الشهيد السيّد قاسم شبّر ، ينتهي نسبه إلى الإمام زين العابدين عليه السلام ، وقال البحَّاثة جعفر آل محبوبة : آل شبر أسرة عراقية قديمة في الهجرة ، وكان مقرّها الأصلي في الحلّة الفيحاء ، ولم تزل بقيَّتهم بها حتّى اليوم ، وبها عرفت ، ومنها تفرَّعت . ولد الشهيد عام 1890م ( 1308 هـ ) في مدينة النجف الأشرف وكان الابن الثالث من أبناء السيد محمد شبّر .
وفي التاسعة من عمره توفي والده وفي السنة نفسها سلك طريق أجداده الطاهرين وأصبح من طلبة العلوم الدينية وفي جوار أمير المؤمنين عليه السلام , وفي ظلال تلك الأجواء العرفانية ترعرع شهيدنا المظلوم متزوداً من معين العلماء العذب فدرس على يد كبار العلماء ومنهم آية الله العظمى السيد أبو الحسن الأصفهاني (قده) وآية الله الميرزا النائيني (قده) وفي الأربعين من عمره إنتقل إلى مدينة النعمانية بوكالة من السيد الأصفهاني عام 1935م , ثمَ أصبح وكيلاً للإمام محسن الحكيم (قده) وأخذ يبلغ رسالات ربّه ولم تأخذه في الله لومة لائم ، إذ أستطاع الغور في أعماق المجتمع المسلم وكان له الثقل الكبير في المدينة ومن مجمل نشاطاته إنه كان يذهب كل ليلة جمعة لزيارة سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام إذ وُجد في كفن الشهيد كيساً كتب عليه : “هذه المناديل تنثر على صدري وكتفي في القبر لأنني جففت بها الدموع التي جرت على الإمام الحسين عليه السلام” .
له مؤلفات عديدة لكنها في أثناء الإعتداء الغاشم الذي قام به العفالقة على داره ومكتبته أحرقوا الكتب وما وُجد فيها قد سُرق ولم يخرج إلى الطبع من كتبه إلا كتابه “المؤمنون في القُرآن” في سبعة أجزاء طُبع منها ثلاثة وسرق العفالقة الأنجاس الأجزاء المتبقية منها في هجوم آخر شُنَ على بيته الشريف .وقد تصدّى السيد الشهيد لأعمال العفالقة الذين وضعوا الجواسيس والعيون على كل مدرسة دينية وحسينية وخصوصاً بعدما أعلن صدام أن حزبه ليس حزباً دينياً وإنه حزب علماني ولا ينجح في العراق إلا بعد إجراء تغيير في نسبة الشيعة وهم الأكثرية المسلمة وكانت لسيدنا الشهيد علاقة أبوية مع الشباب فهو يرعاهم ويحرص عليهم فأرسلوا إليه أن يتخلى عنهم بحجة أنهم قد يسببون له مشاكل فرد عليهم بأنه لن يتخلى عنهم لأنهم مادة الإسلام .. وفي إنتفاضة رجب عام 1979م ،
تحركت وفود البيعة للامام الشهيد محمد باقر الصدر قدس سره ومن بينها موكب أهالي النعمانية يتقدمه إبن التسعين ، عمّار العصر ، الشيخ الكبير والفقيه العالم بكل تواضع وإخلاص تقدم يبايع الشهيد الصدر (قدس) بالقول : “لقد جاء وفدنا ليجدد العهد بكم ويرجوكم البقاء هاهنا وأنتم القائد الأكبر” ، فأجاب الإمام الشهيد : “إنه ليسعدني أن أعبر عن شعوري تجاه عواطفكم وهذا ليس غريباً عنكم فأنت من قادة الإسلام وفي علماء الإسلام ومن المنارات التي نعتز بعلمهم وبمؤلفاتهم وبجهادهم” ,
وبعد كل هذه المواقف المشرفة لشهيدنا وفي يوم الجمعة المصادف 15/6/1979م وفي أثناء صلاتي المغرب والعشاء جاء جمع من البعثيين المارقين مدججين بالسلاح وطوقوا الجامع الذي كان يصلي به سيدنا رضوان الله تعالى عليه من كل جانب وداسوا الأفرشة بأحذيتهم وبحضوره أخذ أحد أفراد الكفر العفلقي المايكروفون وأخذ يقرأ إفتتاحية جريدة (الثورة العفلقية) التي تهاجم الثورة الإسلامية في إيران وقائدها ، فجابههم شباب المسجد بالتكبير والهتافات ، وخرجوا بقيادة السيد الشهيد في مظاهرة كبيرة تشكّلت من أبناء مدينة النعمانية ، واستمرت المظاهرة إلى أن وصل السيّد إلى بيته ،
فتفرَّقت المظاهرة ، فطلب السيّد منهم الحِيطَة والحذر ، وفي تلك الليلة نفسها في الساعة الحادية عشرة أعلن البعثيّون حالة إنذارٍ قُصوى في المدينة ، وجاءت سرايا من الأمن والجيش الشعبي من مدينتي الكُوت والحسينية وغيرهما ، ونصَبوا مَفَارِز تفتيش … فسُدَّت جميع الطرق والأزقة المؤدّية إلى بيت السيّد ، وتصدَّى لهم الشباب المؤمن، وحصلت معركة غير متكافئة ، فالمجرمون بالرشاشات والبنادق ، والمؤمنون بالسكاكين وقطع الحديد والخشب ، أمّا السيد فكانت بيده مطرقة يدافع بها ، على الرغم من ضعفه البدني ، وكبر سنه ، فاستطاع السيّد وأنصاره أن يطردوا البعثيِّين خارج الدار ، وغلَّقوا الأبواب ، وتحصَّنوا داخل الدار . وفي الساعة الثانية بعد منتصف الليل عاود المجرمون الكَرَّة ، ولكن بطريقة ماكرة ، إذ استعانوا بأحد وجهاء البلدة ، ويُحتمَل أنّهم خدعوه ،
وطلبوا منه أن يذهب إلى السيّد ويقول له : إنّه لا عداوة لهم معه ، وإنّما مجرد حديث وجلسة مع محافظ الكوت ، وبأنّه إن امتنع عن ذلك فإنّ الحكومة ستهدم داره على من فيها ، فدخل هذا الشخص الوجيه في البيت كما يقول أحد أصحابه ، وطلب من السيّد ما قالوا له . فقال أحد الأشخاص المقرَّبين من السيّد : سيّدنا الكريم ، إنّ هؤلاء لا عهد لهم ، وإنّهم غدرة فجرة ، وهذه مَكيدة أمْن ، ولكن هذا الشخص أخذ يلحّ على السيّد ، وأن لا يأخذ بكلام الشباب والمراهقين ، ثمّ تهيَّأ السيّد ، فكتب بعض الكلمات والوصايا سريعاً ، فقد كان متأكّداً من عدم الرجوع ، فلبس عباءته ، وأمسك بعصاه ، وفتح الباب . وبمجرد أن خرج السيّد من البيت دخل جلاوزة الأمن ، لا يدعون شيئاً أمامهم إلاّ كسروه، وأطلقوا النار عشوائياً ، وبعثروا مكتبته الكبيرة ،
ثمّ أُحرقت بعد ذلك ، وأخذوا السيّد وعشرين شخصاً من أصحابه ، وقد احمرَّت ملابسهم بالدماء في أثناء المواجهة ، وأخذوهم إلى مدينة الكوت للتحقيق ، وفي اليوم الثاني من وصولهم إلى مدينة الكوت تمَّ نقلهم إلى مديرية الأمن في العاصمة بغداد ، وهناك اسُتقبل بما يعرفه الأحرار من همجية ووحشية أزلام (هدّام) وريث يزيد والحجاج ، إذ أصطف رهط من الجلادين وهم يحملون أسلاك الكيبل وتقدم أحد مدراء الأمن وكان يحمل ملفاً من خمسمائة صفحة وتجرأ على السيد وبصق عليه
قال: هذه مصائبك ومشاكلك يا سيد قاسم … وعانى سماحته ما عانى من تعذيب فكسر المجرم فاضل البرّاك يد السيد الشريفة ، ونقل إلى مجزرة الثورة البعثية وهو بهذه الحالة وما يعانيه من آلام جرت محاكمته بواسطة المجرم مسلم الجبوري وبكل خساسة قال : حكمتك المحكمة إعداماً رمياً بالرصاص، فابتسم ساخراً بالحاكم الجلاد قائلاً : “ما أجملها من ليلةٍ كنت أنتظرها طول عمري أن أقُتل في سبيل الله على يد أشر خلق الله إنها والله الشهادة وأن أكون مثل جدي الحسين عليه السلام” ..
لقد اُعدم شهيدنا في ليلة الخامس عشر من شعبان عام 1399 هـ المصادف 2/7/1979م رمياً بالرصاص ولم يسلموا جثته الشريفة لذويه ولم يُعلم في أي مكان دُفن ..علماً بأن اسرة الشهيد قدمت بحدود الثلاثين شهيدا.