زهراء جوني
الذاكرة تراكمٌ للأحداث التي نعيشها، وفي ذاكرة البعض زمنٌ جميل من النضال والتحدّي والصمود. في ذكريات جيل الثمانينيات قادةٌ رجال، لا تزال تُسمع صدى خطاباتهم في القرى والبلدات حتى اليوم. بينهم صاحبُ الموقف الأساس؛ لا مصافحة لا اعتراف. الشيخُ الذي أرهق الاحتلال بفعل خطاباته وقوّة بصيرته في مواجهة العدو الإسرائيلي، وشكّل قدوةً للكثير من الجنوبيين واللبنانيين في حينها.
شيخ الشهداء الشيخ راغب حرب. هامة الحضور في ميادين الصراع وعنوان الموقف الشجاع والأبي أمام الاحتلال الصهيوني، كما يوصّفه رفيقُ دربه وابن بلدته الحاج عماد عواضة. في جعبة الأصدقاء حكايا لا تنتهي عن بصيرة الشيخ راغب وعشقه للمقاومة والجهاد. الرجل الذي أرهق الاحتلال بقوة الموقف والكلمة، غدا صوته المدوّي محركًا للمواجهة والقتال، حتى حاول العدوّ خنقه فما استطاع.
يستعيد عواضة في حديثه عن الشيخ المجاهد محطات من الجهاد والأنس والروحية العالية التي رافقت شيخ الشهداء طوال مسيرته. وأكثر ما يستوقفه ويحبّ أن يستعيده اليوم في هذه المرحلة الحساسة من الهجوم المتعمد على مجتمع المقاومة وتشويه صورته والاستخفاف بقضيته، هو البصيرة الإيمانية التي كان يتمتع بها الشيخ راغب.
يروي الحاج عماد عواضة في هذا الإطار ما حصل في العاشر من المحرم عام ١٩٨٣ عندما بدأت انتفاضة عاشوراء في مدينة النبطية وقاتل فيها الأخوة بفعالية وروحية عالية، وأحرقوا الاليات الصهيونية: “أذكر يومها أني التقيت الشيخ راغب عند الثانية عصرًا في مبرة السيدة زينب (ع)، وبدأت أخبره عما قاله الأخوة الذين شاركوا في الانتفاضة، وكان سعيدًا جدًا بذلك. يومها قال لي حرفيًا: اسمع، عندما يُحمى ساعدنا سنمدّ أيدينا إلى فلسطين.. حُفرت هذه الكلمة في قلبي وحفظتها كما هي، وتيقنت اليوم صدق كلامه وحدسه وأنا أرى المقاومة تقترب أكثر من التحرير وأرى الانتفاضة في فلسطين”.
وينقل عواضة في مشهد آخر عن أحد القادة المجاهدين أنه في زمن الاحتلال زار الشيخ راغب إقليم التفاح وبدأ ينظر الى الجبال والتلال والشجر والصخور، وقال له: عليكم أن تحافظوا على هذه المنطقة، فإنها ستتحول الى معاقل للجهاد والمقاومة، وستكون كهفًا لهم ومنطلقًا. “قال لي راوي القصة، فكرت في كلام الشيخ طويلا وقلت هذه بصيرة ليست عادية على الاطلاق”.
ويعود الحاج عماد عواضة إلى ذكرياته مع الشيخ راغب، ويتذكر أيضًا كيف دعاهم الشيخ للذهاب إلى روضة الشيخ الكفعمي ليسقوا الشجر هناك: “يومها بدأنا برفع الماء من البئر وإعطائه للشيخ راغب حتى يسقي الشجر، قال لنا يومها: علينا أن نهتم بالشجر لأنه سيكون لنا حصنًا يوم يحملون ونحمل..”.
وفي الفترة الأخيرة قبل الشهادة، كانت خطب الجمعة تشتد حماسة وقوة وموقفًا بعد اعتقال شيخ الشهداء والإفراج عنه. يتذكر عواضة جيدًا كيف وقف الشيخ مرّةً، وتوجه بالدعاء الى الله وقال حرفيًا: “يا ربنا أصبحنا قادرين على تحمل النصر فأنزله علينا”. وبالفعل لم يمض على استشهاده إلا شهر حتى كان النصر والانسحاب الأول للعدو الإسرائيلي.
صاحب الخطبة المشهورة في اعتصام بلدة الحلوسية الجنوبية “إسرائيل فيها تقول إنها احتلت سيناء وأراضي عربية، ولكن ما فيها تقول إنها ركّعت الجنوبيين واحتلت أرضهم، فشروا”، هو نفسه الذي كان يردد دائمًا إنّ علينا أن نقاوم المحتل والله يفتح لنا طريق النصر.
لم يملك الشيخ راغب البصيرة قبل سنوات قليلة من شهادته فقط، بل كان مؤمنًا بالقضية منذ الطلقة الأولى، ومتيقنًا من النصر في الزمن الذي كان جيش الاحتلال يتفاخر فيه بقدراته وقوته. لقد وضع ثقته بالله فكان الله مع المجاهدين والشهداء.