ايهاب زكي
القرار الأمريكي بسحب عدد من بطاريات صواريخ “الباتريوت” ومنظومة “ثاد” الدفاعية، من ثماني دول من ضمنها السعودية والكويت والعراق والأردن، لم يكن أمرًا مفاجئًا، بل يقع في لبّ التسلسل الطبيعي للأحداث، وهو خطوة طبيعية في إطار استكمال استراتيجية بايدن للتعامل مع المنطقة، حيث تعتمد هذه الإدارة ثلاثة عناوين رئيسية لتلك الاستراتيجية: الأولى هي عدم خوض حروب جديدة، والثانية حماية “إسرائيل”، والثالثة عدم السماح لروسيا أو الصين بملء الفراغ الذي سيخلفه تقليص التواجد الأمريكي. والحقيقة أنّه لا يمكن تحقيق هذه الأهداف التي تبدو في تناقضٍ مع نفسها، دون مظلةٍ عسكرية، وبما أنّ الولايات المتحدة تقوم بتقليص تواجدها العسكري، فإنّ الخيار الوحيد هو أنّ تكون المظلة العسكرية “إسرائيلية”. وهذا بدوره يتطلب تفعيل مسارات التطبيع وتوسيعها للحد الأقصى، حيث تُستبدل المنظومات الأمريكية بمنظومات “إسرائيلية”، وتصبح “إسرائيل” طرفًا مباشرًا في عقود الحماية مع كيانات المنطقة الوظيفية، بعد أن كانت طرفًا غير مباشر في عقود الحماية الأمريكية.
وبما أنّ الاستراتيجية المستجدة لإدارة بايدن، هي حماية “إسرائيل” من نفسها أولًا، خصوصًا بعد النتائج الكارثية لمعركة سيف القدس، فهي ستعمل على تبريد كل الجبهات، والحيلولة دون أيّ شرارة حربٍ إقليمية، قد تودي بـ”إسرائيل” إلى غيابة التاريخ، وعليه فإنّ عقود الحماية المباشرة مع “إسرائيل”، لن تكون عقودًا عسكرية في المضمون، وإن كانت كذلك في الشكل، بل ستكون ذات مردود اقتصادي لدعم ميزانية الكيان، بما يُخفف عبئًا عن كاهل الولايات المتحدة، وكذلك المردود الأهم، وهو محاولة دمج “إسرائيل” في النسيج الطبيعي للمنطقة، وتسللها إلى العقل والوعي الجمعي للمنطقة ككيانٍ طبيعي. وهنا تبدي سلوكيات الأنظمة التطبيعية، أنّها على أتمّ الجاهزية للقيام بهذا الدور، فقد تفاءل البعض أثناء وبعد معركة سيف القدس، أن تكون كابحًا للاندفاعة التطبيعية، إن كان من مقتضيات قومية أو دينية أو إنسانية، حيث العدوانية المطلقة للكيان وغير القابلة للتعايش، أو من خلال مصالح وطنية لتلك الأنظمة، حيث كان واضحًا عجز “إسرائيل” عن حماية نفسها، كما عجز منظومتها الدفاعية عن الفعالية، ولكن الحقيقة أنّها كانت دافعًا للذهاب في طريق “الأسرلة” بقوةٍ أكبر.
لم تتفاجأ “إسرائيل” بالقرار الأمريكي بتقليص التواجد في منطقة الشرق الأوسط، فتقول صحيفة “معاريف” على لسان الكاتب طاليف رام عن مصادر أمنية إنّ “”إسرائيل” لم تصرّح بأنّ الخبر لم يفاجئها فحسب، بل كشفت أنها كانت على اطلاعٍ منذ مدة”، ويضيف الكاتب عن ذات المصادر الأمنية “لا تكمن أهمية الخطوة الأمريكية في تنظيم القوات فحسب، بل في مستوى التعاون”، والتعاون هنا حسب ذات الكاتب “هو التعاون في ما تحتاجه “إسرائيل” لسد الفجوات التي ستنشأ عن هذا التقليص الأمريكي للأسلحة والقوات”، وعلى الطرف حيث الأنظمة التطبيعية سراً أو علانيةً والآيلة للتطبيع، فقد نقلت ذات الصحيفة التي أوردت خبر تقليص القوات وسحب بطاريات الصواريخ “وول ستريت جورنال”، أنّ “وزير الحرب الأمريكي لويد أوستن أطلع بن سلمان على قرار التقليص العسكري”، وإذا كان أطلعه على القرار فمن الحتمي أنّه أطلعه على البدائل، أيّ سدّ الفجوات الناشئة، ويقيناً لن تكون البدائل الأمريكية إنهاء العداء مع إيران مثلاً، أو الاستعاضة عن السلاح الأمريكي بأسلحة روسية أو صينية مثلاً، وعليه فلا بدائل في العقل الأمريكي لسدّ الفجوات سوى السلاح “الإسرائيلي” والحماية “الإسرائيلية”، ولكن إذا كانت أنظمة مثل الإمارات والبحرين ليست بحاجة إلى مظلةٍ للتطبيع سوى الإيغال في الوقاحة والصفاقة، فإنّ نظامًا كالسعودية بما يمتلك من قوة روحية لتحكّمه في أقدس بقاع المسلمين، بحاجة إلى مظلةٍ أكبر من الوقاحة والصفاقة والتي لا يعدمها بالمناسبة، حتى يمارس التطبيع العلني بدلاً من السرية الفاضحة، وقد يأتي هذا في إطار النوايا الأمريكية بإعادة إحياء العملية التفاوضية لثلاثة عقودٍ أخرى.
إذاً فإنّ هذا التقليص الأمريكي سيكون دافعًا أكبر لتفعيل عمليات التطبيع الجارية، والإصرار الأمريكي على استمرار العدوان على اليمن، وعدم الاكتراث بإنقاذ ماء الوجه السعودي في اليمن، يأتي في إطار توجيه السعودية نحو السلاح “الإسرائيلي” بما يستتبع ذلك من تعاون عسكري وأمني ولوجستي، ولكن لهذه الاستراتيجية الأمريكية عيوبٌ قاتلة، أو على الأقل عيبان، الأول هو أنّ “إسرائيل” لن تعدم الحماقات التي قد تؤدي لاندلاع حربٍ إقليمية، تجعل من الاستراتيجية الأمريكية حبرًا على ورق، أمّا العيب الثاني، فهو وجود محور عداء لـ”إسرائيل”، وهو محورٌ متحفز، ويمتلك من الأدوات ما تعجز عن مواجهته القوة “الإسرائيلية” الراهنة، والتي تتآكل مع مرور الوقت ولا تتعزز. وبما أنّ معركة سيف القدس رسخت معادلة القدس مقابل حربٍ إقليمية، وبما أنّ “إسرائيل” لا تستطيع التفريط بما تسميه سيادتها على القدس، حيث محط الخرافات التوراتية التي أُسس عليها الكيان، وبما أنّ هذا سيدفعها بشكلٍ دائم للتصرف بعدوانية، فالقدس ليست مجرد مدينة تنطبق عليها تقسيمات أوسلو (أ،ب،ج)، وليست تصلح للعمل التكتيكي في العقل الصهيوني التوراتي، فإنّ العمل الأمريكي على تبريد المنطقة وتسريع وتيرة التطبيع، سيبدو صرحاً من رمال مع أول شرارةٍ تنطلق من القدس، وحينها سيكون من الصعب التفريق بين ركام الاستراتيجية الأمريكية وركام المدن”الإسرائيلية”.