم في المصنفات، التي لو ذكر بعضها لبلغ مجلدات. وقد قال النبي صلى الله عليه وآله: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل) (1). وقال النبي صلى الله عليه وآله: (الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر) (2). وقد قيل: إن الدنيا ليس فيها لذة على الحقيقة، إنما لذاتها راحة من مؤلم، هذا وأحسن لذاتها، وأبهى بهجاتها مباشرة النساء، المترتب عليه حصول الأبناء، كم يعقبه من قذى (3)، أقلة ضعف القوى وتعب الكسب والعناء. ومتى حصل محبوب كانت آلامه تربو على لذاته، والسرور به لا يبلغ معشار حسراته، وأقل آفاته في الحقيقة الفراق الذي ينكث (4) الفؤاد، ويذيب (5) الأجساد. فكلما تظن في الدنيا أنه شراب سراب، وعمارتها - وإن حسنت - إلى


(1) رواه الكليني في الكافي 2: 196 / 2، وابن ماجه في سننه 2: 1334 / 4023، والترمذي في سننه 4: 28 / 2509، وأحمد في مسنده: 1: 172، 180، 185، والدارمي في سننه 2: 320، والحاكم النيسابوري في مستدركه 1: 41 و 4: 307، باختلاف يسير. (2) رواه الصدوق في الفقيه 4: 262 والطوسي في أماليه 2: 142، ومحمد بن همام في التمحيص: 48: 76، ومسلم في صحيحه 4: 2272 / 2956، وأحمد في مسنده 2: 323، وابن ماجة في سننه 2: 1378 / 4113. (3) القذى: ما يقع في العين والشراب من تراب أو تبن أو وسخ أو غير ذلك (مجمع البحرين - قذى - 1: 335). (4) ينكث: من النكث وهو النقض والهدم والهزال (القاموس المحيط - نكث - 1: 176). (5) في (ح): ويذهب.

[ 25 ]

خراب، ومالها - وإن اغتر بها الجاهل - إلى ذهاب، ومن خاض الماء الغمر (1) لا يجزع من بلل، كما أن من دخل بين الصفين لا يخلو من وجل، ومن العجب من أدخل يده في فم الأفاعي كيف ينكر اللسع، وأعجب منه من يطلب من المطبوع على الضر النفع ! وما أحسن قول بعض الفضلاء (2) في مرثية ابنه: طبعت على كدر وأنت تريدها * صفوا من الأقذاء والأكدار ومكلف الأيام ضد طباعها * متطلب في الماء جذوة نار وإذا رجوت ا لمستحيل فإنما تبني البناء على شفير هار وقال بعض العارفين: ينبغي لمن نزلت به مصيبة أن يسهلها على نفسه، ولا يغفل عن تذكر ما يعقبه من وجوب الفناء وتقضي المسار، وأن الدنيا دار من لادار له، ومال من الامال له، يجمعها من لا عقل له، ويسعى لها من لا ثقة له، وفيها يعادي من لاعلم له، وعليها يحسد من الفقه له، من صخ فيها سقم، ومن سقم فيها برم، ومن افتقر فيها حزن، ومن استغنى فيها فتن. واعلم أنك قد خلقت في هذه الدار لغرض خاص، لأن الله تعالى منزه عن العبث، وقد قال الله تعالى: (وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون) (3) وقد جعلها مكتسبا لدار القرار، وجعل بضاعتها الأعمال الصالحة، ووقتها العمر، وهو قصير جدا بالنظر إلى ما يطلب من السعادة الأبدية، التي لا انقضاء لها. فإن اشتغلت بها، واستيقظت استيقاظ الرجال، واهتممت بشأنك اهتمام الأبدال، رجوت أن تنال نصيبك منها، فلا تضيع عمرك في الإهتمام بغير ما خلقت له، يضيع وقتك، ويذهب عمرك بلا فائدة، فإن الغائب لا يعود، والميت لا يرجع، وتفوتك


(1) الغمر: بفتح الغين وسكون الميم: الكثير. (2) هو علي بن محمد بن نهد التهامي، أبو الحسن، شاعر مشهور من أهل تهامة، زار الشام والعراق، وولي خطابة الرملة، ثم رحل إلى مصر، متخفيا، فعلمت به حكومة مصر، فاعتقل وحبس في دار البنود، ثم قتل سرا في سجنه سنة 416 ه‍، قال ابن خلكان: له مرثية في ولده، وكان قد مات صغيرا، وهي في غاية الحسن. ويقال: إن بعض أصحابه رآه في النوم بعد موته. فقال له: ما فعل الله بك ؟ فقال: غفر لي، فقال: بأي الاعمال ؟ فقال: بقولي في مرثية ولدي الصغير: جاورت أعدائي وجاور ربه * شتان بين جواره وجواري انظر (وفيات الأعيان 3: 378 / 471، الأعلام للزركلي 4: 327). (3) الذاريات 51: 56.

[ 26 ]

السعادة التي خلقت لها. فيالها حسرة لا تفنى، وغبن لا يزول، إذا عاينت درجات السابقين، وأبصرت منازل المقربين، وأنت مقصر من الأعمال الصالحة، خلي من المتاجر الرابحة ! فقس ذلك الألم على هذه الآلام، وادفع أصعبهما عليك وأضرهما لك: مع أنك تقدر على دفع سبب هذا، ولا تقدر على دفع سبب ذاك. كما قال علي عليه السلام: (إن صبرت جرى عليك القضاء وأنت مأجور، وإن جزعت (1) جرى عليك القضاء وأنت مأزور (2)، فاغتنم شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، واجعل الموت نصب عينك، واستعد له بصالح العمل، ودع الإشتغال بغيرك، فإن الموت يأتي إليك دونه). وتأمل قوله تعالى: (وان ليس للانسان ألا ما سعى * وان سعيه سوف يرى) (3) فقصر أملك، وأصلح (4) عملك، فإن السبب الأكثري الموجب للإهتمام بالأموال والأولاد طول الأمل. وقد قال النبي صلى الله عليه وآله لبعض أصحابه: إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح، وخذ من حياتك لموتك، ومن صحتك لسقمك، فإنك لا تدري ما اسمك غدا) (5). وقال علي عليه السلام: (إن أشد ما أخاف عليكم خصلتان: إتباع الهوى، وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فإنه يعدل عن الحق، وأما طول الأمل فإنه يورث الحب للدنيا) (6). ثم قال: (ألا إن الله يعطي الدنيا لمن يحب ويبغض، وإذا أحب عبدا أعطاه الإيمان، ألا إن للدين أبناء، وللدنيا أبناء، فكونوا من أبناء الدين، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، ألا إن الدنيا قد ارتحلت مولية، ألا إن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، إلا وإنكم في


(1) في (ح): لم تصبر. (2) ورد في نهج البلاغة 3: 224 / 291. (3) النجم 53: 39 و 40. (4) في هامش (ح): وأحسن. (5) رواه الشيخ ورام في تنبيه الخواطر 1: 271، والشيخ الطوسي في أماليه 2: 139، والديلمي في إرشاد القلوب: 18، وزكي الدين في الترغيب والترهيب 4: 243 / 17. باختلاف يسير. (6) ورد في نهج البلاغة 1: 88 / 41، ورواه الديلمي عن النبي صلى الله عليه وآله في إرشاد القلوب: 21 باختلاف يسير.

[ 27 ]

يوم عمل ليس فيه حساب، ألا وإنكم توشكون في يوم حساب ليس فيه عمل) (1). واعلم أن محبوبا يفارقك، وتبقى على نفسك حسرته وألمه، وفي حال إيصاله (2) كدك وكدحك وجدك واجتهادك، ومع ذلك لا يخلو زمانك معه من تنغيص (3) به أو عليه، لأجل أن تتسلى عنه، وتطلب لنفسك محبوبا غيره، وتجتهد في أن يكون موصوفا بحسن الصحة، ودوام الملازمة، وزيادة الأنس، وتمام المنفعة. فإن ظفرت به فذلك هو الذي ينبغي أن يكون بغيتك التي تحفظها، وتهتم بها، وتنفق وقتك عليها، وهو غاية كل محبة، ومنتهى كل مقصد، وما ذاك إلا الإشتغال بالله، وصرف الهمة إليه، وتفويض ما خرج عن ذلك إليه، فإن ذلك دليل على حب الله تعالى، يحبهم ويحبونه والذين آمنوا أشد حبا لله. وقد جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحب لله من شرط الأيمان، فقال: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) (4). ولا يتحقق الحب في قلب (أحدكم لأحد) (5) مع كراهته لفعله وسخطه به، بل مع عدم رضاه على وجه الحقيقة، لاعلى وجه التكلف والتعنت. وفي أخبار داود عليه السلام: (يا داود، أبلغ أهل أرضي: اني حبيب من أحبني، وجليس من جالسني، ومؤنس لمن أنس بذكري، وصاحب لمن صاحبني، ومختار لمن اختارني، ومطيع لمن أطاعني، ما أحبني أحد (6) أعلم ذلك يقينا من قلبه إلا قبلته لنفسي، (وأحببته حبا) (7) لا يتقدمه أحد من خلقي، من طلبني بالحق وجدني، ومن طلب غيري لم يجدني. فارفضوا - يا أهل الأرض - ما أنتم عليه من غرورها، وهلموا إلى كرامتي ومصاحبتي ومجالستي ومؤانستي، وأنسوبي اؤانسكم، واسارع إلى محبتكم) (8).


(1) رواه الديلمي عن النبي صلى الله عليه وآله في إرشاد القلوب: 21 باختلاف في ألفاظه. (2) في نسخة (ش): اتصاله. (3) التنغيص: التكدير، يقال: نغص عليه العيش تنغيصا: كدره. (ومجمع البحرين - نغص - 4: 186). (4) أخرجه الفيض الكاشاني في المحجة البيضاء 8: 4، ورواه - باختلاف يسير - أحمد في مسنده 3: 172 و 248، والنسائي في سننه 8: 95، وابن ماجه في سننه 2: 1338 / 4033. (5) في نسخة (ش): أحد. (6) في نسخة (ش): عبد. (7) في (ح): وأحييته حياة. (8) أخرجه المجلسي في البحار 70: 26 / 28، والحر العاملي في الجواهر السنية: 94 عن مسكن الفؤاد.

[ 28 ]

وأوحى الله تعالى إلى بعض الصديقين: (إن لي عبادا من عبادي، يحبوني واحبهم، ويشتاقون إلي أشتاق إليهم، ويذكروني وأذكرهم، فإن أخذت طريقتهم أحببتك، وإن عدلت عنهم مقتك. فقال: يا رب وما علامتهم ؟ قال: يراعون الظلال بالنهار، كما يراعي [ الراعي ] (1) الشفيق غنمه، ويحنون إلى غروب الشمس، كما تحن الطير إلى أو كارها عند الغروب، فإذا جنهم الليل، واختلط الظلام، وفرشت الفرش، ونصبت الأسرة، وخلا كل حبيب بحبيبه، نصبوا إلي أقدامهم، وافترشوا لي وجوههم، ونا جوني بكلامي، وتملقوني بإنعامي، ما بين (2) صارخ وباك، وما بين متأوه وشاك، وبين قائم وقاعد، وبين راكع وساجد، بعيني ما يتحملون من أجلي، وبسمعي ما يشكون من حبي، أقل (3) ما أعطيهم ثلاثا: الأول: أقذف من نوري في قلوبهم، فيخبرون عني، كما اخبر عنهم. والثاني: لو كانت السماوات الأرضون (4) وما فيهما في موازينهم، لاستقللتها لهم. والثالث: أقبل بوجهي عليهم، أفترى من أقبلت بوجهي عليه، يعلم أحد ما أريد أن أعطيه ؟) (5). وهاهنا نقطع الكلام في المقدمة ونشرع في الأبواب:


(1) أثبتناه من المحجة البيضاء. (2) في نسخة (ش): فبين. (3) في نسخة (ش): أول. (4) في نسخة (ش): والأرض. (5) أخرجه المجلسي في البحار 70: 26 / 28، عن مسكن الفؤاد، وأخرجه الفيض الكاشاني في المحجة البيضاء 8: 58.

[ 29 ]

الباب الأول في بيان الأعواض الحاصلة من موت الأولاد، وما يقرب من هذا المراد إعلم أن الله - سبحانه - عدل (كريم، وأنه) (1) غني مطلق، لا يليق بكمال ذاته وجميل صفاته، أن ينزل بعبده المؤمن في دار الدنيا شيئا من البلاء وإن قل، ثم لا يعوضه عنه ما يزيد عليه، إذ لو لم يعطه شيئا (بالكلية كان له ظالما) (2)، ولو عوضه بقدره كان عابثا، تعالى الله عنهما علوا كبيرا. وقد تظافرت بذلك الأخبار النبوية، ومنها: (إن المؤمن لو يعلم (ما أعد الله له) (3) على البلاء، لتمني أنه في دار الدنيا قرض بالمقاريض) (4). ولنقتصر منها على ما يختص بما نحن فيه، فقد رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أزيد من ثلاثين صحابيا. وروى الصدوق - رحمه الله - بإسناده إلى عمرو بن عبسة (5) السلمي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (أيما رجل قدم ثلاثة أولاد، لم يبلغوا الحنث، أو امرأة قدمت ثلاثة أولاد، فهم حجاب يسترونه عن (6) النار) (7). وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: ما من مسلمين يقدمان عليهما ثلاثة أولاد، لم يبلغوا الحنث، إلا أدخلها (8) الله الجنة بفضل رحمته (9).


(1) في نسخة (ش) حكيم. (2) في نسخة (ش): كان ظالما. (3) في نسخة (ش): ما اعده الله تعالى له. (4) رواه الكليني في الكافي 2: 198 / 15، والحسين بن سعيد في كتاب المؤمن: 15 / 3، والشيخ ورام في تنبيه الخواطر 2: 204، ومحمد بن همام في التمحيص: 32 / 13 باختلاف في ألفاظه. (5) في (ح): عمر بن عتبة، وفي نسخة (ش): عمر بن عنبسة، والصواب ما أثبتناه من ثواب الأعمال، انظر (اسد الغابة 4: 120، تهذيب والتهذيب 4: 369). (6) في نسخة (ش) وثواب الأعمال: من. (7) ثواب الأعمال 233 / 2. (8) في ثواب الأعمال: أدخلهم. (9) ثواب الأعمال: 233 / 3.

[ 30 ]

الحنث بكسر الحاء المهملة، وآخره ثاء مثلثة: الإثم، والذنب، والمعنى: أنهم لم يبلغوا السن الذي يكتب عليهم فيه الذنوب والآثام، قال الخليل: بلغ الغلام الحنث، إي: جرى عليه القلم (1). وبإسناده ألى جابر، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام، قال: (من قدم أولادا يحتسبهم عند الله تعالى، حجبوه من النار بإذن الله عز وجل) (2). وبإسناده إلى علي بن ميسرة (3)، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: (ولد واحد يقدمه الرجل أفضل من سبعين، يخلفونه (4) من بعده، كلهم قد ركب الخيل، وقاتل في سبيل الله) (5). وعنه عليه السلام: (ثواب المؤمن من ولده (6) الجنة، صبر أو لم يصبر) (7). وعنه عليه السلام: (من اصيب بمصيبة، جزع عليها أو لم يجزع، صبر عليها أو لم يصبر، كان ثوابه من الله الجنة) (8). وعنه عليه السلام: (ولد واحد يقدمه الرجل أفضل من سبعين ولدا، يبقون بعده، يدركون القائم عليه السلام) (9) وروي الترمذي بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله، أنه قال: (ما نزل) (10).


(1) العين 3: 206. (2) رواه الصدوق في الفقيه 1: 119 / 574، وثواب الأعمال: 233 / 1، والأمالي: 434 / 6، والكليني في الكافي 3: 220 / 10. (3) في (ش): علي بن ميسر عن أبيه، وما أثبتناه من البحار، وهو علي بن ميسرة بن عبد الله النخعي، مولاهم، كوفي، هو وأبوه من أصحاب الصادق عليه السلام، انظر (رجال الشيخ: 242 / 310، معجم رجال الحديث 12: 207 / 8545). (4) في (ح): يخلفهم. (5) رواه الصدوق مرسلا في الفقيه 1: 112 / 519 باختلاف في ألفاظه، ورواه والكليني باسناده إلى أبي إسماعيل السراج في الكافي 3: 218 / 1، ورواه سبط الطبرسي في مشكاة الأنوار: 23 مرسلا. وأخرجه المجلسي في البحار 82: 116 / 8 عن مسكن الفؤاد. (6) في الفقيه والكافي زيادة: إذا مات. (7) رواه الصدوق في الفقيه 1: 112 / 518، والكليني في الكافي 3: 219 / 8، والبحار 82: 116 / 8 عن مسكن الفؤاد. (8) الفقيه 1: 111 / 517، والبحار 82: 116 / 8. (9) ثواب الأعمال 233 / 4. (10) في المصدر: ما يزال.

[ 31 ]

البلاء بالمؤمن والمؤمنة، في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله عز وجل، وما عليه خطيئة) (1). وعن محمد بن خالد السلمي، عن أبيه، عن جده - وكانت له صحبة - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن العبد إذا سبقت له من الله تعالى منزلة ولم يبلغها بعمل، ابتلاه الله في جسده، أو في ماله، أو في ولده، ثم صبره على ذلك، حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله عز وجل) (2). وعن ثوبان - مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (بخ بخ، خمس ما أثقلهن في الميزان ! لا إله إلا الله، وسبحان الله، (والحمد لله، والله أكبر) (3)، والولد الصالح يتوفي للمرء المسلم (4) فيحتسبه) (5). بخ بخ، كلمة تقال عند المدح والرضا بالشئ، وتكرر للمبالغة، وربما شددت ومعناها: تفخيم الأمر وتعظيمه، ومعني يحتسبه، أي: يجعله حسبة وكفاية عند الله عز وجل، أي: يحتسب بصبره على مصيبة بموته، ورضاه بالقضاء. وعن عبد الرحمن بن سمرة، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إني رأيت البارحة عجبا - فذكر حديثا طويلا، وفيه رأيت رجلا من امتي قد خف ميزانه فجاء أفراطه فثقلوا ميزانه) (6). الفرط بفتح الفاة والراء: هو الذي لم يدرك من الأولاد - الذكور والإناث - وتتقدم وفاته على أبويه أو أحدهما، يقال: فرط القوم، إذا تقدمهم، وأصله الذي يتقدم الركب إلى الماء، ويهيئ (7) لهم أسبابه.


(1) سنن الترمذي 4: 28 / 2510. (2) رواه أبو داود في سننه 3: 183 / 3090، وأحمد في مسنده 5: 272، وزكي الدين في الترغيب والترهيب 4: 283 / 30، والسيوطي في الجامع الصغير 1: 103 / 669. (3) في نسخة (ش): والله أكبر والحمد لله. (4) في (ح): للرجل. (5) رواه الصدوق في الخصال: 267 / 1، وأحمد في مسنده 3: 443 و 4: 237 و 5: 366، والحاكم في مستدركه 1: 511، والسيوطي في الجامع الصغير 1: 483 / 4129، وأخرجه المجلسي في البحار 82: 117 / 9 عن مسكن الفؤاد. (6) رواه السيوطي في الجامع الصغير: 1: 406 / 2652. وأخرجه المجلسي في البحار 82: 117. (7) في نسخة (ش): ليهيئ.

[ 32 ]

وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تزوجوا فإني مكاثربكم الامم يوم القيامة: حتى أن السقط ليظل محبنطئا على باب الجنة، فيقال له: ادخل، يقول: حتى يدخل أبواي) (1). السقط مثلث السين، والكسر أكثر (2): هو الذي يسقط من بطن امه قبل تمامه، محبنطئا بالهمز وتركه: هو المتغضب المستبطئ للشئ. وعن معاوية بن حيدة القشيرى (3)، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (سوداء ولود خير من حسناء لا تلد، إني مكاثر بكم الامم: حتى أن السقط ليظل محبنطئا على باب الجنة، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أنا وأبواي ؟ فيقال: أنت وأبواك) (4). وعن عبد الملك بن عمير، عمن حدثه، أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، أتزوج فلانة ؟ فنهاه رسول الله صلى الله عليه وآله عنها، ثم أتاه ثانية فقال: يا رسول الله، أتزوج فلانة ؟ فنهاه عنها، ثم أتاه ثالثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (سوداء ولود (5) أحب إلي من عاقر حسناء)، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أما علمت أني مكاثر بكم الامم ؟ حتى أن السقط ليبقى محبنطئا على باب الجنة، فيقال له: ادخل، فيقول: لا، حتى يدخل أبواي، فيشفع فيهما، فيد خلان الجنة). وعن سهل بن الحنظلية - وكان لا يولد له، وهو ممن بايع تحت الشجرة - قال: لئن يولد لي في الإسلام (ولد ويموت سقطا (6) فأحتسبه، أحب إلي من أن تكون لي


(1) رواه الصدوق عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام في الفقيه 3: 242 / 1144 ومعاني الأخبار: 291 / 1، ورواه الطبرسي في مكارم الأخلاق: 196 مرسلا، وأخرجه المجلسي في البحار 82: 117 / 9 عن مسكن الفؤاد. (2) في (ح): أفضل. (3) في (ح) و (ش): معاوية بن جيدة القشيري، وفي هامش (ح): معاوية بن صيدة القشيري، وكلاهما تصحيف، وما أثبتناه هو الصواب، راجع (تنقيح المقال 3: 226، تهذيب التهذيب 10: 205، وتقريب التهذيب 2: 259 / 1225، الجرح والتعديل 8: 376 / 1721، الإصابة 3: 432 / 8065، اسد الغابة 4: 385). (4) رواه السيوطي في الجامع الصغير 2: 55 / 4724 مرسلا، والمتقي الهندي عن ابن عباس في منتخب الكنز 6: 390. (5) في (ش) زيادة يعني قبيحه. نسخة (ش): ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟

[ 33 ]

الدنيا جميعا وما فيها (1). وعن عبادة بن الصامت، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: النفصاء يجرها ولدها يوم القيامة بسررة (2) إلى الجنة) (3). النفساء بضم النون وفتح الفاء: المرأة إذا ولدت، والسرر بكسر السين المهملة وفتحها: ما تقطعه القابلة من سرة المولود، التي هي موضع القطع، وما بقي بعد القطع فهو السرة، وكأنه يريد: الولد الذي لم تقطع سرته. وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (من قدم من صلبه ولدا (4) لم يبلغ الحنث، كان أفضل من أن يخلف من أن يخلف من بعده مائة، كلهم يجاهدون في سبيل الله (لا تسكن روعتهم (5) إلى يوم القيامة). وعن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (لئن اقدم سقطا أحب إلي من أن اخلف مائة فارس، كله يقاتل في سبيل الله) (6). وعن أيوب بن موسى، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال للزبير: (يا زبير إنك إن تقدم سقطا، خير من أن تدع بعدك من ولدك مائة، كل منهم على فرس يجاهد في سبيل الله). وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: (يقال للولدان يوم القيامة: أدخلوا الجنة، فيقولون: يا رب، حتى يدخل آباؤنا وأمهاتنا، قال: فيأبون، فيقول الله عز وجل: ما لي أراهم محبنطئين، أدخلوا الجنة، فيقولون: يا رب، آباؤنا، فيقول تعالى: أدخلوا الجنة أنتم وآباواكم) (7). وعن عبيد بن عمير الليثي، قال: (إذا كان يوم القيامة، خرج ولدان المسلمين من الجنة بأيديهم الشراب، قال: فيقول الناس لهم: أسقونا، أسقونا، فيقولون: أبوينا،


(1) رواه ابن الأثير في اسد الغابة 2: 364، والمتقي الهندي في منتخب الكنز 6: 392، باختلاف في ألفاظه. (2) في (ش) و (ح): بسررها، وما أثبتناه من البحار. (3) رواه أحمد في مسنده 3: 489 و 5: 329، ورواه بسند آخر محمد بن علي العلوي في التعازي: 25 / 53، والبحار 82: 117 / 10 عن مسكن الفؤاد. (4) في نسخة (ش): ذكرا. (5) في نسخة (ش): لا يسكن روعهم. (6) تنبيه الخواطر 1: 287، المحجة البيضاء 8: 287. (7) رواه أحمد في مسنده 4: 105.

[ 34 ]

أبوينا، قال: حتى أن (1) السقط محبنطئا بباب الجنة، يقول: لا أدخل حتى يدخل أبواي) (2). وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا كان يوم القيامة، نودي في أطفال المؤمنين (3): أن اخرجوا من قبوركم، فيخرجون من قبورهم، ثم ينادي فيهم: أن امضوا إلى الجنة زمرا، فيقولون: ربنا، ووالدينا معنا، ثم ينادى فيهم ثانية: امضوا إلى الجنة زمرا، فيقولون ربنا: ووالدينا، فيقول في الرابعة: ووالديكم معكم، فيثب كل طفل إلى أبويه، فيأخذون بأيديهم، فيدخلون بهم الجنة، فهم أعرف بآبائهم وامهاتهم - يومئذ - من أولادكم الذين في بيوتكم). (4). الزمر: الأفواج المتفرقة بعضها في أثر بعض، وقيل: في الزمر الذين اتقوا (5) من الطبقات المختلفة، أي الشهداء، والزهاد، والعلماء، والفقراء، والقراء، والمحدثون، وغيرهم. وعن أنس بن مالك: ان رجلا كان يجئ بصبي معه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه مات، فاحتبس والده عن رسول الله صلى الله عليه وآله، فسأل عنه، فقالوا: مات صبيه الذي رأيته معه، فقال صلى الله عليه وآله: (هلا آذنتموني، فقوموا إلى أخينا نعزيه) فلما دخل عليه إذا الرجل حزين وبه كآبة فغراه، فقال: يا رسول الله، كنت أرجوه لكبر سني وضعفي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (أما يسرك أن يكون يوم القيامة بإزائك ؟ فيقال له: أدخل الجنة، فيقول: يا رب (6) وأبواي، فلا يزال يشفع حتى يشفعه الله عز وجل فيكم، ويدخلكم الجنة جميعا) (7). احتبس، أي تخلف عن المجئ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وآذنتموني بالمد: أي أخبرتموني، والكآبة بالمد: تغير النفس بالإنكسار من شدة الهم والحزن،


(1) ليس في نسخة (ش). (2) أخرجه المجلسي في البحار 82: 118 / 11 عن مسكن الفؤاد. (3) في نسخة (ش) المسلمين، وفي البحار: المؤمنين والمسلمين. (4) أخرجه المجلسي في البحار 82: 118 عن مسكن الفؤاد، وفيه: (وعنه) بدل (وعن أنس بن مالك). (5) يعني قوله تعالى في سورة الزمر: 73: وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا. (6) في نسخة (ش): رب. (7) أخرجه المجلسي في البحار 82: 118 عن مسكن الفؤاد، وفيه: (وروي) بدل (وعن انس بن مالك).

[ 35 ]

والضعف بضم المعجمة وفتحها، وبإزائك، إي بحذائك. وعن أنس - أيضا - قال: توفي لعثمان بن مظعون رضي الله عنه ولد، فاشتد حزنه عليه، حتى اتخذ في داره مسجدا يتعبد فيه، فبلغ ذلك (1) النبي صلى الله وآله، فقال: (يا عثمان، إن الله - عز وجل - لم يكتب علينا الرهبانية، إنما رهبانية امتي الجهاد في سبيل الله، يا عثمان بن مظعون، إن للجنة ثمانية أبواب، وللنار سبعة أبواب، أفلا يسرك ألا تأتي باب منها إلا وجدت ابنك بجنبه (2)، آخذا بحجزتك، (ليشفع لك إلى ربه) (3) عز وجل ؟) قال: فقيل: يا رسول الله ولنا في أفراطنا ما لعثمان ؟ قال: (نعم، لمن صبر منكم واحتسب) (4). والحجزة، بضم الحاء المهملة والزاء: موضع شد الإزار، ثم قيل للازار: حجزة. وعن قرة بن اياس: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يختلف إليه رجل من الأنصار مع ابن له فقال له إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم: (يا فلان، تحبه ؟) قال: نعم، يا رسول الله، أحبه كحبك، ففقده النبي صلى الله عليه وآله، فسأل عنه، فقالوا: يا رسول الله، مات ابنه، فلما رآه قال عليه الصلاة والسلام: (أما ترضى أن لا تأتي يوم القيامة بابا من أبوب الجنة، إلا جاء يسعى يفتحه لك ؟) فقال رجل: يا رسول الله، أله وحده أم لكلنا ؟ قال: (بل لكلكم) (5). وروى البيهقي: ان النبي صلى الله عليه وآله كان إذا جلس تحلق إليه نفر من أصحابه، (وكان فيهم) (6) رجل له بني صغير يأتيه من خلف ظهره، فيقعده بين يديه، إلى أن هلك ذلك الصبي، فامتنع الرجل من الحلقة أن يحضرها تذكرا له وحزنا، قال: ففقده النبي صلى الله عليه وآله، فقال: (مالي لا أرى فلانا ؟) قالوا: يا رسول الله بنيه


(1) في نسخة (ش) زيادة: إلى. (2) في نسخة (ش): إلى جنبه. (3) في نسخة (ش): يستشفع لك عند ربك. (4) رواه الصدوق في الأمالي: 63 / 1، ومحمد بن علي العلوي في التعازي: 16 / 28، ورواه مرسلا ابن الفتال الفارسي في روضة الواعظين: 422 باختلاف يسير. (5) رواه محمد بن علي في التعازي: 14 / 24، وأحمد في مسنده 3: 436 و 5: 35، والنسائي في سننه 4: 23، والحاكم النيسابوري في المستدرك 1: 384، والسيوطي في الدر المنثور 1: 158، وزكي الدين في الترغيب والترهيب 3: 79 / 16. (6) في نسخة (ش): وفيهم.

[ 36 ]

الذي رأيته هلك، فمنعه الحزن - أسفا عليه وتذكرا (1) له - أن يحضر الحلقة، فلقيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فسأله عن ابنه (2)، فأخبره بهلاكه (3) فعزاه، وقال: (يا فلان، أيما كان أحب إليك: عن تمتع به عمرك، أولا تأتي غدا بابا من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه، يفتحه (4) لك ؟) قال: يا نبي الله، لا، بل يسبقني إلى باب الجنة أحب إلي، قال: (فذلك لك) (5) فقام رجل من الأنصار، فقال: يا نبي الله، أهذا لهذا خاصة، أم من هلك له طفل من المسلمين كان له ذلك ؟ قال: (بل من هلك له طفل من المسلمين كان له ذلك) (6). الحلقة بإسكان الام بعد فتح الحاء: كل شئ مستدير خالي الوسط، والجمع حلق بفتحتين، وحكى فتحه في (الموجز) وهو نادر. وعن زرارة بن أوفى: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عزى رجلا على ابنه فقال: (أجرك على الله، وأعظم لك الأجر) فقال الرجل: يا رسول الله، أنا شيخ كبير، وكان ابني قد أجزأ عني، فقال له النبي صلى الله عليه وآله: (أيسرك أن يشير لك - أو يتلقاك - من أبواب الجنة بالكأس ؟) قال: من لي بذلك يا رسول الله ؟ فقال: (الله لك به، ولكل مسلم (مات ولده) (7) في الإسلام). أجزأ بمعني: كفى، والكأس بالهمز، وقد يترك تخفيفا، هو الإناء فيه شراب، ولا يسمى بذلك إلا بانضمامه إليه، وقيل: هو اسم لهما على الإجتماع والإنفراد، والجمع أكؤس، ثم كؤوس. وعن عبد الله بن قيس، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: أقبضتم ولد عبدي ؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبصتم ثمرة فؤاده ؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي ؟ فيقولون: حمدك، واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة، وسموه بيت الحمد) (8).


(1) في نسخة (ش): والذكر. (2) في نسخة (ش): بنيه. (3) في نسخة (ش): أنه هلك. (4) في نسخة (ش): ففتحه. (5) رواه النسائي في سننه 4: 118 باختلاف يسير. (6) السنن الكبرى للبيهقي 4: 59 باختلاف يسير. (7) في نسخة (ش): مات له ولد. (8) رواه الكليني بسنده عن السكوني، عن أبي عبد الله عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله في الكافي 3: = = 218 / 4، والصدوق مرسلا في الفقيه 1: 112 / 523 باختلاف في ألفاظه، ورواه عن أبي موسى الأشعري كل من أحمد في مسنده 4: 415، والسيوطي في الجامع الصغير 1: 131 / 854، وأخرجه المجلسي في البحار 82: 119 عن مسكن الفؤاد.

[ 37 ]

وروي: ان امرأة أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومعها ابن لها مريض، فقالت: يا رسول الله، ادع الله تعالى أن يشفي لي ابني هذا، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (هل لك فرط ؟) قالت: نعم، يا رسول الله، قال: (في الجاهلية أم في الإسلام ؟) قالت: بل في الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (جنة حصينة، جنة حصينة) (1). الجنة بضم الجيم: الوقاية، أي: وقاية لك من النار، أو من جميع الأهوال. وحصينة فعيل بمعنى فاعل، أي: محصنة لصاحبها، وساترة له من أن يصل إليه شر (2). وعن جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من دفن ثلاثة أولاد، وصبر عليهم، واحتسب وجبت له الجنة) فقالت ام أيمن: واثنين ؟ فقال: (من دفن اثنين، وصبر عليهما، واحتسبهما وجبت له الجنة) فقالت ام أيمن: وواحد، فسكت، وأمسك، فقال: (يا ام أيمن، من دفن واحدا، وصبر عليه، واحتسبه وجبت له الجنة) (3). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قدم ثلاثة لم يبلغوا الحنث كانوا له حصنا حصينا) فقال أبو ذر: قدمت اثنين، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (واثنين) ثم قال ابي بن كعب: قدمت واحدا، فقال صلى الله عليه وآله: (وواحدا، ولكن إنما ذاك عند الصدمة الاولى) (4). وعن أبي سعيد الخدري: إن النساء قلن للنبي صلى الله عليه وآله: اجعل لنا يوما تعظنا فيه، فوعظهن، وقال: (أيما امرأة مات لها ثلاثة من الولد، كانوا لها حجابا من


(1) أخرجه المجلسي في البحار 82: 119 / 12 عن مسكن الفؤاد. (2) في نسخة (ش): شئ. (3) رواه السيوطي في الدر المنثور 1: 159، والجامع الكبير 1: 777 باختلاف في ألفاظه، وأخرجه المجلسي في البحار 82: 119 / 12 مسكن الفؤاد. (4) رواه أحمد في مسنده 1: 429، والترمذي في سننه 2: 262 / 1067، وابن ماجة في سننه 1: 512 / 1066 والسيوطي في الدر المنثور 1: 158.

[ 38 ]

النار قالت امرأة: واثنان، قال: (واثنان) (1). وعن بريدة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله يتعاهد الأنصار، ويعودهم، ويسأل عنهم، فبلغه أن امرأة مات ابن لها، فجزعت عليه، فأتاها فأمرها بتقوى الله عز وجل والصبر، فقالت: يا رسول الله، إني أمرأة رقوب لا ألد، ولم يكن لي ولد غيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (الرقوب التي يبقى لها ولدها، ثم قال: مامن امرئ مسلم، أو امرأة مسلمة، يموت لهما ثلاثة من الولد، إلا أدخلهما الله الجنة فقيل له: واثنان: فقال: (واثنان) (2). وفي حديث آخر: أنه صلى الله عليه وآله قال لها: (أما تحبين أن ترينه على باب الجنة، وهو يدعوك إلينا ؟) (3) قالت: بلى، قال: (فإنه كذلك) (4). الرقوب بفتح الراء: (هي التي لا يولد لها) (5)، أولا يعيش ولدها (6)، هذا بحسب اللغة، وقد خصه النبي صلى الله عليه وآله بما ذكر. وعن [ أبي ] (7) النضر السلمي: ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فيحتسبهم، إلا كانوا له حصنا من النار) فقالت امرأة: واثنان، فقال: (واثنان) (8). وعنه صلى الله عليه وآله وسلم (من قدم من ولده ثلاثا صابرا محتسبا (كان محجوبا) (9) من النار بإذن الله عز وجل).


(1) رواه محمد بن علي في التعازي: 13 / 21 باختلاف في ألفاظه، ورواه أحمد في مسنده 3: 34، والبخاري في صحيحة 1: 36 و 2: 92 و 9: 124 باختلاف يسير، ورواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة 4: 2028 / 2632، وزكي الدين في الترغيب والترهيب 3: 76 باختلاف في ألفاظه. (2) رواه الحاكم النيسابوري في المستدرك 1: 384، والسيوطي في الدر المنثور 1: 158 باختلاف يسير، والبحار 82: 120 عن مسكن الفؤاد (3) في البحار: إليها. (4) رواه المتقي الهندي في منتخب كنز العمال 1: 212 باختلاف في ألفاظه، والبحار 82: 120 عن مسكن الفؤاد. (5) في نسخة (ش): الذي لا يولد له. (6) في نسخة (ش): ولده. (7) ليس في (ش) و (ح)، وما أثبتناه هو الصواب، انظر (اسد الغابة 5: 313). (8) رواه الشيخ ورام في تنبيح الخواطر مرسلا 1: 287، ورواه عن أبي النضر كل من مالك بن أنس في الموطأ 1: 235، والسيوطي في الدر المنثور 1: 158. (9) في نسخة (ش): حجبوه.

[ 39 ]

وفي لفظ آخر: (من قدم شيئا من ولده صابرا محتسبا، حجبوه بإذن الله من النار) (1). وعن ام مبشر (2) الأنصارية، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنه دخل عليها، وهي تطبخ حبا، فقال: (من مات له ثلاثة لم يبلغوا الحنث، كانوا له حجابا من النار) فقالت: يا رسول الله، واثنان، فقال لها: (واثنان، يا ام مبشر). وفي لفظ آخر: فقالت: أو فرطان، قال: (أو فرطان) (3). وعن قبيصة بن برمة، قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالسا، إذ أتته امرأة، فقالت: يا رسول الله، ادع الله لي، فإنه ليس يعيش لي ولد، قال: (وكم مات لك ؟) قالت: ثلاثة، قال: (لقد احتظرت من النار بحظار شديد) (4). الحظار بكسر الحاء المهملة والظاء المشالة: الحظيرة تعمل للإبل من شجر ليقيها البرد والريح، ومنه المظور للمحرم، أي: الممنوع من الدخول فيه، كأن عليه حظيرة تمنع من دخوله. وعن ابي بن كعب: ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لامرأة: (هل لك فرط ؟) قالت: ثلاثة، قال صلى الله عليه وآله: (جنة حصينة). وعنه صلى الله عليه وآله: (ما من مسلمين يقدمان ثلاثة لم يبلغوا الحنث، إلا أدخلهما الله الجنة بفضل رحمته) قالوا: يا رسول الله، وذو الاثنين ؟ قال: (وذو الاثنين، إن من امتي من يدخل الجنة بشفاعته أكثر من مضر، وإن من امتي (من يستطعم النار) (5) حتى يكون أحد زواياها) (6). رواه جماعة من أهل الحديث وصححوه. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (قال الله تعالى: حقت محبتي للذين


(1) الجامع الكبير 1: 817. (2) في (ح): ام ميسر، والصحيح ما أثبتناه من نسخة (ش)، انظر (الإصابة 4: 495 / 1491، اسد الغابة: 616). (3) رواه السيوطي في الجامع الكبير 1: 949 باختلاف في ألفاظه. (4) رواه ابن الاثير في اسد الغابة 4: 191 ورواه عن ابي هريرة باختلاف في الفاظه احمد في مسنده 2: 419 ومسلم في صحيحه 4: 2030. (5) في نسخة (ش): يستعظم للنار. (6) رواه الحاكم النيسابوري في المستدرك 1: 71، وزكي الدين في الترغيب والترهيب 3: 78 / 12، ورواه أحمد في مسنده باختلاف في ألفاظه 4: 212 و 5: 312.

[ 40 ]

يتصادقون من أجلي، وحفت محبي للذين يتناصرون من أجلي) (1). ثم قال عليه وآله السلام: (ما من مؤمن ولا مؤمنة يقدم الله تعالى له ثلاثة أولاد من صلبه لم يبلغوا الحنث، إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم) (2). وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: (من دفن ثلاثة من الولد (3) حرم الله عليه النار) (4). وعن صعصعة بن معاوية قال: لقيت أبا ذر الغفاري - رضي الله عنه - بالربذة، وهو يسوق بعيرا له عليه مزادتان، وفي عنق البعير قربة، فقلت: يا أبا ذر، مالك ؟ قال: عملي، قلت: حدثني، رحمك الله، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (ما من مسلمين يموت بينهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث، إلا غفر الله لهما بفضل رحمته إياهم). قال، قلت: فحدثني، قال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (ما من عبد مسلم ينفق من كل ماله زوجين في سبيل الله، إلا استقبلته حجبة الجنة كلهم يدعوه إلى ما عنده) فقلت: كيف ذلك ؟ قال: (إن كان رجالا فرجلين، وإن كان ابلا فبعيرين، وإن كان بقرا فبقرتين) حتى عد أصناف المال (5). ذكره جماعة. وعن أنس بن مالك قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وآله على مجلس من بني سلمة، فقال: (يا بني سلمة، ما الرقوب فيكم ؟) قالوا: الذي لا يولد له، قال: (بل هو الذي لا فرط له، قال: ما المعدم فيكم ؟) قالوا: الذي لا مال له، قال: (بل هو الذي يقدم وليس له عند الله خير) (6). (وعن ابن مسعود قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) (7) على امرأة


(1) رواه أحمد في مسنده 4: 386، وزكي الدين في الترغيب والترهيب 4: 19 / 16 باختلاف يسير. (2) رواه النسائي في سننه 4: 34 باختلاف يسير، والمتقي الهندي في منتخب الكنز 1: 210 باختلاف في ألفاظه. (3) في (ح): ولده. (4) رواه السيوطي في الجامع الصغير 2: 600 / 8669، والمتقي الهندي في منتخب الكنز 1: 210. (5) رواه أحمد في مسنده 5: 159 و 151 و 153 و 164 باختلاف يسير. (6) رواه السيوطي في الجامع الكبير 1: 959 باختلاف يسير. (7) في نسخة (ش): ونحوه عن ابن مسعود، ودخل صلى الله عليه وآله.

[ 41 ]

يعزيها بابنها، فقال: (بلغني أنك جزعت جزعا شديدا) قالت: وما يمنعني يا رسول الله، وثد تركني عجوزا رقوبا ؟ ! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لست بالرقوب، وإنما الرقوب التي تتوفي وليس لها فرط، ولا يستطيع الناس ان يعودوا عليها من أفراطهم، فتلك الرقوب). وهذه الأحاديث كلها مستخرجة من أصول مسندة، تركنا إسنادها وأصولها اختصارا، ولأن الله سبحانه بفضله ورحمته قد وعد الثواب لمن عمل بما بلغه، وإن لم يكان الأمر كما بلغه. ورد ذلك أيضا في عدة أحاديث من طرقنا وطرق العامة.

[ 42 ]

فصل فيما يتعلق (1) بهذا الباب عن زيد بن أسلم قال: مات لداود عليه السلام ولد، فحزن عليه حزنا كثيرا، فأوحى الله إليه: (يا داود، ما كان يعدل هذا الولد عندك ؟ قال: يا رب، كان يعدل هذا عندي ملء الأرض ذهبا، قال: فلك عندي يوم القيامة ملء الأرض ثوابا) (2). وعن داود بن أبي هند (3) قال: رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت، وكأن الناس يدعون إلى الحساب، قال: فقربت إلى الميزان، ووضعت حسناتي في كفة وسيئاتي في كفة، فرجحت السيئات على الحسنات، فبينما أنا كذلك مغموم إذ اتيت بمنديل أبيض - أو خرقة بيضاء - فوضعت مع حسناتي فرجحت، فقيل لي: أتدري ما هذا ؟ قلت: لا قيل: هذا سقط كان لك، قلت: فإنه كانت لي إبنة، فقيل: بنتك ليست كذلك) (4)، لأنك كنت تتمنى موتها. وعن أبي شوذب: ان رجلا كان له ابن لم يبلغ الحلم، فأرسل إلى قومه فقال: لي إليكم حاجة، قالوا: ما هي ؟ قال: إني أريد أن أدعو على ابني هذا أن يقبضه الله تعالى، وتؤمنون على دعائي، قال: فسألوه عن سبب ذلك: فأخبرهم أنه رأى في نومه (5) كأن الناس قد جمعوا ليوم القيامة، وأصابهم عطش شديد، فإذا الولدان قد خرجوا من الجنة معهم الأباريق، وفيهم ابن أخ له، فالتمس منه أن يسقيه فأبى، وقال: يا عم، إنا لا نسقي إلا الآباء، فأحببت أن يجعل الله ولدي هذا فرطا لي، فدعا فأمنوا، فلم يلبث الصبي حتى مات. أخرجه البيهقي في (الشعب). وعن محمد بن خلف (6) قال: كان الإبراهيم الحربي ابن له إحدى عشرة سنة قد


(1) في نسخة (ش): مما يلتحق. (2) رواه الشيخ ورام في تنبيه الخواطر 1: 287، والسيوطي في الدر المنثور 5: 306 باختلاف في ألفاظه. (3) في (ح): داود بن هند، والصواب ما أثبتناه من نسخة (ش) راجع مجمع الرجال 2: 279، الجرح والتعديل 3: 411 / 1881، تهذيب التهذيب 3: 204 / 388، ميزان الاعتدال 2: 11 / 2613). (4) في نسخة (ش): فقيل لي تيك ليست لك. (5) في نسخة (ش): منامه. (6) في (ح) محمد بن أبي خلف، والصواب ما أثبتناه من نسخة (ش)، راجع (رجال النجاشي: 270، ومعجم = = رجال الحديث 16: 74، خلاصة العلامة 1: 161 / 154).

[ 43 ]

حفظ القرآن، ولقنه أبوه من الفقه والحديث شيئا كثيرا، فمات فأتيته لا عزيه، فقال: كنت أشتهي موته، فقلت له: يا أبا إسحاق، أنت عالم الدنيا، تقول مثل هذا في صبي قد أنجب، وحفظ القرآن، ولقنته الحديث والفقه ؟ ! قال: نعم، رأيت في النوم كأن القيامة قد قامت، وكأن صبيانا بأيديهم القلال (1) فيها ماء، يستقبلون الناس يسقونهم، وكان اليوم يوما حارا شديد الحر. فقلت لأحدهم: إسقني من هذا الماء. فنظر إلي، وقال: لست أنت أبي، قلت: فأي شئ أنتم ؟ قالوا: نحن الصبيان الذين متنا في دار الدنيا، وخلفنا آباءنا، فنستقبلهم ونسقيهم (2)، فلهذا تمنيت موته. وروى الغزالي في (الإحياء): إن بعض الصالحين كان يعرض عليه التزويج برهة من دهره فيأبى، قال: فانتبه من نومه ذات يوم، وقال: زوجوني، فزوجوه، فسئل عن ذلك، فقال: لعل (الله أن يرزقني) (3) ولدا ويقبضه، فيكون لي مقدمة في الآخرة، ثم قال: رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت، وكأني في جملة الخلائق في الموقف، وبي من العطش ما كاد أن يقطع قلبي، وكذا الخلائق من شدة العطش والكرب، فبينما نحن كدلك وإذا ولدان يتخللون الجمع، عليهم قنائيل من نور، وبأيديهم أباريق من فضة وأكواب من ذهب، يسقون الواخد بعد الواحد، يتخللون الجمع ويتجاوزون أكثر الناس، فمددت يدي إلى أحدهم، فقلت: اسقني، فقد أجهدني العطش، فقال: مالك فينا ولد: إنما نسقي آباءنا، فقلت: ومن أنتم ؟ قالوا: نحن من مات من أطفال المسلمين (4). وحجى الشيخ أبو عبد الله بن النعمان في كتاب (مصباح الظلام) عن بعض الثقات: أن رجلا أوصى بعض أصحابه - ممن أراد أن يحج - أن يقرأ سلامه رسول الله صلى الله عليه وآله، ويدفن رقعة مختومة (أعطاها له - عند رأسه الشريف، ففعل ذلك، فلما رجع من حجه أكرمه الرجل وقال له: جزاك الله خيرا، لقد بلغت الرسالة، فتعجب المبلغ من ذلك وقال: من أين علمت تبليغها قبل أن احدثك، فأنشأ يحدثه، قال: كان لي أخ مات، وترك ابنا صغيرا، فربيته وأحسنت تربيته، ثم مات


(1) القلال جمع القلة: وهي الحب العظيم أو الجرة العظيمة (القاموس المحيط 4: 40). (2) في نسخة (ش): فنسقيهم الماء. (3) في نسخة (ش): الله تعالى يرزقني. (4) إحياء علوم الدين 2: 27.

[ 44 ]

قبل أن يبلغ الحلم، فلما كان ذات ليلة، رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت، والحشر قد وقع، والناس قد اشتد بهم العطش من شدة الجهد، وبيد ابن أخي ماء، فانتمست أن يسقيني فأبى، وقال: أبي أحق به منك، فعظم علي ذلك، فانتبهت فزعا، فلما أصبحت تصدقت بجملة دنانير، وسألت الله أن يرزقني ولدا ذكرا، فرزقنيه، واتفق سفرك، فكتبت لك تلك الرقعة، ومضمونها التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله عز وجل في قبوله مني، رجاء أن أجده يوم الفزع الأكبر، فلم يلبث أنحم ومات، وكان ذلك يوم وصولك، فعلمت أنك بلغت الرسالة. وفي كتاب (النوم والرؤيا لأبي الصقر الموصلي، حدثني علي بن الحسين بن جعفر، حدثني أبي، حدثني بعض أصحابنا ممن أثق بدينه وفهمه، قال: أتيت المدينة ليلا، فنمت في بقيع الغرقد (1) بين أربعة قبور عندها قبر محفور، فرأيت في منامي أربعة أطفال، قد خرجوا من تلك القبور، وهو يقولون: أنعم الله بالحبيبة عينا * وبمسراك يا أميم إلينا عجبا ما عجبت من ظغطة * القبر ومغداك يا أميم إلينا فقلت: إن لهذه الأبيات لشأنا، وأقمت حتى طلعت الشمس، وإذا جنازة قد أقبلت، فقلت: من هذه ؟ فقالوا: امرأة من أهل المدينة، فقلت: إسمها أميمة ؟ قالوا: نعم، قلت: قدمت فرطا ؟ قالوا: أربعة أولاد، فأخبرتهم بالخبر، فأخذوا يتعجبون من هذا (2). وما أحسنا ما أنشد بعض الأفاضل، يقول شعرا: عطيته إذا أعطى سرورا * وإن سلب الذي أعطى أثابا فأي النعمتين أعد فضلا * وأحمد عند عقباها إيابا أنعمته التي كانت سرورا * أم الأخرى التي جلبت ثوابا ؟


(1) بقيع الغرقد: بالغين المعجمة، هو مقبرة أهل المدينة (معجم البلدان: 1: 473). (2) البحار 82: 122.

[ 45 ]

الباب الثاني في الصبر وما يلحق به الصبر في اللغة: حبس النفس من الفزع من المكروه والجزع عنه، وإنما يكون ذلك بمنع باطنه من الاضطراب، وأعضائه من الحركات غير المعتادة، وهو ثلاثة أنواع: الأول: صبر العوام، وهو حبس النفس على وجه التجلد، وإظهار الثبات في النائبات، ليكون حاله عند العقلاء وعامة الناس مرضية يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون (1). الثاني: صبر الزهاد، والعباد، وأهل التقوى، وأرباب الحلم، لتوقع ثواب الآخرة، إنما يوفى الصابران أجرهم بغير حساب (2). الثالث: صبر العارفين، فإن لبعضهم التذاذا بالمكروه، لتصورهم أن معبودهم خصهم به من دون الناس، وصاروا ملحوظين (بشرف نظرته) (3) وبشر الصابرين الذين إذا إصابتهم مصيبه، قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون (4). وهذا النوع يختص باسم الرضا، وسيأتي في باب خاص. والأول لا ثواب عليه، لأنه لم يفعله لله، وإنما فعله لأجل الناس، بل هو في الحقيقة رياء محض، فكلما ورد في الرياءات فيه، ولكن الجزع شر منه، لأن النفوس البشرية تميل إلى التخلق بأخلاق النظراء والمعاشرين والخلطاء، فيفشو الجزع فيهم، وإذا رأوا أحوال الصابرين مالت نفقوسهم إلى التخلق بأخلاقهم، فربما صار ذلك سببا لكما لهم، فيحصل منه فائدة في نظام النوع، وإن لم يعد على هذا الصابر. والصبر عند الإطلاق يحمل على القسم الثاني. واعلم أن الله - سبحانه - قد وصف الصابرين بأوصاف، وذكر الصابرين في القرآن في نيف وسبعين موضعا، وأضاف أكثر الخيرات والدرجات ألى الصبر، وجعلها


(1) اقتباس من سورة الروم 30: 7. (2) اقتباس من سورة الزمر 39: 10. (3) في نسخة (ش): بشريف نظره. (4) اقتباس من سورة البقرة 2: 155 - 157.

[ 46 ]

ثمرة له، فقال عز من قائل: (وجعلنا منهم ائمة يهدون بامرنا لما صبروا) (1) وقال: (وتمت كلمت ربك الحسنى على بنى اسرائيل بما صبروا (2) وقال تعالى: (ولنجزين الذين صبروا اجرهم باحسن ما كانوا يعملون) (3) وقال: (اولئك يؤتون اجرهم مرتين بما صبروا) (4) وقال: (انما يوفى الصابرون اجرهم بغير حساب) (5). فما من قربة إلا وأجرها بتقدير وحساب إلا الصبر ولأجل كون الصوم من الصبر، وأنه نصف الصبر (6) كان لا يتولى أجره إلا الله تبارك وتعالى - كما ورد في الأثر. قال الله تعالى: (الصوم لي، وأنا أجزي به) (7) فأضافه إلى نقسه من بين سائر العبادات، ووعد الصابرين بأنه معهم، فقال: (واصبروا ان الله مع الصابرين) (8) وعلق النصرة على الصبر، فقال: (بلى إن تصبروا وتتقوا وباتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم


(1) السجدة 32: 24. (2) الأعراف 7: 137. (3) النحل 16: 96. (4) القصص 28: 54. (5) الزمر 39: 10. (6) روى ابن ماجه في سننه 1: 555 / 1745، والسيوطي في الجامع الصغير 2: 122 / 5200: (الصيام نصف الصبر). (7) رواه الصدوق في الخصال: 45 / 42، ومالك في الموطأ 1: 310 / 58، والبخاري في صحيحه 3: 31، وابن ماجه في سننه 2: 1256 / 3823، وقال ابن الاثير في النهاية: 1: 270 بعد ذكر الحديث: قد أكثر الناس في تأويل هذا الحديث، وأنه لم خص الصوم والجزاء عليه بنفسه عز وجل، وإن كانت العبادات كلها له وجزاؤها منه، وذكروا فيه وجوها مدارها كلها على أن الصوم سر بين الله والعبد لا يطلع عليه سواه، فلا يكون العبد صائما حقيقة إلا وهو مخلص في الطاعة، وهذا وإن كان كما قالوا فإن غير الصوم من العبادات يشاركه في سر الطاعة، كالصلاة على غير طهارة، أو في ثوب نجس ونحو ذلك من الأسرار المقترنة بالعبائات التي لا يعرفها إلا الله وصاحبها. وأحسن ما سمعت في تأويل هذا الحديث أن جميع العبادات التي يتقرب بها العباد إلى الله عز وجل - من صلاة وحج، وصدقة، واعتكاف، وتبتل، ودعاء، وقربان، وهدي، وغير ذلك من أنواع العبادات - قد عبد المشركون بها آلهتهم، وما كانوا يتخذونه من دون الله أندادا، ولم يسمع أن طائفة من طوائف المشركين وأرباب النحل في الأزمان المتقادمة عبدت آلهتها بالصوم، ولا تقربت إليها به، ولا عرف الصوم في العبادات إلا من جهة الشرائع، فلذلك قال الله عز وجل: الصوم لي وأنا أجزي به: أي لم يشاركني أحد فيه، ولا عبد به غيري، فأنا حينئذ أجزي به وأتولى الجزاء عليه بنفسي، لا أكله إلى أحد من ملك مقرب أو غيره على قدر اختصاصه بي. (8) الأنفال 8: 46.

[ 47 ]

بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) (1). وجمع للصابرين بين أمور لم يجمعها لغيرهم، فقال: (اولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة واولئك هم المهتدون) (2) فالهدى والصلوات والرحمة مجموعة للصابرين، واستقصاء جميع الآيات في مقام الصبر يطول. وأما الأخبار فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الصبر نصف الإيمان) (3). وقال صلى الله عليه وآله: (من أقل ما اؤتيتم اليقين وعزيمة الصبر، ومن أعطي حظه منهما لم يبال ما فاته من قيام الليل وصيام النهار، ولئن تصبروا على مثل ما أنتم عليه، أحب إلي من أن يوافيني كل امرئ منكم بمثل عمل جميعكم، ولكني أخاف أن تفتح عليكم الدنيا بعدي، فينكر بعضكم بعضا، وينكركم أهل السماء عند ذلك، فمن صبر واحتسب ظفر بكمال ثوابه، ثم قرأ: (ما عند كم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا) (4) الآية) (5). وروى جابر: أنه صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الإيمان، فقال: (الصبر كنز من كنوز الجنة)، وسئل مرة ؟ ما الايمان، فقال: (الصبر) (6) وهذا نظير قوله عليه السلام: (الحج عرفة) (7). قال صلى الله عليه وآله: (أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس) (8). وقيل: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: (تخلق بأخلاقي، وإن من أخلاقي الصبر) (9).


(1) آل عمران 3: 125. (2) البقرة: 2: 157. (3) شهاب الأخبار: 55 / 132، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 319، الجامع الصغير 2: 113 / 5130، الترغيب والترهيب 4: 277 / 5، المستدرك على الصحيحن 2: 446، الدر المنثور 1: 66، إرشاد القلوب: 127. (4) النحل 16: 96. (5) أخرجه الفيض الكاشاني في المحجة البيضاء 7: 106. (6) المحجة البيضاء 7: 107. (7) مسند أحمد 4: 309، 310، 335، سنن ابن ماجة 2: 1003 / 3015، سنن الدارمي 2: 59، سنن الترمذي 4: 282 / 4058، وسنن النسائي 5: 256، المستدرك على الصحيحين 1: 464. (8) رواه الشيخ ورام في تنبيه الخواطر عن علي عليه السلام 1: 63 باختلاف يسير. (9) إرشاد القلوب: 137، المحجة البيضاء 7: 207 باختلاف في ألفاظه.

[ 48 ]

وعن ابن عباس رضي الله عنه لما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الأنصار، فقال: (أمؤمنون أنتم ؟) فسكتوا، فقال رجل نعم، يا رسول البلاء، ونرضى بالقضاء، فقال: (مؤمنون ورب الكعبة) (1). وقال صلى الله عليه وآله: (في الصبر على ما يكره خير كثير) (2). وقال المسيح عليه السلام: (إنكم لا تدركون ما تحبون، إلا بصبركم على ما تكرهون). وقال صلى الله عليه وآله: (لو كان الصبر رجلا لكان كريما) (3) وقال علي عليه السلام: (بني الإيمان على أربع دعائم: اليقين، والصبر، والجهاد والعدل) (4). وقال أيضا: (الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا جسد لمن لا رأس له، ولا إيمان لمن لا صبر له) (5). وقال على عليه السلام: (عليكم بالصبر، فإنه به يأخذ الحازم، وإليه يعود الجازع). وقال علي عليه السلام: (إن صبرت جرت عليك المقادير وأنت مأجور، وإن جزعت وجرت عليك المقادير وأنت مأزور) (6) وعن الحسن بن علي عليهما السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله، قال: (إن في الجنة شجرة يقال لها: شجرة البلوى، يؤتى بأهل البلاء يوم القيامة، فلا يرفع لهم ديوان، ولا ينصب لهم ميزان، يصب عليهم الأجر صبا، وقرأ عليه السلام: (انما يوفى الصابرون اجرهم بغير حساب) (7)) (8).


(1) المحجة البيضاء 7: 107، ورواه باختلاف في الفاظه محمد بن همام في التمحيص: 61 / 137. (2) مشكاة الأنوار: 20، المحجة البيضاء 7: 107. (3) تنبيه الخواطر 1: 40، الجامع الصغير 2: 434 / 7461، منتخب كنز العمال 1: 208. (4) نهج البلاغة 3: 157 / 30 باختلاف في الفاظة. (5) نهج البلاغة 3: 168 / 82، الكافي 2: 72 / 4 و 5 جامع الأخبار 135 باختلاف يسير، وروي باختلاف في ألفاظه في التمحيص: 64 / 148 ومشكاة الأنوار: 21. (6) نهج البلاغة 3: 224 / 291، جامع الأخبار: 136. (7) الزمر 39: 10. (8) الدر المنثور 5: 323.

[ 49 ]

وعنه عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من جرعة أحب إلى الله تعالى من جرعة غيظ كظما رجل، أو جرعة صبر على مصيبة، وما من قطرة أحب إلى الله تعالى من قطرة دمع من خشية الله، أو قطرة دم اهرقت في سبيل الله) (1). وعنه عليه السلام: (المصائب مفاتيح الأجر). وعن زيد العابدين عليه السلام: (إذا جمع الله الأولين والآخرين ينادي مناد: أين الصابرون ؟ ليدخلوا الجنة بغير حساب، قال: فيقوم عنق من الناس، فتتلقاهم الملائكة، فيقولون: إلى أين، يا بني آدم ؟ ! فيقولون: إلى الجنة، فيقولون: وقبل الحساب ؟ فقالوا: نعم قالوا: ومن أنتم ؟ قالوا الصابرون. قالوا وما كان صبركم ؟ قالوا: صبرنا على طاعة الله، وصبرنا عن معصية الله، حتى توفانا الله عز وجل، قالوا، أنتم كما قلتم، أدخلوا الجنة، فنعم أجر العاملين) (2). وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قال الله عز وجل: إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده، ثم استقبل ذلك بصبر جميل، استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزانا، أو أنشر له ديوانا) (3). وعن ابن مسعود، عنه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (ثلاث من رزقهن فقد رزق خير الدارين: الرضا بالقضاء، والصبر على البلاء، والدعاء في الرخاء) (4). وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال: (يا غلام - أو يا غليم - ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن ؟ فقلت: بلى، فقال: إحفظ الله يحفظك، إحفظ الله تجده أمامك، تعرف (إلى الله) (5) في الرخاء يعرف في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن في الصير على ما تكره خيرا كثيرا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا) (6).


(1) الدر المنثور 2: 74. (2) كشف الغمة 2: 103 باختلاف يسير، وروي باختلاف في ألفاظه في أمالي الطوسي 1: 100، وفقه الرضا: 368، وتنبيه الخواطر 2: 180. (3) جامع الأخبار: 136، الجامع الصغير 2: 242 / 6043، منتخب كنز العمال 1: 210. (4) دعوات الراوندي: 121 / 289، المستطرف 2: 70، باختلاف يسير. (5) في (ح): إليه. (6) مسند أحمد 1: 307، الدر المنثور 1: 66. وروي باختلاف يسير في مشكاة الانوار: 20.

[ 50 ]

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: (يؤتى الرجل في قبره بالعذاب، فإذا أتي من قبل رأسه دفعه تلاوة القرآن، وإذا أتي من قبل يديه دفعته الصدقة، وإذا أتي من قبل رجليه دفعه مشيه إلى المسجد (1)، والصبر حجزه، يقول: أما لو رأيت خللا لكنت صاحبه). وفي لفظ آخر (إذا دخل الرجل القبر قامت الصلاة عن يمينه، والزاكاة عن شماله، والبر يظل عليه، والصبر بناحية (2) يقول دونكم صاحبي، فإني من ورائه، يعني: إن استطعتم أن تدفعوا عنه العذاب، وإلا فأنا أكفيكم ذلك، وأدفع عنه العذاب) (3). وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: (عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له) (4). وعنه صلى الله عليه وآله: (ألا أعجبكم إن المؤمن إذا أصاب خيرا حمد الله وشكر، وإذا أصابته مصيبة حمد الله وصبر، فالمؤمن يؤجر في كل شئ حتى اللقمة يرفعها إلى فيه). وفي حديث آخر: (حتى اللقمة يرفعها إلى فم امرأته) (5). وعنه صلى الله عليه وآله: (الصبر خير مركب، ما رزق الله عبدا خيرا له ولا أوسع من الصبر) (6). وسئل صلى الله عليه وآله: هل من رجل يدخل الجنة بغير حساب ؟ قال: (نعم، كل رحيم صبور). وعن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: (إن الحر حر على


(1) الترغيب والترهيب 4: 373. (2) يقال: هو في ناحية أو بناحية أي مبتعد. انظر (مجمع البحرين - نحا - 1: 410). (3) روي عن أبي عبد الله في الكافي 2: 73 / 8، وثواب الأعمال: 203 / 1 ومشكاة الانوار: 26 باختلاف في الفاظه. (4) مسند أحمد 4: 332، صحيح مسلم 4: 2295 / 2999، الترغيب والترهيب 4: 278 / 7. (5) مسند أحمد 1: 182 و 177 و 173، الجامع الصغير 2: 148 باختلاف في ألفاظه. (6) مسند أحمد 3: 47، سنن الترمذي 3: 252 / 2093، المستدرك 2: 414، الجامع الصغير 2: 496 / 7911. وفيها: (ما رزق الله عبدا...)

[ 51 ]

جميع أحواله، إن نابته نائبة صبر لها، وإن تراكمت على المصائب لم تكسره، وإن أسر وقهر وستبدل باليسر عسرا، كما كان يوسف الصديق الأمين عليه السلام، لم يضرر حريته أن استعبد وأسر وقهر، ولم تضرره ظلمة الجب ووحشته، وما ناله أن من الله عليه، فجعل الجبار العاتي له عبدا بعد أن كان ملكا، فأرسله ورحم به أمة وكذلك الصبر يعقب خيرا، فاصبروا ووطنوا أنفسكم على الصبر تؤجروا) (1). وعن الباقر عليه السلام: (الجنة محفوفة بالمكاره والصبر، فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنة، وجهنم محفوفة باللذات والشهوات، فمن أعطى نفسه لذاتها وشهوتها دخل النار) (2). وعن علي عليه السلام، قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: الصبر ثلاثة: صبر عند المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، فمن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب الله له ثلاث مائة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض، ومن صبر على الطاعة كتب الله له ست مائة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش، ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسع مائة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش) (3) وعن أبي حمزة الثمالي، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: (من ابتلي من المؤمنين ببلاء فصبر عليه، كان له مثل أجر ألف شهيد) (4). وعن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: قال الله عز وجل: إني جعلت الدنيا بين عبادي قرضا، فمن أقرضني منها قرضا أعطيته بكل واحدة عشرا إلى سبع مئة ضعف وما شئت من ذلك، ومن لم يقرضني منها قرضا فأخذت منه شيئا قسرا، أعطيته ثلاث خصال، لو أعطيت واحدة منهن ملائكتي لرضوا بها مني.


(1) الكافي 2: 73 / 6، مشكاة الأنوار: 21. (2) الكافي 2: 73 / 7. (3) الكافي 2: 75 / 15، تنبيه الخواطر 1: 40، جامع الأخبار: 135، الجامع الصغير 2: 114 / 5137، منتخب كنز العمال 1: 208. (4) رواه الكليني في الكافي 2: 75 / 17، وسبط الطبرسي في مشكاة الأنوار: 26 ورواه بقاختلاف في ألفاظه الحسين بن سعيد الأهوازي في كتاب المؤمن: 16 / 8، وان همام في التمحيص: 59 / 125.

[ 52 ]

ثم تلا أبو عبد الله عليه السلام قول الله عز وجل: (الذين إذا اصابتهم مصيبة قالوا انا لله وانا إليه راجعون اولئك عليهم صلوات من ربهم) فهذه (1) واحدة من ثلاث خصال (ورحمة) إثنان (واولئك هم المهتدون) (2) ثلاث. ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: (هذا لمن أخذ منه شيئا قسرا) (3).


(1) في نسخة (ش) ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: فهذه. (2) البقرة 2: 156 - 157. (3) الكافي 2: 76 / 21 الخصال: 130 / 135، مشكاة الأنوار: 279.

[ 53 ]

فصل وعنه عليه السلام: (الضرب على الفخذ عند المصيبة يحبط الأجر (1)، والصبر عند الصدمة الأولى أعظم وعظم الأجر على قدر المصيبة، ومن استرجع بعد المصيبة جدد الله له أجرها كيوم أصيب بها). وسأل رجل النبي صلى الله عليه وآله: ما يحبط الأجر في المصيبة ؟ فقال: (تصفيق الرجل بيمينه على شماله، والصبر عند الصدمة الأولى، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط.) وعن ام سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي، واخلف لي خيرا منه، إلا آجره الله تعالى في مصيبته، واخلف له خيرا منها). قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله، فأخلف لي خيرا منه: رسول الله صلى الله عليه وآله (2). وفي لفظ آخر: أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (ما من مسلم تصيبة مصيبة فيقول ما أمره الله عزوجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي، واخلف لي خيرا منه) قالت: فلما مات أبو سلمة رضي الله عنه، قلت: أي رجل خير من أبي سلمة ؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ثم إني قلتها فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وآله. [ قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله ] (3) بحاطب ابن أبي بلتعة يخطبني، فقلت له: إن لي بنتا وأنا غيور، فقال: (أما بنتها فادعو الله أن يغنيها عنها، وأدعو الله أن يذهب بالغيرة) (4). وفي حديث آخر: قالت: أتاني أبو سلمة يوما من عند رسول الله صلى الله عليه


(1) روى الصدوق في الفقيه 4: 298 / 900 نحوه. (2) صحيح مسلم 2: 632 / 4، الترغيب والترهيب 4: 336 / 2 باختلاف يسير. (3) أثبتناه من البحار. (4) الترغيب والترهيب 4: 336 / 2.

[ 54 ]

وآله فقال: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله قولا سررت به، قال: (لا يصيب أحدا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول: اللهم آجرني في مصيبتي، واخلف لي خيرا منها، إلا فعل ذلك: به). قالت ام سلمة: فحفظت ذلك منه، فلما توفي أبو سلمة استرجعت وقلت: اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منه، ثم رجعت إلى نفسي فقلت: من أين لي خير من أبي سلمة: فلما انقضت عدتي استأذن علي رسول الله صلى الله عليه وآله وأنا ادبغ إهابا (1)، فغسلت يدي من القرظ (2) وأذنت له، فوضعت له وسادة أدم (3) حشوها ليف فقعد عليها، فخطبني إلى نفسي صلى الله عليه وآله. فلما فرغ من مقالته قلت: يار رسول الله، ما بي أن لا يكون بك الرغبة، ولكني امرأة في غيرة شديدة، فأخاف أن ترى مني شيئا يعذ بني الله به، وأنا امرأة قد دخلت في السن، وأنا ذات عيال. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (أما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل الذي أصابك، وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي) قالت: فقد سلمت نفسي لرسول الله، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله، فقالت أم سلمة: فقد أبدلني الله عز وجل بأبي سلمة خيرا منه: النبي صلى الله عليه وآله (4). وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن للموت فزعا، فإذا أتى أحدكم وفاة أخيه فليقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، اللهم اكتبه عندك من المحسنين، واجعل كتابه في عليين، واخلف على عقبه في الآخرين، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده) (5). وعن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام: (إن النبي صلى الله عليه وآله قال: من أصابته مصيبة فقال إذا ذكرها: إنا لله وإنا إليه راجعون، جدد الله


(1) الإهاب: الجلد من البقر والغنم والوحش ما لم يدبغ (لسان العرب 1: 217). (2) القرظ: شجر يدبغ به، وقيل: هو ورق السلم يدبغ به الأدم. ومنه أديم مقروظ. (لسان العرب 7: 454). (3) الأديم: الجلد ما كان، وقيل: الأحمر، وقيل: هو المدبوغ (لسان العرب 12: 9.). (4) مسند أحمد 4: 27، والبحار 82: 139. (5) الجامع الكبير 1: 265. الفتوحات الربانية 4: 124، والبحار 82: 141.

[ 55 ]

- عز وجل - له أجرها، مثل ما كان له يوم أصابته) (1).


(1) الجامع الكبير 1: 747، والبحار 82: 141.

[ 56 ]

فصل وعن يوسف بن عبد الله بن سلام: ان النبي صلى الله عليه وآله كان إذا نزل بأهله شدة أمرهم بالصلاة، ثم قرأ: (وامر اهلك بالصلاة واصطبر عليها) (1) (2). وعن ابن عباس أنه نعي إليه أخوه قثم وهو في سفر فاسترجع، ثم تنحى عن الطريق فأناخ، فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: (واستعينوا بالصبر والصلاة وانها لكبيرة الا على الخاشعين) (3) (4). وعنه أيضا أنه كان إذا أصيب بمصيبة قام وتوضأ وصلى ركعتين، وقال: اللهم قد فعلت ما أمرتنا، فأنجز لنا ما وعد تنا. وعن عبادة بن محمد بن عبادة بن الصامت، قال: لما حضرت عبادة - رضي الله عنه - الوفاة قال: أخرجوا فراشي إلى الصحن - يعني: الدار - ففعلوا، ثم قال: إجمعوا لي موالي وخدمي وجيراني ومن كان يدخل علي، فجمعوا. فقال: إن يومي هذا لا أراه إلا آخر يوم يأتي علي من الدنيا، وأول ليلة من ليالي الآخرة، وإني لا أدري لعله قد فرط مني إليكم بيدي أو بلساني شئ، وهو - والذي نفس عبادة بيده - القصاص يوم القيامة، فأحرج (5) على أحد منكم في نفسه مني شئ من ذلك، إلا اقتص مني قبل أن تخرج نفسي. قال: فقالوا: بل كنت لنا والدا وكنت مؤدبا، وما قال لخادم سوءا قط، قال: أعفرتم لي ما كان من ذلك ؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد، ثم قال: أما فاحفظوا وصيتي: أحرج على إنسان منكم يبكي، فإذا خرجت نفسي فتوضؤا وأحسنوا الوضوء، ثم ليدخل إنسان منكم مسجدا فيصلي، ثم يستغفر لعبادة ولنفسه، فإن الله عز وجل قال: (واستعينوا بالصبر والصلاة) (6) ثم أسرعوا بي إلى حفرتي ولا تتبعوني بنار،


(1) طه 20: 132. (2) الدر المنثور 4: 313. (3) البقرة 2: 45. (4) الدر المنثور 1: 68. (5) أي اقسم. (6) البقرة 2: 45.

[ 57 ]

ولا تضعوا تحتي أرجوانا (1) (2). وعن جابر، عن الباقر عليه السلام، قال: (أشد الجزع الصراخ بالويل والعويل، ولطم الوجه والصدر، وجز الشعر، ومن أقام النواح (3) فقد ترك الصبر، ومن صبر واسترجع وحمد الله - تعالى - فقد رضي بما صنع الله، ووقع أجره على الله - عز وجل -، ومن لم يفعل ذلك جرى عليه القضاء وهو ذميم، وأحبط الله - عز وجل - أجره) (4). وعن ربعي بن عبد الله، عن الصادق، قال: (إن الصبر والبلاء يستبقان إلى المؤمن، يأتيه البلاء وهو صبور، وإن الجزع والبلاء يستبقان إلى الكافر، فيأتيه البلاء وهو جزوع) (5). وعنه عليه السلام قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ضرب المسلم يده على فخذه عند المصيبة إحباط لأجره) (6). وعن موسى بن بكر، عن الكاظم عليه السلام، قال: (ضرب الرجل على فخذه عند المصيبة، احباط أجره) (7). وعن إسحاق بن عمار، عن الصادق عليه السلام: (يا إسحاق، لا تعدن مصيبة أعطيت عليها الصبر، واستوجبت عليها من الله عز وجل الثواب، إنما المصيبة التي يحرم صاحبها أجرها وثوابها، إذا لم يصبر عند نزولها) (8). وعن أبي ميسرة قال: كنا عند أبي عبد الله عليه السلام، فجاءه رجل وشكا إليه مصيبة، فقال: (أما إنك إن تصبر تؤجر، وإن لم تصبر يمضي عليك قدر الله عز وجل الذي قدر عليك وأنت مذموم) (9).


(1) الأرجوان: سبغ أحمر شديد الحمرة. يعني قماشا مصبوغا بهذا اللون. انظر (الصحاح - رجا - 6: 2352). (2) أخرجه المجلسي في البحار 82: 141. (3) النواح: النساء يجتمعن للنياحة بالبكاء وما يتبعه (لسان العرب - نوح (- 22 - 627). (4) الكافي 3: 222 / 1. (5) الكافي 3: 223 / 3. (6) الكافي 3: 224 / 4. (7) الكافي 3: 225 / 9. (8) الكافي 3: 224 / 7. (9) الكافي 3: 225 / 10 باختلاف يسير، وفيه عن فضيل بن ميسر.

[ 58 ]

فصل قال الصادق عليه السلام: (البلاء زين المؤمن، وكرامة لمن عقل، لأن في مباشرته، والصبر عليه والثبات عنده تصحيح نسبة الإيمان) (1). قال النبي صلى الله عليه وآله: (نحن - معاشر الأنبياء - أشد بلاء، والمؤمن الأمثل فالأمثل، ومن ذاق طعم البلاء تحت ستر حفظ الله له، تلذذ به أكثر من تلذذه بالنعمة، ويشتاق إليه إذا فقده، لأن تحت نيران البلاء والمحنة أنوار النعمة، وتحت أنوار النعمة نيران البلاء والمحنة، وقد ينجو منه كثير، ويهلك في النعمة كثير، وما أثنى الله تعالى على عبد من عباده، من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وآله إلا بعد ابتلائه ووفاء حق العبودية فيه، فكرامات الله - تعالى - في الحقيقة نهايات، بداياتها البلاء، وبدايات نهاياتها البلاء، ومن خرج من شبكة البلوى جعل سراج المؤمنين، ومؤنس المقربين، ودليل القاصدين، ولا خير في عبد شكا من محنة تقدمها ألف نعمة، واتبعها ألف راحة، ومن لا يقضي حق الصبر على البلاء، حرم قضاء [ حق ] (2) الشكر في النعماء، كذلك من لا يؤدي حق الشكر في النعماء، يحرم عن قضاء [ حق ] (3) الصبر في البلاء، ومن حرمهما فهو من المطرودين) (4). وقال أيوب عليه السلام في دعائه: (اللهم قد أتى علي سبعون في الرخاء، فأمهلني حتى يأتي علي سبعون في البلاء) (5). وقال وهب: البلاء للمؤمن، كالشكال للدابة، والعقال للإبل (6). وقال أمير المؤمنين عليه السلام: (الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، ورأس الصبر البلاء وما يعقلها إلا العالمون) (7). هذا الفصل كله من كلام الصادق عليه السلام.


(1) مصباح الشريعة: 486. (2 و 3) أثبتناه ليستقيم السياق. (4) مصباح الشريعة: 487. (5) مصباح الشريعة: 489. (6) مصباح الشريعة: 497. (7) مصباح الشريعة: 497.

[ 59 ]

فصل وقال الصادق عليه السلام: (الصبر يظهر ما في بواطن العباد من النور والصفاء، والجزع يظهر ما في بواطنهم من الظلمة والوحشة، والصبر يدعيه كل أحد، ولا يبين عنده إلا المخبتون، والجزع ينكره كل أحد، وهو أبين على المنافقين، لأن نزول المحنة والمصيبة، يخبر عن الصادق والكاذب. وتفسير الصبر ما يستمر مذاقه، وما كان عن اضطراب لا يسمى صبرا، وتفسير الجزع اضطراب القلب، وتحزن الشخص، وتغير اللون، وتغير الحال، وكل نازلة خلت أوائلها عن الإخبات والإنابة والتضرع إلى الله تعالى، فصاحبها جزوع غير صابر، (والصبر ما أوله مر، وآخره حلو لقوم، ولقوم مر أوله وآخره، فمن دخله من أواخره فقد دخل) (1) ومن دخله من أوائله فقد خرج، ومن عرف قدر الصبر لا يصبر عما منه الصبر (2). قال الله عز وجل في قصة موسى والخضر عليهما السلام: (وكيف تصبر على ما لم تحبط به خبرا) (3) فمن صبر كرها ولم يشك إلى الخلق، ولم يجزع بهتك ستره، فهو من العام، ونصيبه ما قال الله عز وجل: (وبشر الصابرين) (4) أي: بالجنة والمغفرة، ومن استقبل البلاء بالرحب، وصبر على سكينة، ووقار، فهو من الخاص، ونصيبه ما قال الله عز وجل: (ان الله مع البصابرين) (5)) (6).


(1) العبارة مضطربة في (ش) و (ح) وما أثبتناه من مصباح الشريعة. (2) مصباح الشريعة: 498. (3) الكهف: 18: 68. (4) البقرة 2: 155. (5) البقرة 2: 153. (6) مصباح الشريعة: 501.

[ 60 ]

فصل في نبذ من أحوال السلف عند موت أبنائهم وأحبائهم كانت العرب في الجاهلية - وهم لا يرجون ثوابا، ولا يخشون عقابا - يتاظون (1) على الصبر، ويعرفون فضله، ويعيرون بالجزع أهله إيثارا للحزم، وتزينا بالحلم، وطلبا للمروة، وفرارا من الاستكانة إلى حسن العزاء، حتى كان الرجل منهم ليفتقد حميمه فلا يعرف ذاك منه، فلما جاء الاسلام وانتشر، وعلم ثواب الصبر واشتهر، تزايدت في ذلك لهم الرغبة، وارتفعت للمبتلين الرتبة. قال أبو الأحوص: دخلنا على ابن مسعود وعنده بنون له ثلاثة غلمان كأنهم الدنانير حسنا، فجعلنا نتعجب من حسنهم، فقال: كأنهم تغبطوني بهم ؟ قلنا: إي والله، بمثل هؤلاء يقبط المرء المسلم فرفع رأسه ألى سقف بيت قصير، قد عشش فيه الخطاف وباض، فقال: والذي نفسي بيده لئن أكون نفضت يدي من تراب قبورهم، أحب إلي من أن يسقط عش هذا الخطاف، وينكسر بيضه، يعني: حرصا على الثواب. وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقرئ الناس القرآن في المسجد جاثيا على ركبتيه، إذا جاءت ام ولده بابن له، يقال له: محمد فقامت على باب المسجد، ثم أشارت له إلى أبيه، فأقبل، فأفرج له القوم حتى جلس في حجره، ثم جعل يقول: مرحبا بسمي من هو خير منه، ويقبله حتى كاد يزدرد ريقه. ثم قال: والله لموتك وموت إخوتك أهون علي من عدتكم من هذا الذباب (2)، فقيل: لم تتمنى هذا ؟ فقال: اللهم غفرا إنكم تسألوني، ولا أستطيع إلا أن اخبركم، اريد بذلك الخير، أما أنا فاحرز اجورهم، وأتخوف عليهم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (يأتي عليكم زمان يغبط الرجل بخفة الحال، كما يغبط اليوم بكثرة المال والولد). وكان أبو ذر رضي الله عنه لا يعيش له ولد، فقيل له: إنك امرؤ لا يبقى لك ولد، فقال الحمد لله الذي يأخذ من دار الفناء، ويدخرهم في دار البقاء (3).


(1) في (ح) يحافضون. (2) في (ش): الذبان. (3) رواه المتقي الهندي في منتخب كنز العمال 1: 212، وأخرجه المجلسي في البحار 82: 142.

[ 61 ]

ومات لعبد الله بن عامر المازني رضي الله عنه، في الطاعون الجارف، سبعة بنين في يوم واحد، فقال: إني مسلم مسلم. وعن عبد الرحمان بن عثمان قال: دخلنا على معاذ وهو قاعد عند رأس ابن له، وهو يجود بنفسه، فما ملكنا أنفسنا أنذرفت أعيننا، وانتحب بعضنا، فزجره معاذ، وقال: مه، فو الله ليعلم الله برضاي، لهذا أحب إلي من كل غزوة غزوتها مع رسول الله صلى الله عليه وآله، فإني سمعته يقول: (من كان له ابن وكان عليه عزيزا، وبه ضنينا، ومات فصبر على مصيبته واحتسبه، أبدل الله الميت دارا خيرا من داره، وقرارا خيرا من قراره، وأبدل المصاب الصلاة والرحمة والمغفرة والرضوان). فما برحنا حتى قضى - والله - الغلام حين أخذ المنادي لصلاة الظهر، فرحنا نريد الصلاة، فما جئنا إلا وقد غسله وحنطه وكفنه. وجاء رجل بسريره غير منتظر لشهود الإخوان، ولا لجمع الجيران، فلما بلغنا ذلك تلاحقنا، وقلنا: يغفر الله لك يا أبا عبد الرحمن، هلا انتظرتنا حتى نفرغ من صلاتنا، ونشهد ابن أخينا. فقال: أمرنا أن لا ننتظر موتانا ساعة ماتوا بليل أو نهار، قال: فنزل في القبر، ونزل معه آخر، فلما أراد الخروج ناولته يدي لأنتهضه (1) من القبر، فأبى وقال: ما أدع ذلك لفضل قوتي، ولكن أكره أن يرى الجاحل أن ذلك مني جزع، أو استرخاء عند المصيبة، ثم أتى مجلسه، ودعا بدهن فأدهن، وبكحل فاكتحل، وببردة فلبسها، وأكثر في يومه ذلك من التبسم، ينوي به ما ينوي، ثم قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، في الله خلف عن كل هالك، وعزاء من كل مصيبة، ودرك لكل ما فات. وروي: إن قوما كانوا عند علي بن الحسين عليهما السلام، فاستعجل خادما بشواء في التنور، فأقبل به مسرعا، فسقط السفود (2) من يده على ولد علي بن الحسين عليه السلام، فأصاب رأسه فقتله، فوثب علي بن الحسين عليهما السلام، فلما رأى ابنه ميتا، قال للغلام: (أنت حر لوجه الله تعالى، أما إنك لم تتعمده) ثم أخذ في جهاز ابنه (3).


(1) في (ش): لأنتشطه. (2) السفود: بفتح السين وضمها، حديدة ذات شعب معقفة يشوى بها اللحم. (لسان العرب - سفد - 3: 218). (3) كشف الغمة 2: 81 باختلاف يسير، والبحار 82: 142. (*)

[ 62 ]

وعن الأحنف بن قيس قال: تعلموا الحلم والصبر، فإني تعلمته، فقيل له: ممن ؟ قال: من قيس بن عاصم، قيل: وما بلغ من حلمه ؟ قال: كنا قعودا عنده، إذ أتي بابنه مقتولا، وبقاتله مكبولا، فما حل حبوته (1)، ولا قطع حديثه حتى فرغ. ثم التفت إلى قاتل ابنه فقال: يا ابن أخي، ما حملك على ما فعلت ؟ قال: غضبت، قال: أو كلما غضبت أهنت نفسك، وعصيت ربك، وأقللت عددك ؟ إذهب فقد اعتقتك. ثم التفت إلى بنيه فقال: يا بني، اعمدوا (2) إلى أخيكم فغسلوه وكفنوه، فإذا فرغتم منه فأتوني به لأصلي عليه، فلما دفنوه قال لهم: إن امه ليست منكم، وهي من قوم آخرين، فلا أراها ترضى بما صنعتم، فأعطوها ديته من مالي (3). وروى الصدوق في (الفقيه) انه لما مات ذر بن أبي ذر - رحمه الله - وقف [ أبو ذر ] (4) على قبره فمسح القبر بيده، ثم قال: رحمك الله يا ذر، والله انك كنت بي لبر، ولقد قبضت وإني عنك لراض، والله ما بي فقدك وما علي من غضاضة، ومالي إلى أحد سوى الله من حاجة، ولولا هول المطلع لسرني أن أكون مكانك، ولقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك، والله ما بكيت لك، ولكن بكيت عليك، فليت شعري ما قلت، وما قيل لك ؟ اللهم إني قد وهبته ما افترضت عليه من حقي، فهب له ما افترضت عليه من حقك، فأنت أحق بالجود والكرم مني (5). وأسند الدينوري أن ذر بن عمر بن ذر لما مات وقف أبوه على قبره، وقال: رحمك الله يا ذر، ما علينا بعدك من خصاصة، وما بنا إلى أحد مع الله حاجة، وما يسرني أني كنت المقدم قبلك، ولولا هول المطلع لتمنيت أن أكون مكانك، وقد شغلني الحزن لك عن الجزن عليك، فليت شعري ما ذا قلت، وماذا قيل لك، ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: اللهم إني قد وهبت له حقي لفيما بيني وبينه، فاغفر له من الذنوب ما بينك وبينه، فأنت أجود الأجودين وأكرم الاكرمين، ثم انصرف وقال: فارقناك، ولو أقمنا


(1) الحبوة من الاحتباء: وهو أن يضم الإنسان رجليه إلى بطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره، ويشد عليها. وقد يكون الإحتباء باليدين عوض الثوب. (النهاية 1: 335). (2) في هامش (ح): اقصدوا. (3) أخرج نحوه ابن عبد ربه في العقد الفريد 2: 136. (4) أثبتناه من الفقيه. (5) الفقيه 1: 117 / 558، الكافي 3: 250 / 4، والبحار 82: 142.

[ 63 ]

ما نفعناك (1). وروي المبرد قال: لما هلك ذر بن عمر وقف عليه أبوه وهو مسجى، وقال: يا بني، ما علينا من موتك غضاضة، وما بنا إلى ما سوي الله من حاجة، فلما دفن قام على قبره، وقال: يا ذر، غفر الله لك، قد شغلنا عن الحزن لك عن الحزن عليك، لأنا لا ندري ما قلت، ولا ما قيل لك. اللهم إني قد وهبت له ما قصر فيه مما افترضت عليه من حقي، فهب له ما قصر فيه من حقك، واجعل ثوابي عليه له، وزدني من فضلك، إني إليك من الراغبين. فسئل عنه، فقيل: كيف كان معك ؟ فقال: ما مشيت معه بليل قط إلا كان أمامي، ولابنهار قط إلا كان خلفي، وما علا سطحا قط وأنا تحته (2). وقدم على بعض الخلفاء قوم من بني عبس، فيهم رجل ضرير، فسأله عن عينيه، فقال: بت ليلة في بطن واد، ولم أعلم عبسيا يزيد ماله على مالي، فطرقنا سيل، فذهب بما كان لي من أهل ومال وولد، غير بعير وصبي مولود، وكان (بعيرا صعبا فنفر) (3)، فوضعت الصبي واتبعت البعير، فلم أجاوز إلا قليلا حتى سمعت صيحة ابني، فرجعت إليه ورأس الذئب في بطنه وهو يأكله، ولحقت البعير لأحبسه فبعجني (4) برجله على وجهي فحطمه، وذهب بعيني فأصبحت لامال لي، ولا أهل، ولا ولد، ولا بصر. روي: عن عياض بن غقبة الفهري مات له ابن، فلما نزل في قبره قال له رجل: والله انه كان لسيد الجيش فاحتسبه، فقال: وما يمنعني، وقد كان بالأمس زينة الحياة الدنيا، وهو اليوم من الباقيات الصالحات ! ؟ وقال أبو علي الرازي صحبت الفضيل بن عياض ثلاثين، سنة ما رأيته ضاحكا ولا مبتسما قط إلا يوم مات ابنه علي، فقلت له في ذلك، فقال: إن الله سبحانه وتعالى أحب أمرا، فأحببت ما أحب الله عز وجل. واصيب عمرو بن (5) كعب الهندي بتستر (6)، فكتموا أباه الخبر، ثم بلغه فلم يجزع، وقال: الحمد لله الذي جعل من صلبي من اصيب شهيدا. ثم استشهد له ابن آخر


(1) عيون الأخبار 2: 313. (2) أخرج قطعة منه المبرد في الكامل 1: 140. (3) في (ش): البعير صعبا فند. (4) البعج: الشق (لسان العرب 2: 214). (5) في (ح): عمرو. (6) تستر: من مدن خوزستان، وهو تعريب شوشتر. انظر (معجم البلدان 2: 29).

[ 64 ]

بجرجان (1)، فلما بلغه الخبر قال: الحمد لله الذي توفى مني شهيدا آخر. وروي البيهقي: أن عبد الله بن مطرف مات، فخرج أبوه مطرف على قومه في ثياب حسنة وقد ادهن، فغضبوا وقالوا: يوت عبد الله وتخرج في ثياب حسنة مدهنا ؟ ! قال: أفأستكين لها، وقد وعدني ربي تبارك وتعالى عليها ثلاث خصال، هي أحب إلي من الدنيا وما فيها، قال الله تعالى: (الذين إذا اصابتهم مصيبة قالوا انا لله وانا إليه راجعون اولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة واولئك هم المهتدون) (2). ودعا رجل من قريش إخوانا له، فجمعهم على طعام، فضربت ابنا له دابة لبعضهم فمات، فأخفى ذلك عن القوم، وقال لأهله: لا أعلمن صاحت منكم صائحة، أو بكت منكم باكية، وأقبل على إخوانه حتى فرغوا من طعامه، ثم أخذ في جهاز الصبي، فلم يفجأهم إلا بسريره، فارتاعوا وسألوه عن أمره فأخبرهم، فعجبوا من صبره وكرمه. وذكر: أن رجلا من اليمامة دفن ثلاثة رجال من ولده، ثم احتبى في نادي قومه يتحدث كأن لم يفقد أحدا، فقيل له في ذلك، فقال: ليسوا في الموت ببديع، ولا أنا في المصيبة بأوحد، ولا جدوى للجزع، فعلام تلومونني ؟ وأسند أبو العباس عن مسروغ عن الأوزاعي، قال: حدثنا بعض الحكماء، قال: خرجت وأنا اريد الرباط (3) حتى إذا كنت بعريش (4) مصر إذا أنا بمظلة، وفيها رجل قد ذهبت عيناه، واسترسلتا يداه ورجلاه، وهو يقول: لك الحمد سيدي ومولاي، اللهم إني أحمدك حمدا يوافي محامد خلقك، كفضلك على سائر خلقك، إذ فضلتني على كثير ممن خلقت تفضيلا. فقلت: والله لأسألنه، أعلمه أو ألهمه إلهاما ؟ فدنوت منه، وسلمت عليه، فرد علي السلام، فقلت له: رحمك الله، إني أسألك عن شئ، أتخبرني به أم لا ؟ فقال: إن كان عندي منه علم أخبرتك به، فقلت: رحمك الله، على أي فضيلة من فضائله


(1) جرجان: مدينة مشهورة بين طبرستان وخراسان، فبعض يعدها من هذه، وبعض يعدها من هذه (معجم البلدان 2: 119). (2) البقرة 2: 156 و 157. (3) الرباط: ملازمة ثغور البلاد استعدادا للعدو. (القاموس المحيط - ربط - 2: 360). (4) العريش: مدينة بمصر على ساحل البحر الأبيض المتوسط، في حدود مصر على الشام) معجم البلدان 4: 113).

[ 65 ]

تشكره ؟ فقال: أو ليس ترى ما قد صنع بي ؟ قلت: بلى، فقال: والله لو أن الله تبارك وتعالى صب علي نارا تحرقني، وأمر الجبال قد مرتني، وأمر البحار فغرقتني، وأمر الأرض فخسفت بي، ما ازددت فيه - سبحانه - إلا حبا، ولا ازددت له إلا شكرا، وإن لي إليك حاجة، أفتقضيها لي ؟ قلت: نعم، قل ما تشاء، فقال: بني لي كان يتعاهدني أوقات صلاتي، ويطعمني عند إفطاري، وقد فقدته منذ أمس، فانظر تجده لي ؟ قال: فقلت في نفسي، إن في قضاء حاجته لقربة إلى الله عز وجل، فقمت وخرجت في طلبه، حتى إذا صرت بين كثبان الرمال، إذا أنا بسبع قد افترس الغلام فأكله (1)، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، كيف آتي هذا العبد الصالح بخبر ابنه ؟ قال: فأتيته، وسلمت عليه، فرد علي السلام فقلت: رحمك الله، إن سألتك عن شئ تخبرني ؟ فقال: إن كان عندي منه علم أخبرتك به، قال: فقلت: أنت أكرم على الله عز وجل وأقرب منزلة، أو نبي الله أيوب عليه السلام ؟ فقال: بل (نبي الله) (2) أكرم على الله تعالى مني، وأعظم عند الله تعالى منزلة مني، قال: فقلت له: إنه ابتلاه الله تعالى فصبر، حتى استوحش منه من كان يأنس به، وكان عرضا لمرار الطريق (3)، واعلم أن ابنك الذي أخبرتني به، وسألتني أن اطلبه لك افترسه السبع، فأعظم الله أجرك فيه. فقال: الحمد لله الذي لم يجعل في قلبي حسرة من الدنيا، ثم شهق شهقة وسقط على وجهه، فجلست ساعة ثم حركته فإذا هو ميت، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، كيف أعمل في أمره ؟ ومن يعينني على تغسيله وكفنه وحفر قبره ودفنه ؟ فبينما أنا كذلك إذ أنا بركب (4) يريدون الرباط، فأشرت إليهم فأقبلوا نحوي حتى وقفوا علي، وقالوا: من أنت ؟ ومن هذا ؟ فأخبرتهم بقصتي، فعقلوا رواحلهم، وأعانوني حتى غسلناه بما البحر، وكفناه بأثواب كانت معهم، وتقدم فصليت عليه مع الجماعة، ودفناه في مظلته.


(1) في (ش): يأكله. (2) في نسخة (ش): أيوب. (3) عرضا لمرار الطريق: لغل المراد منه انه كان معروضا على الطريق يمر به الناس، لا بيت له يكنه. انظر (الصحاح - عرض - 3: 1082). (4) في (ح): بقفل، والقفل: الجند إذا رجعوا من معسكرهم، انظر (الصحاح - قفل - 5: 1803).

[ 66 ]

وجلست عند قبره آنسا به أقرأ القرآن إلى أن مضى من الليل ساعة (1)، فغفوت غفوة فرأيت صاحبي في أحسن صورة وأجمل زي، في روضة خضراء عليه ثياب خضر قائما يتلو القرآن، فقلت له: ألست بصاحبي ؟ قال: بلى، قلت: فما الذي صيرك إلى ما أرى ؟ فقال: إعلم أني وردت مع الصابرين على الله عز وجل في درجة لم ينالوها إلا بالصبر على البلاء، والشكر عند الرخاء، فانتبهت (2). وحكى الشعبي قال: رأيت رجلا وقد دفن ابنه، فلما حثا عليه التراب وقف على قبره، وقال: يا بني، كنت هبة ماجد، وعطية واحد (3)، ووديعة مقتدر، وعارية منتصر، فاسترجعك واهبك، وقبضك مالكك، وأخذك معطيك، فأخلفني الله عليك اصبر، ولا حرمني الله بك الأجر، ثم قال: أنت في حل من قلبي، والله أولى عليك بالتفضل مني. ولما مات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، وأخوه سهل بن عبد العزيز، ومولاه مزاحم - في أيام متتابعة - دخل عليه بعض أصحابه يعزيه، وقال في جملة كلامه: والله ما رأيت مثل ابنك ابنا، ولا مثل أخيك أخا، ولا مثل مولاك مولى، فطأطأ رأسه، ثم قال: أعد علي ما قلت، فأعاده عليه، فقال: لا والذي قضى عليهم، ما أحب أن شيئا كان من ذلك لم يكن. وقيل: بينما عمر بن عبد العزيز ذات يوم جالس إذ أتاه ابنه عبد الملك، فقال: الله الله في مضالم لني أبيك فلان وفلان، فو الله لوددت أن القدور قد غلت بي وبك فيما يرضي الله، وانطلق فأتبعه أبوه بصره، وقال: إني لأعرف خير أحواله، قالوا، قالوا: وما خير أحواله ؟ قال: أن يموت فأحتسبه. ولما دخل عليه أبوه في مرضه فقال له: كيف تجدك ؟ قال: اجدني في الموت، فاحتسبني يا أبه، فإن ثواب الله عز وجل خير لك مني، فقال: والله يا بني، لئن تكون ما في ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك، فقال ابنه: لئن يكون ما تحب أحب إلي من أن يكون ما أحب. فلما مات وقف على قبره، وقال: رحمك الله يا بني، لقد كنت سارا مولود، وبارا ناشئا، وما احب أني دعوتك فأجبتني.


(1) في نسخة (ش): ساعات. (2) أخرجه المجلسي في البحار 82: 149. (3) كذا، والمناسب للسياق، واجد بالجيم، والواجد: الغني، (الصحاح - وجد - 2: 547).

[ 67 ]

ومات له ابن آخر قبل عبد الملك، فجاء فقعد عند رأسه، وكشف الثوب عن وجهه، وجعل ينظر إليه ويستدمع، فجاء ابنه عبد الملك، فقال: يا أبه ليشغلك ما أقبل من الموت عمن هو في شغل عما حل لديك، فكأن قد لحقت بابنك وساويته تحت التراب بوجهك، فبكى عمر، ثم قال: رحمك الله يا بني، فو الله إنك لعظيم البركة ما علمتك، على أنك نافع الموعظة لمن وعظت.

[ 68 ]

فصل في ذكر جماعة من النساء نقل العلماء صبرهن روي عن أنس بن مالك، قال: كان ابن لأبي طلحة رضي الله عنه يشتكي، فخرج أبو طلحة فقبض الصبي، فلما رجع أبو طلحة قال: ما فعل ابني ؟ فقالت ام سليم، وهي ام الصبي رضي الله عنها: هو أسكن ما كان فقربت له العشاء فتعشى، ثم اصاب منها، فلما فرغ قالت: فارق الصبي، فلما أصبح أبو طلحة أتى رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبره، فقال: (أعرستم الليلة ؟) فقال: نعم، فقال: (اللهم بارك لهما) فولدت غلاما. قالت: فقلت لأبي طلحة: احمله حتى تأتي رسول الله صلى الله عليه وآله، وبعثت معه بتمرات، فقال: (أمعه شئ ؟) قال: تمرات، فخذها النبي صلى الله عليه وآله فمضغها، ثم أخذها صلى الله عليه وآله من فيه فجعلها في في الصبي، ثم حنكه، وسماه عبد الله (1). قال رجل من الأنصار: فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرؤا القرآن، يعني من أولاد عبد الله المولود (2). وفي رواية اخرى: مات ابن لأبي طلحة من أم سليم: فقالت لأهلها: لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه، قال: فجاء، فقربت إليه عشاء، فأكل وشرب، ثم تصنعت له أكثر مما كانت تتصنع له من قبل ذلك، فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها، قالت: يا أبا طلحة، أرأيت قوما أعاروا عارية أهل بيت فطلبوا عاريتهم ؟ ألهم أن يمنعوهم ؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك، قال: فغضب، ثم قال: تركتني حتى إذا تلطخت ثم أخبرتني بابني (3). وفي حديث آخر: لما كان آخر الليل قالت: يا أبا طلحة، إن آل فلان استعاروا عارية تمتعوا بها، فلما طلبت منهم شق عليهم ذلك، قال: ما أنصفوا، قالت: يا أبا طلحة، إن آل فلان استعاروا عارية تمتعوا بها، فلما طلبت منهم شق عليهم ذلك: قال: ما أنصفوا، قالت:


(1) رواه البخاري في صحيحه 7: 109، ومسلم في صحيحه 3: 1689 باختلاف يسير ورواه باختلاف في ألفاظه محمد بن علي العلوي في التعازي: 25 / 52. (2) صحيح البخاري 2: 104. (3) صحيح مسلم 4: 1909.

[ 69 ]

فإن فلانا - لابنها - كان عارية من الله عز وجل، وقبضه الله، فاسترجع، ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبره بما كان، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله (بارك الله لكما في ليلتكما). قال: فحملت وذكر الحديث، وفيه، فولدت غلاما، فمسح رسول الله صلى الله عليه وآله وجهه، وسماه عبد الله. والحديث في (عيون المجالس) بزيادة غريبة في آخره، ولفظ: عن معاوية ابن قرة، قال: كان أبو طلحة يحب ابنه حبا شديدا، فمرض فخافت ام سليم على أبي طلحة الجزع حين قرب موت الولد، فبعثته إلى النبي صلى الله عليه وآله، فلما خرج أبو طلحة من داره توفي الولد، فسجته ام سليم بثوب، وعزلته في ناحية من البيت، ثم تقدمت إلى أهل بيتها، وقالت لهم: لا تخبروا أبا طلحة بشئ. ثم إنها صنعت طعاما، ثم مست شيئا من الطيب: فجاء أبو طلحة من عند رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: ما فعل ابني ؟ فقالت له: هدأت نفسه، ثم قال: هل لنا ما نأكل ؟ فقامت فقربت إليه الطعام، ثم تعرضت له فوقع عليها، فلما اطمأن قالت له: يا أبا طلحة أتغضب من وديعة كانت عندنا، فرددناها إلى أهلها ؟ فقال: سبحان الله، لا، فقالت: ابنك كان عندنا وديعة فقبضه الله تعالى، فقال أبو طلحة: فأنا أحق بالصبر منك. ثم قام من مكانه، فاغتسل، وصلى ركعتين، ثم انطلق إلى النبي صلى الله عليه وآله، فأخبره: بصنيعهما، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: (فبارك الله لكما في وقعتكما، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: الحمد لله الذي جعل في امتي مثل صابرة بني إسرائيل) فقيل: يا رسول الله، ما كان من خبرها ؟ قال: (كانت في بني إسرائيل امرأة، وكان لها زوج، ولها منه غلامان، فأمرها بطعام ليدعو عليه الناس ففعلت، واجتمع الناس في داره، فانطلق الغلامان يالعبان، فوقعا في بئركان في الدار، فكرهت أن تنغص على زوجها الضيافة، فأدخلتهما البيت، وسجتهما بثوب، فلما فرغوا دخل زوجها، فقال: أين ابناي ؟ قالت: هما في البيت، وإنها كانت قد تمسحت بشئ من الطيب، وتعرضت للرجل حتى وقع عليها، ثم قال: أين ابناي ؟ قالت: هما في البيت، فناداهما أبو هما، فخرجا يسعيان، فقالت المرأة:

[ 70 ]

سبحان الله ! والله لقد كانا ميتين، ولكن الله تعالى أحياهما ثوابا لصبري) (1). وقريب من هذا ما رويناه في (دلائل النبوة) عن أنس بن مالك، قال: دخلنا على رجل من الأنصار وهو مريض، فلم نبرح حتى قضى، فبسطنا عليه ثوبا، وام له عجوز كبيرة عند رأسه، فقلنا لها: يا هذه، احتسبي مصيبتك على الله عز وجل، فقالت: مات ابني ؟ قلنا: نعم، قالت: حقا تقولون ؟ قلنا: نعم، قال: فمدت يدها، وقالت: اللهم إنك تعلم أني أسلمت لك، وهاجرت إلى رسولك صلى الله عليه وآله وسلم رجاء أن تعينني عند كل شدة ورخاء، فلا تحمل علي هذه المصيبة اليوم، فكشف الثوب عن وجهه بيده، ثم ما برحنا حتى طعمنا معه (2). وهذا الدعاء من المرأة رحمها الله إدلال على الله، واستئناس به يقع منه للمحبين كثيرا، فيقبل دعاءهم، وإن كان في التذكير بنحو ذلك ما يظهر منه قلة الأدب. لو وقع من غيرهم، ولذلك بحث طويل وشواهد من الكتاب والسنة، يخرج ذكره عن مناسبة المقام. ومن لطيف ما اتفق فيه مناجاة برخ الأسود الذي أمر الله تعالى كليمه موسى عليه السلام أن يسأله أن يسأله ليستسقي لبني إسرائيل بعد أن قحطوا سبع سنين، وخرج موسى ليستسقي لهم في سبعين ألفا، فأوحوى الله إليه: (كيف أستجيب لهم وقد أظلت عليهم ذنوبهم، وسرائرهم خبيثة، يدعونني على غير يقين، ويأمنون مكري ! إرجع إلى عبد من عبادي، يقال له: برخ، يخرج حتى استجيب له). فسأل عنه موسى عليه السلام فلم يعرف، فبينا موسى عليه السلام ذات يوم يمشي في طريق، فإذا بعبد أسود بين عينيه تراب من أثر السجود، في شملة قد عقدها على عنقه، فعرفه موسى بنور الله تعالى فسلم عليه، فقال: ما اسمك ؟ قال: إسمي برخ، فقال: أنت طلبتنا منذ حين، أخرج استسق لنا، فخرج، فقال في كلامه: اللهم ما هذا من فعالك، وما هذا من حلمك، وما الذي بدالك ! أنقصت عليك عيونك، أم عاندت الرياح عن طاعتك، أم نفد ما عندك ! أم اشتد غضبك، على المذنبين ألست كنت غفارا قبل خلق الخاطئين ؟ ! خلقت الرحمة، وأمرت بالعطف، أم ترينا أنك ممتنع، أم


(1) أخرجه المجلسي في بحار الأنوار 82: 150. (2) دلائل النبوة 6: 50 باختلاف في الفاظه، وأخرجه المجلسي في البحار 82: 151.

[ 71 ]

تخشى الفوت فتعجل بالعقوبة ؟ ! فما برح برخ حتى (أفاضت وخاضت) (1) بنو إسرائيل باقطر. قال: فلما رجع برخ استقبل موسى عليه السلام، فقال: كيف رأيت حين خاصمت ربي، كيف أنصفني ؟ (2) رجعنا إلى أخبار الصابرات: وروي: أن أسماء بنت عميس رضي الله عنها لما جاءها خبر ولدها - محمد بن أبي بكر - أنه قتل وأحرق بالنار في جيفة حمار، قامت إلى مسجدها، فجلست فيه، وكظمت الغيظ حتى تشخب ثديها دما (3). وروي عن حمنة (4) بنت جحش رضي الله عنها: أنها قيل لها: قتل أخوك، قالت: رحمه الله، وإنا لله وإنا إليه راجعون، قالوا: وقتل زوجك، قالت: واحزناه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (إن للزوج من المرأة لشعبة ماهي لشئ) (5). وروي: أن صفية بنت عبد المطلب أقبلت لتنظر إلى أخيها لأبويها - حمزة بن عبد المطلب - باحد، وقد مثل به، فقال النبي صلى الله عليه وآله لابنها الزبير: (إلقها فأرجعها لا ترى ما بأخيها) فقال لها: يا أماه، إن رسول الله صلى الله عليه وآله يأمرك أن ترجعي، قالت: ولم، وقد بلغني أنه قد مثل بأخي ؟ وذلك في الله عز وجل، فما أرضانا بما كان من ذلك ! فلأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله. فلما جاء الزبير إلى النبي صلى الله عليه وآله فأخبره بقولها، فقال له: (خل سبيلها) فأتته، ونظرت إليه، وصلت عليه، واسترجعت، واستغفرت له (6). وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما قتل حمزة رضي الله عنه يوم احد، أقبلت صفيه تطلبه، لا تدري ما صنع به، قال: فلقيت عليا والزبير، فقال علي عليه السلام للزبير: (أذكر لامك) فقال الزبير: لا، بل اذكر أنت لعمتك، قالت: ما فعل حمزة ؟ فأرياها أنهما لا يدريان، قال: فجاءت النبي صلى الله عليه وآله فقال: (إني أخاف


(1) في (د): اخضلت. (2) أخرجه الفيض الكاشاني في المحجة البيضاء 8: 81. (3) روي القصة مفصلة الدميري في حياة الحيوان الكبرى 1: 247. (4) في (ح): جهينة، والصواب ما أثبتناه من (د)، راجع (اسد الغابة 5: 428). (5) سنن ابن ماجة 1: 507، المستدرك على الصحيحين 4: 62. (6) السيرة النبوية لابن هشام 3: 103.

[ 72 ]

على عقلها) قال: فوضع يده عليه صدرها، ودعا لها، فاسترجعت، وبكت، قال: ثم جاء صلى الله عليه وآله فقام عليه، وقد مثل به، فقال: (لولا جزع النساء لتركته حتى يحشر من حواصل الطيور وبطون السباع) (1). واستشهد شاب من الأنصار يقال له: خلاد يوم بني قريظة، فجاءت أمه متنقبة فقيل لها: تتنقبين يا ام خلاد وقد رزئت بخلاد ! فقالت: لئن كنت رزئت خلادا، فلم ارزأ حيائي (2)، فدعا له النبي صلى الله عليه وآله، وقال: (ان له أجرين، لأن أهل الكتاب قتلوه) (3). وعن أنس بن مالك قال: لما كان يوم احد حاص اهل المدينة حيصة، فقالوا: قتل محمد صلى الله عليه وآله، حتى كثرت الصوارخ في نواحي المدينة، فخرجت امرأة من الأنصار متحزنة، فاستقبلت بأبيها وابنها وزوجها وأخيها، لا أدري أيهم استقبلت أولا، فلما مرت على آخرهم قالت: من هذا ؟ قالوا: أخوك، وأبوك، وزوجك، وابنك، قالت: ما فعل النبي صلى الله عليه وآله ؟ قالوا: أمامك، فمشت حتى جاءت إليه، فأخذت بناحية ثوبه، وجعلت تقول: بأبي أنت وامي يا رسول الله، لا ابالي إذا سلمت من عطب. وروى البيهقي قال: مر رسول الله صلى الله عليه وآله بامرأة من بني دينار (4)، وقد اصيب زوجها وأبوها وأخوها معه صلى الله عليه وآله باحد فلما نعوا إليها، قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ قالوا: خيرا يا ام فلان، وهو يحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأشير لها إليه، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل (5). وخرجت السمراء بنت قيس - اخت أبي حزام -، وقد أصيب ابناها، فغزاها النبي صلى الله عليه وآله بهما، فقالت: كل مصيبة بعدك جلل (6) والله لهذا


(1) المستدرك على الصحيحين 3: 197. (2) في (د) و (ح): حبابه، وما أثبتناه من منتخب كنز العمال. (3) منتخب كنز العمال 1: 212 باختلاف في ألفاظه. (4) في (د): ذبيان، وفي (ح): دينارة، وفي هامش (ح): صباره، والظاهر كلها تصحيف، وصواب ما أثبتناه، وبنو دينار: بطن من بني النجار من الخزرج من الأنصار. انظر (معجم قبائل العرب 1: 401). (5) السيرة النبوية لابن هشام 3: 105، ورواه الواقدي في المغازي 1: 292 باختلاف في ألفاظه. (6) الجلل: الأمر العظيم والهيت، وهو من الأضداد، والمراد هنا: كل مصيبة بعدك حينة، انظر (الصحاح = = - جلل - 4: 1659).

[ 73 ]

النقع (1) الذي أرى على وجهك أشد من مصابهما. وروي: أن صلة بن أشيم كان في مغزي له، ومعه ابن له، فقال لابنه: أي بني تقدم فقاتل جتى أحتسبك، فحمل فقاتل فقتل، ثم تقدم أبوه فقاتل فقتل، قال: فاجتمع النساء عند أمه معاذة العدوية زوجة صلة، فقالت لهن: مرحبا بكن إن كنتن (جئتن لتهنئتي) (2) وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن. وروي: أن عجوزا من بني بكر بن كلاب كان يتحدث قومها عن عقلها وسدادها، فأخبر بعض من حضرها، وقد مات ابن لها، وكان واحدها، وقد طالت علته، وأحسنت تمريضه، فلما مات قعدت بفنائك، وحضرها قومها، فأقبلت على شيخ منهم فقالت: يا فلان، ما حق من أسبغت عليه النعمة، وألبس العافية، واعتدلت به النظرة، أن لا يعجز عن التوثق لنفسه قبل حل عقدته والحلول بعقوته (3)، ينزل الموت بداره، فيحول بينه وبين نفسه ؟ ثم أنشأت تقول شعرا: هو ابني وأنسي أجره لي وعزني * على نفسه رب إليه ولاؤها فإن أحتسب أوجر وإن أبكه أكن * كباكية لم يغن شيئا بكاؤها فقال لها الشيخ: إننا لم نزل نسمع أن الجزع إنما هو للنساء، فلا يجز عن أحد بعدك، ولقد كرم صبرك، وما أشبهت النساء فقالت له: إنه ما ميز امرؤ بن جزع وصبر، إلا وجد بينهما منهجين بعيدي التفاوت في حالتيهما: أما الصبر: فحسن العلانية، محمود العاقبة. وأما الجزع: فغير معرض شيئا مع إثمه. ولو كان في صورة رجلين، لكان الصبر أولاهما بالغلبة، وبحسن الصورة، وكرم الطبيعة في عاجل الدين وآجله في الثواب، وكفى بما وعد الله عز وجل لمن ألهمه إياه. وعن جويرية بن أسماء: أن ثلاثة أخوة شهدوا تستر، واستشهدوا، وبلغ ذلك أمهم، فقالت: مقبلين أم مدبرين ؟ فقيل لها: بل مقبلين، فقالت الحمد لله، نالوا والله الفوز، وحاطو الذمار بنفسي هم وأبي وامي، وما تأوهت، ولا دمعت لها عين.


(1) النقع: الغبار. (الصحاح - نقع - 3: 1292). (2) في (د): جئتني لتهنئنني. (3) في (ح) بعقوبته، والصواب ما في المتن، والعقوة: الساحة وما حول الدار. (الصحاح - عقا - 6: 2433).

[ 74 ]

وعن أبي قدامة الشامي قال: كنت أميرا على الجيش في بعض الغزوات، فدخلت بعض البلدان، ودعوت الناس للغزاة، ورغبتهم في الجهاد، وذكرت فضل الشهادة وما لأهلها، ثم تفرق الناس وركبت فرسي، وسرت إلى منزلي، فإذا أنا بامرأة من أحسن الناس وجها تنادي: يا أبا قدامة، فمضيت ولم أجب، فقالت: ما هكذا كان الصالحون، فوقفت، فجاءت ودفعت إلي رقعة وخرقة مشدودة، وانصرفت باكية، فنظرت في الرقعة وإذا فيها مكتوب، أنت دعوتنا إلى الجهاد، ورغبتنا في الثواب، ولا قدرة لي على ذلك، فقطعت أحسن ما في، وهما ضفيرتاي، وأنفذتهما (1) إليك لتجعلهما قيد فرسك لعل الله يرى شعري قيد فرسك في سبيله، فيغفر لي. فلما كان صبيحة القتال فإذا بغلام بين يدي الصفوف يقاتل حاسرا، فتقدمت إليه وقلت: يا غلام، أنت فتى غر (2) راجل، ولا آمن أن تجول الخيل فتطؤك بأرجلها، فارجع عن موضعك هذا، فقال: أتأمرني بالرجوع، وقد قال الله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الادبار) (3) ؟ وقرأ الآية الى آخرها. فحملته على هجين كان معي، فقال: يا أبا قدامة، أقرضني ثلاثة أسهم، فقلت: أهذا وقت قرض ؟ فما زال يلح علي حتى قلت: بشرط إن من الله عليك بالشهادة أكون في شفاعتك، قال: نعم، فأعطيته ثلاثة أسهم، فوضع سهما في قوسه ورمى به، فقتل روميا، ثم رمى بالآخر فقتل روميا، ثم رمى بالآخر، وقال: السلام عليك يا أبا قدامة سلام مودع، فجاءه فجاء سهم فوقع بين عينيه، فوضع رأسه على قربوس سرجه، فتقدمت إليه، وقلت: لا تنسها، فقال: نعم، ولكن لي إليك حاجة إذا دخلت المدينة فأت والدتى، وسلم خرجي (4) إليها وأخبرها، فهي التي أعطتك شعرها لتقيد به فرسك، فسلم عليها، فهي العام الأول أصيبت بوالدي، وفي هذا العام بي، ثم مات، فحفرت له، ودفنته. فلما هممت بالإنصارف عن قبره قذفته الأرض، فألقته على ظهرها، فقال أصحابه: غلام غر، ولعله خرج بغير إذن أمه، فقلت: إن الأرض لتقبل من هو شر من


(1) في (ح): وأرسلتها. (2) في الحديث: (المؤمن غر كريم) يريد أن المؤمن المحمود من طبعه الغرارة، وقلة الفطنة للشر وترك البحث عنه، وليس ذلك منه جهلا، ولكنه كرم وحسن خلق: (النهاية: غرر - 3: 354). (3) الأنفال 8: 15. (4) الخرج: وعاء (الصحاح - خرج - 1: 309).

[ 75 ]

هذا، فقمت وصليت ركعتين، ودعوت الله، فسمعت صوتا يقول: يا أبا قدامة، أترك ولي الله، فما برحت حتى نزلت عليه طيور فأكلته. فلما أتيت المدينة ذهبت إلى دار والدته، فلما قرعت الباب خرجت أخته إلي، فلما رأتني عادت إلى امها، وقالت: يا أماه هذا أبو قدامة، وليس معه أخي، وقد أصبنا في العام الأول بأبي، وفي هذا العام بأخي، فخرجت امه، فقالت: أمعزيا أم مهنئا ؟ فقلت: ما معني هذا ؟ قالت: إن كان ابني مات فعزني، وإن كان استشهد فهنئني، فقلت: لا، بل قد مات شهيدا، فقالت: له علامة، فهل رأيتها ؟ فقلت: نعم، لم تقبله الأرض، ونزلت الصيور، فأكلت لحمه، وتركت عظامه، فدفنتها، فقالت: الحمد لله. فسلمت إليها الخرج، ففتحته وأخرجت منه مسحا وغلا من حديد، قالت: إنه كان إذا جنة الليل لبس هذا المسح، وغل نفسه بالغل وناجى مولاه، وقال في مناجاته: إلهي احشرني من حواصل الطيور. فاستجاب الله سبحانه دعاءه رحمه الله. وروى البيهقي عن أبي العباس السراج، قال: مات لبعضهم ابن، فدخلت على أمه، فقلت لها: اتقي الله واصبري، فقالت: مصيبتي به أعظم من أن أفسدها بالجزع. وقال أبان بن تغلب رحمه الله: دخلت على امرأة، وقد نزل بابنها الموت، فقامت إليه فغمضته وسجته، ثم قالت: يا بني، ما الجزع في ما لا يزول ؟ وإنما البكاء في ما ينزل بك غدا ؟ يا بني تذوق ما ذاق أبوك وستذوقه من بعدك امك، وإن أعظم الراحة لهذا الجسد النوم، والنوم أخو الموت، فما عليك إن كنت نائما على فراشك، أو على غيره، وإن قدا السؤال والجنة والنار، فإن كنت من أهل الجنة فما ضرك الموت، وإن كنت من أهل النار فما تنفعك الحياة، ولو كنت أطول الناس عمرا، والله يا بني لو لا أن الموت أشرف الأشياء لابن آدم، لما أمات الله نبيه صلى الله عليه وآله، وأبقى عدوه إبليس لعنه الله (1). وعن المبرد قال: أتيت امرأة أعزيها عن ابنها، فجعلت تثني عليه، فقالت: كان - والله - ماله لغير بطنه، وأمره لغير عرسه، وكان رحب الذراع بالتي لا تشينه، فإن كانت الفحشاء ضاق بها ذرعا، فقلت لها: وهل لك منه خلف ؟ - وأنا أعني الولد -، فقالت: نعم بحمد الله كثير طيب، ثواب الله عز وجل، ونعم العوض في الدنيا والآخرة.


(1) أخرجه المجلسي في البحار 82: 152.

[ 76 ]

وعنه: أنه خرج إلى اليمن، فنزل على امرأة لها مال كثير ورقيق وولد وحال حسنة، فأقام عندها مدة، فلما أراد الرحيل قال: ألك حاجة ؟ قالت: نعم، كلما نزلت هذه البلاد فانزل علي. وإنه غاب أعواما، ثم نزل عليها، فوجدها قد ذهب مالها ورقيقها، ومات ولدها، وباعت منزلها، وهي مسرورة ضاحكة فقال لها: أتضحكين مع ما قد نزل بك ؟ فقالت: يا عبد الله كنت في حال النعمة في أحزان كثيرة، فعلمت أنها من قلة الشكر، فأنا اليوم في هذه الحالة أضحك شكرا لله تعالى على ما أعطاني من الصبر. وعن مسلم بن يسار قال: قدمت البحرين فأضا فتني امرأة لها بنون ورقيق ومال ويسار، وكنت أراها محزونة، فغبت عنها مدة طويلة، ثم أتيتها فلم أر ببابها إنسا، فاستأذنت عليها، فإذا هي ضاحكة مسرورة، فقلت لها، ما شأنك ؟ قالت: إنك لما غبت عنا لم نرسل شيئا في البحر إلا غرق، ولا شيئا في البر إلا عطب، وذهب الرقيق، ومات البنون، فقلت لها: يرحمك الله، رأيتك محزونة في ذلك اليوم، ومسرورة في هذا اليوم، فقالت: نعم، إني لما كنت فيما كنت فيه من سعة الدنيا، خشيت أن يكون الله تعال قد عجل لي حسناتي في الدنيا، فلما ذهب مالي وولدي ورقيقي رجوت أن يكون الله تعالى قد ذخر لي عنده شيئا (1). وعن بعضهم قال: خرجت أنا وصديق لي إلى البادية، فضللنا الطريق، فإذا نحن بخيمة عن يمين الطريق فقصدنا نحوها فسلمنا، فإذا بامرأة ترد علينا السلام، وقالت: ما أنتم ؟ قلنا: ضالون فأتيناكم فأستأنسنا بكم، فقالت: يا هؤلاء، ولوا وجوهكم عني، حتى أقضي من حقكم ما أنتم له أهل، ففعلنا، فألقت لنا مسحا، وقالت: اجلسوا عليه إلى أن يأتي ابني. ثم جعلت ترفع طرف الخيمة وتردها، إلى أن رفعته مرة فقالت: أسأل الله بركة المقبل، أما البعير فبعير ابني، وأما الراكب فليس هو به، قال: فوقف الراكب عليها، وقال: يا ام عقيل، عظم الله أجرك في عقيل ولدك، فقالت: ويحك مات ! ؟ قال: نعم، قالت: وما سبب موته ؟ قال: ازدحمت عليه الإبل فرمت به في البئر فقالت: انزل واقض ذمام القوم، ودفعت إليه كبشا فذبحه وأصلحه، وقرب إلينا الطعام، فجعلنا نأكل، ونتعجب من صبرها 2


(1) أخرجه المجلسي في البحار 82: 152.

[ 77 ]

فلما فرغنا خرجت إلينا وقالت: يا قوم، هل فيكم من يحسن من كتاب الله شيئا ؟ فقلت: نعم، قالت: فاقرأ علي آيات أتعزى بها عن ولدي، فقلت: يقول الله عز وجل: (وبشر الصابرين الذين إذا اصابتهم مصيبة قالوا انا لله وانا إليه راجعون اولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة واولئك هم المهتدون) (1). قالت: بالله إنها في كتاب الله هكذا ؟ قلت: والله إنها لفي كتاب الله هكذا ؟ قلت: والله إنها لفي كتاب الله هكذا، فقالت: السلام عليكم، ثم صفت قدميها وصلت ركعات، ثم قالت: اللهم إني قد فعلت ما أمرتني به، فأنجز لي ما وعدتني به، ولو بقي أحد لأحد - قال: فقلت في نفسي تقول: لبقي ابني لحاجتي إليه، فقالت -: لبقي محمد صلى الله عليه وآله لأمته. فخرجت وأنا أقول: ما رأيت أكمل منها ولا أجزل، ذكرت ربها بأكمل خصاله وأجمل خلاله. ثم إنها لما علمت أن الموت لا مدفع له، ولا محيص عنه، وأن الجزع لا يجدي نفعا، والبكاء لا يرد هالكا، رجعت إلى الصبر الجميل، واحتسبت ابنها عند الله تعالى ذخيرة نافعة ليوم الفقر والفاقة (2). ونحوه ما أخرجه ابن أبي الدنيا، قال: كان رجل يجلس إلي، فبلغني أنه شاك (3) فأتيته أعوده، فإذا هو قد نزل به الموت، وإذا ام له عجوز كبيرة عنده فجعلت تنظر حتى غمض وعصب وسجي، ثم قالت: رحمك الله، أي بني، فقد كنت بنا بارا، وعلينا شفيقا، فرزقني الله عليك الصبر، فقد كنت تطيل القيام، وتكثر الصيام، لا حرمك الله تعالى ما أملت فيه من رحمته، وأحسن فيك العزاء، ثم نظرت إلي وقالت: أيها العائد قد رأيت واعظا ونحن معك. وروي البيهقي عن ذي النون المصري، قال: كنت في الطواف، وإذا أنا بجاريتين قد أقبلتا، وأنشأت إحداهما تقول: صبرت وكان الصبر خير (مغبة) (4) * وهل جزء مني ليجدي فأجزع صبرت على مالو تحمل بعضه * جبال برضوى أصبحت تتصدع ملكت دموع العين ثم رددتها * إلى ناظري فالعين في القلب تدمع


(1) البقرة 2: 155 - 157. (2) أخرجه المجلسي في البحار 82: 152. (3) الشاكي: المريض. (الصحاح - شكا - 6: 2395). (4) في (ح): مطية.

[ 78 ]

فقلت: مماذا يا جارية ؟ فقالت: من مصيبة نالتني، لم تصب أحدا قط، قلت: وما هي ؟ قالت: كان لي شبلان يلعبان أمامي، وكان أبوهما ضحى بكبشين، فقال: أحدهما لأخيه: يا أخي أريك كيف ضحى أبونا بكبشه، فقام وأخذ الآخر شفرة فنحره، وهرب القاتل فذخل أبوهما، فقلت: إن ابنك قتل أخاه وهرب، فخرج في طلبه، فوجده قد افترسه السبع، فرجع الأب فمات في الطريق ظمأ وجوعا. وروي بعضهم هذه الرواية، وزاد فيها: قال: رأيت امرأة حسناء، ليس بها شئ من الحزن، وقالت: والله ما أعلم أحدا اصيب بما اصبت به، وأوردت القصة، فقلت لها: كيف أنت والجزع ؟ فقالت: لو رأيت فيه دركا ما اخترت عليه شيئا، ولو دام لي لدمت له. وحكى بعضهم قال: اصيبت امرأة بابن لها فصبرت، فقيل لها في ذلك، فقالت: آثرت طاعة الله تعالى على طاعة الشيطان.

[ 79 ]

الباب الثالث: في الرضا قال الله تعالى: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتيكم) (1) (رضي الله عنهم ورضوا عنه) (2). إعلم أن الرضا ثمرة المحبة لله، من أحب شيئا أحب فعله والمحبة ثمرة المعرفة، فإن من أحب شخصا إنسانيا لاشتماله على بعض صفات الكمال أو نعوت الجمال، يزداد حبه له كلما زاد به معرفة وله تصورا. فمن نظر بعين بصيرته إلى جلال الله تعالى وكماله - الذي يطول شرح تفصيل بعضه، ويخرج عن مقصود الرسالة - أحبه، والذين آمنوا أشد حبا لله، ومتى أحبه استحسن كل أثر صادر عنه، وهو يقتضي الرضا. فالرضا ثمرة من ثمرات المحبة، بل كل كمال فهو ثمرتها، فإنها لما كانت فرع المعرفة استلزم تصور رحمته رجاؤه، وتصور هيبته الخشية له، ومع عدم الوصول إلى المطلوب الشوق، ومع الوصول الأنس، ومع إفراط الأنس الإنبساط، ومع مطالعة عنايته التوكل، ومع استحسان ما يصدر عنه الرضا، ومع تصور قصور نفسه في جنب كماله وكمال إحاطة محبوبه به وقدرته عليه التسليم إليه، ويتشعب من التسليم مقامات عظيمة، يعرفها من عرفها، وينتهي الأمر به إلى غاية كل كمال. واعلم أن الرضا فضيلة عظيمة للإنسان، بل جماع أمر الفضائل يرجع إليها، وقد نبه الله تعالى على فضله، وجعله مقرونا برضا الله تعالى وعلامة له، فقال: (رضي الله عنهم ورضوا عنه) (3) (ورضوان من الله اكبر) (4) وهو نهاية الإحسان، وغاية الإمتنان. وجعله النبي صلى الله عليه وآله دليلا على الإيمان، حين سأل طائفة من أصحابه، (ما أنتم ؟) قالوا مؤمنون، فقال: (ما علامة إيمانكم ؟) قالوا: نصبر على البلاء، ونشكر عند الرخاء، ونرضى بمواقع القضاء، فقال: (مؤمنون ورب الكعبة) (5).


(1) الحديد 57: 23. (2) المائدة 5: 119، التوبة 9: 100 المجادلة 58: 22، البينة 98: 8. (3) المائدة 5: 119، والتوبة 9: 100، والمجادلة 58: 22، والبينة 98: 8. (4) التوبة 9: 72. (5) ورد باختلاف في ألفاظه في التمحيص: 61: 137، ودعائم الإسلام 1: 223 وأخرجه الفيض = = الكاشاني في المحجة البيضاء 7: 107.

[ 80 ]

وقال صلى الله عليه وآله: (إذا أحب الله عبدا ابتلاه، فإن صبر اجتباه، فإن رضي اصطفاه) (1). وقال صلى الله عليه وآله: (إذا كان يوم القيامة أنبت الله تعالى لطائفة من أمتي أجنحة، فيطيرون من قبورهم إلى الجنان، يسرحون فيها، ويتنعمون كيف يشاؤون، فتقول لهم الملائكة: هل رأيتم الحساب ؟ فيقولون: ما رأينا حسابا، فيقولون: هل جزتم الصراط ؟ فيقولون: ما رأينا صراطا، فيقولون: هل رأيتم جهنم ؟ فيقولون: ما رأينا شيئا، فتقول الملائكة: من امة من أنتم ؟ فيقولون: من امة محمد صلى الله عليه وآله، فيقولون: نشدناكم الله، حدثونا ما كانت أعمالكم في الدنيا ؟ فيقولون: خصلتان كانتا فينا، فبلغنا الله تعالى هذا المنزلة بفضل رحمته، فيقولون: وما هما ؟ فيقولون: كنا إذا خلونا نستحي أن نعصيه، ونرضى باليسير مما قسم لنا، فتقول الملائكة: حق لكم هذا) (2). وقال صلى الله عليه وآله: (أعطوا الله الرضا من قلوبكم، تظفروا بثواب الله تعالى يوم فقركم والإفلاس) (3). وفي أخبار موسى عليه السلام، أنهم قالوا: سل لنا ربك أمرا إذا نحن فعلناه (يرضى به عنا) (4) فأوحى الله تعالى إليه: (قل لهم: يرضون عني، حتى أرضى عنهم) (5). ونظيره ما روي عن نبينا صلى الله عليه وآله: أنه قال: (من أحب أن يعلم ما له عند الله عز وجل، فلينظر ما لله عز وجل عنده، فإن الله تعالى ينزل العبد منه حيث أنزله العبد من نفسه) (6). وفي أخبار داود عليه السلام: (ما لأوليائي والهم بالدنيا، إن الهم يذهب حلاوة مناجاتي من قلوبهم، يا داود، إن محبتي من أوليائي أن يكونوا روحانيين لا يغتمون (7).


(1) المحجة البيضاء 8: 67 و 88، والبحار 82: 142 / 26. (2) المحجة البيضاء 8: 88. (3) روى الكليني نحوه في الكافي 2: 203 / 14، وأخرجه المجلسي في البحار 82: 143. (4) في (ش): يرضى الله عنا. (5) المحجة البيضاء 8: 88، والبحار 82: 143. (6) المحاسن: 252 / 273، مشكاة الأنوار: 11، عدة الداعي: 167، المستدرك على الصحيحين 1: 495 باختلاف يسير. (7) أخرجه المجلسي في البحار 82: 143.

[ 81 ]

وروي: أن موسى عليه السلام قال: (يا رب، دلني على أمر فيه رضاك عني أعمله، فأوحى الله تعالى، إليه: أن رضاي في كرهك، وأنت ما تصبر على ما تكره، قال: يا رب، دلني عليه، قال: فإن رضاي في رضاك بقضائي) (1). وفي مناجاة موسى عليه السلام: (أي رب، أي خلقك أحب إليك ؟ قال من إذا أخذت حبيبه سالمني، قال: فأي خلق أنت عليه ساخط ؟ قال: من يستخيرني في الأمر، فإذا قضيت له سخط قضائي). وروي ما هو أشد منه، وذاك أن الله تعالى قال: (أنا الله، لا إله إلا أنا، من لم يصبر على بلائي، ولم يرض بقضائي، فليتخذ ربا سوائي) (2). ويروي: أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام: (يا داود، تريد وأريد، وإنما يكون ما أريد، فإن سلمت لما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد، ولا يكون إلا ما أريد) (3). وعن ابن عباس: (أول من يدعى إلى الجنة يوم القيامة، الذين يحمدون الله تعالى على كل حال) (4). وعن ابن مسعود: لئن الحسن جمرة أحرقت ما أحرقت، وأبقت ما أبقت، أحب إلي من أن أقول لشئ كان: ليته لم يكن، أو لشئ لم يكن: ليته كان. وعن أبي الدرداء: (ذروة الإيمان الصبر للحكم، والرضا بالقدر). وقال صلى الله عليه وآله: (إن الله تعالى بحكمته وجلاله جعل الروح والفرج في الرضا واليقين، وجعل الغم والحزن في الشك والسخط) (5). وقال علي بن الحسين عليهما السلام: (الزهد عشرة أجزاء: أعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع، وعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة


(1) دعوات الراوندي: 71، والبحار 82: 143. (2) دعوات الراوندي: 74، الجامع الصغير 2: 235 / 6010 باختلاف في الفاظه. (3) التوحيد: 337 / 4. (4) أخرجه المجلسي في البحار 82: 143. (5) المحاسن: 17 / 47، مشكاة الانوار: 12 و 13، الجامع الصغير 1: 382 / 2493، منتخب كنز العمال 1: 178 و 156 و 257.

[ 82 ]

الرضا) (1). وقال الصادق عليه السلام: (صفة الرضا أن ترضى المحبوب والمكروه، والرضا شعاع نور المعرفة، والراضي فان عن جميع اختياره،، والراضي حقيقة هو المرضي عنه، والرضا اسم يجمع فيه معاني العبودية، وتفسير الرضا سرور القلب. سمعت أبي محمد الباقر عليه السلام يقول: تعلق القلب بالموجود شرك، وبالمفقود كفر، وهما خارجان عن سنة الرضا، وأعجب ممن يدعي العبودية لله كيف ينازعه في مقدوراته ؟ ! حاشا الراضين العارفين عن ذلك). وروي: أن جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنه - ابتلي في آخر عمره بضعف الهرم والعجز، فزاره محمد بن علي الباقر عليه السلام، فسأله عن حاله، فقال: أنا في حالة أحب فيها الشيخوخة على الشباب، والمرض على الصحة، والموت على الحياة. فقال الباقر عليه السلام: (أما أنا يا جابر، فإن جعلني الله شيخا أحب الشيخوخه، وإن جعلني شابا أحب الشيبوبة (2)، وإن أمرضني أحب المرض، وإن شفاني أحب الشفاء والصحة، وإن أماتني أحب الموت، وإن أبقاني أحب البقاء). فلما سمع جابر هذا الكلام منه قبل وجهه، وقال صدق رسول الله صلى الله عليه وآله، فإنه قال: (ستدرك لي ولدا اسمه اسمي، يبقر العلم بقرا كما يبقر الثور الأرض) ولذلك سمي باقر علم الأولين والآخرين، أي شاقه. وروي الكليني باسناده إلى أبي عبد الله عليه السلام، أنه قال: (رأس طاعة الله الصبر والرضى عن الله فيما أحب العبد أو كره، ولا يرضى عبد عن الله فيما أحب وكره، إلا كان خيرا له فيما أحب أو كره) (3). وبإسناده عنه عليه السلام قال: (أعلم الناس بالله - تعالى - أرضاهم بقضاء الله - عز وجل -) (4). وبإسناده عنه عليه السلام قال: (قال الله تعالى: عبدي المؤمن لا أصرفه في شئ إلا جعلته خيرا له، فليرض بقضائي، وليصبر على بلائي، ويشكر نعمائي، أكتبه


(1) الكافي 2: 51 / 10 و 104 / 4، روضة الواعظين: 432، مشكاة الأنوار 113. (2) كدا، ولعل صحتها الشبيبة: وهي الحداثة وسن الشباب، انظر (الصحاح - شبب - 1: 151). (3) الكافي 2: 49 / 1. (4) الكافي 2: 49 / 2.

[ 83 ]

- يا محمد - من الصديقين عندي) (1). وعنه عليه السلام قال: (في ما أوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام: يا موسى بن عمران، ما خلقت خلقا أحب إلي من عبدي المؤمن، فإني إنما أبتليه لما هو خير له، وأعافيه لما هو خير له، وأزوي عنه لما هو خير له، وأنا أعلم بما يصلح عليه عبدي، فليصبر على بلائي، وليشكر نعمائي وليرض بقضائي، أكتبه في الصديقين عندي، إذا عمل برضاي، وأطاع أمري) (2). وقيل للصادق عليه السلام: بأي شئ يعلم (3) المؤمن بأنه مؤمن ؟ قال: (بالتسليم لله، والرضا فيما ورد عليه من سرور أو سخط) (4). وروي في الإسرائيليات: أن عابدا عبد الله تعالى دهرا طويلا فرأى في المنام: فلانة رفيقتك في الجند، فسأل عنها، واستضافها ثالثا لينظر إلى علمها، فكان يبيت قائما، وتبيت نائمة، ويظلل صائما، وتظل مفطرة، فقال لها: أما لك عمل غير ما رأيت ؟ فقالت: ما هو والله غير ما رأيت، ولا أعرف غيره، فلم يزل يقول: تذكري، حتى قالت: خصيلة واحدة، هي إن كنت في شدة لم أتمن أن أكون في رخاء، وإن كنت في مرض لم أتمن أن أكون في صحة، وإن كنت في الشمس لم أتمن أن أكون في الظل، فوضع العابد يديه على رأسه، وقال: أهذه خصيلة ؟ هذه - والله - خصلة عظيمة يعجز عنها العباد.


(1) الكافي 2: 50 / 6. (2) الكافي 2: 51 / 7، أمالي المفيد: 93 / 2، أمالي الطوسي: 1: 243، المؤمن: 17 / 9، التمحيص: 55 / 108، مشكاة الأنوار: 299. (3) في هامش (ح): يعرف. (4) الكافي 2: 52 / 12.

[ 84 ]

فصل مرتبة الرضا عالية جدا على مرتبة الصبر، بل نسبة الصبر إلى الرضا عند أهل الحقيقة، نسبة المعصية إلى الطاعة، فإن المحبة تقتضي اللذة بالبلاء، لأنه يجد في البلاء نفسه على ذكر من محبوبه، فيزيد قربه وأنسه. والصبر بقتضي كراهة البلاء واستصعابه حتى يوجب الصبر عليه، والكراهة تنافي الأنس، فتبين بذلك أن الصبر والمحبة متنافيان. وأيضا، فإن الصبر إظهار التجلد، وهو في مذهب المحبة من أشد المنكرات نكرا، وأظهر علامات العداوة طرا، كما قيل: ويحسن إظهار التجلد للعدى * ويقبح إلا العجز عند الأحبة ومن هنا قال أهل الحقيقة: الصبر من أصعب المنازل على العامة، وأوحشها في طريق المحبة، وأنكرها في طريق التوحيد. وإنما كان أصعب عند العامة، لأن العامي لم يتدرب بالرياضة، ولم يتحنك بالصبر على البلاء، ولم يتعود بقمع النفس، فلم يحتمل البلاء، ولم يكن من أهل المحبة حتى يتلذذ بالبلاء، فإذا امتحنه الحق سبحانه بالبلاء - وهو في مقام النفس - لم يحتمل البلاء وغلبه الجزع، وصعب عليه حبس النفس عن إظهاره لعدم طمأنينتها. وإنما كان أوحش المنازل في طريق المحبة، لأن المحبة تقتضي الأنس بالمحبوب، والإلتذاذ بالبلاء، لشهود المبتلى فيه وإيثار مراد المحبوب، والصبر يقتضي كراهة البلاء كما مر، فيتنافيان. وإنما كان أنكر في مقام التوحيد، لأن الصابر يدعي قوة الثبات، ودعوى الثبات والتجلد من رعونات (1) النفس، والتوحيد يقتضي فناء النفس، فيكون أنكر لأن إثبات النفس في طريق التوحيد من أقبح المنكرات بل الرضا مع عظم قدره وعلو أمره عند أهل التحقيق في التوحيد من أوائل مسالكه، لأن سلوكهم في الفناء في التوحيد بذواتهم، والرضا هو فناء الإرادة الحق تعالى، والوقوف الصادق مع مراد الله تعالى، وفناء الصفة قبل فناء الذات. وقد تبين لك بذلك ما بين الصبر والرضا من المراتب البعيدة والمسالك الشديدة.


(1) في (ح): مرغوبات.

[ 85 ]

فصل للرضا ثلاث درجات، مترتبة في القوة ترتبها في اللفظ: الدرجة الاولى: أن ينظر إلى موقع البلاء والفعل الذي يقتضي الرضا، ويدرك موقعه، ويحس بألمه، ولكن يكون راضيا به، بل راغبا فيه، مريدا له بعلقه، وإن كان كارها له بطبعه، طلبا لثواب الله تعالى عليه، ومزيد لزلفى لديه، والفوز بالجنة التي عرضها السموات والأرض، وقد أعدت للمتقين. وهذا القسم من الرضا هو رضا المتقين. ومثاله مثال من يلتمس الفصد والحجامه من الطبيب العالم بتفاصيل أمراضه وما فيه اصلاحه، فإنه يدرك ألم ذلك الفعل، إلا أنه راض به، وراغب فيه، ومتقلد من الفصاد منة عظيمة بفعله. ومثله من يسافر في طلب الربح، فإنه يدرك مشقة السفر، ولكن حبه لثمرة سفره طيب عنده مشقة الصبر، وجعله راضيا به، ومهما أصابته بلية من الله تعالى - وكان له يقين بأن ثوابه الذي ادخر له فوق ما فاته - رضي به، ورغب فيه، وأحبه، وشكر الله تعالى عليه. الدرجة الثانية: أن يدرك الألم كذلك، ولكنه أحبه لكونه مراد محبوبه ورضاه، فإن من غلب عليه الحب كان جميع مراده وهواه ما فيه رضا محبوبه، وذلك موجود في الشاهد بالنسبة إلى حب الخلق بعضهم بعضا، قد تواصفه المتواصفون في نظمهم ونثرهم، ولا معنى له إلا ملاحظة حال الصورة الظاهرة بالبصر. وما هذا الجمال إلا جلد على لحم ودم مشحون بالأقذار والأخباث، بدايته من نطفة مذرة (1)، ونهايته جيفه قذرة، وهو فيما بين ذلك يحمل العذرة. والناظر لهذا الجمال الخسيس هو العين الخسيسة، التي تغلط في ما ترى كثيرا، فترى الصغير كبيرا، والكبير صغيرا، والبعيد قريبا، والقبيح جميلا. فإذا تصور الإنسان استيلاء هذا الحب، فمن أين يستحيل ذلك في حب الجمال الأزلي الأبدي، الذي لا ينتهي كماله المدرك بعين البصيرة، التي لا يعتريها الغلط، ولا يزيلها الموت، بل يبقى بعد الموت حيا عند الله، فرحا مسرورا برزق الله، مستفيدا


(1) مذرة: خبيثة، من التمذر، وهو خبث النفس (مجمع البحرين - مذر - 3: 480).

[ 86 ]

بالموت مزيد واستكشاف، وهذا أمر واضح من حيث الإعتبار، وتشهد له جملة من الآثار، وردت من أحوال المحبين وأقوالهم، يأتي بعضها إن شاء الله تعالى، وهذه مرتبة المقربين. الدرجة الثالثة: أن يبطل إحساسه بالألم، حتى يجري عليه المؤلم ولا يحس، وتصيبه جراحة ولا يدرك ألمه. ومثاله الرجل المحارب، فإنه في حال غضبه أو حال خوفه قد تصيبه جراحة وهو لا يحس بها، حتى إذا رأى الدم استدل به على الجراحة، بل الذي يعدو في شغل مريب قد تصيبه شوكة في قدمه، ولا يحس بألمه لشغل قلبه، بل الذي يحجم، أو يحلق رأسه بحديدة كالة يتألم بها، فإن كان قلبه مشغولا بمهم من مهماته، يفرغ الحجام أو الحالق، وهو لا يشعر به. وكل ذلك لأن القلب إذا صار مستغرقا بأمر من الأمور لم يدرك ما عداه. ونظائر ذلك في هموم أهل الدنيا، واشتغالهم بها، واكبابهم عليها، حتى لا يتألمون، ولا يحسون بالجوع والعطش والتعب - لذلك - كثير مشاهد عيانا، فكذلك العاشق المستغرق الهم بمشاهده محبوبه، قد يصيبه ما كان يتألم به، أو يغتم لولا عشقه، ثم لا يدرك غمه وألمه، لفرط استيلاء الحب على قلبه، هذا إذا أصابه من غير حبيبه، فكيف إذا أصابه من حبيبه ؟ ! وشغل القلب بالحب والعشق من أعظم الشواغل، وإذا تصور هذا في ألم يسير بسبب حب خفيف، تصور في الألم العظيم بالحب العظيم، فإن الحب أيضا يتصور تضاعفه في القوة، كما يتصور تضاعف الألم، وكما يقوى حب الصور الجميلة المدركة بحاسة البصر، فكذا يقوى حب الصور الجميلة الباطنة المدركة بنور البصيرة الربوبية، وجلالها لا يقاس بها جلال، فمن انكشف له شئ منه فقد يبهره، بحيث يدهش ويغشى عليه، فلا يحس بما يجري عليه. كما روي عن امرأة أنها عثرت فانقطع ظفرها، فضحكت، فقيل لها: أما تجدين الوجع ؟ فقالت: إن لذة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه. وكان بضعهم يعالج غيره من علة فنزلت به، فلم يعالج نفسه، فقيل له في ذلك، فقال: ضرب الحبيب لا يوجع.

[ 87 ]

فصل: في ذكر جماعة من السلف، نقل العلماء رضاهم بالقضاء مضافا إلى ما تقدم إعلم أن أكثر ما أوردناه في باب الصبر عن جماعة الأكابر تضمن الرضا بالقضاء، بخصوص موت الولد ونحوه، ولنذكر هنا امورا عامة: لما اشتد البلاء على أيوب عليه السلام قالت امرأته: ألا تدعو ربك، فيكشف ما بك ؟ فقال لها: (يا امرأة إني عشت في الملك والرخاء سبعين سنة، فأنا أريد أن أعيش مثلها في البلاء، لعلي كنت أديت شكر ما أنعم الله علي، وأولى بي الصبر على ما أبلى) (1). وروي أن يونس عليه السلام قال لجبرئيل عليه السلام: (دلني على أعبد أهل الأرض)، فدله على رجل قد قطع الجذام يديه ورجليه، وذهب ببصره وسمعه، وهو يقول: إلهي ! متعتني بهما ما شئت، وسلبتني ما شئت وأبقيت لي فيك الأمل، يا بر يا وصول (2). وروي أن عيسى عليه السلام مر برجل أعمى أبرص مقعد مضروب الجنبين بالفالج، وقد تناثر لحمه من الجذام، وهو يقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به كثيرا من خلقه. فقال له عيسى عليه السلام: (يا هذا، وأي شئ من البلاء أراه مصروفا عنك ؟) فقال: يا روح الله، أنا خير ممن لم يجعل الله في قلبي من معرفته. فقال له: (صدقت، هات يدك) فناوله يده، فإذا هو أحسن الناس وجها، وأفضلهم هيئة، قد أذهب الله عنه ما كان به، فصحب عيسى عليه السلام، وتعبد معه (3). وقال بعضهم، قصدت عبادان (4) في بدايتي، فإذا أنا برجل أعمى مجذوم مجنون


(1) روي باختلاف في ألفاظه في تنبيه الخواطر 1: 40، وارشاد القلوب: 127. (2، 3) أخرجه المجلسي في البحار 82: 153. (4) عبادان: بلد تحت البصرة. (معجم البلدان 4: 74).

[ 88 ]

قد صرع، والنمل يأكل لحمه، فرفعت رأسه، ووضعته في حجري، وأنا أردد الكلام، فلما أفاق قال: من هذا الفضولي الذي يدخل بيني وبين ربي ؟ فوحقه لو قطعني إربا إربا، ما ازددت له إلا حبا. وقطعت رجل بعضهم من ركبته من إكلة (1) خرجت بها، فقال: الحمد لله الذي أخذ مني واحدة، وترك ثلاثا، وعزتك لئن كنت أخذت لقد أبقيت، ولئن كنت ابتليت لقد عافيت، ثم لم يدع ورده تلك الليلة. وقال بعضهم، نلت من كل مقام حالا إلا الرضا بالقضاء، فما لي منه إلا مشام الريح، وعلى ذلك لو أدخل الخلائق كلهم الجنة، وأدخلني النار كنت بذلك راضيا. وقيل لبعض العارفين: نلت غاية الرضا عنه، فقال: أما الغاية فلا، ولكن مقام من الرضا قد نلته، لو جعلني الله جسرا على جهنم، تعبر الخلائق علي إلى الجنة، ثم ملأ بي جهنم لأحببت ذلك من حكمه، ورضيت به من قسمه. وهذا كلام من علم أن الحب قد استغرق همه، حتى منعه الإحساس بألم النار، واستيلاء هذا الحالة غير محال في نفسه، لكنه بعيد من الأحوال الضعيفة في هذا الزمان، ولا ينبغى أن يستنكر الضعيف المحروم حال الأقوياء، ويظن أن ما هو عاجز عنه يعجز عنه غيره من الأولياء. وكان عمران بن حصين (2) - رضي الله عنه - استسقى بطنه، فبقي ملقى على ظهره ثلاثين سنة لا يقوم ولا يقعد، قد ثقب له قي سريره موضع لقضاء الحاجة (3)، فدخل عليه أخوه العلاء فجعل يبكي لما يرى من حاله، فقال: لم تبكي ؟ قال: لأني أراك على هذه الحالة العظيمة، قال: لا تبك، فإن أحبه لي الله تعالى أحبه، ثم قال: أحدثك شيئا لعل الله (4) ينفعك به، واكتم علي حتى أموت، إن الملائكة لتزورني (5) فآنس بها، وتسلم علي فأسمع تسليمها، فأعلم بذلك أن هذا البلاء ليس بعقوبة، إذ هو سبب لهذه النعمة


(1) الإكلة: الحكة. (الصحاح - أكل - 4: 1624). (2) في (ش) و (ح): عمر بن حصين، والصواب ما أثبتناه وهو عمران بن حصين بن عبيد بن خلف الخزاعي الكعبي، اسلم عام خيبر، بعثه عمر بن الخطاب إلى البصرة توفي سنه 52 أو 53 للهجرة. راجع (اسد الغابة 4: 137، تهذيب التهذيب 8: 125 الإصابة في تمييز الصحابة: 26). (3) في (ش): حاجته. (4) في (ش) زيادة: أن. (5) في (ش): تزورني.

[ 89 ]

الجسمية، فمن شاهد هذا في بلائه، كيف لا يكون راضيا به (1) ؟ وقال بعضهم: دخلنا على سويد بن شعبة، فرأينا ثوبا ملقى، فما ظننا أن تحته شيئا حتى كشف، فقالت امرأته: أهلك فداؤك، أما نطعمك أما نسقيك ؟ فقال: طالت الضجعة (2)، ودبرت الحراقيف (3)، وأصبحت نضوا (4)، لا اطعم طعاما، ولا أشرب شرابا منذ كذا - فذكر أياما - وما يسرني أني نقصت من هذا قلامة ظفر. وروي عن بعضهم، وكان قاسى المرض ستين سنة فلما اشتد عليه حاله دخل عليه بنوه، فقالوا: أتريد أن تموت، حتى تستريح مما أنت فيه ؟ قال: لا، قالوا: فما تريد ؟ قال: ما لي إرادة، إنما أنا عبد، وللسيد الإرادة في عبده، والحكم في أمره. وقيل: اشتد المرض بفتح الموصلي، وأصابه مع مرضه الفقر والجهد، فقال: إلهي وسيدي، ابتليتني بالمرض والفقر، فهذا فعالك بالأنبياء والمرسلين، فكيف لي أن اؤدي شكر ما أنعمت به علي ؟


(1) اسد الغابة 4: 137 نحوه. (2) الضجعة: هيئة الإضطجاع. (لسان العرب 8: 219). (3) الحرقفة: عظم الحجبة، وهي رأس الورك، والجمع، الحراقف. (لسان العرب 9: 46). (4) النضو: المهزول. (لسان العرب 15: 330).

[ 90 ]

فصل إعلم أن الدعاء يدفع البلاء، وزوال المرض وحفظ الولد لا ينافي الرضاء بالقضاء، فقد تعبدنا الله سبحانه بالدعاء، وندبنا إليه وحثنا عليه، وجعل تركه استكبارا وفعله عبادة ووعد بالإجابة ودعاء الأنبياء والأئمة عليهم السلام، وأمروا به، وما نقل عنهم خارج عن حد الحصر، وقد أثنى الله تعالى على الداعين من عباده، فقال: (ويدعوننا رغبا ورهبا) (1). ومن وظائف الداعي أن يكون في دعائه ممتثلا لأمر ربه تبارك وتعالى بالدعاء في طلب ما أمره (2) بطلبه، وأنه لولا أمره به، وإذنه له فيه لما اجترئ على التعرض لمخالفة قضائه، وفي الحقيقة هذا نوع من الرضاء لمن فهم مواضع (3) الرضاء، وأدب نفسه، وقام بوظائف الدعاء. ومن علاماته أنه إذا لم يجب إلى مطلوبه لا يتألم من ذلك، من حيث عدم إجابته، لجواز أن يكون المدعو به مشتملا على مفسدة لا يعلمها إلا الله تعالى، كما ورد أن العبد ليدعو الله تعالى بالشئ حتى ترحمه الملائكة وتقول: إلهي ارحم عبدك المؤمن، وأجب دعوته، فيقول الله تعالى: كيف أرحمه من شئ به أرحمه ؟ نعم، لو استوحش من حيث احتمال أن يكون السبب الذي أوجب رد دعائه بعده عن الله تعالى، واستحقاقه للخيبة والإجباه (4) والطرد والإبعاد، فلا حرج. فإن كمال المؤمن أن يكون ماقتا لنفسه مزريا عليها حتى لو اجيبت دعوته، فلا يظنن أن ذلك من كرامته على الله تعالى وقربه منه، بل يجوز أن يكون ذلك من بغض الله تعالى وكراهته لصوته، وتأذي الملائكة برائحته، فتسأل الله تعالى أن يعجل بإجابته (5) لتستريح منه.


(1) الأنبياء 21: 90. (2) في (ش): ما أمر. (3) في (ش): مواقع. (4) الإجباه: الإستقبال بالمكروه. (لسان العرب - جبه - 13: 483). (5) في (ش): اجابته.

[ 91 ]

وكذلك قد يكون سبب تأخير الإجابة، من محبة الله تعالى وملائكته لصوته، وتلذذهم بمناجاته، فتسأل الله تعالى تأخير اجابته (1)، كذلك كما ورد في الأخبار، فالمؤمن أبدا بين رجاء وخوف، فإن بهما قوام الأعمال، والإنزجار عن المعاصي، والرغبة في الطاعات.


(1) في (ح): حاجته.

[ 92 ]

الباب الرابع: في البكاء إعلم أن البكاء بمجرده غير مناف للصبر ولا للرضا بالقضاء، وإنما هو طبيعة بشرية، وجبلة إنسانية، ورحمة رحمية أو حبيبية فلا حرج في إبرازها ولا ضرر في إخراجها، ما لم تشتمل على أحوال تؤذن بالسخط وتنبئ عن الجزع وتذهب بالأجر، من شق الثوب ولطم الوجه وضرب الفخذ وغيرها. وقد ورد البكاء في المصائب عن النبي صلى الله عليه وآله، ومن قلبه من لدن آدم عليه السلام، وبعده من آله وأصحابه مع رضاهم وصبرهم وثباتهم. فأول من بكى آدم عليه السلام على ولده هابيل، ورثاه بأبيات مشهورة، وحزن عليه حزنا كثيرا، وإن خفي شئ فلا يخفى حال يعقوب عليه السلام، حيث بكى حتى ابيضت عيناه من الحزن (1) على يوسف عليه السلام. ومن مشاهير الأخبار ما روي الصادق عليه السلام، أنه قال: (إن زين العابدين عليه السلام بكى على أبيه أربعين سنة صائما نهاره، قائما ليله، فإذا حضر الإفطار جاء غلامه بطعامه وشرابه، فيضعه بين يديه، ويقول: كل يا مولاي، فيقول: قتل ابن رسول الله جائعا، قتل ابن رسول الله عطشانا، فلا يزال يكرر ذلك، ويبكي حتى يبل طعامه من دموعه، فلم يزل كذلك حتى لحق بالله عز وجل) (2). وروي عن بعض مواليه أنه قال: برز يوما إلى الصحراء فتبعته، فوجدته قد سجد على حجارة خشنة، فوقفت وأنا أسمع شهيقه وبكائه، فأحصيت عليه ألف مرة، وهو يقول: (لا إله إلا الله حقا حقا، لا إله إلا الله تعبدا ورقا، لا إله إلا الله إيمانا وصدقا) ثم رفع رأسه من سجوده وإن لحيته ووجهه قد غمر بالماء من دموع عينيه، فقلت: يا سيدي، ما آن لحزنك أن ينقضي، ولبكائك أن يقل ؟ فقال لي: ويحك، إن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام كان نبيا ابن نبي ابن نبي، له إثنا عشر ابنا، فغيب الله واحدا منهم، فشاب رأسه من الحزن، واحد ودب ظهره من الغم، وذهب بصره من البكاء، وابنه حي في دار الدنيا، وأنا رأيت أبي وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي صرعى مقتولين فكيف ينقضي حزني، ويقل


(1) في (ش) زيادة: فهو كظيم. (2) اللهوف في قتلى الطفوف: 87.

[ 93 ]

بكائي ؟ !) (1). وعن أنس بن مالك قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وآله على أبي سيف القين، وكان ظئرا (2) لإبراهيم عليه السلام، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله يقبله، ويشمه (3)، ثم دخل عليه بعد ذلك وإبراهيم عليه السلام يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وآله تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله (4) ؟ فقال: (يا ابن عوف، إنها رحمة - ثم أتبعها بأخرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله -: العين تدمع، والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك - يا إبراهيم - لمحزونون) (5). وعن أسماء ابنة زيد قالت: لما توفي ابن رسول الله صلى الله عليه وآله - إبراهيم عليه السلام - بكى رسول الله صلى الله عليه وآله. فقال له المعزي: أنت أحق من عظم الله عز وجل حقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب، لولا أنه وعد حق وموعود جامع وأن الآخر تابع للأول، لوجدنا عليك (يا إبراهيم - أفضل مما وجدناه، وإنا بك لمحزونون) (6). وعن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله بيد عبد الرحمن بن عوف فأتى إبراهيم وهو يجود بنفسه فوضعه في حجره، فقال له: (يا بني، إني لا أملك لك من الله تعالى شيئا) وذرفت عيناه، فقال له عبد الرحمن: يا رسول الله تبكي، أو لم تنه عن البكاء ؟ فقال صلى الله عليه وآله: (إنما نهيت عن النوح، عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لعب ولهو ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة، خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان، إنما هذه رحمة، ومن لا يرحم لا يرحم، ولولا أنه أمر حق ووعد صدق وسبيل نأتيه وأن آخرنا سيلحق أولنا، لحزنا عليك حزنا أشد من هذا، وإنا بك لمحزونون، تبكي العين ويحزن القلب ولا نقول


(1) اللهوف في قتلى الطفوف: 88. (2) الظئر: زوج المرضعة. (لسان العرب 4: 515). (3) في (ح): ويضمه الى صدره. (4) في (ح) زيادة: تبكي. (5) صحيح البخاري 2: 105. (6) سنن ابن ماجة 1: 506 / 1589، ومنتخب كنز العمال 6: 265.

[ 94 ]

ما يسخط الرب عز وجل) (1). وعن أبي امامة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله حين توفي ابنه وعيناه تدمعان، فقال: يا نبي الله، تبكي على هذا السخل ؟ والذي بعثك بالحق لقد دفنت اثني عشر ولدا في الجاهلية كلهم أشب منه أدسه في التراب، فقال النبي صلى الله عليه وآله: (فماذا، إن كانت الرحمة ذهبت منك، يحزن القلب وتدمع العين ولا نقول ما يسخط الرب وإنا على إبراهيم لمحزونون). وعن محمود بن لبيد قال: انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال الناس: انكسفت الشمس لموت إبراهيم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله حين سمع ذلك فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: (أما بعد - أيها الناس - إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عز وجل، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى المساجد) ودمعت عيناه، فقالوا: يا رسول الله تبكى، وأنت رسول الله ؟ فقال: (إنما أنا بشر، تدمع العين ويفجع القلب ولا نقول ما يسخط الرب، والله - يا إبراهيم - إنا بك لمحزونون) (2). وعن خالد بن معدان، قال لما مات إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وآله بكى، فقيل: أتبكي يا رسول الله ؟ فقال: (ريحانة وهبها الله لي، وكنت أشمها). وقال صلى الله عليه وآله يوم مات إبراهيم: (ما كان من حزن في القلب أو في العين فإنما هو رحمة، وما كان من حزن باللسان وباليد فهو من الشيطان) (3). وروى الزبير بن بكار: أن النبي صلى الله عليه وآله لما خرج بإبراهيم خرج يمشي، ثم جلس على قبره، ثم دلي، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وآله قد وضع في القبر دمعت عيناه، فلما رأى الصحابة ذلك بكو حتى ارتفعت أصواتهم، فأقبل عليه أبو بكر فقال: يا رسول الله، تبكي وأنت تنهى عن البكاء ؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله: (تدمع العين ويوجع القلب ولا نقول ما يسخط الرب عز وجل).


(1) التعازي: 9 / 8 باختلاف يسير، وروي باختلاف في ألفاظه في سنن الترمذي 2: 237 / 1011، والجامع الكبير 1: 290، وروي نحوه في منتخب كنز العمال 6: 265 عن عبد بن حميد. (2) روي نحوه الكليني في الكافي 3: 208 / 7 عن علي بن عبد الله عن أبي الحسن موسى عليه السلام، ورواه باختلاف في ألفاظه عن المغيرة بن شعبة البخاري في صحيحه 2: 42 و 48، ومسلم في صحيحه 2: 628 و 630. (3) الجامع الكبير 1: 709 باختلاف يسير.

[ 95 ]

وعن السائب بن يزيد، أن النبي صلى الله عليه وآله لما مات ابنه الطاهر ذرفت عيناه، فقيل: يا رسول الله، بكيت ؟ فقال صلى الله عليه وآله: (إن العين تذرف وإن الدمع يغلب، وإن القلب يحزن ولا نعصي الله عز وجل) (1). وروى مسلم في صحيحه: أن النبي صلى الله عليه وآله زار قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله (2). وروي: أن النبي صلى الله عليه وآله لما مات عثمان بن مظعون كشف الثوب عن وجهه، ثم قبل ما بين عينيه، ثم بكى طويلا فلما رفع السرير قال: (طوباك - يا عثمان - لم تلبسك الدنيا، ولم تلبسها) (3). واشتكى سعد بن عبادة شكوى، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وآله يعوده، فلما دخل عليه وجده في غشيته، فقال: (أو قد مات ؟) فقالوا: لا يا رسول الله، فبكى رسول الله صلى الله عليه وآله، فلما رأى القوم بكاءه بكوا، فقال: (ألا تسمعون ؟ إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهدا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم) (4) وروي: أن ابنة لرسول الله صلى الله عليه وآله بعثت إليه: إن ابنتي مغلوبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (إن لله ما أخذ، ولله ما أعطى) وجاءها في ناس من أصحابه، فأخرجت إليه الصبية، ونفسها يتقعقع (5) في صدرها، فرق عليها، وذرفت عيناه، فنظر إليه أصحابه، فقال: (ما لكم تنظرون إلي ؟ رحمة يضعها الله حيث يشاء، إنما يرحم الله من عباده الرحماء) (6). وعن اسامة بن زيد قال: أتي النبي صلى الله عليه وآله بامامة بنت زينب، ونفسها يتقعقع في صدرها، فقال يا رسول الله صلى الله عليه وآله: (لله ما أخذ، ولله ما اعطى، وكل إلى أجل مسمى) وبكى، فقال له سعد بن عبادة: تبكي، وقد نهيت عن


(1) ورد الحديث في الجامع الكبير 1: 207. (2) صحيح مسلم 2: 671، سنن النسائي 4: 90، سنن أبي داود 3: 218 / 3234. (3) ورد الحديث في الجامع الكبير 1: 568. (4) صحيح البخاري 2: 106، صحيح مسلم 2: 636 / 924 باختلاف يسير. (5) تقعقع: اضطرب وتحرك. (القاموس المحيط - قعقع - 3: 72). (6) صحيح البخاري 2: 100 و 7: 151 و 8: 166 و 9: 141 و 164، صحيح مسلم 2: 635 / 923، التعازي: 10، سنن ابن ماجة 1: 506 / 1588، سنن أبي داود 3: 193 / 3125، سنن النسائي 4: 22 باختلاف في ألفاظه.

[ 96 ]

البكاء ! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (إنما هي رحمة يجعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء) (1). ولما اصيب جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه أتى رسول الله صلى الله عليه وآله أسماء رضي الله عنها، فقال لها: (أخرجي إلي ولد جعفر، فخرجوا إليه، فضمهم إليه وشمهم ودمعت عيناه، فقالت: يا رسول الله، اصيب جعفر ؟ قال: نعم، اصيب اليوم) (2). قال عبد الله بن جعفر: أحفظ حين دخل رسول الله على امي، فنعى إليها أبي، ونظرت إليه وهو يمسح على رأسي ورأس أخي، وعيناه تهراقان (3) الدموع حتى تقطر لحيته، ثم قال: (اللهم إن جعفرا قد قدم إلى أحسن الثواب، فأخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحدا من عبادك في ذريته) ثم إنه عليه السلام قال: (يا أسماء، ألا أبشرك ؟) قالت: بلى بأبي أنت وامي، فقال: (إن الله عز وجل جعل لجعفر جناحين، يطير بهما في الجنة). وعن أبي عبد الله عليه السلام، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وآله، أنه لما جاءته وفاة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وزيد بن حارثة كان إذا دخل بيته بكى عليهما جدا، وقال: (كانا يحدثاني ويؤنساني، فجاء الموت فذهب بهما) (4). وعن خالد بن سلمة قال: لما جاء نعي زيد بن حارثة إلى النبي صلى الله عليه وآله أتى النبي صلى الله عليه وآله منزل زيد، فخرجت إليه بنية لزيد، فلما رأت رسول الله صلى الله عليه وآله خمشت في وجهها، فبكى رسول الله صلى الله عليه وآله وقال (5): هاه هاه (6)، فقيل: يا رسول الله، ما هذا ؟ قال: (شوق الحبيب إلى حبيبه) (7). ولما مات سعد بن معاذ رضي الله عنه بكى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله


(1) مسند أحمد 5: 204 و 207 باختلاف يسير. (2) المغازي للواقدي 2: 766 باختلاف يسير. (3) تهراقان: تجريان. (لسان العرب 10: 367). (4) الفقيه 1: 113 / 527 باختلاف يسير. (5) كذا، ولعل المناسب: حتى قال. (6) هاه هاه: حكاية صوت البكاء. (7) مكارم الأخلاق: 22.

[ 97 ]

كثيرا. وقال صلى الله عليه وآله لام سعد بن معاذ يوما: (ألا يرقأ (1) دمعك ويذهب حزنك فإن ابنك اهتز له العرش). قيل: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله تذرف عيناه، ويمسح وجهه، ولا يسمع صوته (2). وعن البراء بن عازم قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وآله إذ بصر بجماعة، فقال: (على ما اجتمع هؤلاء ؟) فقيل: على قبر يحفرونه، قال: فبدر رسول الله صلى الله عليه وآله بين يدي أصحابه مسرعا حتى انتهى إلى القبر فجثا عليه، قال: فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع، فبكى حتى بل الثرى من دموعه، ثم أقبل علينا فقال: (إخواني، لمثل هذا فأعدوا) (3). وعنه صلى الله عليه وآله: (العبرة لا يملكها أحد، صبابة المرء على أخيه) (4). ولما انصرف النبي صلى الله عليه وآله من احد راجعا إلى المدينة لقيته حمنة بنت جحش، فنعى لها الناس أخاها عبد الله بن جحش، فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعي لها خالها حمزة، فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعي لها زوجها مصعب بن عمير، فصاحت وولولت، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (إن لزوج المرأة منها لمكان) لما رأى صبرها عن أخيا وخالها، وصياحها على زوجها (5). ثم مر رسول الله صلى الله عليه وآله على دار من دور الأنصار من بني عبد الأشهل فسمع البكاء والنوائح على قتلاهم فذرفت عيناه وبكى، ثم قال: (لكن حمزة لا بواكي له) فلما رجع سعد بن معاذ وأسيد بن حضير (6) إلى دار بني عبد الأشهل، أمرا نساءهم أن يذهبن فيبكين على عم رسول الله صلى الله عليه وآله، فلما سمع


(1) يرقأ الدمع: يجف وينقطع. (لسان العرب 1: 88). (2) مسند أحمد 6: 456، المستدرك على الصحيحين 3: 206، الجامع الكبير: 1: 360. (3) مسند أحمد 4: 294، وروي نحوه في سنن ابن ماجة 2: 1403 / 4195. (4) الجامع الصغير 2: 113 / 5135، وروي باختلاف يسير في الدر المنثور: 1: 158. (5) السيرة النبوية لابن هشام 3: 401. (6) في (ح): أسيد بن حصين، وفي (ش): أسيد بن خضير، والصواب ما أثبتناه، وهو أسيد بن حضير، أسلم قبل سعد بن معاذ على يد مصعب بن عمير بالمدينة توفي سنة 20 للهجرة ودفن بالبقيع، راجع (أسد الغابة: 1: 92، تهذيب التهذيب 1: 347).

[ 98 ]

رسول الله صلى الله عليه وآله بكاءهن على حمزة خرج إليهن وهن على باب مسجده يبكين، فقال لهن رسول الله صلى الله عليه وآله: (ارجعن - يرحمكن الله - قد واسيتن بأنفسكن). وروى الشيخ في (التهذيب) بإسناده إلى الصادق عليه السلام: (إن إبراهيم خليل الرحمن سأل وبه أن يرزقه ابنة تبكيه بعد موته) (1).


(1) التهذيب 1: 465 / 1524.

[ 99 ]

فصل عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب) (1) وعن أبي امامة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (لعن الله الخامشة وجهها، والشاقة جيبها، والداعية بالويل والثبور) (2). وعنه صلى الله عليه وآله، أنه نهى أن تتبع جنازة معها رانة (3). وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: كبر مقتا عند الله الأكل من غير جوع، والنوم من غير سهر، والضحك من غير عجب، والرنة عند المصيبة، والمزمار عند النعمة (4). وعن يحيى بن خالد: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله، فقال: ما يحبط الأجر عند المصيبة ؟ قال: (تصفيق الرجل بيمينه على شماله، والصبر عند الصدمة الأولى، من رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط) (5). وعن ام سلمة رضي الله عنه قالت: لما مات أبو سلمة رضي الله عنه قلت: غريب وفي أرض (غربة، لأبكينه) (6) بكاء يتحدث عنه، فكنت قد تهيأت للبكاء، إذ أقلبت امرأة تريد أن تسعدني، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال لها: (أتريدين أن تدخلي الشيطان بيتا أخرجه الله منه) فكففت عن البكاء (7). وعن الباقر عليه السلام: (أشد الجزع الصراخ بالويل والعويل، ولطم الوجه والصدر، وجز الشعر، ومن أقام النواح فقد ترك الصبر، ومن صبر واسترجع وحمد الله - جل ذكره - فقد رضي بما صنع الله، ووقع أجره على الله عز وجل، ومن لم يفعل ذلك


(1) مسند احمد 1: 386، صحيح البخاري 2: 104، صحيح مسلم 1: 99 / 165، سنن ابن ماجة 1: 504 / 1584، سنن النسائي 4: 20 و 21، والبحار 82: 93 / 45. (2) الجامع الصغير 2: 405 / 7252 سنن ابن ماجة 1: 505 / 1585، والبحار 83: 93. (3) سنن ابن ماجة 1: 504 / 1583. (4) الجامع الصغير 2: 268 / 6216. (5) البحار 82: 93. (6) في (ح): غريبة لأبكين عليه. (7) صحيح مسلم 2: 635 / 922.

[ 100 ]

جرى عليه القضاء وهو ذميم، وأحبط الله عز وجل أجره (1). وعن الصادق عليه السلام قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ضرب الرجل يده على فخذه إحباط لأجره) (2)


(1) الكافي 3: 222 / 1. (2) الكافي 3: 224 / 4 باختلاف يسير.

[ 101 ]

فصل ويستحب الإسترجاع عند المصيبة، قال الله تعالى: (الذي إذا اصابتهم مصيبة قالوا انا لله وانا إليه راجعون * اولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة واولئك هم المهتدون) (1). وقال النبي صلى الله عليه وآله: (أربع من كن فيه كان في (2) نور الله الأعظم: من كان عصمة أمره شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ومن إذا أصابته مصيبة قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ومن إذا أصاب خيرا قال: الحمد لله (3)، ومن إذا أصاب خطيئة قال: أستغفر الله (4) وأتوب إليه) (5). وقال الباقر عليه السلام: (ما من مؤمن يصاب بمصيبة في الدنيا فيسترجع عند المصيبة (6) ويصبر حين تفجأه المصيبة، إلا غفر له ما مضى من ذنوبه، إلا الكبائر التي أوجب الله تعالى عليها النار، وكلما ذكر مصيبة فيما يستقبل من عمره فاسترجع عندها وحمد الله عز وجل إلا غفر الله له كل ذنب اكتسبه فيما بين الإسترجاع الأول إلى الإسترجاع الأخير، إلا الكبائر من الذنوب) (7). رواهما الصدوق. وأسند الكليني، الثاني إلى معروف بن خربوز، عن الباقر عليه السلام، ولم يستثن منه الكبائر (8). وروي الكليني بإسناده إلى داود بن زربي (9) - بكسر الزاي المعجمة، ثم


(1) البقرة 2: 156 - 157. (2) في (ش): فيه. (3) في الفقيه: زيادة: رب العالمين. (4) في (ح) زيادة: ربي. (5) الفقيه 1: 111 / 514، الخصال، 222 / 49. (6) في الفقيه: مصيبته. (7) الفقيه 1: 111 / 515. (8) الكافي 3: 224 / 5. (9) في الكافي: داود بن رزين، والصواب ما في الأصل راجع (معجم رجال الحديث 7: 100، جامع الرواة 1: 303).

[ 102 ]

الراء الساكنة - عن الصادق عليه السلام: (من ذكر مصيبته ولو بعد حين، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله رب العالمين، اللهم آجرني على مصيبتي، واخلف علي أفضل منها، كان له من الأجر مثل ما كان عند أول صدمة) (1). وروى مسلم: عن ام سلمة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله به: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي، واخلف لي خير لي خيرا منها، إلا أخلف الله له خيرا منها) فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة، أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم إني قلتها فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وآله (2). وروى الترمذي بإسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، قال: (إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي ؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاد ؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي ؟ فيقولون: حمدك، واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة، وسموه بيت الحمد) (3). ونحوه رواه الكليني عن الصادق عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله (4).


(1) الكافي 3: 224 / 6. (2) صحيح مسلم 2: 631 / 918. (3) سنن الترمذي 2: 243 / 1062. (4) الكافي 3: 218 / 4.

[ 103 ]

فصل يجوز النوح بالكلام الحسن، وتعداد الفضائل مع اعتماد الصدق، لأن فاطمة الزهراء عليها السلام فعلته في قولها: (يا أبتاه من ربه ما (1) أدناه ! يا أبتاه، إلى جبرئيل أنعاه، يا أبتاه، أجاب ربا دعاه) (2). وروي: أنها أخذت قبضة من تراب قبره صلى الله عليه وآله، فوضعتها على عينيها، وأنشدت تقول: (ماذا على (من شم) (3) تربة أحمد * أن لا يشم مدى الزمان غواليا صبت علي مصائب لو أنها * صبت على الأيام صرن (4) لياليا) (5) ولما سبق من أمره صلى الله عليه وآله بالنوح على حمزة. وعن أبي حمزة، عن الباقر عليه السلام: (مات ابن المغيرة، فسألت ام سلمة النبي صلى الله عليه وآله أن يأذن لها في المضي إلى مناحته، فأذن لها وكان ابن عمها، فقالت: أنعى الوليد بن الوليد * أبا الوليد، فتى العشيرة حامي الحقيقة ماجدا * يسمو إلى طلب الوتيرة قد كان غيثا للسنين * وجعفرا (6) غدقا وميرة - وفي تمام الحديث -، فما (عاب رسول الله) (7) صلى الله عليه وآله ذلك، ولا قال شيئا) (8). وروى ابن بابويه: أن الباقر عليه السلام أوصى أن يندب في الموسم (9) عشر


(1) ليس في (ح). (2) ذكرى الشيعة: 72، إعلام الورى: 143، منتهى المطلب 1: 466، صحيح البخاري 6: 18، المستدرك على الصحيحين 1: 382، سنن النسائي 4: 13، سنن ابن ماجة 1: 522 / 30. (3) في (ش): المشتم. (4) في (ش): عدن. (5) ذكرى الشيعة: 72، المعتبر 1: 344، منتهى المطلب 1: 466. (6) الجعفر: النهر. (الصحاح - جعفر - 2: 615). (7) في (ش): عاب عليها النبي. (8) الكافي 5: 117 / 2، التهذيب 6: 358 / 1027 باختلاف يسير. (9) في الفقيه: المواسم.

[ 104 ]

سنين (1). وروى يونس بن يعقوب، عن الصادق عليه السلام، قال: (قال لي أبو جعفر عليه السلام: قف من مالي كذا وكذا لنوادب يندبنني - عشر سنين - بمنى أيام منى) (2). قال الأصحاب: والمراد بذلك، تنبيه الناس على فضائله، وإظهارها ليقتدى بها، ويعلم ما كان عليه أهل هذا البيت عليهم السلام لتقتفى آثارهم، لزوال التقية بعد الموت، ويحرم النوع بالباطل: وهو تعداد ما ليس فيه من الخصال، واسماع الأجانب من الرجال، ولطم الخدود والخدش، وجز الشعر ونحوه، وعليه يحمل ما ورد من النهي عن النياحة. وقال النبي صلى الله عليه وآله: (أنا برئ ممن حلق وصلق) أي: حلق الشعر، ورفع صوته (3). وقال صلى الله عليه وآله لفاطمة عليها السلام حين قتل جعفر بن أبي طالب: (لا تدعين بويل ولا ثكل ولا حرب، وما قلت فيه فقد صدقت) (4). وعن أبي مالك الأشعري عن النبي صلى الله عليه وآله: (النائحة إذا لم تتب تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران) (5). وعن أبي سعيد الخدري: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله النائحة والمستمعة (6). وعنه صلى الله عليه وآله: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب) (7). وهذا النهي محمول على الباطل كما يظهر منها، وبه يجمع بينهما وبين الأخبار


(1) الفقيه: 1: 116 / 547 (2) الكافي 5: 117 / 1، التهذيب 6: 358 / 1025. (3) صحيح مسلم 1: 100، وسنن النسائي 4: 20، وسنن ابن ماجة 1: 505، الجامع الصغير 1: 415 / 2709، وفيها سلق بدل صلق وكلاهما صحيح. (4) الفقيه 1: 112 / 521 (5) الخصال: 226، مسند أحمد 5: 342، صحيح مسلم 2: 644 / 934، سنن ابن ماجة 1: 504 / 1582، المستدرك 1: 383، الترغيب والترهيب 4: 351 / 12. (6) مسند أحمد 3: 65، سنن أبي داود 3: 194 / 3128، الجامع الصغير 2: 408 / 7271، الترغيب والترهيب 4: 351 / 13، الفتوحات الربانية 4: 129. (7) سنن ابن ماجة 1: 504 / 1584.

[ 105 ]

السابقة. وأما الخاتمة فتشمل على فوائد مهمة. يستحب تعزية أهل الميت استحبابا مؤكدا، وهي (تفعلة) من العزاء - بالمد والقصر - وهو السلو وحسن الصبر على المصائب، يقال عزيته فتعزى، أي صبرته فتصبر. والمراد بها: طلب التسلي عن المصائب والتصبر عن الحزن والإكتئاب، بأسناد الأمر إلى الله عز وجل، ونسبته إلى عدله وحكمته، وذكر ما وعد الله تعالى على الصبر مع الدعاء للميت، والمصاب بتسليته عن مصيبته، وقد ورد في استحبابها والحث عليها أحاديث كثيرة. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (أتدرون ما حق الجار ؟ إن استغاثك أعثته، وإن استقرضك أقرضته، وإن افتقر عدت عليه، وإن أصابته مصيبة عزيته، وإن أصابه خير هنأته، وإن مرض عدته، وإن مات اتبعت جنازته، ولا تستطل عليه بالبناء، فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، وإذا اشتريت فاكهة فأهد له، فإن لم تفعل فأدخلها سرا، ولا تخرج بها ولدك تغيظ بها ولده، ولا تؤذه بريح قدرك إلا أن تغرق له منها) (1). وعن بهز بن حكيم بن معاوية بن جيدة القشيري، عن أبيه، عن جده، قال: قلت: يا رسول الله: ما حق جاري علي ؟ قال: (إن مرض عدته) وذكر نحوه الأول (2). وأما الثواب فيها: فعن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وآله، قال: (من عزى مصابا فله مثل أجره) (3). وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (من عزى مصابا كان له مثل أجره، من غير أن ينقصه الله من أجره شيئا (4)، ومن كفن مسلما كساه الله من سندس وإستبرق وحرير، ومن حفر قبرا لمسلم بنى الله عز وجل له بيتا في الجنة، ومن أنظر معسرا أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله). وعن جابر أيضا رفعه: (من عزى حزينا ألبسه الله عز وجل من لباس التقوى،


(1) الترغيب والترهيب 3: 357 / 20. (2) الترغيب والترهيب 3: 357 / ذيل حديث 20. (3) الجامع الكبير 1: 801. (4) الكافي 3: 227 /. عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال رسول الله.

[ 106 ]

وصلى على روحه في الأرواح) (1). وسئل النبي صلى الله عليه وآله عن التصافح في التعزية، فقال: (هو سكن للمؤمن، ومن عزى مصابا فله مثل أجره). وعن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمر بن حزم، عن أبيه، عن جده، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يقول: (من عاد مريضا فلا يزال في الرحمة، حتى إذ قعد عنده استنقع فيها، ثم إذا قام من عنده فلا يزال يخوض فيها، حتى يرجع من حيث خرج، ومن عزى أخاه المؤمن من مصيبة كساه الله - عز وجل - من حلل الكرامة يوم القيامة) (2). وعن أبي برزة (3) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (من عزى ثكلى كسي بردا في الجنة) (4). وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (من عزى أخاه المؤمن في (5) مصيبة كساه الله عز وجل حلة خضراء، يحبر بها يوم القيامة). قيل: يا رسول الله، ما يحبر بها قال: (يغبط بها) (6). وروي: أن داود عليه السلام قال (إلهي، ما جزاء من يعزي الحزين والمصاب ابتغاء مرضاتك قال: جزاؤه أن أكسوه رداء من أردية الإيمان، أستره به من النار، وأدخله به الجنة، قال: يا الهي، فما جزاء من شيع الجنائز ابتغاء مرضاتك ؟ قال: جزاؤه أن تشيعه الملائكة يوم يموت إلى قبره، وأن أصلي على روحه في الأرواح) (7). وروي: أن موسى عليه السلام سأل ربه: (ما لعائد المريض من الأجر ؟ قال: ابعث له عند موته ملائكة يشيعونه إلى قبره ويؤانسونه إلى المحشر، قال: يا رب فما لمعزي الثكلى من الأجر ؟ قال: أظله تحت ظلي - أي: ظل العرش - يوم لا ظل إلا ظلي) (8)


(1) الجامع الكبير 1: 801. (2) الجامع الكبير 1: 800. (3) في (ح): بردة. (4) سنن الترمذي 2: 269 / 1082. (5) في (ح) و (ش): من، وما أثبتناه من الجامع الكبير. (6) الجامع الكبير 1: 801. (7) الدر المنثور 5: 308، ورواه المتقي الهندي في منتخب كنز العمال 6: 355 باختلاف في ألفاظه. (8) روى الكليني القسم الثاني من الحديث في الكافي 3: 226 / 1 باختلاف يسير، وروى الديلمي في = = إرشاد القلوب: 43 الحديث كاملا باختلاف في ألفاظه.

[ 107 ]

وروي: أن إبراهيم عليه السلام سأل ربه، قال: (أي يا رب ما جزاء من يبل الدمع وجهه من خشيتك ؟ قال: صلواتي ورضواني، قال: فما جزاء من يصبر الحزين ابتغاء وجهك ؟ قال: أكسوه ثيابا من الإيمان يتبوأ بها في الجنة، ويتقي بها النار، قال: فما جزاء من سدد الأرملة ابتغاء وجهك ؟ قال: اقيمه في ظلي، وأدخله جنتي، قال: فما جزاء من يتبع الجنازة ابتغاء وجهك ؟ قال: تصلي ملائكتي على جسده، وتشيع روحه).

[ 108 ]

فصل وأما كيفيتها فقد تقدم خبر المصافحة فيها. وأما ما يقال فيها فما يتفق من الكلمات، ويروى من الأخبار المؤدية إلى السلوة، ولا شئ مثل إيراد بعض ما تضمنته هذه الرسالة، فإن فيها شفاء لما في الصدور، وبلاغا وافيا في تحقيق هذه الأمور. وعن علي عليه السلام قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا عزى قال: آجركم الله ورحمكم، وإذا هنأ قال: بارك الله لكم، وبارك عليكم). وروي: أنه توفي لمعاذ ولد، فاشتد وجده عليه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله، فكتب إليه: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى معاذ، سلام عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد: أعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر، ورزقنا وإياك الشكر، فإن أنفسنا (وأهلينا وموالينا) (1) وأولادنا من مواهب الله - عز وجل الهنيئة، وعواريه المستودعة، نمتع بها إلى أجل معلوم، وتقبض لوقت معدود، ثم افترض علينا الشكر إذا أعطانا، والصبر إذا ابتلانا، وكان ابنك من مواهب الله الهنيئة، وعواريه المستودعة، متعك الله به في غبطة وسرور، وقبضه منك بأجر كثير، الصلاة والرحمة والهدى إن صبرت واحتسبت، فلا تجمعن عليك مصيبتين، فيحبط لك أجرك، وتندم على ما فاتك، فلو قدمت على ثواب مصيبتك، علمت أن المصيبة قصرت في جنب الله عن الثواب: فتنجز من الله موعوده، وليذهب أسفك على ما هو نازل بك، فكأن قد، والسلام) (2). وعن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام، عن أبيه، عن جده، قال: (لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله جاء جبرئيل عليه السلام، والنبي صلى الله عليه وآله مسجى، وفي البيت علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، فقال:


(1) في (ش): وأهالينا وأموالنا. (2) روي باختلاتف في الفاظه في التعازي: 12 / 14، ومنتخب كنز العمال 6: 277، والمستدرك على الصحيحين 3: 273.

[ 109 ]

السلام عليكم يا أهل بيت النبوة (1) (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون اجوركم يوم القيامة) (2) الآية. ألا إن في الله عز وجل عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا لما فات، فبالله عز وجل فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب، هذا آخر وطئي (3) من الدنيا) (4). وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله عزتهم الملائكة، يسمعون الحسن ولا يرون الشخص، فقالوا: السلام عليكم - أهل البيت - ورحمة الله وبركاته، إن في الله - عز وجل - عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل فائت (5)، فبا لله فثقوا، وإياه فارجوا، فإنما الحروم من حرم الثواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (6). وروى البيهقي في (الدلائل) قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله، أحدق به أصحابه، فبكوا حوله، واجتمعوا، فدخل رجل أشهب اللحية جسيم صبيح، فتخطى رقابهم، فبكى، ثم التفت إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: إن في الله عزاء من كل مصيبة، وعوضا من كل فائت، وخلفا من كل هالك، فإلى الله فأنيبوا، وإليه فارغبوا، ونظره إليكم في البلاء فانظروا، فإن المصاب من لم يؤجر، وانصرف، فقال بعضهم لبعض: تعرفون الرجل ؟ فقال علي عليه السلام: (نعم، هذا أخو رسول الله صلى الله عليه وآله، الخضر عليه السلام) (7).


(1) في (ش): الرحمة: (2) آل عمران 3: 185. (3) في (ح) و (ش): وطء، وما أثبتناه من الكافي، أي نزولي إلى الارض لإنزال الوحي. (4) الكافي 3: 221 / 5، والبحار 82: 96 / 47. (5) في (ح): هالك. (6) الكافي 3: 221 / 6 باختلاف في ألفاظه عن أبي عبد الله عليه السلام، والبحار 82: 96. (7) دلائل النبوة 7: 269، ورواه الحاكم في مستدركه 3: 58، والمجلسي في البحار 82: 97.

[ 110 ]

فصل وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (إذا أصاب أحدكم ممصيبة فليذكر مصيبته بي، فإنها من أعظم المصائب) (1). وعنه صلى الله عليه وآله: (من عظمت مصيبته فليذكر مصيبته بي، فإنها ستهون عليه). وعنه صلى الله عليه وآله، إنه قال في مرض موته: (أيها الناس، أيما عبد من امتي اصيب بمصيبة من بعدي فل يتعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحدا من امتى لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي) (2). وعن عبد الله بن الوليد بإسناده، لما اصيب علي عليه السلام بعثني الحسن إلى الحسين عليهما السلام، وهو بالمدائن، فلما قرأ الكتاب قال: (يالها من مصيبة، ما أعظمها ! مع أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: من أصيب منكم بمصيبة فليذكر مصابي، فإنه لن يصاب بمصيبة أعظم منها) (3). وروى إسحاق بن عمار، عن الصادق عليه السلام، أنه قال: (يا إسحاق، لا تعدن مصيبة أعطيت عليها الصبر، واستوجبت عليها من الله عز وجل الثواب، إنما المصيبة التي يحرم صاحبها أجرها وثوابها، إذا لم يصبر عند نزولها) (4). وعن أبي ميسرة (5) قال: كنا عند أبي عبد الله عليه السلام: فجاء رجل وشكا إليه مصيبته، فقال له: (أما إنك إن تصبر تؤجر، وإلا تصبر يمضي عليك قدر الله عز وجل الذي قدر عليك (وأنت مذموم) (6)) (7).


(1) الكافي 3: 1 / 220 باختلاف في ألفاظه عن أبي عبد الله عليه السلام، الجامع الكبير 1: 41، الجامع الصغير 1: 72. (2) الجامع الكبير 1: 372 باختلاف في ألفاظه، والبحار 82: 143. (3) الكافي 2: 220 / 3 باختلاف يسير، والبحار 82: 143. (4) الكافي 3: 224 / 7، والبحار 82: 144. (5) في الكافي الفضيل بن ميسر. (6) ليس في (ش). (7) الكافي 3: 225 / 10 باختلاف يسير، والبحار 82: 142.

[ 111 ]

وعن جابر رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وآله: (قال لي جبرئيل عليه السلام، يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه) (1). وروي: أنه كان في بني إسرائيل رجل فقيه عابد عالم مجتهد، وكانت له امرأة، وكان بها معجبا، فماتت فوجد عليها وجدا شديدا، حتى خلافي بيت وأغلق على نفسه واحتجب عن الناس فلم يكن يدخل عليه أحد. ثم إن امرأة من بني إسرائيل سمعت به، فجاءته فقالت: لي إليه حاجة استفتيه فيها، ليس يجزيني إلا أن أشافهه بها، فذهب الناس، ولزمت الباب، فأخبر، فأذن لها، فقالت: أستفتيك في أمره، فقال: ما هو ؟ قالت: إني استعرت من جارة لي حليا، فكنت ألبسه زمانا، ثم إنهم أرسلوا إلي فيه، أفأرده إليهم ؟ قال: نعم، قالت: والله إنه قد مكث عندي زمانا طويلا (2)، قال: ذاك أحق لردك إياه، فقالت له: رحمك الله، أفتأسف على ما أعارك الله عز وجل، ثم أخذه منك، وهو أحق به منك ؟ فأبصر ما كان فيه، ونفعه الله بقولها (3). وعن أبي الدرداء قال: كان لسليمان بن داود عليهما السلام ابن يحبه حبا شديدا، فمات فحزن عليه حزنا شديدا، فبعث الله - تعالى - إليه ملكين في هيئة البشر، فقال: (ما أنتما ؟ قالا: خصمان، قال: اجلسا بمنزلة الخصوم، فقال: أحدهما: إني زرعت زرعا فأتى هذا فأفسده، فقال سليمان عليه السلام: ما يقول ؟ قال: أصلحك الله إنه زرع في الطريق، وإني مررت به فنظرت يمينا وشمالا فإذا الزرع، فركبت قارعة الطريق، فكان في ذلك فساد زرعه، فقال سليمان عليه السلام، ما حملك على أن تزرع في الطريق، أما علمت أن الطريق سبيل الناس، ولا بد للناس من أن يسلكوا سبيلهم ؟ فقال له أحد الملكين: أو ما علمت - يا سليمان - أن الموت سبيل الناس، ولا بد للناس من أن يسلكوا سبيلهم ؟) قال: فكأنما كشف عن سليمان عليه السلام الغطاء، ولم يجزع على ولده بعد ذلك. رواه ابن أبي الدنيا (4).


(1) الفقيه 1: 298 / 1363 مرسلا، الجامع الصغير 2: 248 / 6077، والبحار 82: 144. (2) ليس في (ش). (3) الموطأ 1: 237 باختلاف في الفاظه، والبحار 82: 154. (4) أخرجه المجلسي في البحار 82: 154.

[ 112 ]

وروي أيضا: أن قاضيا كان في بني إسرائيل مات له ابن فجزع عليه وساح، فلقيه رجلان فقالا له: اقض بيننا، فقال: من هذا فررت، فقال أحدهما: إن هذا مر بغنمه على زرعي فأفسده، فقال الآخر: إن هذا زرع بين الجبل والنهر، ولم يكن لي طريق غيره، فقال له القاضي: أنت حين زرعت بين الجبل والنهر، ألم تعلم أنه طريق الناس ؟ فقال له الرجل: فأنت حين ولد لك، ألم تعلم أنه يموت ؟ فارجع إلى قضائك، ثم عرجا، وكانا ملكين (1). وروي: أنه كان بمكة مقعدان، كان لهما ابن شاب، فكان إذا أصبح نقلهما فأتى بهما المسجد، فكان يكتسب عليهما يومه، فإذا كان المساء احتملهما وأقبل بهما منزله، فافتقدهما النبي صلى الله عليه وآله، فسأل عنهما، فقيل: مات ابنهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (لو ترك أحد لأحد لترك ابن اللمقعدين) (2). رواه الطبراني. وروى ابن أبي الدنيا: (لو ترك شئ لحاجة أو فاقة، لترك الهذيل لأبويه). وروي عن بعض العابدات، أنها قالت: ما أصابتني مصيبة فأذكر معها النار، إلا صارت في عينى أصغر من التراب.


(1) أخرجه المجلسي في البحار 82: 155. (2) أخرجه المجلسي في البحار 82: 155، ورواه البيهقي في سننه 4: 66 باختلاف في ألفاضه (6)

[ 113 ]

فصل ليذكر من اصيب بمصيبة، أن المصائب والبلايا إنما يخص في الأغلب من لله به مزيد عناية، وله عليه إقبال وإليه توجه، وليتحقق ذلك قبل النظر في الكتاب والسنة فيمن يبتلى في دار الدنيا، فإنه يجد أشد الناس بلاء أهل الخير والصلاح بعد الأنبياء والرسل، والآيات الكريمة منبئة على ذلك، قال الله تعالى: (ولو لا ان يكون الناس امة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون) (1) الآية، وقال تعالى: (ولا يحسبن الذين كفروا انما نملي لهم خير لانفسهم انما نملي لهم ليزدادوا اثما ولهم عذاب مهين) (2) وقال تعالى: (وإذا تتلى عليهم آيتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا اي الفريقين خير مقاما واحسن نديا * قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا) (3). وروى عبد الرحمن بن الحجاج قال: ذكر عند أبي عبد الله عليه السلام البلاء، وما يختص الله عز وجل به المؤمن، فقال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وآله: من أشد الناس بلاء في الدنيا ؟ فقال: النبيون، ثم الأمثل فالأمثل، ويبتلي المؤمن بعد على قدر إيمانه وحسن أعماله، فمن صح إيمانه وحسن عمله اشتد بلاؤه، ومن سخف إيمانه، وضعف عمله قل بلاؤه) (4). وروى زيد الشحام عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (إن عظيم الأجر مع عظيم البلاء، وما أحب الله - عز وجل - قوما إلا ابتلاهم) (5). وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: إن لله عز وجل عبادا في الأرض من خالص عباده، ما ينزل من السماء تحفة إلى الأرض إلا صرفها عنهم إلى غيرهم، ولا بلية إلا صرفها إليهم) (6). وعن الحسين بن علوان، عنه عليه السلام، أنه قال: (إن الله تعالى إذا أحب


(1) الزخرف 43: 33. (2) آل عمران 3: 178. (3) مريم 19: 73 و 75. (4) الكافي 2: 196 / 2. (5) الكافي 2: 196 / 3. (6) الكافي 2: 196 / 5، تنبيه الخواطر 2: 204، وباختلاف يسير في التمحيص: 35 / 26.

[ 114 ]

عبدا غته (1) بالبلاء غتا (2)، وإنا إياكم لنصبح به ونمسي) (3). وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: (إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبدا غته بالبلاء غتا (وسجه بالبلاء سجا) (4) فإذا دعاه قال: لبيك عبدي لئن عجلت لك ما سألت إني علي ذلك لقادر، ولكن ادخرت لك، فما ادخرت خير لك) (5). وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن عظيم البلاء يكافأ به عظيم الجزاء، فإذا أحب الله عبدا ابتلاه بعظيم البلاء، فمن رضي فله عند الله تعالى الرضا، ومن سخط البلاء فله عند الله السخط) (6). وعن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: (إن ما يبتلى المؤمن في الدنيا على قدر دينه - أوقال: - على حسب دينه) (7). وعن ناجية قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: إن المغيرة يقول: إن الله لا يبتلي المؤمن بالجذام ولا بالبرص ولا بكذا ولا بكذا، فقال: (إن كان لغافلا عن مؤمن آل ياسين، أنه كان مكنعا (8) - ثم رد أصابعه، فقال -: كأني أنظر إلى تكنيعه، أتاهم فأنذرهم، ثم عاد إليهم من الغد فقتلوه - ثم قال -: إن المؤمن يبتلى بكل بلية، ويموت بكل ميته، إلا أنه لا يقتل نفسه) (9). وعن عبد الله بن أبي يعفور قال: شكوت إلى أبي عبد الله عليه السلام ما ألقى من الأوجاع - وكان مسقاما - فقال لي: (يا عبد الله لو يعلم المؤمن ماله من الأجر في المصائب، لتمنى أن يقرض بالمقاريض (10)) (11).


(1) الغت الغمس المتتابع بالماء. (النهاية 3: 342). (2) في (ح) زيادة: وسجه بالبلاء سجا. (3) الكافي 2: 197 / 6. (4) في (ش): شجه بالبلاء شجا، والصحيح ثجه بالبلاء ثجا، أي: صبه عليه صبا. (مجمع البحرين 2: 283). (5) الكافي 2: 197 / 7، التمحيص: 34 / 25، باختلاف يسير. (6) الكافي 2: 197 / 8، وروي باختلاف يسير عن ابي عبد الله في التمحيص: 33 / 20. (7) الكافي 2: 197 / 9، مشكاة الأنوار: 298. (8) المكنع: مقفع اليد، وقيل مقفع الاصابع، يابسها، متقضبها. (لسان العرب 8: 314). (9) الكافي 2: 197 / 12، تنبيه الخواطر 2: 204 باختلاف يسير. (10) في (ح) زيادة: طول عمره. (11) الكافي 2: 198 / 15، تنبيه الخواطر 2: 204، وروي باختلاف يسير في المؤمن: 15 / 3، التمحيص: 32 / 13.

[ 115 ]

وعن أبي عبد الله عليه السلام: (إن أهل الحق (1) لم يزالوا في شدة، أما إن ذلك إلى مدة قليلة وعافية طويلة) (2). وعن حمدان، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: (إن - عز وجل - ليتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرجل أهله بالهدية، من الغيبة ويحميه الدنيا كما يحمي الطبيب المريض) (3). وعن أبي عبد الله قال: (دعي النبي صلى الله عليه وآله إلى طعام، فلما دخل إلى منزل الرجل نظر إلى دجاجة فوق حائط قد باضت، فتقع البيضة على وتد في حائط فتثبت عليه، ولم تسقط ولم تنكسر، فتعجب النبي صلى الله عليه وآله منها، فقال له الرجل: أعجبت من هذه البيضة ؟ فو الذي بعثك بالحق ما رزئت شيئا قط، فنهض رسول الله صلى الله عليه وآله، ولم يأكل من طعامه شيئا، وقال: من لم يرزأ فما لله فيه من حاجة) (4). وأشباه هذه الأخبار كثيرة، فلنقتصر على هذا القدر.


(1) ليس في (ش)، وفي (ح): الله، وما أثبتناه من الكافي. (2) الكافي 2: 198 / 16. (3) الكافي: 2: 198 / 17، تنبيه الخواطر 2: 204، وروي باختلاف في ألفاظه في التمحيص: 50 / 91. (4) الكافي 2: 198 / 20.

[ 116 ]

ونختم الرسالة بكتاب شريف، كتبه سيدنا ومولانا أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام لجماعة من بني عمه، حين أصابتهم شدة من بعض الأعداء على وجه التعزية، رويناها بإسنادنا إلى الشيخ أبي جعفر الطوسي - قدس الله روحه - عن الشيخ المفيد محمد بن النعمان، والحسين بن عبيد الله الغضائري، عن الصدوق أبي جعفر محمد بن علي بن بابويه، عن محمد بن الحسن بن الوليد، عن محمد بن الحسن الصفار، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن الثقة الجليل محمد بن أبي عمير، عن إسحاق بن عمار، قال: إن أبا عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام كتب إلى عبد الله بن الحسن، حين حمل هو وأهل بيته، يعزيه عما صار إليه: (بسم الله الرحمن الرحيم) إلى الخلف الصالح والذرية الطيبة - من ولد أخيه وابن عمه -. أما بعد: فلئن كنت قد تفردت - أنه: وأهل بيتك ممن حمل معك - بما أصابكم، فما انفردت بالحزن والغيظ والكآبة وأليم وجع القلب دوني، ولقد نالني من ذلك من الجزع والقلق وحر المصيبة مثل ما نالك، ولكن رجعت إلى ما أمر الله عز وجل به المتقين من الصبر وحسن العزاء، حين يقول لنبيه صلى الله عليه وآله: (واصبر لحكم ربك فانك بأعيننا) (1). وحين يقول: (فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت) (2). وحين يقول لنبيه صلى الله عليه وآله، حين مثل بحمزة: (وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) (3). فلصبر رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يعاقب. وحين يقول: (وامر اهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للقتوى) (4).


(1) الطور 52: 48 (2) القلم 67: 48. (3). النحل 16: 126. (4) طه 20: 132.

[ 117 ]

وحين يقول: (الذين إذا اصابتهم مصيبة قالوا انا لله وانا إليه راجعون * اولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة واولئك هم المهتدون) (1). وحين يقول: (إنما يوفى الصابرون اجرهم بغير حساب (2). وحين يقول عن لقمان لابنه: (واصبر على ما اصابك ان ذلك من عزم الامور) (3)، وحين يقول عن موسى عليه السلام: (قال موسى لقومه اسعينوا بالله واصبروا ان الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) (4). وحين يقول: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) (5). وحين يقول: (ولنبلوانكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات وبشر الصابرين) (6). وحين يقول: (والصابرين والصابرات) (7). وحين يقول: (واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين) (8) وأمثال ذلك من القرآن كثير. واعلم - أي عم وابن عم - أن الله - عز وجل - لم يبال بضر الدنيا لوليه ساعة قط، ولا شئ أحب إليه من الضر والجهد واللأواء (9) مع الصبر، وأنه - تبارك وتعالى - لم يبال بنعيم الدنيا لعدوه ساعة واحدة قط. ولولا ذلك ما كان أعداؤه يقتلون أولياءه ويخيفونهم ويمنعونهم، وأعداؤه آمنون مطمئنون عالون ظاهرون. ولولا ذلك لما قتل زكريا ويحيى بن زكريا ظلما وعدونا في بغي من البغايا.


(1) البقرة: 2: 156، 157. (2) الزمر 39: 10. (3) لقمان 31: 17. (4) الأعراف 7: 128. (5) العصر 103: 3. (6) البقرة 2: 155. (7) الاحزاب 33: 35. (8) يونس 10: 109. (9) اللأواء: الشدة. (الصحاح - لأى - 6: 2478).

[ 118 ]

ولولا ذلك لما قتل جدك علي بن أبي طالب عليه السلام - لما قام بأمر الله جل وعز - ظلما، وعمك الحسين بن فاطمة - صلى الله عليهما - اضطهادا وعدوانا. ولولا ذلك لما قال الله عز وجل في كتابه: (ولو لا ان يكون الناس امة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون) (1) ولولا ذلك لما قال في كتابه: (ايحسبون انما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون) (2). ولولا ذلك لما جاء في الحديث: (لولا أن يحزن المؤمن لجعلت للكافر عصابة من حديد: فلا يصدع رأسه أبدا). ولولا ذلك لما جاء في الحديث: (أن الدنيا لا تساوي عند الله عزوجل جناح بعوضة). ولولا ذلك ما سقى كافرا منها شربة ماء. ولولا ذلك لما جاء في الحديث: (لو إن مؤمنا على قلة جبل لابتعث الله له كافرا أو منافقا يؤذيه). ولولا ذلك لما جاء في الحديث أنه: (إذا أحب الله قوما - أو أحب عبدا - صب عليه البلاء صبا، فلا يخرج من غم إلا وقع في غم). ولولا ذلك لما جاء في الحديث: (ما من جرعتين أحب إلى الله تعالى أن يجرعهما عبده المؤمن في الدنيا، من جرعة غيظ كظم عليها، وجرعة حزن عند مصيبة صبر عليها بحسن عزاء واحتساب). ولولا ذلك لما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله يدعون على من ظلمهم بطول العمر، وصحة البدن، وكثرة المال والولد. ولولا ذلك ما بلغنا: أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان إذا خص رجلا باترحم عليه والاستغفار استشهد. فعليكم - يا عم وابن عم وبني عمومتي واخوتي - بالصبر والرضا والتسليم والتفويض إلى الله عز وجل والرضا والصبر على قضائه، والتمسك بطاعته، والنزول عند أمره.


(1) الزخرف 43: 33. (2) المؤمنون 23: 55، 56.

[ 119 ]

أفرغ الله علينا وعليكم الصبر، وختم لنا ولكم بالسعادة، وأنقذنا وإياكم من كل هلكة بحوله وقوته، إنه سميع قريب. وصلى الله على صفوته من خلقة، محمد النبي وأخل بيته صلوات الله وسلامه وبركاته ورحماته عليهم أجمعين) (1). هذا آخر التعزية بلفظها، نقلتها من كتاب (التتمات والمهمات) وعليها نختم الرسالة حامدين لله تعالى على نواله، مصلين على صاحب الرسالة، وعلى آله أهل العصمة والعدالة. ولقد فرغ منها مؤلفها العبد الفقير إلى الله تعالى زين الدين علي بن أحمد الشامي العاملي عامله الله بفضله وعفا عنهم بمنه وسط نهار الجمعة، غرة شهر رجب

مكتبة يعسوب الدين عليه السلام الإلكترونية