تدوين السنة الشريفة
بدايته المبكرة في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
ومصيره في عهود الخلفاء إلى نهاية القرن الأول
– السيد محمد رضا الحسيني الجلالي
اكثر من 183 سنة مفقودة من تاريخ الإسلام .. أين اختفت ؟
هذا البحث جدير بالقراءة والتمعن.
بسم الله الرحمن الرحيم
ص 5
دليل الكتاب الإهداء: تمهيد: المقدمة: القسم الأول: جواز التدوين منذ عهد الرسالة، وتفصيل أدلة المبيحين. التمهيد: الأصل في حكم التدوين؟ الفصل الأول: عرف العقلاء والتدوين، وموقف الشرع من هذا العرف الفصل الثاني: السنة النبوية والتدوين. الفصل الثالث: إجماع أهل البيت عليهم السلام على التدوين. الفصل الرابع: سيرة المسلمين والتدوين. خاتمة القسم الأول: خلاصة واستنتاج. القسم الثاني: منع التدوين، وتبريرات المانعين. التمهيد: متى بدأ المنع من التدوين؟! الفصل الأول: النهي الشرعي عن كتابة الحديث. الفصل الثاني: الخوف من اختلاط القرآن بالحديث. الفصل الثالث: التخوف من ترك القرآن والاشتغال بغيره. الفصل الرابع: الاستغناء بالحفظ عن التدوين. الفصل الخامس: عدم معرفة المحدثين للكتابة. الفصل السادس: القول الفصل في سبب المنع. الملحق الأول: المنع من رواية الحديث، ونقله. الملحق الثاني: آثار المنع من التدوين إلى نهاية القرن الأول. خاتمة القسم الثاني: خلاصة واستنتاج. حصيلة الكتاب. الفهارس العامة.
ص 7
الإهداء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين إلهنا بك نستعين إلى سليلة بيت الوحي والرسالة، وعقيلة بيت الإمامة والعدالة وإلى غصن الدوحة الهاشمية، وفرع الشجرة العلوية سيدتنا فاطمة المعصومة بنت الإمام الكاظم، وأخت الإمام الرضا، وعمة الإمام الجواد عليهم الصلاة والسلام، التي أنعم الله علينا بجوارها، فأغدقت علينا من برها وإحسانها، وآوتنا مكرمين في حماها. والتجأنا إليها مستشفعين بها إلى الله، لكشف الكربات وقضاء الحاجات، فاستجاب الله لنا بكرامتها ووجاهتها. فسلام الله عليها تحية وافرة، وصلاته عليها متواترة، وحشرنا الله معها دنيا وآخرة. فإلى ساحتها المقدسة: أهدي هذا الكتاب الذي هو واحد من فيض بركاتها فهو خدمة متواضعة لسنة جدها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم. أرجو منها القبول، ورفد المأمول. المؤلف
ص 9
تمهيد
إن الحديث الشريف يعتبر – عند المسلمين كافة – تالي القرآن الكريم، عمادا للإسلام، ومصدرا للأحكام. وصيانة الحديث الشريف، واجبة كفاية، على المسلمين، كما هو الحكم بالنسبة إلى القرآن الكريم، حفاظا على أصول الشريعة من التحريف والتصحيف. وقد بذل علماء الأمة قصارى جهدهم في أداء ذلك الواجب، حتى تألف الحديث الشريف في المجاميع الكثيرة، من الأجزاء الصغيرة إلى المصنفات الكبيرة، وما بينهما من الأصول والصحاح والمعاجم والمسانيد والجوامع. وكذلك، أحاطوه بما في وسعهم من وسائل الحفظ، وأدوات الحيطة والحذر، فسنوا لذلك القواعد المتينة والأصول الرصينة، في علم مصطلح الحديث أو الدراية.
ص 10
وضبطوا نصوصه على أسس قويمة، بأساليب مستقيمة، في علم الحديث والرواية، حتى سلموه إلى الخلف مصونا عما يشين، ومحاطا بما يزين، والحمد لله رب العالمين. وجرت على الحديث الشريف – منذ نشأته الأولى، وما تلاها من الأدوار – تطورات كثيرة، وبذلت حوله جهود جبارة، وكل ذلك يكون للحديث الشريف. تاريخا حافلا. ومن أهم المباحث المطروحة في مجال تاريخ الحديث، هو تاريخ تدوين الحديث أو – بعبارة أخرى -: تحديد البداية الأولى لتدوينه، والأسباب التي أدت إلى منع تدوينه! في بعض فترات التاريخ من صدر الإسلام. والنتائج المتوخاة من هذا البحث، هي: 1 – الفائدة العلمية: فقد وقع – بين علماء الحديث – بحث واسع في ذلك، بحيث استقطب من جهودهم قسطا وافرا في الماد ة والمدة، ويمكن من خلال هذا البحث التوصل إلى الرأي الصائب، بالحجج الصائبة. 2 – الفائدة العملية: فإن أعداء الإسلام حاولوا التشكيك في حجية الحديث الشريف، استنادا إلى المنع الصادر من بعض الصحابة، الذين حكموا بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومنعوا تدوين الحديث الشريف، فجعلوا ذلك ذريعة لمآربهم الفاسدة، مثل:
ص 11
1 – إثارة الفكرة القديمة البائدة، التي تدعو إلى رفض السنة والحديث، والاكتفاء بالقرآن الكريم مصدرا وحيدا للتعاليم الإسلامية. 2 – التشكيك في النصوص التي تحويها كتب الحديث الشريف، باعتبار تأخر تدوينه، إلى ما بعد مائة عام، فلا بد – كما يدعون! – أن تكون مجموعة كبيرة منها قد ضاعت وأتلفت، أو حر فت، أو نسيت، أو نقلت بالمعنى، وغير ذلك من الشبهات.. 3 – اتهام الإسلام بالتخلف عن ركب الحضارة الهادر، حيث منع كبار رجاله من تدوين الحديث النبوي في وقت مبكر. وبالتالي: فإن الأعداء يهدفون – اعتمادا على المنع المذكور – إلى القضاء على الإسلام، الذي يبتني في أكثر تعاليمه، على الحديث الشريف، باعتباره أكبر مصادرها سعة، وأهمها – بعد القرآن – حجية واعتبارا. فكان من الضروري التصدي لهذا البحث، العلمي العملي، لتبرز الحقائق ناصعة مسفرة. ورأينا – إسهاما في خدمة الحديث الشريف – أن نفرد لهذا البحث المهم، هذه الدراسة، محاولين – قدر الوسع والجهد – استيعابها لما قيل أو يمكن أن يقال، في هذا المجال. ونرجو من الله التوفيق إلى الصواب، هو نعم المولى وإليه المآب. وكتب السيد محمد رضا الحسيني الجلالي غرة شهر رمضان المبارك 1412 هـ
ص 13
المقدمة
موجز من تاريخ الخلاف.
وتحديد أقسام البحث.
ص 15
التزم الكثيرون من العامة بأن الحديث تأخر تدوينه إلى نهاية القرن الأول من الهجرة، وهم بين: 1 – من يقول بأن بداية التدوين كانت في أول القرن الثاني. 2 – ومن يقول بتأخرها عن ذلك، أيضا. قالوا: إن عمر بن عبد العزيز – الخليفة الأموي – قام بإصدار أول أمر رسمي بتدوين الحديث: قال الحافظ السيوطي (ت 911 ه): ابتداء تدوين الحديث، وقع على رأس المائة، في خلافة عمر بن عبد العزيز، بأمره (1). وقد نقل أمره بذلك، بنصوص متغايرة، وإلى أشخاص متعددين، في جهات مختلفة: فكتب إلى الآفاق، يقول: انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه
(هامش)
(1) تدريب الراوي (1 / 40). (*)
ص 16
وآله وسلم فاجمعوه (1). وكتب إلى أهل المدينة، يقول: انظروا ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه، فاكتبوه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء (2). وكتب رسالة إلى أبي بكر بن حزم، يقول فيها: أنظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه… فاكتبه، فإني قد خشيت دروس العلم، وذهاب العلماء (3).. وروى البخاري هذه الرسالة بزيادة قوله: ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا (4).. وفي بعض المصادر: أن عمر كتب إليه يقول: أما بعد، فأمر أهل العلم في أن يذكروا العلم في مساجدهم، فإن السنة كانت قد أميتت (5). وقام ابن حزم بالمهمة، فجمع الأحاديث في كتاب (6).
(هامش)
(1) تدريب الراوي (1 / 41) والتنبئة للسيوطي (ص 51) والرسالة المستطرفة للكتاني (ص 4). (2) تقييد العلم (ص 106) ومحاسن الاصطلاح للبلقيني (ص 103).. (3) تقييد العلم (ص 5 – 106) وانظر تدريب الراوي (1 / 40). (4) صحيح البخاري (1 / 36) باب كيف يقبض العلم، من كتاب العلم، وانظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (8 / 480) وتاريخ التراث العربي، لسزكين (ج 1 مج 1 / 228) الهامش، والتنبئة، للسيوطي (ص 15) نقلا عن ذم الكلام للهروي. (5) أدب الإملاء والاستملاء (ص 44) وانظر: الطبقات، لابن سعد (2 / 134) وإرشاد الساري (1 / 6). (6) حاشية الزرقاني على موطأ مالك (1 / 10). (*)
ص 17
وكتب عمر – أيضا – إلى مرة بن كثير يأمره بتدوين الحديث (1). كما أصدر إلى ابن شهاب الزهري أمرا بتدوين الحديث، فقام هذا بالأمر. وكان عمر يبعث إلى كل أرض دفترا من دفاتر الزهري (2). وكان الزهري يذكر تدوينه للحديث، معتدا به، فيقول: لم يدون هذا العلم أحد قبل تدويني (3). بالرغم من أن الزهري كان ممن يكره الكتابة، وكان يعلن عن كراهته فقد قال: كنا نكره كتابة العلم، حتى أكرهنا عليه السلطان، فكر هنا أن نمنعه أحدا (4). وقال أيضا: كنا نكره كتاب العلم، حتى أكرهنا عليه هؤلاء الأمراء، فرأينا أن لا نمنعه أحدا من المسلمين (5). وقال: لولا أحاديث سالت علينا من المشرق، ننكرها، لا نعرفها، ما كتبت حديثا، ولا أذنت في كتابه (6). ويستفاد منه – كما يقول ابن حجر -: ابتداء تدوين الحديث النبوي،
(هامش)
(1) الطبقات، لابن سعد (7 / 447). (2) جامع بيان العلم، للقرطبي (1 / 76). (3) تهذيب التهذيب (9 / 449) والرسالة المستطرفة (ص 4). (4) سنن الدارمي (1 / 92) ح 410. (5) طبقات ابن سعد (الجزء المتمم) (ص 169) وأخرجه المعلق عن طبقات ابن سعد (2 / 389) وحلية الأولياء لأبي نعيم (3 / 363). (6) طبقات ابن سعد (الجزء المتمم) (ص 166). (*)
ص 18
وأن أول من دونه بأمر عمر، هو ابن شهاب الزهري (1). وقد طارت شهرة الزهري باعتباره أول من دون الحديث (2). أقول: وبما أن عمر بن عبد العزيز قد توفي سنة (101) فإن هذا التاريخ يكون – عند هؤلاء – هو بداية تدوين الحديث، على أبعد الفروض. على أن بعض المصادر تشير إلى أن عمر بن عبد العزيز – وإن أصدر أمرا بالتدوين – إلا أن أمره لم ينفذ في حياته (3). وقد يكون مع هذا الرأي كل من أخر تاريخ ابتداء التدوين إلى سنوات أبعد من بداية القرن الثاني. قال ابن حجر: جمع الحديث إلى مثله في باب واحد، سبق إليه الشعبي (ت 104) (4). وهذا النوع من التأليف، وإن كان يعد تصنيفا لنوع معين من الأحاديث، إلا أنه تدوين له على كل حال، إن لم نقل بأنه أفضل أشكال التدوين المجرد، فهو أخص أشكاله قطعا. وقال الذهبي: إن خالد بن معدان الحمصي (ت 104) لقي سبعين
(هامش)
(1) تدريب الراوي (1 / 41) والرسالة المستطرفة (ص 4) والحديث والمحدثون (ص 221). (2) تاريخ التراث العربي (1 / مج 1 / 228) وانظر مصادره العديدة. (3) أنظر تاريخ التراث العربي (مج 1 / ج 1 / 228). (4) تدريب الراوي (1 / 40)(*)
ص 19
صحابيا، وكان يكتب الحديث، وله مصنفات، وكان علمه في مصحف له أزرار وعرى (1). وقال أبو طالب المكي (ت 381 ه): كره كتب الحديث الطبقة الأولى من التابعين… وأجاز ذلك من بعدهم، وما حدث التصنيف إلا بعد موت الحسن (البصري ت 110 ه) وابن المسيب (ت 94 أو 105 ه) (2). وقال الغزالي (ت 505 ه): الكتب والتصانيف محدثة ولم يكن شيء منها زمن الصحابة وصدر التابعين، وإنما حدث بعد سنة (120) وبعد وفاة جميع الصحابة وجلة التابعين، وبعد وفاة سعيد بن المسيب (ت 105 ه) والحسن (البصري ت 110 ه) وخيار التابعين، بل كان الأولون يكرهون كتب الحديث، وتصنيف الكتب (2). وأمر هشام بن عبد الملك (ت 125 ه) ابن شهاب الزهري (ت 124) أن يملي على أولاده الحديث، فأملى عليهم أربعمائة حديث (4). ويعتقد البعض: أن أول مصنف وضع في علم الحديث – عامة! – هو كتاب ألفه همام بن منبه (ت 131 ه) فقد جمع روايات عن أبي هريرة، في كتاب باسم، (الصحيفة الصحيحة) (5).
(هامش)
(1) تذكرة الحفاظ (1 / 93) وانظر الحديث والمحدثون (ص 221). (2) قوت القلوب (1 / 159) وانظر الرسالة المستطرفة (ص 8 – 9) ودلائل التوثيق المبكر (ص 235). (3) إحياء علوم الدين (1 / 79) ط بولاق. (4) الإلماع، للقاضي عياض (ص 243) وتهذيب التهذيب (9 / 449). (5) مصادر الفكر العربي الإسلامي في اليمن، للحبشي (ص 38). (*)
ص 20
ويرى الذهبي: أن أول زمن التصنيف، وتدوين السنن، وتأليف الفروع، بعد انقراض دولة بني أمية، وتحول الدولة إلى بني العباس (سنة 132 ه) (1). وقال الذهبي – أيضا – في حوادث سنة (143 ه): وفي هذا العصر، شرع علماء الإسلام في تدوين الحديث، والفقه، والتفسير،…، وكثر تبويب العلم وتدوينه،…، وقبل هذا العصر كان سائر العلماء يتكلمون من حفظهم، ويروون العلم عن صحف غير مرتبة (2). ويعتقد الكثيرون: أن أول من صنف هو ابن جريج (ت 150 ه) (3). قال ابن الأثير: انتهى الأمر إلى زمن جماعة من الأئمة مثل: عبد الملك بن جريج، ومالك بن أنس، وغيرهما ممن كان في عصرهما، فدونوا الحديث، حتى قيل: إن أول كتاب صنف في الإسلام: كتاب ابن جريج (4). وقال ابن حجر: لما انتشر العلماء في الأمصار، وكثر الابتداع… دونت [الآثار] ممزوجة بأقوال الصحابة، وفتاوى التابعين وغيرهم، فأول من جمع ذلك ابن جريج (ت 150 ه) بمكة، وابن إسحاق (ت 151 ه)
(هامش)
(1) تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام (ص 279). (2) النجوم الزاهرة، للتغري بردي (1 / 351) ودراسات في الحديث والمحدثين، للحسني (ص 24). (3) الجرح والتعديل، للرازي (1 / 184) تاريخ بغداد (10 / 400) دائرة معارف وجدي (مادة: حدث).. (4) جامع الأصول، لابن الأثير (1 / 41). (*)
ص 21
(ت 151) أو مالك (ت 179 ه) بالمدينة، والربيع بن صبيح (ت 160 ه) أو سعيد بن أبي عروبة (ت 156 ه) أو حماد بن سلمة (ت 167 ه) بالبصرة، وسفيان الثوري (ت 161 ه) بالكوفة، والأوزاعي (ت 157 ه) بالشام، وهشيم (ت 183 ه) بواسط، ومعمر (ت 153 ه) باليمن، وجرير بن عبد الحميد (ت 188 ه) بالري، وابن المبارك (ت 181 ه) بخراسان (1). قال العراقي، وابن حجر: وكان هؤلاء في عصر واحد، فلا ندري أيهم أسبق؟ (2). وأضاف الذهبي على هؤلاء من ذكرهم بقوله: وصنف أبو حنيفة (ت 150 ه) الفقه والرأي، بالكوفة، وابن إسحاق (ت 151 ه) المغازي، وصنف الليث بن سعد (ت 157 ه) وعبد الله بن لهيعة (ت 174) والقاضي أبو يوسف (ت 182 ه) وابن وهب (ت 197 ه). وقال ابن حجر: ثم تلا المذكورين كثير من أهل عصرهم، إلى أن رأى بعض الأئمة أن تفرد أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة، وذلك على رأس المائتين،…، ثم اقتفى الأئمة آثارهم، فقل إمام من الحفاظ إلا وصنف حديثه على المسانيد،…، ومنهم من صنف على الأبواب وعلى المسانيد معا (3). وهكذا نجد أن هؤلاء، الملتزمين بتأخر تدوين الحديث عن القرن الأول يختلفون في ما بينهم في تحديد زمان البداية الأولى للتدوين:
(هامش)
(1) هد ي الساري، مقدمة فتح الباري (1 / 17) وانظر الجامع لأخلاق الراوي (2 / 425 – 427) ومفتاح السنة للخولي (ص 21). (2) تدريب الراوي (1 / 40) والمصادر السابقين. (3) هدي الساري (1 / 18) وانظر تدريب الراوي (1 / 40)(*)
ص 22
فمن قائل بأنه سنة (101 ه) وهو أقدم تاريخ ذكروه لذلك، ثم سنة (104 ه) ثم سنة (105 – 110 ه) ثم سنة (125 ه) ثم سنة (131) ثم سنة (132 ه) ثم سنة (134 ه) ثم بين السنوات (150 – 197). وقد يتصور أن هذه الأقوال غير متنافية، لأن بعضها – وخاصة الأخير – ينظر إلى التصنيف، لا إلى مجرد التدوين! وهذا التصور يعتمد فكرة التفريق بين التصنيف والتدوين، كما يحاول البعض التأكيد عليه (1). لكنا لم نجد فرقا بين الأمرين، ويدل على عدم التفرقة أن عبارة التدوين أطلقت في ما نقلناه من كلماتهم حتى على المصنفات المتأخرة. ومهما يكن، فإن رأيهم استقر على التأليف بعد القرن الثاني، وصدرت المؤلفات الجامعة للحديث الشريف على اختلاف المناهج، كالمسانيد، والمصنفات، والصحاح، وغير ذلك. ولكن الذي يجمع بين تلك الأقوال – كلها، على اختلافها – هو: الاتفاق على عدم تقدم زمان التدوين على نهاية القرن الأول!. وعلى هذا: فما قاله الإمام السيد شرف الدين الموسوي العاملي رحمه الله، من، أن الإجماع قائم على أنه ليس لعلماء العامة، في العصر الأول، تأليف، خاصة في علم الحديث (2). مستند إلى هذا الاتفاق، الملتزم به من قبل العامة – أنفسهم – في
(هامش)
(1) لاحظ تاريخ التراث العربي، لسزكين (1 / مج 1 / 7 – 228). (2) مؤلفو الشيعة في صدر الإسلام (ص 13) والمراجعات لشرف الدين المراجعة رقم (110). (*)
ص 23
أمر التدوين. ولقد أثار هذا الالتزام عدة تساؤلات صعبة: 1 – فلماذا أغفل أهل الإسلام – دين الحضارة والتمدن – هذا العمل الحضاري، الذي يعتبر مكرمة إلهية للإنسان، فامتنعوا من تدوين الحديث، أهم مصادر الشريعة، وأعظمها بعد القرآن الكريم؟ 2 – أليس ترك التدوين طيلة مائة سنة – وهو تمام القرن الأول – تعريضا للحديث إلى الضياع، والتلف، والنسيان، والإبادة؟؟. 3 – وماذا كان الضر ر، لو دونت السنة، في عهد مبكر، وحفظت، كما كتب القرآن الكريم وحفظ؟ ومن كان المتضرر من ذلك، لو تم التدوين؟ 4 – لماذا ناقض المسلمون أنفسهم، وخالفوا كبراءهم من الصحابة وبعض التابعين، الذين منعوا التدوين، فجاء من بعدهم، فعمدوا بعد قرن من الزمان، إلى كتابة الحديث وتدوينه؟؟ كما فتح هذا الالتزام، لأعداء الإسلام، أبواب النقد والاعتراض، واستهداف الشريعة الإسلامية، بالطعن على ثاني مصادر التشريع، بأنه منفصل عن مصادره الأصيلة طيلة قرن من الأعوام، على أقل تقدير، فلا تبقى ثقة بنصوصها المنقولة!! كما وجه المغرضون، من المستشرقين والمستغربين (1) سهام نقدهم
(هامش)
(1) نعني بالمستغربين: تلك الشرذمة من أولاد المسلمين الذين استعبدتهم الثقافة الغربية، فهووها، ودعوا إليها، إلى حد العمالة العمياء للغرب، ولكل ما هو غربي، ولو على حساب دينهم ووطنهم وثقافتهم وحضارتهم. (*)
ص 24
الملطخة بسموم حقدهم، إلى ساحة الدين الإسلامي، فوصموه بالأمية والصد عن التثقيف! وقد حاول أنصار ذلك الرأي الدفاع، وقدموا لذلك تبريرات عديدة، مختلفة، جمعناها في القسم الثاني من هذه الدراسة. وطلبا منا للحقيقة، لم نكتف بمجرد النقل، بل ناقشنا كل ما ذكروه بهذا الصدد، مناقشة موضوعية جذرية. وتوصلنا – بتوفيق من الله – إلى القول الفصل في وجه الالتزام بذلك الرأي، والعلة الأساسية لمنع تدوين الحديث من قبل المانعين، وغرضهم الذي راموه من وراء عملية منع التدوين. وأما القسم الأول من هذه الدراسة: فقد أوردنا فيه الرأي الإسلامي، المعارض للرأي السابق، والذي لا يبقى معه مجال لأي اعتراض على الحديث الشريف، وتندفع به كل التهم المغرضة التي وجهها أعداء الإسلام إليه. وهذا الرأي يقول: إن الكتابة عملية حضارية، أقرها الإسلام بكل تصميم وقوة، واستعملها في تدوين الشريعة ومصادرها بأوسع ما يمكن، فكان القرآن الكريم يكتب فور نزوله، بيد كتاب الوحي، الذين بلغ عددهم الأربعين شخصا، وبإشراف تام من الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله كما حث الإسلام على تعلم الكتابة ومزاولتها، بأساليب عديدة،
ص 25
وفي نصوص متضافرة، في القرآن، والسنة، ومن خلال سيرة علماء الإسلام وتصرفاتهم. ولم يكن الحديث الشريف مستثنى من ذلك، بل بذل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم جهدا بليغا في الحث على كتابته وتدوينه، بعد أن صدع بأمر تبليغه وبثه، فقد أمر بتدوينه، ودفع كثيرا من الصحابة إلى مزاولته، كما أملى هو صلى الله عليه وآله كثيرا من السنن ليكتبها أصحابه. وقد تمت في عصره صلى الله عليه وآله وسلم – وبمرأى منه ومسمع – كتابة الكثير من الحديث الشريف، في المجاميع، والصحف، والكتب، بما يدل بوضوح على تقريره صلى الله عليه وآله لجواز التدوين، وإمضائه والرضا به ويعتبر أصحاب هذا الرأي، الرسول الكريم نفسه صلى الله عليه وآله وسلم، رائد الآمرين بكتابة الحديث، وقائد القائمين بتدوينه، وضبطه. ويأتي كبار الصحابة الأبرار في مقدمة الملتزمين بهذا الرأي، وكثير منهم قام بالتدوين، وقد خلفوا آثارا حميدة، تدل على عدم انصياعهم لأوامر المانعين، بل معارضتهم لمنع التدوين. وأما أهل البيت عليهم السلام، فقد أجمعوا – كافة – على التدوين ومعارضة المنع، قولا، وعملا. وقد جمعنا كل ذلك في القسم الأول من هذه الدراسة.
ص 26
ولخصنا البحث كله في خاتمة لكل من القسمين بغية تنظيم فكرة واضحة عنه، وسردنا فيها مجمل ما في القسمين، وخلاصة مقتضبة عما توصلنا إليه من نتائج. وقد التزمنا بالأمانة التامة في نقل النصوص، والإشارة المضبوطة إلى مصادرها، كما أرجعنا إلى المزيد من مراجع البحث، تكميلا للفائدة. ووضعنا ما أضفناه على النصوص – أحيانا – بين [معقوفتين] تمييزا له، كما أنا ميزنا ما حذفناه بوضع نقاط ثلاث (…) في موضعه من النصوص. وأضفنا إلى جملة الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر (آله) حيثما لم يرد في المصادر، حذرا من أن تبقى الصلاة عليه بتراء، وقد نهى صلى الله عليه وآله وسلم عنها، في ما رواه المسلمون كافة (1). وعينا المصادر التي راجعناها، بطبعاتها الخاصة، في فهرس المصادر، كما أعددنا للدراسة فهارس مناسبة لموضوع البحث. والله ولي التوفيق.
(هامش)
(1) أنظر: الصواعق المحرقة لابن حجر (ص 87) ورشفة الصادي (ص 33) ووسائل الشيعة للعاملي، كتاب الصلاة، أبواب الذكر ب (24) ح 2 رقم 9112 (ج 7 / 202) طبع، الحديث 5 و6 و17، والاعتصام بحبل الله المتين للقاسم بن محمد من أئمة الزيدية (2 / 134). (*)
ص 27
https://chat.whatsapp.com/Fava5Ifru8330dDMfhs0gn