آيات الطهارة
الأولى « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » تخصيصهم بالخطاب إمّا لعدم صحّة الوضوء والغسل بل الصّلاة من غيرهم ، أو لعدم إتيان غيرهم بهما ، أو لأنّ هذا بيان للحكم عند تحقق إرادتهم الصّلاة ، فناسب التخصيص بهم ، لأنهم هم المقبلون إلى الامتثال المستأهلون لهذا البيان ، وأيضا فإنّهم استحقّوا ذلك بايمانهم ، فناسب خطابهم به تشريفا لهم وتنشيطا .
« إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ » أي أردتم الصلاة أو أردتم القيام إليها « فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ » الغسل مفسّر بإجراء الماء ولو بآلة ، وهو المفهوم عرفا ولم يعلم خلافه لغة ، فلا حاجة فيه إلى الدّلك خلافا لمالك ، والوجه العضو المعلوم عرفا ، وحدّ في بعض الأخبار المعتبرة بما دارت عليه الإبهام والوسطى مستديرا ( 1 )
وقيل : هذا تحديد عرضا .
وكيف كان طوله من قصاص الشعر إلى أسفل الذقن ، كلّ ذلك من مستوي الخلقة لكن بعض هذا المحلّ لما كان مسطورا بشعر اللحية غالبا ، صار عرفا أعمّ من البشرة ، وممّا سترها من الشعر وأعطى ما عليها من الشعر حكمها ، كما يقال رأيت وجهه كلَّه ولم ير ما تحت الشعر ، وربّما كان ذلك لوقوع المواجهة به وتسميته وجها بهذا الاعتبار ( 2 )
فافهم .
« وأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ » المرفق مجتمع طرفي عظمي الذراع والعضد « وامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ » في القاموس الكعب كلّ مفصل للعظام ، والعظم الناشز فوق القدم ، والناشزان من جانبيها ، وظاهره أن الأول أشهر أو أثبت ، ثمّ الثاني وحمل ما في الآية على الأوّل هو الذي ذهب إليه بعض من محقّقي أصحابنا المتقدّمين والمتأخّرين كابن الجنيد والعلَّامة ورواة زرارة وبكير ابنا أعين في الصحيح عن الباقر
عليه السلام ( 1 ) .
وذهب آخرون إلى حمله على الثاني لروايات عنهم عليهم السّلام تناسب ذلك مع الثبوت والوضوح لغة ، وانتفاء الثالث بنصّ من الأئمة عليهم السّلام وإجماع من الأصحاب ، وإنكار ما من بعض أهل اللغة ولهذا قال به بعض من العامّة أيضا .
والأنسب في الجمع بين الروايات عنهم عليهم السّلام قطعا للخلاف حمل الكلّ على الأوّل ، والعلامة قده قد صبّ عليه عبارات الأصحاب أيضا ، وجعل اعتقاد خلاف ذلك
فيها اشتباها على غير المحصّل ، لكن كلام كثير من الأصحاب في المعنى الثاني أصرح من أن يصح فيه ذلك ، والحكم به مشهور بين الأصحاب حتّى ادّعى الشهيد في الذكرى إجماعنا عليه ، وهو ظاهر جماعة أيضا
. نعم الروايات يحتمل ذلك وربّما أمكن الجمع بين الروايات وعبارات الأصحاب بالحمل على أنّه العظم الناتئ على ظهر القدم عند المفصل ( 1 ) حيث يدخل تحت عظم الساق بين الظنبوبتين غالبا ، فيتّحد الإشارة إليه وإلى المفصل كما في الرواية عن الباقر عليه السلام ( 2 ) لكن يخالفه صريح عبارات جمع فتأمل .
وأما الثالث فقد ذهب إلى حمل ما في الآية عليه جمهور العامة إلَّا محمّد بن الحسن ومن تبعه من الحنفيّة وبعض الشافعيّة واستدلَّوا بما لو تمّ لدلّ على صحة إطلاقه عليه واحتجّوا أيضا بقول أبى عبيد « الكعب هو الذي في أصل القدم ينتهى الساق إليه بمنزلة كعاب القنى » ولا يخفى أن قوله في أصل القدم نصّ في المعنى الثاني ولهذا استدلّ به عليه بعض أصحابنا .
وفي لباب التأويل بعد نقله المسح عن ابن عباس وقتادة وأنس وعكرمة والشعبيّ أنّ الشيعة ومن قال بمسح الرجلين ، قالوا الكعب عبارة عن عظم مستدير على ظهر القدم ، ويدلّ على بطلان هذا أن الكعب لو كان ما ذكروه لكان في كلّ رجل كعب واحد فكان ينبغي أن يقول « إلى الكعاب » كما قال : « إِلَى الْمَرافِقِ » .
وفيه أنه كما صحّ جمع المرفق بالنظر إلى أيدي المكلَّفين وتثنية الكعب بالنظر
إلى كلّ رجل على تقدير صحّة إطلاق الكعب على الظنبوبتين وإرادتهما كما ذكرتم كذلك يصحّ الجمع في الكعب بالنظر إلى أرجلهم والتثنية بالنظر إلى رجلي كلّ شخص والإفراد بالنظر إلى كلّ رجل على ما قلنا ، وكذلك في المرافق ولا يمنع وقوع شيء منها في أحد الموضعين وقوع شيء آخر منها في الموضع الآخر ولا يعيّنه فيه .
على أنّ ما ذكره قياس لو قلنا به فليس هذا من مجاريه كيف والتفنّن أفيد وأبلغ ، ومعدود من المزايا ، على أنّ القياس في هذا المقام على ما ذهبتم في الكعب يقتضي خلاف ذلك ، فان لكل شخص حينئذ أربع كعاب فيكون على ضعف المرافق فكان أولى بأن يجمع ولو أريد التفنّن حينئذ لكان الأوّل عكس ما وقع فافهم ، وأيضا فإنّ قياسهم بأنّ ضرب الغاية للأرجل يدلّ على أنها مغسولة كالأيدي يقتضي لا أقل أن يكون الغايتان على وجه واحد ليتّحد الحكمان ، فالاختلاف يبطل قياسهم مع بطلانه في نفسه ، بل يقال حينئذ الاختلاف في الغاية دليل المخالفة في الحكم ، فيقتضي نقيض المطلوب على أنا نقول التثنية بعد الجمع ينبه على التخفيف ، وهو المناسب للتخفيف من الغسل إلى المسح كما قلنا .
ثمّ إذا ثبت المسح بالدلائل القطعيّة كما يأتي يعيّن خلاف ذلك في الكعب إذ لم يقل به أحد ممّن قال بالمسح كما هو صريح كلام المخالف والمؤالف .
« وإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا » إنّما لم يقل « إذا » لئلا يتوهّم العطف على « إِذا قُمْتُمْ » وليس ، بل على ما اعتبر هناك من كونهم محدثين ، كأنه قال إذا قمتم إلى الصلاة وكنتم محدثين فاغسلوا كما ينبّه عليه قوله : « وإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى » إلخ كما سيتّضح ، وفيه دلالة على أنّ الوضوء إن لم يكونوا جنبا ، وفيه تنبيه على أن لا وضوء مع غسل الجنابة كما دلَّت عليه رواياتنا ، وإنّما لم يذكر موجب الوضوء صريحا كموجب الغسل لأنّ المؤمنين في ابتداء تكليفهم بالوضوء كان حدثهم يقينا دون الجنابة ، فكأنه قيل إذا قمتم على ما أنتم عليه ، وأيضا في قوله : « أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ » تنبيه على هذا ، ولما كان هذا المقدار كافيا في حسن هذا الخطاب ، ترك الباقي إلى البيان النبوي .
https://chat.whatsapp.com/Fava5Ifru8330dDMfhs0gn