أربعين يوما على وفاة السيد محمد الحيدري أبو عقیل أستاذ اللغة العربية وصاحب المؤلفات القيمة

Related Articles

شششخصيات اسلامية – الامام الحسن العسكري (عليه السلام)..إشراقة وضاءة لإنقاذ الأمة من أوحال الجاهلية

January 7, 2022

شخصيات اسلامية – حياة العارف السيد عبد الكريم الكشميري

December 7, 2021

قائمة الأطعمة الساخنة والباردة { من هنا تنشأ الامراض لدا الأنسان }

November 12, 2021

 أربعين يوما على وفاة السيد محمد الحيدري (أبو عقیل أستاذ اللغة العربية وصاحب المؤلفات القيمة في مجال اللغة العربية عن عمر یناهز 79 سنة بمدينة قم المقدسة.

  المکنّی بـ «أبي عقیل» من قدماء أساتذة اللغة العربية وآدابها وصاحب المؤلفات القيمة في مجال لغة القرآن الکریم.

. في مدينة قـم المقدسة (وسط إیران) عن عمر یناهز 79 سنة، بعد سنوات مديدة قضاها معانياً من المرض.

يذكر أنّ الأستاذ السيد محمد الحيدري وُلد سنة 1359 في مدينة الكاظمية بالعراق، تخرّج في جامعة بغداد، وهاجر في الثمانينات إلى إيران وأخذ يمارس التدريس لثلاثة عقود في جامعة المصطفى(ص) العالمية وجامعة باقر العلوم(ع) ومدارس الحوزة العلمیة بقـم المقدسة.

و له مؤلفات عديدة في مجال اللغة العربية منها: “معجم الأفعال المتداولة ومواطن استعمالها”، “المدخل إلى تعلم المحادثة العربية” و”العربية المعاصرة في التحدث والمحادثة”؛ کما تمّ نشر بعض مقالاته العلمیة في مجلة النـافـذة الأدبیة التعلیمیة. 

   

طالبني بعض الأحبة أن أكتب بعض السطور عن حياة السيد الوالد رحمه الله ونحن على أعتاب أربعينه رضوان الله تعالى عليه فاستجبتُ له أملاً بالفائدة المترتبة على نقل سِيَر الصالحين وسلوكهم و رسوخها في ذهن المخاطب لاسيما النشأ الجديد. فمن الثابت تربوياً أن الأمثلة الحسية والسيرة العملية لها انطباعها الخاص على المخاطب لأنها أقرب الى ملامسة واقعه ومحاكاة سلوكه فتكون قادرة على أن تنهض به نحو تفعيل دوره في الحياة أكثر من الخطابات التجريدية التي تبتعد عن قلبه وروحه و واقعه فهذا النوع من الخطاب يصلح لتقريب كثير من المفاهيم الصحيحة الى ذهن الإنسان المخاطب وإقناعه، وهو بنفس الوقت أسلوب قرآني طالما استعان به لتأكيد فكرته وترسيخها.

فأقول مستعيناً بالله سبحانه أنَّ من نِعَم الله عزّ وجل عليّ أني لازمتُ الوالد لأكثر من أربعين سنة كنّا معاً جنباً الى جنب في السرّاء والضرّاء والشدة والرخاء ولعل أكثر ما لفت نظري من خصاله هو “نظمه في الحياة” الذي يسري تقريباً الى جميع مناحي حياته وتفاصيلها وكأنه يلتزم وصيةَ أمير المؤمنين عليه السلام في قوله “أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم”، فكان للوالد برنامج ثابت في الحياة يبتدأ منذ الصباح الباكر قبل الفجر بساعة او أكثر يقوم فيه لأداء صلاة الليل التزاماً منه بما أكّدتْ عليه الأحاديث الشريفة التي تصفها بأنها “شَرَفُ المؤمن” ثم يجلس قليلاً للاستراحة يشرب فيها الماء الفاتر او يضيف إليه شيئاً من عصير الليمون الحامض حتى يحين وقت صلاة الفجر فيصلي نافلتها ثم يأتي بعدها بالفريضة ثم تسبيحة السيدة الزهراء عليها السلام ومن بعد ذلك سجدة الشكر. ثم يبدأ بالصلاة قضاءً عن والديه وأخيه رحمهم الله جميعاً، ليقوم من بعدها الى طعام الفطور مع الوالدة يليه زيارة عاشوراء وتلاوة شيء من سور القرءان الكريم ثم يُهيّء نفسه الى الذهاب الى عمله.
كان الوالد ملتزماً بأداء الصلاة في أوقاتها بل يستعد لها قبل حلول وقتها فيتوضأ بكل طمئنية ودقة ويضع سجادته في موضعها المعلوم وعند دخول الوقت يقف عليها ليؤذّن بصوت مسموع ثم بين الأذان والإقامة يتقدم خطوة ليرفع يديه كالقانت ويدعُ الله سبحانه بأدعية لا يسمعها إلا هو ثم يقيم ليبدأ بالصلاة، لم تكن صلاته تستغرق منه وقتاً طويلاً ولكن كان يُحسن أداءها فالآيات يقرؤها بتأنّي، وذكرُ الركوع والسجود يأتي به بعد الاستقرار و …
: وهذه الدقة والعناية لم تنحصر بالصلاة فحسب بل تمتد لتغطي جميع شؤونه الأخرى كمراعاته للطهارة والنجاسة ودقته الفائقة في حساب الخمس ومواظبته على غُسل الجمعة واهتمامه الكبير بالنظافة الشخصية والتأنق في الملبس، بل حتى في ذهابه وإيابه فلا يتأخر في الرجوع الى المنزل إلا بعد الإخبار ولا يعود إلا بعد الإنذار (دق الجرس).

أما سياسة الوالد داخل البيت فكانت تجمع بين اللين والشدة والحزم والمداراة، ولكن بالرغم من هيمنته كانت له جاذبية فائقة ولا أبالغ إذا قلت أنه كان يمثل نبض الحياة في أسرته، فهو مُهاب محبوب، كان في الواقع ملجأنا في المهمات وكهفنا في المُلمات ولازلنا حتى النهاية نطلب منه العون والدعاء لحل الأزمات وإذا ما بدا منه رأي في موضوع فذلك يكون فصل الخطاب.
كان لا ينأى بنفسه عن خدمة العيال فطالما يعمل على تنظيف الخضروات أو كنس المنزل أو المساعدة في طبخ الطعام. والأهم من ذلك أنه لا يُقحم العائلة في القضايا المالية فلا يعرف أحدٌ منّا – بالرغم من الظروف التي مرّت عليه وقساوتها – مدى قدرته المالية وأنه في أزمة من هذه الناحية أو لا.
كان يحترم أسرته وينفتح على الصغار من أحفاده وأسباطه فكان يمازحهم ويلاطفهم كعادته مع الكبار.

من عادته عند تناول الطعام والشراب هو الابتداء بالبسملة و الجلوس على المائدة من غير تربع وكان يختم طعامه بقوله الدائم “الحمد لله على ما أنعم وله الشكر على ما ألهم”.

ومن أخلاقه أنه كتوم في فعل الخيرات فبعض أعماله لم أطلعْ عليها إلا بعد رحيله وعلى العكس من ذلك عندما يكون الخيرُ صادراً من الغير فكان يُحدثني عمّن أقرضَه وأحسَن إليه حين هجرته من العراق وأيام المحنة.

كان في نقاشه وجدله يتحرّى منطق الإقناع لا الإسكات، والإفهام لا الإفحام، ويشعر بالإذى النفسي عندما يرى المقابل يعتمد لغة القوة وفرض الرأي والخصام.

كان الوالد يتورّع عن الدخول في الشبهات قدر الإمكان ومن هذا المنطلق كان يرفض أن يُدرّس النساء ويقول إنه من مزالق الشيطان.

ومن أخلاقه أيضاً عدم التعرض لشؤون الآخرين في أقولهم وأفعالهم وأخذهم وتركهم أو ذكر شيء من معايبهم ولم نسمع منه حديثاً يرتبط بنقد الغير ودائماً يكرر علينا هذا القول “لا علاقة لنا بالغير، علينا بأنفسنا”. نعم فيما إذا طُلب منه أن يتدخل في حلِّ مشكلة ما فيستجيب بمقدار ما يشعر بالفائدة.

ومما يدخل في تورّعه ما حدّثنا به عندما عمل موضفاً في العراق لمدة وجيزة في دائرة تُعرف ب “الطابو” وهو في بحبوحة شبابه من أجل التدقيق القانوني (الحقوقي)حيث جاءه ملف يُعنى بمصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة للشيخ عارف البصري بعد إعدامه رحمه الله فرفض الوالد التوقيع عليه وقدم استقالته من العمل، فرُفضتْ الاستقالة من قبل المسؤول إلا بعد التوقيع عليه ، وقيل له إنّ رفض التوقيع قد يؤدي الى الإعدام لحساسية المورد ولكنه أصرّ على الرفض مع علمه بأن ذلك قد يكلفه حياته.
ولاشك أن هذا الالتزام الديني يأتي نتيجة تجذر روح الإيمان في قلب الإنسان ذلك الإيمان الذي يجعل اللهَ حاضراً في عقل الإنسان وقلبه وروحه وكل خطواته. فالإيمان بهذا المعنى هو الإيمان المثمر والفاعل ومن الطبيعي يمنح الإنسان الثبات والاستقامة والاستقرار في شتى المستويات.

نظمه في عمله: لا أتذكر أن الوالد تأخر يوماً من الأيام عن وقت عمله فهو يحرص أن يصل دائماً الى مكان عمله قبل الوقت بنصف ساعة او عشرين دقيقة حتى يكون مرتاح البال عند دخوله مجلس الدرس. وهكذا هو في التزامه بوقت الحصة التدريسية فقد لا أجانب الحقيقة إذا قلتُ أنه لا يُنقِص منها حتى دقيقة واحدة، فقد وقع لي في يوم من الأيام أن اتصلتُ به قبل دقيقة او دقيقتين من انتهاء الساعة التدريسية فلم يردَّ عليّ، بعدها أخبرني أن هذا الوقت هو من حق الطلاب فلا ينبغي التطفيف في المكيال واستشهد بقوله تعالى ” ويلٌ للمطففين “.
وهكذا تطالعنا دقته حينما يجلبُ بعضَ أعماله الى المنزل، فقد ألّف كتابه ” العربية المعاصرة ” بطلب من منظمة الحج والزيارة على أن تكون أجوره بمقدار الساعات التي يُخصصها للتأليف، فكان يضع أمامه الساعة ويحدد على ضوئها بداية جلوسه على العمل وانتهاءه، فإذا ما صادف أن دخل عليه أحد لأجل بيان حاجة أو غير ذلك حتى تجده يقوم بتقليل ذلك من وقت العمل وإن كانت المدة قد لا تستغرق سوى دقائق معدودة.

وأما نظمه في التأليف فطريقته فيه معلومة من حيث الوقت وتنظيم الأوراق ومحلها من الخزانة و كذلك من حيث المادة العلمية وأسلوب التأليف فالمعنيون يعرفون أنه تجاوز في تدوينه حالة التقليد السائدة في مجال تعليم اللغة العربية فقد حاول التجديد في المنهج التعليمي ليتّسم بالحيوية النابعة من حيوية الأمثلة الدينية علاوة على الأسلوب التجديدي، لذا جاءت كتاباته بعيدة عن التكرار والاجترار والاستنساخ عن جهود الماضين ولذلك انتُخبَ أحدُ كتبه ليكون كتاب السنة في الجمهورية الإسلامية في ايران وأَخَذَ جائزتَه من رئيس الجمهورية في وقته، وهذا الاهتمام منه ينم عن إدراكه لمنزلة اللغة العربية وموقعها في ترشيد الفكر الإسلامي لاسيما في حاضنته وهي مدينة قم المقدسة.
والحقيقة أن كتبه التعليمية بما تبتني عليه من صياغات نظرية وأطُر فكرية لم تترك أثرها على عملية تعليم اللغة العربية فحسب، وإنما على مجمل الحركة الفكرية الدينية لغير الناطقين بهذه اللغة وما أوجدته من انفتاح على العالم الإسلامي العربي وثقافته في عملية نهوضه وتقدمه نحو خلق الوحدة الإسلامية وصولاً الى ايجاد الأمة الإسلامية الواحدة “إن هذه أمتكم أمة واحدة”، وهكذا قضى الوالد حياته على هذا النظم و الانتظام وبهذه الهمة والطموح حتى اختار الله له الدار الآخرة في ليلة الجمعة الرابع من ربيع الثاني للسنة الثانية والأربعين بعد المئة الرابعة بعد الألف.

أسأل الله سبحانه أن يُحييَ الوالدَ حياةً طيّبةً ويجزيَه أجرَه بأحسن ما يجزي الصالحين على أعمالهم كما وعد في قوله “مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أو أنثى وَهوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيينه حياةً طيّبَةً وَ لَنجزينَّهم أجرَهُم بأحْسَن مَا كانوا يعملون”.
كما أسأله عزّ وجلَّ أن أكون قد وفيتُ بهذه الكلمات المتواضعة ولو ببعض حق الوالد عليّ، وكان سعيي أن لا أكتب إلا بموضوعية ولا أنساب وراء عاطفتي فإذا حصل المطلوب فهو الغاية المرجوّة والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.

رحم الله من قرأ الفاتحة وأهدى ثوابها الى روحه الطاهرة وأرواح المؤمنين والمؤمنات.